حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

إيلين بيج لـ «الحياة»:

حقوق المرأة قبل هوليوود

باريس - نبيل مسعد

 

مع أن عمرها لا يتجاوز25 سنة أصبحت في أقل من خمس سنوات إحدى نجمات هوليوود اللواتي يضرب المثل بموهبتهن وقدرتهن على أداء الدراما والفكاهة بالفعالية نفسها وبشكل يثير إعجاب النقاد والجمهور على السواء. وفي فيلمها الجديد الذي لا يزال في مرحلة التصوير في باريس تمثل الكندية إيلين بيج شخصية جاسوسة تسعى إلى الاستيلاء على مستندات سرية قابلة على تغيير مصير البشرية. إضافة إلى كونها بطلة فيلم «إلى روما مع حبي» للسينمائي وودي آلن النازل حديثاً إلى الصالات.

بدأت بيج مشوارها الفني وهي بعد صبية، في بلدها كندا، من طريق الظهور في مسلسلات تلفزيونية ومسرحيات عائلية، قبل أن تفتح لها السينما أبوابها في الولايات المتحدة جاعلة منها بطلة الفيلم المخيف «الحلويات الجافة» ثم فيلم المغامرات الرياضية «بركة» ، وخصوصاً «جونو» الفكاهي الرومانسي الذي أطلقها إلى القمة ولفت إليها انتباه السينمائي كريستوفر نولان فمنحها بطولة فيلمه «إينسبشن» إلى جوار ليوناردو دي كابريو.

في باريس التقت «الحياة» بيج وحادثتها.

·        أنت هنا في باريس من أجل المشاركة في فيلم جديد، فهل تحدثينا عنه؟

- الواقع أنني مرتبطة مع الشركة المنتجة بعقد يمنعني من الإدلاء إلى الإعلام بأي تفاصيل عن هذا الفيلم طالما أنه في مرحلة التصوير. وبالتالي كل ما أستطيع التصريح به هو أنه من نوع الجاسوسية على طراز جيمس بوند، وأنني شخصياً أؤدي دور جاسوسة تتعاون مع عميل سري بهدف إنقاذ البشرية والعثور على مستندات خطيرة سيطرت عليها عصابة من المجرمين الدوليين. والفيلم مصور بطريقة الأبعاد الثلاثية التي صارت الآن القاسم المشترك لعدد كبير من الأعمال السينمائية خصوصاً تلك المنتمية إلى لون المغامرات والزاخرة بالحركة.

·        وعنوان الفيلم؟

- سري أيضاً. أنا آسفة.

·     في فيلم «إلى روما مع حبي» من إخراج وودي ألن، تؤدين دور شخصية لا تكف عن الكلام في شأن خصوصياتها مسببة اضطراب الغير، وهو دور لا ينسجم مع أدوارك الأخرى، فهل أعجبك هذا التغيير؟

- نعم وإلى درجة لا تتخيلها، لأنني وإن كنت قد عملت حتى الآن مع سينمائيين مرموقين إلا أنني لم أجرب التمثيل تحت إدارة وودي ألن الفنان العبقري بشهادة الجميع، ولا أخفي عنك فرحي حينما علمت أنه أراد منحي بطولة فيلمه «إلى روما مع حبي». أما عن الدور في حد ذاته فهو هدية من السماء إذ أنه سمح لي بالتوغل في دهاليز شخصية نسائية غريبة الأطوار، الأمر الذي تطلب مني دراسة عميقة وطريقة جديدة في تخيل المواقف واستخدام تعبيرات وجهي وصوتي في شكل مختلف عن العادة. أنها خطوة إضافية في تجربتي مع الأداء وأنا سعيدة وفخورة بها.

·     هل عثرت في شخصية هذه المرأة على نقاط مشابهة لما أنت عليه في الواقع، بما أن الممثل عادة ما يفتش في أعماق نفسه عن الأشياء التي تسمح له بإتقان دوره؟

- لا ،لأنها حسب ما أدركته منذ قراءة النص، امرأه قوية جداً لا تترك لعواطفها المجال كي تسيطر على حياتها، وهذا عكس ما أفعله شخصياً في المواقف المختلفة من حياتي، فأنا إنسانة عاطفية قبل كل شيء.

·        أنت بدأت صبية في المهنة، فهل تعتبرين نفسك بالتالي صاحبة خبرة واسعة كممثلة؟

- أنني بطبيعة الحال أتمتع بخبرة طويلة تعود إلى كوني وقفت أمام الكاميرات وفوق خشبات المسارح في بلدي كندا، وأنا بعد في السابعة من عمري، وأبلغ الآن 25 سنة مما يعني إنني ممثلة محترفة منذ 18 سنة تماماً. لكن الخبرة في نظري لا تعني إدراك كل شيء والتمتع بنفوذ على الغير، خصوصاً أولئك المبتدئين في ممارسة المهنة. أنا مؤمنة بأن التواضع والقناعة والاستمرار في التعلم هي أفضل الطرق للحفاظ على فوائد الخبرة السابقة المكتسبة وبالتالي على النجاح والشعبية. وأنا لا أرفض توفير النصائح لغيري، لكنني أعطيها بحرص مع التركيز على نقطة أساسية هي أن كلاً منا يتميز بشخصية فريدة من نوعها قد لا تتأقلم مع الظروف نفسها التي أفادت غيرنا، فالخطوط العريضة وحدها جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار في حكاية الخبرة هذه، أما التفاصيل الصغيرة فلا بد من أن تختلف من شخص إلى آخر.

·        هل يمكن القول إذاً أنك لا تعرفين من الدنيا سوى هوليوود ونجومها؟

- لا أبداً، بل على عكس كلامك ، فأنا أتفادى الأجواء الهوليوودية التقليدية وأتمتع بصداقة أشخاص لا علاقة لهم بالوسط الفنـــي بالمرة، غير أنني لا أتصرف مثل الممثلات الشابات في هوليوود اللاتي يبدلن خطيبهن بآخر في كل أسبوع أو يظهرن مجردات من ثيابهن فوق صفحات المجلات. أنا، قبل السينما، من المدافعات عن حقوق المرأة ومن المناضلات ضد النساء السطحيات اللواتي يسئن إلى سمعة المرأة وشخصيتها في شكل عام ثم إلى الفنانات الملتزمات في شكل خاص.

·        كيف كانت علاقتك بزميلك دي كابريو أثناء تصوير فيلم «إينسبشن»؟

- علاقة معلم بتلميذته ، فأنا لم أطلب منه أي شيء بطبيعة الحال لكنه اعتبر ان من واجبه أن ينصحني قبل تصوير المشاهد التي أظهر فيها وقد حذرني من تصرفات بعض الممثلين الآخرين في الفيلم الذين ينتمون، حسب قوله، إلى النوع الطموح الذي لا يتردد في محاولة خطف البطولة من زملائه أمام الكاميرا. لقد كان هذا الكلام مجرداً من أي صحة إلا أنه دفع بي إلى تحسين مستوى أدائي وإلى إظهار طاقتي كاملة في كل لقطة سواء مثلت فيها مع دي كابريو شخصياً أو مع غيره من أبطال الفيلم.

بطلة رياضية

·     أديت دور بطلة رياضية في فيلم «بركة» وهو من أجمل وأقوى أدوارك الفكاهية فوق الشاشة، فكيف تعمقت في هذه الشخصية وأين تعلمت رياضة الـ «سكيت» في هذا الشكل المحترف؟

- لهذا الفيلم حكاية طريفة مختلفة في جوهرها عن الأسلوب المتبع عادة في تحضير الأفلام. ذلك أن المخرجة درو باريمور التي هي نجمة سينمائية أساساً خاضت هنا أول تجربة لها خلف الكاميرا، جمعت بين ممثلات الفيلم وأنا منهن، وطلبت منا التفكير في مواقف واقعية بشرط أن تدور الحبكة في إطار فرقة رياضية نسائية ريفية تؤوي العديد من النماذج البشرية، من الفاشلة إلى الرائدة، علماً أنها لم تكن قد كتبت السيناريو بعد رغم كون الشركة المنتجة قد جهزت كل تفاصيل التصوير من ديكورات ووسائل تقنية وخلافه. وقد وجدنا التجربة مثيرة للاهتمام وراحت كل واحدة منا تدون أفكارها وتبني لنفسها شخصية في الإطار الموصوف وتتخيل الأمور الإيجابية والسلبية التي يمكن أن تتعرض لها في كل يوم جديد. وبالنسبة إلي فقد قضيت ثلاثة أسابيع كاملة أتردد إلى ملعب رياضي ريفي خارج لوس أنجليس حيث تعرفت إلى بطلات في رياضة الـ «سكيت» واعترفت لهن بأنني كنت في حاجة إل بعض التدريب خصوصاً إلى نصائح رياضيات محترفات صاحبات خبرة من أمثالهن. وهل تعرف ما هو الشيء الذي صدمني بشدة في بادئ الأمر؟ أن تلك النساء لن يتعرفن علي بالمرة رغم كوني لم أتنكر حقيقة، وكل ما فعلته هو الامتناع عن استخدام أي ماكياج أو أزياء أنيقة فاخرة. لقد تلقيت درساً عظيماً في القناعة واكتشفت أن النجومية يمكنها أن تختفي بسرعة البرق تبعاً لظروف محددة وفي أماكن معينة خصوصاً خارج المدن الكبيرة.

وتعـــلمت هذه الرياضة على أيديهن واتضـــح إنني موهوبــــة فيها، وهكذا بنيت شخصيتي السينمائية حول مغامرات شابة تمارس الـ «سكيت» وتنضم إلى فريق رياضي نسائي متعدد المواهب.

·     بدأت حياتك الفنية في كندا من خلال أعمال تلفزيونية عائلية، فهل تركت هذه البداية بصماتها فوق مشوارك بشكل عام؟

- لا أعتقد ذلك بالمرة، وأنت إذا ألقيت نظرة على قائمة أفلامي تجدني مارست كل الأشكال والألوان أمام الكاميرا، من الخوف إلى الرومانسية مروراً بالضحك والمغامرات، وبالتالي لا يمكن تصنيفي في موجة سينمائية محددة. أنا منفتحة الذهن أمام كل العروض طالما أنها ذات نوعية جيدة ولا أتعلق أبداً بما فعلته في الماضي من أجل أن أحدد معالم مستقبلي. أما الأفلام التلفزيونية العائلية التي ظهرت فيها وأنا صبية، فهي في حكم المنتهية لأنني كبرت.

·     كيف تفسرين استمرار وجودك في الساحة السينمائية علماً أن العدد الأكبر من الأطفال النجوم يختفي بعد بلوغ سن المراهقة؟

- لا تنس أنني اشتهرت كطفلة في كندا فقط وليس على الصعيد الدولي، وأنني بدأت العمل في السينما الهوليوودية وأنا مراهقة، فالأمر هنا يختلف بالنسبة لما يعيشه الأطفال الذين يعرفون النجومية العالمية وهم بعد في الثامنة أو التاسعة من أعمارهم.

الحياة اللندنية في

06/07/2012

 

«كارلوفيفاري»:

للمغربيّ ارهاب يفجّر نفسه وللفلسطيني هدوء النيات الطيّبة

كارلوفيفاري (تشيخيا) - فيكي حبيب 

في هذه الفترة من كل عام، يتبدل وجه مدينة كارلوفيفاري الواقعة في أسفل وادي في الجمهورية التشيخية، فتتحول من منتجع هانئ وديع يجتذب السيّاح بينابيعه الساخنة ومشاهده الرائعة، الى مدينة صاخبة تنبض حياة وحيوية: شبان من مختلف أنحاء تشيخيا يفترشون الساحات. خيم تؤوي المئات. طوابير امام شباك التذاكر. زحمة أينما كان...

مشهد يتكرر سنوياً مع انعقاد مهرجان كارلوفي فاري الذي يختتم عروضه غداً بعد 9 ايام من الاحتفال بالسينما، ويتكرر معه السؤال حول سبب توق الشباب التشيخي للوقوف عند جديد الفن السابع. وربما يحلو للبعض ان يعزو ذلك الى جذور مترسخة تاريخياً، كردّ فعل على سنوات الحديد والانغلاق على العالم. وهل أفضل من السينما للإبحار في عوالم «الآخر»؟

بديهة تبدو راسخة في ذهن الجمهور التشيخي الذي لا يفوّت فرصة ليبدي تقديره للسينما الجميلة، بعيداً من تاريخ مشؤوم يوم رُسّخ الفن لخدمة الأيديولوجيا. وكالعادة لا تخيّب الدورة السابعة والأربعون من المهرجان آمال الشبان الذين وجدوا أنفسهم في حيرة امام أكثر من مئتي فيلم، بعضها سبقها صيتها مثل أفلام كثيرة عرضت في مهرجان «كان»، وبعضها الآخر، كان بمثابة اكتشاف، خصوصاً تلك الآتية من بلدان لا صناعة سينمائية كبيرة فيها... وبينها افلام من عالمنا العربي او افلام تتناول قضايانا او حتى افلام لا علاقة لنا بها لا من قريب او بعيد، إنما تحمل توقيع مخرج من أصول عربية، مثل فيلم «الحلاقون» للمخرج البرازيلي اللبناني الأصل لويس فارس الذي، كما يقول لنا، لا يعرف شيئاً عن موطنه الأصلي إلا حكايات جده و «بضع كلمات بذيئة».

قضايانا على الشاشة

واذا استثنينا هذا الفيلم، يحضر العرب وقضاياهم في هذه الدورة من خلال 4 أفلام: اثنان من توقيع مخرجين عربيين (الفلسطيني ايليا سليمان والمغربي محسن بسري) والآخران من توقيع اسرائيليين. واللافت ان الأفلام الاربعة تدور كلها حول موضوعين فقط: الإنسان الفلسطيني من ناحية والأصولية والارهاب باسم الدين من ناحية اخرى.

بالنسبة الى فلسطين، أو في شكل اكثر تحديداً، بالنسبة الى الانسان الفلسطيني، تتولى ثلاثة افلام من هذه الأربعة إثبات حضوره في المهرجان. وربما - هنا - انعكاساً لحضوره في العالم، الذي بات يبدو انه صار شحيحاً أكثر من أي وقت مضى. وهو، حتى في حالته هذه، يبدو مجتزأً، ولا سيما في الفيلم القصير الذي حققه الفلسطيني ايليا سليمان، ضمن إطار فيلم جماعي عنوانه «سبعة ايام في هافانا».

هذا الفيلم الذي عرض خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، في الربيع الفائت، ويعرض ضمن برنامج «آفاق» في المهرجان التشيخي، تشارك في إخراجه سبعة من «مخرجي السينما العالمية»، وكان سليمان واحداً منهم. وإذا استندنا الى تعليقات النقاد الفرنسيين، يمكن القول ان سليمان كان بفيلمه، الأبرز من بينهم.

هنا، وكعادة صاحب «يد إلهية» و «الزمن الباقي»، يدور الحدث من حول سليمان نفسه: إنه في العاصمة الكوبية من دون ان يدري لماذا، وماذا يجب ان يفعل؟ عقد اتفاقاً مع منتج على ان يصور فيلماً عن يوم عادي لزائر فلسطيني في هافانا... غير انه سرعان ما اكتشف ان ليس لديه فيلم، وأنه لا يمكنه التواصل مع الناس لأنه لا يتقن لغتهم، كما انه لا يعرف عن هذا المكان سوى كليشيهات لا يريد ان يكررها. فما العمل؟ سؤال يشكل محور الفيلم، على خلفية سؤال الضياع الفلسطيني العام الذي، بالكاد يبدو اساسياً... لكنه أكثر من هذا سؤال عن الهوية وعن لغة التواصل، يعود اليه سليمان مكملاً ما كان بدأه من اسئلة شائكة في العدد الأكبر من أفلامه السابقة التي صنعت له مجداً سينمائياً كبيراً.

ولا يتفرد سليمان بتمثيل المنطقة في برنامج «آفاق» بل يشاركه مخرج اسرائيلي هو شارون بار زيف من خلال فيلم «الغرفة 514»، وكأن قدر الفلسطيني ان يبقى الاسرائيلي بجواره أينما كان... حتى وإن كان هذا الفيلم من كماشة تلك الأعمال الجدلية التي تبدي تعاطفاً مع العرب. واللافت اختلاف القراءة بين مشاهد عربي وآخر. فبينما قد يرى فيه بعض العرب امتداداً لموجة الأفلام الاسرائيلية الجريئة التي شكّلت شوكة في خاصرة اليمين الاسرائيلي، قد يعتبره آخرون في المقابل دعاية ماكرة تمجّد «ديموقراطية» اسرائيل. فماذا عن القصة؟ تدور الحكاية في عالم القيادة العسكرية الاسرائيلية من خلال تحقيق تجريه محققة بعد شكوى تتهم ضابطاً اسرائيلياً بسوء معاملة عائلة فلسطينية «من دون سبب» في الأراضي المحتلة. ومن خلال المواجهة بين الضابط والمحققة، تتشابك الخيوط بين الصالح والشرير، فلا يعود المشاهد غير المطّلع على القضية يدري أيهما الأبيض وأيهما الأسود: هل هو أبو العائلة الفلسطينية الذي عومل معاملة غير آدمية امام أطفاله من دون رحمة؟ ام هو الجندي الإسرائيلي القابع على الحاجز ويسكنه الخوف من فلسطيني قد يفجّره في اية لحظة؟ حوار يبدو عبارة عن شدّ وجذب بين حجج تتعاطف مع العرب وأخرى تبرر رد فعل الاسرائيلي... وفي الحالتين يعري الشريط خوفاً من واقع ينحو نحو الأسفل، مصوّباً سهامه في طريقه ناحية بطريركية القيادة العسكرية الاسرائيلية التي تمكنت امرأة من اختراقها بنجاح... في الفيلم طبعاً!

سؤال النيات الطيبة

فيلم اسرائيلي آخر («أينما تذهب» للمخرجة روني ساسون انجل) يطرح سؤالاً فلسطينياً أيضاً. لكنه هنا لا يعدو ان يكون سؤال النيات الطيبة. انها النيات التي لا يتوقف سينمائيون اسرائيليون عن التعبير عنها بين الوقت والآخر في أعمال قد لا يكون معظمها جذرياً او ثورياً او حتى مناصراً في شكل واضح للقضية الفلسطينية نفسها، لكنها وفي الحالات كافة قد تكون، كما قيل في الفيلم الاول، شوكة ما في خاصرة اليمين الاسرائيلي. ولا يشذ هذا الفيلم عن هذا السياق. فهو من خلال حبكته التي تتمحور من حول صبية فلسطينية هاربة من زواج قسري من ابن عمها، ينسج علاقة صداقة قد تبدو مستحيلة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، محاولاً ببساطته - او لنقل بتبسيطيته -، تجاوز الفروقات، مركّزاً على القواسم الانسانية المشتركة. فالفتاة الهاربة من تعسف اهلها تمتد لها يد فتاة اسرائيلية، تقلّها بسيارتها الى حيث تريد... وبعدما كانت الثقة معدومة بين الاثنتين، خصوصاً لناحية الاسرائيلية، سرعان ما تنشأ علاقة ودية بينهما، تشي بأن ما يجمع اكثر بكثير مما يفرق. لكننا اذ نقول هذا، هل علينا ان نرفس الفيلم وندينه لمجرد انه يسعى الى سلام مبهم يرمز اليه في التواجد المزدوج للفتاتين في اتجاه واحد، احداهما تعرف الى اين يقودها والثانية لا تعرف؟ سؤال بات ينبغي التريث قبل الإجابة عنه في شكل قاطع. لكنه هنا، في كارلوفي فاري، لا يُطرح على هذه الشاكلة. هنا يلتقط الفيلم ليعتبر نوعاً من بصيص امل، من جانب اناس يحزننا انهم باتوا اكثر وأكثر سأماً من ان يلتفتوا حقاً الى مثل هذه الأمور الآتية اليهم من منطقة تبدو من ناحية قضاياها المحقة، بعيدة جداً، ومن ناحية همّ الإرهاب العالمي قريبة أكثر مما يجب.

ارهابيون ومسرحيون في المجابهة

وهذا الأمر الأخير يؤكده الفيلم المغربي المميز «المغضوب عليهم» (للمخرج محسن بسري) الذي يعرض في كارلوفي فاري، بعدما فاز قبل شهور بجائزة العمل الأول في مهرجان الفيلم المغربي في طنجة. ولا يزال هذا الفيلم، منذ عروضه الاولى، يجمع بوفرة بين إعجاب كثر وسجالات كثر آخرين من حوله. فهو، في نهاية الأمر، واحد من تلك الأفلام الجريئة التي اعتادت السينما المغربية ان تنتجها، متحدّية بها، واقع المغرب، وهجومات الذين لا يريدون الخير والاستقرار له.

يصوّر «المغضوب عليهم» فرقة مسرحية مؤلفة من مجموعة شبان ارادوا القيام بجولة فنية، غير انهم يقعون منذ بداية الجولة ضحية مجموعة من شبان متطرفين تخطفهم، انما من دون ان تعرف ما الذي يجب عليها ان تفعله بهم. فالخاطفون اذ يقودون المخطوفين الى بيت يقع في منطقة نائية، يمضون وإياهم اياماً في انتظار اوامر تأتيهم من «أميرهم» تتعلق بمصير الشبان المسرحيين. وهناك في البيت يتحول الفيلم الى سياق شبه مسرحي وتمضي الأيام في مجابهة وصراع وحوار بين الخاطفين والمخطوفين. وهنا، على رغم أحادية المكان وانغلاقه، تمكّن المخرج - والسيناريو بوجه خاص - من ان يقدم خبطة دينامية مثيرة وحوارات ذكية وعلاقات معقدة، بعيداً من لعبة الخير والشر التقليدية. ولئن كان للعبة كلها ان تنتهي في نهاية الامر، فإن الفيلم ينهيها بانفجار داخلي في صف الخاطفين انفسهم. وهو ربما يجعل هذه النهاية كناية عن المصير الذي يمكن توقعه لكل تطرف ولكل مجموعة تعيش خديعة ألعاب الأقوياء.

ومن الواضح ان قوة هذا الفيلم تكمن هنا، لكنها تكمن ايضاً في حرفية قوية في تقطيع السيناريو، والاستفادة من جغرافيا المكان، والسيطرة على أداء مجموعة مميزة من ممثلين. وهذا كله جعل من «المغضوب عليهم» حدثاً «عربياً» اساسياً في دورة من كارلوفي فاري لم تبد، في البداية مؤهلة لتشهد اي حدث عربي.

الحياة اللندنية في

06/07/2012

 

«من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية» هل أُغلق الجرح؟

باريس - ندى الأزهري 

لقد كان ذلك الحدث «نهاية عصر للبعض، وبداية تاريخ للبعض الآخر».

إن كنت لم تعر التفاتاً في السابق إلا للجزء الثاني من الحدث، فإن هذا الفيلم سيعيدك إلى المسار الصحيح. ثمة أفلام لا تخرج منها كما دخلت، وثمة وقائع فاتتك أو أهملت تذكرها أو اتخذت منها موقفاً مسبقاً، ولكن حين يدفعك فيلم وثائقي لإدراكها أو لإعادة النظر فيها والبحث من جديد، فأقل ما يقال إنه فيلم قام بدوره التعريفي. وحين تبقى متسمراً أكثر من ساعتين من دون كلل أمام هذا الفيلم، فأقل ما يقال إنه قام بدوره الفني. وحين تلحظ أنه وقف على مسافة «ضرورية» من الوقائع فأنك لا بد تحيّي موضوعيته.

إنه الفيلم الوثائقي «1962 من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية» من إخراج ماري كولونا ومالك بن اسماعيل. عرض الشريط بمناسبة الاحتفال بالعيد الخمسين لاستقلال الجزائر ضمن برنامج من العروض السينمائية نظمه معهد العالم العربي بالاشتراك مع جمعية مغرب الافلام وفرانس تلفزيون والوكالة الجزائرية للاشعاع الثقافي. وتحت عنوان «الجزائر في صور»، عرضت في المعهد من 22 إلى 25 حزيران (يونيو) ثمانية افلام عن فترة الاستعمار وحرب الجزائر، ثلاثة روائية وخمسة وثائقية. بعضها من الإنتاج السينمائي الجزائري في فترة الستينات وحتى الثمانينات، وأخرى إنتاج مشترك حديث مع فرانس تلفزيون.

شهادات فريدة ومؤثرة

في عام 1962 كانت الجزائر «أرضاً فرنسية» منذ قرن ونصف قرن، إنها آخر سنة للاستعمار بعد سبع سنوات من حرب تحرير الجزائر التي حصدت مليوناً ونصف مليون. المخرجان اللذان ولدا في الجزائر المستقلة، يستعيدان تلك الفترة التي تفصل بين وقف إطلاق النار في 19-3-1962 والانتخابات الأولى للمجلس الوطني الجزائري في نهاية ايلول. في مقاربة حساسة للموضوع من البداية وحتى النهاية، نتعرف على حياة أُخذت في دوامة التاريخ، وعلى قصص عبّرت عن كثافة تلك الفترة وعن نهاية عصر لبعضهم وبداية تاريخ للبناء للبعض الآخر.

لقد ذهب المخرجان للقاء فرنسيي الجزائر (جماعة الأقدام السوداء) واستمعا الى الجزائريين الذين تعاملوا مع المستعمر (الحركيون)، وقابلا شهادات أولئك مع آراء جزائريي الجزائر، فكان عرضاً مدهشاً لهؤلاء الذين شهدوا العنف، الخوف، والأمل... ثم خيباته، ولوجهات نظر متعددة أمام حدث واحد.

في الجزء الأول من الفيلم» عليكم أنتم الآن صنع السلام»، الذي اعتمد على صور الارشيف وشهادات معاصرين، تبدو «منظمة الجيش السري» الفرنسية المسلحة التي ظهرت في الجزائر في مارس 1961 تحت شعار «الجزائر فرنسية وستبقى»، وقد صممت على جعل فترة وقف إطلاق النار التي أعلنها ديغول من أسوأ ما يمكن معلنة أنها ستقتل من يرحل من الفرنسيين. لقد ارتكبت عمليات قتل بحق أبرياء وأحرقت المنشآت العامة، لكن وكما يحصل دائماً بدأ الانتقام وانتشر الخطف «من الجهتين» ولم يعد ثمة «أبرياء» في ذلك الوقت. كانت فترة مضطربة افتُقد فيها الأمان ورأى الأبناء آباءهم يُقتلون أمام ناظرهم.

يبدي الفيلم المواقف المتناقضة من المنظمة فبعضهم اعتقد انها كانت «الملجأ الأخير» لمن كان يفضل البقاء والعيش في الجزائر. وآخرون يرون بعد مراجعة للتاريخ، أن «كل الحق عليهم، لقد خربوا الاوضاع» إذ لم يعد من الممكن بعدها العيش سوياً. كما تطرق إلى الهوة التي كانت بين اتفاق ايفيان لوقف النار وبين الواقع وما سببه ذلك من مواقف ملتبسة للجيش الفرنسي وبخاصة منها قمع التظاهرة الأولى لسكان حي باب الواد، معقل الأقدام السوداء، استناداً إلى مبدأ «نقمع التظاهرات بشدة ولن تكون ثمة أخرى بعدها»، ولقد ربحوا الرهان!. فأسابيع بعد الإعلان عن وقف النار سمحت المنظمة برحيل النساء والأطفال ثم استمر الرحيل وفي نهاية حزيران كان 350 الفاً قد تركوا الجزائر.

استحالة عيش ما...

ومقابل وجهات نظر جزائرية في رحيل الفرنسيين والأوربيين «لم يكن ممكناً لهؤلاء العيش في جزائر مستقلة...»، يعرض الفيلم مشاعر أولئك الذين اعتبروا الجزائر «بلدهم الذي ولدوا فيه»، لقد عبر بعضهم بالغضب وآخرون بالدموع عن لحظات الرحيل، «اللحظة الاكثر تعاسة في حياتي»، وعن تساؤلاتهم «ولماذا أرحل؟ هنا ولدت... كنا في بلدنا وكانت لدينا مزارعنا...». ولكن جاء اليوم الذي كان على الجميع المغادرة وترك كل شيء وراءهم. كان يوم الاستقلال تعيساً لهم، بيد أنه كان أحلى يوم في حياة الجزائريين. لكن في ذلك اليوم لم تكن هناك أفراح النصر فقط! لقد كان يوماً دموياً قتل فيه فرنسيون وحركيون ورميت جثثهم في البحيرة، وساد جو من الرعب لم يوقفه إلا خروج متأخر للجيش الفرنسي من ثكناته بعد سقوط مئات الجرحى والقتلى من الجهتين. لكنه كان ايضاً، اليوم الذي ترك فيه «الحركيون» بخاصة، هذا الجرح العميق في التاريخ الجزائري - الفرنسي بخاصة، لمصيرهم. لقد تخلى الجميع عنهم وقالها وزير بصراحة: «لا أريد أن اعرف شيئاً عنهم»، وذاقوا مرارة الاغتصاب والإهانة ولم يكن أمامهم سوى الرحيل أو التجمع في الثكنات أو القتل.

في الفيلم مواقف متضاربة من هؤلاء الذين يعتبرهم كثر من الجزائريين «خونة»، وهذا على رغم اعتراف كثيرين بأن «بعضهم اضطر أن يكون حركياً»، وأن قسماً منهم عمل مع الفرنسيين من أجل لقمة العيش فقط «لم تكن لدي ايديولوجية... كنت أعمل من اجل عائلتي، هذا كل شيء» كما قال أحدهم.

يستعيد الجزء الثاني من الفيلم «وكأنه حلم...» يوم الاستقلال (3 يوليو) وأسئلته «كيف يمكن التنظيم بسرعة والانتقال من بلد الى آخر بعد رحيل هؤلاء؟». ويستعين بمقاطع من الاذاعة الفرنسية آنذاك، وقصاصات الجرائد وصور الارشيف ليسلط الضوء على أفراح ذلك اليوم، ولكن أيضاً...أحزانه.

«كان يوماً كالحلم وكانت صيحات «الجزائر حرة، الجزائر مسلمة» و «الجزائر جزائرية»... كانت الفرحة عارمة، لقد كان يوم العودة إلى النفس، فالمستعمر قد غيب «تاريخنا وثقافتنا». أما أقوى رمز لهذا اليوم فجاء على لسان راهب فرنسي: «لقد ألبسوا تمثال جان دارك العباءة والحجاب وغطوه بالعلم الجزائري كان هذا هو الاستقلال! لقد شعرت حينها بنفسي أجنبياً». آخرون من الفرنسيين الذين احتفظوا بالأمل في البقاء حتى اللحظة الأخيرة، شهدوا هذا اليوم بالدموع والغضب «كنا كصراصير محبوسين في بيوتنا»، وشعر بعضهم بالحقد على الجنرال ديغول وتساءل: «لماذا ليس لدي الحق في أن أكون جزائرياً؟»، لم يكن كثر يعتبرون انفسهم مستعمرين» لم أكن مستعمراً، كنت عاملاً وكنا في بلدنا... لقد طردنا من بلدنا» ويقول آخر: «كنت أظن أنهم سيقرأون على جبهتي أنني فرنسي جيد! لكنهم لم يفعلوا»!... تتتابع الشهادات التي تعبر عن آلام هؤلاء وحرقتهم ومرارتهم.

ثم تطرق السيناريو إلى فترة ما بعد الاستقلال الصعبة وكشف بعض خبايا الاقتتال الجزائري-الجزائري في آب (أغسطس) 62 وخيبة من «هؤلاء القادة الذين لا يستأهلون ثقة الشعب». وألقى الضوء على أول «انقلاب جزائري بشرعية السلاح والديموقراطية على الطريقة الجزائرية» حين استقال الرئيس بن خدة ودخل أحمد بن بلة العاصمة في مصفحات بومدين وانتخب رئيساً...

ما فتئت هذه الحرب تثير إلى اليوم، مناقشات وجدالات وما زالت جروحها مفتوحة، وعانى مخرجا الفيلم في التصوير الذي كان «صعباً ومعقداً وألغي مرات». وقالت المخرجة في لقائها مع الجمهور إنها وزميلها وضعا مشاعرهما في «خزانة» واكتفيا بنقل مشاعر هؤلاء الذين عاشوا الأحداث، لكن بن اسماعيل رد معترضاً: «لدينا مشاعرنا بخصوص هذه الحرب، إنه جرح مفتوح يجب غلقه» واضعاً مسؤولية هذا الدور على «الفنانين والمثقفين»، فالسياسيون والمؤرخون لهم أدوار أخرى على ما يبدو، وربما كانوا لا يقدرون».

لم يوفر الفيلم أحداً، ولم يهتم بالحساسيات وبالأقوال اللائقة سياسياً وبأنصاف الحقائق، بل ترك حرية الحديث عن الأحداث والوقائع لكل هؤلاء الذين عايشوها، واستمع إلى معاناة وجروح و... أفراح كل الأطراف. وهنا نقطة قوة هذا الوثائقي وعمق الأثر الذي يتركه في النفوس. وربما يسمح الاشتغال على الذاكرة بقلب هذه الصفحة المأسوية في تاريخ البلدين، وبأخذ الدروس والعبر من قبل بلاد أخرى تصنع شعوبها التاريخ في الوقت الحاضر.

الحياة اللندنية في

06/07/2012

 

اللغة المكتوبة قاسماً مشتركاً

الدار البيضاء - مبارك حسني 

في البدء يوجد النص، كتابة أو صورة.

في المنتهى يوجد النص، كتابة فقط.

لكن بين البداية والنهاية توجد صيرورة إبداع متحققة. وهذه الصيرورة تبحث في المتناول عن سياقها الإبداعي خارج الملموس والمحسوس الذي لها أصلاً. تبحث عن أن تستمر في الوجود والتأثير والأثر. أي أنها تبحث عن النقد بما هو استمرار للنص وحياة أخرى له.

كل إبداع هذا هو حاله. والإبداع هو أصلاً للآخرين، والآخرون هويات متعددة يروم النقد جرّها وإثارتها بمختلف الطرق الأسلوبية المتاحة. النقد يوجه، يقيّم، يوضح، يبين، يغربل، يجلو. وهنا تحضر الكتابة بقوة. الاختلاف يظهر، كما يعرف الجميع، في السند le support، نقطة الانطلاق الإبداعية. الفيلم، قصيراً أو طويلاً أو وثائقياً، ليس هو الأدب، الأدب السردي هو قصة أو رواية أو قصيدة أو مسرحية. الصورة غير المكتوب الإبداعي، وبالتالي فالنقد يختلف من حيث منطلقاته، وليس من حيث منتهاه. لأننا في آخر المطاف نكتب نصاً في الحالتين مع. والوجوب بالضرورة هو كتابة نص بلغة قوية مؤثرة تصل شغاف قلوب وعقول أغلب الهويات المتعددة. هنا، لابد من الإشارة إلى أن أغلب النقاد في البداية في فرنسا كانوا كتاباً مثل بليز ساندرارس ومارسيل أيمي..

نعم، النص النقدي سابق وله تاريخ عريق، وهو نقد يتوجه للأدب بصفة عامة، يُنظر له، يبحث فيه من كل المناحي، ولا يقتصر على العمل الإبداعي مفرداً بالضرورة (رواية أو قصة...). بخلاف النص النقدي السينمائي فهو نقد يتجه للأفلام بالضرورة. عبرها يتأسس ويكون. ومن هنا يأخذ كامل ألقه إن نجح في تدبيج نص قوي.

شكلاً، يتشابه النص النقدي، سينمائياً أو أدبياً، مع المقالة (في الصحيفة أو المجلة) لكنهما في العمق يختلفان. في المقال النقدي السينمائي يبحث الكاتب عن الفكرة المحددة الجديدة القوية الخارجة عن المألوف من حيث تجسّدها في الإخراج، محتوى الفيلم حسب الناقد المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، أو تجسد «اللبس الأنطولوجي للواقع» حسب أندري بازان مؤسس النقد السينمائي الفرنسي، «ما لا تقوله الفنون الأخرى». لكن الفيلم محدد زمنياً غير مفتوح على كثير تهيؤات وتأويلات. أما المقال الأدبي فإن ما يبحث عنه أصلاً هو الأثر العام، الأكبر، القوي، عبر قراءة تأويلية منهجية تتغيا التأويل. قراءة تتم في معطى شاسع يضم الزخم اللغوي المتاح للتعدد والتفارق والاختلاف. أما الرواية مثلاً فعالم منغلق على أسرار واحتمالات غير محددة.

لكن الحالتين معاً تركبان متن المكتوب/ الكتابة، اللغة تحضر ويجب تطويعها لخلق النص الثالث. كيف؟

بالنسبة للشريط السينمائي، هو شكل «تقني» يجب إتقانه كي يؤدي إلى إخراج la mise en scène متمكن يستطيع تحقيق الفكرة، أي إلى أمر ملموس ومفهوم في مستواه الأول المباشر لا يتطلب معرفة أو تعلماً. هذا قبل أن يخضع في المستوى الثاني لـ «إبداع» الآخر غير الملموس، والذي يظهر من خلال التقني الأول. أما الأدب فجمل وحروف وفقرات وقواعد، لغة منتشرة مضبوطة «مؤسلبة»، أي أمر مجرد إن صح التعبير، ومن هنا ضرورة التوافر على حظ من التعليم.

وحين تتم الكتابة، لا بد من مراعاة هذا الفرق الجوهري. (ملاحظة: حين يحدث أن يكتب الأديب عن شريط سينمائي، يسقط غالباً في الحكي «الحرفي» la paraphrase). أما النقد السينمائي فقد استطاع بفضل رواد كبار عاشقين و»سنيفيليين» وجامعيين متخصصين (في فرنسا على الخصوص) أن يتخلص من هذا المطب عبر ما سطروه من خلال «نظريات السينما»، مقتفين في ذلك آثار واجتهادات نقاد الأدب و»نظرية الأدب» آخذين منها ترسانتها المفاهيمية وطبقوها مع تحوير المجال وإضافة عناصر الإطار والزمن والتوليف. وهو ما أغنى النقد السينمائي ومنحه أوراق اعتماده كإبداع محترم. الكل «يفهم» ما يجري في الصورة وداخل «الكادر» لمطابقتها للواقع الحي، إلا أن الفيلم سرد ذو قواعد خاصة تتطلب دراية، بخاصة حين يكون عملية إبداعية، فيلم فن ومؤلف، ما يجعله يبحث عن الاعتراف بهذه الصفة الأخيرة. وقد يتحقق ذلك كثيراً عبر المكتوب النقدي الرصين القوي الذي ينافح المكتوب الأدبي إن صح التعبير.

فلا يمكن في هذا الإطار أن يتناول النقد السينمائي فيلماً تافهاً، لا يستطيع مسايرته بأية حال من الأحوال، لأن هذا النقد أيضاً حقق اعترافه من خلال ما هو إبداع بحق وحقيق. وهذا بخلاف النقد الأدبي الذي يظهر معفياً من الأدب التافه غير الموجود، بالنسبة إليه. نعم، هناك روايات شعبية، عاطفية، «بورنوغرافية»، مثيرة... لكنها لا تعني النقد. أما الفيلم فقد يكون غير سليم ومفكك..ويسمح بعرضه. الشيء الذي يجعل السينما في حاجة إلى النقد بمعنى الكتابة كي تنال الاعتراف والتقدير. وهو مما يجعلها جليلة ومستبدة وليست في متناول أي كان ولو كانت المعرفة موجودة سلفاً.

هنا الكتابة هي المحدد.

النقدان معاً كتابة، ولا يكفي التمكن من نظرية الأدب، ولا من نظريات السينما، ولا من الإضافات التي جاءت بها السوسيولوجيا والبنيوية والتحليل النفسي كي نكتب نصاً نقدياً مميّزاً. هذا من جهة، كما لا تكفي قراءة الروايات بكثرة، أو الإدمان على مشاهدة الأفلام من جهة ثانية. يجب التوافر على كيمياء التحويل الضرورية واللازمة التي هي الكتابة، تحويل كل الأثر بعد القراءة وبعد المشاهدة إلى كتابة تجسد التفاعلات والتراكيب المستحدثة باطنياً وعقلياً وفكرياً، عبر إبداع نص سمته الأزلية أنه لغة وأسلوب ومقاربة تستدعي الذات والآخر في عملية تأثير واجبة كما يفرضها كل إبداع وسيلته الكتابة. هنا يلتقيان ولنا في تجارب رائدة، الدليل، لنقرأ رولان بارث ولنقرأ اندري بازان، ولنقرأ نصوص بورخيس ناقداً سينمائياً كما بول أوستر، ونقاد العربية الأوائل الذين كانوا كتاباً.

الحياة اللندنية في

06/07/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)