حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كمال الشيخ. . «حياة أو موت»

بقلم : د.رفيق الصبان

 

لا أدري أهو جحود منا أم نسيان أم هي ذاكرتنا المهترئة التي تلقي أحيانا ستارا غامضا علي ملامح من تاريخنا السينمائي يفترض بنا ألا ننساها ونرفعها إلي مركز عال من نفوسنا وأن نفخر بها كلما جاءت مناسبة أو جرنا الحديث عن تاريخنا السينمائي. دخل كمال الشيخ باب السينما العريض من دهاليزه الخلفية.. حيث ابتدأ حياته الفنية متجها إلي المونتاج «التوليف السينمائي» الذي تعلم من خلاله كيف يضبط إيقاع أفلامه هذه الميزة التي ظلت تلازمه بقوة حتي آخر الأفلام التي أخرجها. وشأن زميله صلاح أبوسيف انتقل من المونتاج إلي دنيا الإخراج التي كانت دنياه الحقيقية واستطاع أن يثبت من أول الأفلام التي أخرجها نظرة سينمائية متجددة وإحساسا شديد الوعي بالمواضيع التي يطرحها، بل إن نظرته السينمائية اتسمت علي عكس كثير من رفاقه بجدية شديدة بالتعامل ورهافة في التعبير لم تفارقه في أي من أفلامه مهما كانت طبيعة الموضوع الذي يعالجه. في «حياة أو موت» الذي يعتبر علامة فارقة من علامات السينما المصرية البوليسية نهج كمال الشيخ منهجا شديد الخصوصية بالسينما المصرية لم يكن معروفا قبله. استطاع وهو المخرج الشاب الذي يحاول أن يضع قدميه علي أول السلم أن يحقق أكثر من تحد لم يجرؤ أي من المخرجين المخضرمين الذين سبقوه أن يلجأ إليها. خرج بكاميراه إلي الشارع ليصور أحداثه كلها تقريبا وهي الطريقة أو الأسلوب الذي اتبعه عباقرة السينما الإيطالية عندما أسسوا حركتهم المسماة «الواقعية الجديدة». ابتعد تماما عن نظام النجومية السائد والمسيطر علي السوق آنذاك، وربما حتي اليوم معتمدا كل الاعتماد علي طرافة موضوعه وعلي البعد الاجتماعي المتجلي فيه. ركز علي الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشارع المصري دون أن يضطر لرفع الصوت مرة واحدة خلال أحداث الفيلم. كما وجه انتباه المتفرج إلي البعد الإنساني الكامن وراء الأحداث. فيلم استثنائي هذه الميزات كلها التي لم تكن لدونه مثيلا في أي فيلم مصري سبقه، جعل من «حياة أو موت» فيلما استثنائيا في مسار وحركة السينما المصرية، وفتح الباب واسعا أمام كمال الشيخ ليعبر من خلال السينما بعد ذلك ومن خلال أفلام كثيرة يعرف كيف يختارها بدقة فائقة عن نظرته للعالم وعن موقفه منه. كان «حياة أو موت» نقطة انطلاق لا يمكن التراجع عنها، وجاءت أفلام كمال الشيخ التالية وكأنها نجوم مجرة سماوية تضيء الظلام الذي كانت تعيش بين أطرافه سينمانا الطويلة. يحاول بعض مؤرخي السينما المصرية أن يصنفوا أفلام كمال الشيخ ضمن مجموعتين، الأفلام البوليسية والأفلام السياسية، وكما كان كمال الشيخ رائدا في المجال الأول حقق للسينما المصرية ما كانت تتمناه منذ بداياتها الحقيقية في فيلم لا شيء أي أن تكون تعبيرا سياسيا وصوتا عالي النبرة يقول الكثير دون مباشرة ودون تطويل أو تنازلات. كمال الشيخ في «أرض السلام» كان أيضا أول مخرج مصري يعالج القضية الفلسطينية في تؤدة وهدوء وحيادية مدهشة واستطاع أن يتغلب علي ميلودرامية أحداثه بنوع من الرقة والانسيابية لم تتسن لكثير من الأفلام. هذا الاتجاه السياسي الشديد الجرأة تجلي بعد ذلك في أكثر من فيلم أخرجه كمال الشيخ ووضعه دون شك في رأس قائمة المخرجين السياسيين العرب. أفلام كمال الشيخ السياسية تميزت بجرأة غير مسبوقة مغلفة بكثير من الدبلوماسية أحيانا وبشيء من الحدة لا يماثلها أي فيلم آخر. كما في فيلم «ميرامار» المأخوذ عن قصة شهيرة لنجيب محفوظ أو «اللص والكلاب» حيث تجاور البعد الاجتماعي والبعد السياسي في مزيج لم تنجح السينما المصرية في تحقيق مثيل له إلا بأفلام قليلة. أما في «غروب وشروق» فقد تجرأ كمال الشيخ لأول مرة أن ينتقد بصوت مرتفع النظام البوليسي القمعي من خلال قصة عائلية محبوكة كتبها جمال حماد. وفي «الرجل الذي فقد ظله» دخل كمال الشيخ إلي دهاليز وسراديب الصحافة وكشف أسرارها الخفية والمعلنة.. وحقق بسهولة فيلما رائدا سواء عن طريق المعالجة «رؤية الأحداث من خلال أصوات مريضة» أو اختراق الممنوع.. كما فعل لكن بشكل أقل قوة وتأثيرا في فيلم «الهارب». ويبقي «الصعود إلي الهاوية».. ذروة عطاء كبري في حياة كمال الشيخ الفنية وفي تعبيره السياسي الذي اتسم دائما بمزيج من الحياء والجرأة قل لمخرج مصري أن عرف كيف يجمع بينهما في «شيء في صدري» حاول كما أن يحقق بنسبة غير متعادلة النجاح الذي حققه في «الرجل الذي فقد ظله» معتمدا علي تصوير شخصية رجل أعمال شهير تداخلت السياسة بصفقاته ومؤامراته وذلك قبل سنوات طويلة من تزاوج السلطة والمال الذي أصبح يشكل ظاهرة من ظواهر ما قبل ثورة يناير. لكن أعلي ما حققه الشيخ في هذا المجال كان دون شك «علي من نطلق الرصاص» الذي قدم عن سيناريو لرأفت الميهي، حيث وصل التمازج في السياسة العاطفة بين الواجب والقلب إلي مستوي تراجيدي لم تعرفه السينما المصرية من قبل. الموجة السياسية المتدفقة التي كونت أفلام الشيخ في هذه الفترة حاولت أن تعطيه لقب مخرج السينما المصرية السياسي الأوحد.. وهي صفة رفضها بحزم وكبرياء كمال الشيخ علي مدار مسيرته، كما رفض أيضا تشبيهه بهيتشكوك مصر إثر نجاحه الأول الساحق في تحقيق بعض الأفلام البوليسية: «لكن اعترف» و«الليلة الأخيرة» و«من أجل امرأة». ولكن تبقي نقطة ضعف لدي الشيخ لم يحاول قط أن ينكرها.. يسند نجاح فيلمه «حياة أو موت» وهو تركيزه علي براءة الطفولة وقدرتها علي مسح الظلال عن القلب البشري الفاسد. وهذا ما كرره مرة أخري في «ملاك وشيطان» حيث تمكنت براءة طفلة من إعادة النور إلي قلب مجرم قاسي القلب قام باختطافها. ولم ينس الشيخ حتي في الفيلم الغنائي الوحيد الذي أخرجه أن يترك للطفلة أن تلعب الدور الذي يسيطر علي الأحداث في مشهد ميلودرامي بحت أكد أن حساسية المخرج ورؤيته الناصعة. الإطار النمطي وتبقي ميزة أخري للشيخ ضمن ميزات كثيرة لا تنسي.. هي قدراته علي إدارة ممثليه وتوظيف البعض منهم خارج الإطار النمطي الذي تعود أن يراهم به الجمهور. كما صنع ليلي فوزي إذ جعلها تنقلب إلي امرأة شريرة متآمرة في «من أجل امرأة» لا تتورع عن شيء في سبيل تحقيق مآربها. أو مديحة كامل التي واجه فيها التحدي الأكبر عندما عهد إليها أن تلعب دور الجاسوسة في «الصعود إلي الهاوية» الدور الذي رفضته قبلها كل ممثلات مصر والذي حولها مرة واحدة إلي «سوبر ستار» لها مكانتها. أو حتي فردوس عبدالحميد عندما عهد إليها وهي صديقة الخبرة بالسينما دورا دراميا معقدا في «علي من نطلق الرصاص». وحتي فاتن حمامة نفسها التي تعتبر أيقونة لا يمكن المساس بها قدمها في دور مختلف في الفترة الأخيرة دور أخذها رسميا إلي مهرجان «كان». أما شادية فقد انطلقت به بداية عملاقة في «ميرامار» وفي «اللص والكلاب» ورأيناها كما لم نرها قبلا. كما أعطي هدي سلطان وجها جديدا لا نعرفه عنها في «شيء في صدري». في الفترة الأخيرة من عطائه الفني مر كمال الشيخ بأزمة نفسية أثرت عليه كثيرا لابتعاده عن العمل السينمائي ولعدم رغبته في إهانة كبريائه الفني وقبوله وهو في آخر العمر إخراج أفلام كان يرفضها وهو في أوج شبابه. ومع ذلك ظلم النقاد كثيرا فيلميه الآخيرين «الطاووس» و«قاهر الزمن» فرغم أنهما لا يرتقيان إلي مستوي رؤيته السابقة إلا أنهما لم يكونا علي هذه الدرجة من السوء التي حاول البعض أن يلصقها بهما. ورغم أضواء التليفزيون الخادعة وبريقه الزائف رفض كمال الشيخ الاستجابة لإغراءات الشاشة الصغيرة مفضلا الاحتفاظ بوفائه لحبه للسينما كما عرفها وكما مارسها، وكما دافع عنها. كمال الشيخ قامة كبيرة من قامات السينما المصرية وهامة فنية نعتز بها، ولا أعرف سببا حقيقيا للتجاهل الذي أحاط باسم مخرج أعطي كل ما عنده للسينما دون أن يطلب أي مقابل وأدارت له السينما ظهرها دون حق في أواخر عمره وحرمتنا وحرمت كل عشاق الفن الأصيل من عطاء فني لا يتكرر إذ يبدو حقا أن زمن المعجزات قد ولي إلي الأبد.

جريدة القاهرة في

22/05/2012

 

كامل التلمساني. . فنان من زمن الأساطير

بقلم : محمد عبدالعزيز 

شخصية عصبية المزاج، حـادة الطبع، متوقـدة الـذكـاء، قـوية المنطق، وذلك من أثر قراءاته العديدة، واطلاعه علي كل المـذاهب والأفكار من اللـغات الإنجليزية والفرنسية والعربية.. لقد اكتنز قسطاً من المعلومات والمعرفة، والتي تكثـفت وتراكـمت وجـعلته يتـكلم في الفـن والأدب والفـلسـفة والـسـياسة والعـلم والـدين والمجتمع والحضارة.. يتكلم في حماس شديد، بل في ثورة عارمة في بعـض الأحيـان.. إنه مجموعة من المتناقضات، تلتحم وتتصارع في لحظة واحدة بين جوانحه، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلي حال، بهذه الكلمات يصف المخرج الكبير أحمد كامل مرسي صديقه الفنان والمخرج الكبير كامل التلمساني الذي عاش بين اروقة الفن والادب والسينما جاعلا منها ادوات تقتحم عقول المصريين في محاولة لتحريرها من ظلمات الجهل والفقر والمرض!! ولد الفنان كامل التلمساني في 15 مايو 1915 لأسرة فقيرة بقرية نوي مركز شبين القناطر محافظة القليوبية، وظل بها حتي حصوله علي الشهادة الابتدائية، وفي هذه القرية تفتح وعي كامل التلمساني، ورأي البؤس والفقر الذي يعيش فيه الفلاح المصري، ومن هنا ارتبط بالارض والفلاح حيث بدأت موهبته في الرسم تتكشف وتنقل ما تراه عينه من تناقض واضح بين جمال الطبيعة ومناظر الحصاد وبؤس وفقر هذا الفلاح الذي يزرعها!! استاذه الأول في عام 1925 تنتقل الاسرة الي القاهرة، وتتنقل بين عدة احياء شعبية منها حلوان والصليبة، واخيرا استقرت بالجيزة حيث التحق كامل بالمدرسة السعيدية الثانوية، وفي السعيدية يلتقي بأستاذه الاول يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة ليكون مرشده الاول في عالم الرسم، وطوال هذه الفترة لم تنقطع زياراته لقريته حيث كان دائم التردد عليها ليرسم المناظر الطبيعية ويدرس حال الفلاح. وفي عام 1930 يحصل كامل علي البكالوريا ويلتحق بكلية الطب البيطري، لكن كان الفن قد استولي علي تفكيره كلية فلم يستطع استكمال تعليمه بالكلية، وقرر انهاء تعليمه بالكلية بعد ان قضي بها خمس سنوات رسب خلالها اكثر من مرة وكان ذلك عام 1941 . وقبل ان يترك كامل الكلية كان قد التحم بالحركة التشكيلية في مصر خاصة بالسريالية والتي بدأت في مصر علي يد جورج حنين ورمسيس يونان، واستطاع كامل ان يكون احد ابرز روادها سواء بلوحاته التشكيلية التي ارتبطت بالفلاحين والبسطاء، كذلك مقالاته التي نشرها في هذه الفترة بمجلة (مجلتي) التي كان يصدرها أحمد الصاوي محمد، وكانت في ذلك الوقت بمثابة المنـبر الثقافي للفن الحديث.. كذلك تعرف علي سلامة موسي ونشر معه في (المجــلة الجـــديـدة) مجموعة من الصور الادبية تحت عنوان (من الحياة والفن)، كما شارك في هذا الوقت في تأسيس جماعة (الفن والحرية)، ولكن قبل ان نتحدث عن هذه الجماعة يجب ان نتوقف لنري الارهاصات التي ادت الي خروج هذه الجماعة الي النور. اغلب الظن ان يوسف عفيفي مدرس الرسم بالمدرسة السعيدية كان هو همزة الوصل التي تعرف عن طريقها كامل التلمساني بالحركة التشكيلية في مصر والتي كانت منقسمة الي فريقين فريق خريجي مدرسة الفنون الجميلة وفريق خريجي مدرسة المعلمين العليا، وكانت تلك الاخيرة تضم يوسف عفيفي والتي احتضنت البدايات السريالية في مصر، وكانت اول الجماعات التي اسستها هي جماعة (المتحولين) في بداية الثلاثينات وكان سكرتير الجماعة هو جابرييل بقطر، وشارك فيها جورج حنين ورمسيس يونان، واغلب الظن ان التلمساني كان أحد أعضائها خاصة وان استاذه يوسف عفيفي كان عضوا بها، وفي عام 1937 قدم جورج حنين اولي محاضراته عن السريالية في مصر وشرع في تنظيم جماعة السرياليين وكان من بينهم كامل التلمساني، وفي عام 1938 يصدر جورج حنين اول ديوان شعري له مزين برسوم كامل التلمساني مما يوضح العلاقة التي كانت تجمعهما، وفي نفس العام وتحديدا في 22 ديسمبر 1938 يوقع 40 فنانا ومثقفا مصريا وبينهم التلمساني بالطبع علي بيان (يحيا الفن المنحط) وكان بمثابة صرخة احتجاج جريئة ضد منع هتلر الفن الحديث في المانيا باعتباره فنا منحطا، وكان هذا البيان هو بداية جماعة (الفن والحرية) والتي اصدرت بيانها الاول في 9 يناير. واتخذت الجماعة مقرا لها بشارع المدابغ رقم 28، واصدرت مجلة التطور لتكون لسان حالها وكتب التلمساني بها العديد من المقالات والدراسات، كما نشر بها العديد من رسوماته التعبيرية التي كانت تصاحب الموضوعات والقصص الادبية، وكان يرأس تحريرها انور كامل. كما شارك في تحرير جريدة (دون كيشوت) وهي جريدة اسبوعية كانت تصدر باللغة الفرنسية لصاحبها ادوارد الشدياق ويرأس تحريرها المناضل الشيوعي هنري كورييل، وصمم التلمساني صفحتها الاولي وكان يشارك في رسم صفحاتها الي جانب الرسومات الداخلية المصاحبة وكتب بها ايضا مجموعة من المقالات والدراسات المهمة، ولعل اهمها دراسة عن الفن التشكيلي في مصر حتي عام 1940 . الفن والحرية وفي مارس 1940 نظمت جماعة الفن والحرية معرضها الاول تحت عنوان الفن المستقل شارك فيه كامل التلمساني، وفي 24 فبراير 1941 نظمت الجماعة معرضا خاصا لأعمال كامل التلمساني فقط وكتب مقدمة كتالوج المعرض صديقه الفنان جورج حنين. ويشارك كامل التلمساني في معارض الجماعة حتي عام 1945 حيث اعتزل الفن التشكيلي وقرر التحول الي السينما ولهذا التحول قصة لابد وان تروي!! فرغم كل النجاح والشـهرة التي أحـاطت بالتـلمـساني في الثـلاثينات وبداية الأربعينات، إلا أنـه أحـس فجـأة بالـذنب في أنـه لـم يقم بالواجب الذي عليه، ولم يؤدِ الأمانة.. فقد تبين له أن لوحاته تشتري من طبقة الأغنياء المقتدرين، ومن ثم تُـزىّن بها جدران القصور لتكون حلية وزينة ومتعة للناظرين، دون الشعور بما تنطوي عليه من تعبير عن الفقر والبؤس والعذاب.. وأحس بأنه يستقبل في المجتمعـات الـراقية بالحفاوة والترحيب، في حين أن البعد يشتد ويزداد يوماً بعد يوم بينه وبين آماله وأفكـاره، بينه وبين الجماهـير المحـرومـة والمطـحونـة.. لـذلك، وفي لحـظة خـاطـفة من الغـضب والثـورة العارمة، توقف عن الرسـم وقطـع كـل علاقـاته به، وتوجـّه الي السينما، باعتبارها أداة مهمة للاتصال بالجماهير العريضة.. حيث بواسطتها يمكن إعادة الحوار بينه وبين الناس منذ نشأته الأولي. أمر آخر كان في رأيي اشد تأثيرا في تحوله الي السينما عبر عنه كصرخة مدوية في مقال له تحت عنوان (الفن المصري والمجتمع الحاضر) تحدث فيه عن الفنون كلها في مصر وعن طريق صديقه المنتج والمخرج احمد سالم يلتحق كامل التلمساني باستديو مصر عام 1943 ويعمل مساعدا له في افلام الماضي المجهول ورجل المستقبل 1946، وحياة حائرة 1948 كما يظهر اسمه كمدير لإنتاج فيلمه الاخير دموع الفرح 1950 . ومنذ عام 1943 شرع كامل التلمساني في كتابة فيلمه الكبير (السوق السوداء) ويبدو انه اراد ان يربط بين تجار السوق السوداء التي تفشت في مصر في تلك الفترة اثناء الحرب العالمية الثانية وبين تجار السينما الذين قدموا افلاما سوداء مثلما اشرنا من قبل. ويقوم كامل التلمساني باخراج الفيلم ولكنه يفشل جماهيريا فشلا كبيرا كان كفيلا بإحباط مخرجه الذي تلقي صدمة عمره كان هذا الفشل كفيلا بإخراج التلمساني من دائرة السينما مؤقتا ليعود بعدها لإخراج افلام بعيدة كل البعد عن الهدف الذي من اجله اتجه للسينما، ونعتقد ان لأحمد سالم صديقه تأثيرا في ذلك حيث يعود الي السينما عام 1947 بفيلم (البريمو) عن قصة احمد سالم وسيناريو واخراج كامل التلمساني!! البوسطجي وتتوالي افلامه بعد ذلك فيقدم عام 1948 شمشون الجبار والبوسطجي، ثم كيد النساء 1950 وهو الفيلم الوحيد الذي انتجه كامل التلمساني لنفسه بعد تأسيسه لشركة افلام التلمساني، وفي عام 1953 يقدم الكوميديا الغنائية الاستعراضية (انا وحبيبي) بطولة شادية ومنير مراد، وفي هذا الفيلم يؤيد ثورة يوليو بأوبريت في اخر الفيلم لا علاقة له بالفيلم لكن كما هو الحال في هذه الفترة عندما سارع كل السينمائيين لتأييد الثورة وحشر مبادئها في افلامهم. وفي عام 1954 يقدم (الاستاذ شرف) عن مسرحية توباز لبانيول، وهي نفس القصة التي قدمها فؤاد المهندس بعد ذلك في مسرحية (السكرتير الفني)، كما قدمها فريد شوقي في فيلم (المدير الفني)، وفي عام 1955 يقدم الكوميديا الاستعراضية (مدرسة البنات) للنجمة آن ذاك نعيمة عاكف وكمال الشناوي، كما يقدم ايضا في نفس العام فيلم (موعد مع ابليس) عن رائعة فاوست لجوتة، ثم يأتي اخر افلامه (الناس اللي تحت) عن مسرحية بنفس العنوان للأديب الكبير نعمان عاشور عام 1960 . وفي عام 1960 اضطر كامل التلمساني للسفر بعيدا عن مصر بسبب احدي القضايا التي اتهم فيها ظلما، فاستقر بلبنان وهناك استأنف نشاطه السينمائي كمستشار لشركات الانتاج التي بدأت تتطلع للإنتاج السينمائي، وكانت عينها علي الفنانين المصريين . عندما تحول التلمساني الي السينما، استهوته الكتابة للمجلات السينمائية فحرر باب خلف الكاميرا بمجلة السينما عام 1945، كما كتب في مجلة الصباح، وفي الخمسينات قدم للمكتبة السينمائية كتابين اولهما (سفير أمريكا بالألوان الطبيعية ـ 1957) وفيه تحدث عن سيطرة السينما والاعلام الامريكيين علي شعوب العالم، والثاني (عزيزي شارلي شابلن ـ 1958). وكانت اخر اعماله التي شرع في كتابتها في بيروت ولم يمهله القدر لإكمالها هي رواية ادبية بعنوان (ام محمد)، وفي 3 مارس 1972 فاضت روحه الي بارئها بعد ان عاش حياته وسط كل هذه التناقضات والاتجاهات الحادة، او في الحياة العامة والثقافية والتي شبهها الناقد اتين مريل بالمآسي الاغريقية واساطيرها بأقنعتها المثيرة وخناجرها المزدانة بالورد الأحمر ولكنها في نفس الوقت تدمي الصدور والخواصر سريعة الخفقات!

جريدة القاهرة في

22/05/2012

 

أين الحقيقة في «غزوة» حرق تمثال محمد كريم؟

بقلم : أسامة عبدالفتاح 

عد قرابة سبعة أشهر علي واقعة حجب تمثال "حوريات البحر" بالإسكندرية، عاد البعض - فيما يبدو - لاستئناف "غزوة التماثيل"، حيث أكد عدد من المصادر وشهود العيان أن بعض المتأسلمين أقدموا علي حرق تمثال المخرج السينمائي الرائدالراحل محمد كريم داخل مدينة السينما في 11 مايو الجاري، وانتشرت في بعض المواقع الالكترونية صور للتمثال وقد أصابته تلفيات جسيمة.. المدهش أن أساتذة ومسئولين بأكاديمية الفنون نفوا الواقعة تماما رغم وجود هذه التلفيات، والأكثر إثارة للدهشة أن معظم السينمائيين - وكذلك الهيئات الرسمية وغير الرسمية التي ينتمون إليها - التزموا الصمت التام، وكأن الأمر لا يتعلق بمن كان يسمي "الأب الروحي للسينما المصرية"، فيما عدا جبهة الإبداع المصري، التي نُسب لها بيان يدين الواقعة حرره المخرج أمير رمسيس. وجه رمسيس كلامه إلي "من قرروا في يوم وليلة أن مجتمعنا لم يعرف الإسلام قبل مجيئهم" قائلا: "لسنا مرضي بالإسلاموفوبيا، ولكن أفعالكم لا تمنحنا الوقاية من هذا المرض بقدر ما هي حاملة للفيروس ناقلة له، لن تحرق تماثيلنا وأفكارنا.. نحترم فننا.. مبدعينا الأموات منهم والأحياء.. ولن نسمح بحبس أو إحراق إبداعنا الذي حمل حب الجمال والخير والقيم السامية لأجيال من المصريين، أياً كان الطريق الذي سنسلكه في تلك المعركة". أضاف البيان محذرا - وله كل الحق - أن من يحرق تمثالا اليوم سيقتل مبدعا غدا، فالمنطق المغرض والمغلوط واحد.. ووصف الواقعة بأنها مأساة تعرض لها التمثال ممن رأوا فيه صنماً، وقال إنهم هم صناع الأصنام من روح الدين، أو ممن رأوا أن فن السينما بشكل ما محرم، ولا يليق تكريم أحد رواده.. وأكد أنه بفضل أشخاص مثل محمد كريم ومن تلوه، عرف العالم أن للعرب عقولا وروحا وإبداعا، وأن هناك من المسلمين مبدعين يحترمهم ويجلهم العالم، في حين أن كل ما فعله دعاة الظلام هو خلق حالة العداء المعروفة عالمياً. "عمة" علي الرأس من ناحيته، قال الدكتور مختار يونس الأستاذ بقسم الإخراج بالمعهدالعالي للسينما، والمنتدب من وزارة الثقافة للإشراف علي التمثال - في تصريحات صحفية - إنه ينتظر تقرير المعمل الجنائي لمعرفة سبب الحريق، وأضاف أنه أرجع حرق التمثال للمتأسلمين لأنه وجد علي رأس التمثال "عمة" لم تكن موجودة من قبل، كما أن الشباب المتأسلم الموجود بالمنطقة كانوا قد طالبوا من قبل - حين كان التمثال موضوعا أمام الأكاديمية - أن يزيلوه من مكانه لأنه حرام، وتضايقهم رؤيته كثيرا.. وعلي حد قوله، استجابت الأكاديمية ووضعته داخل جهاز السينما، ولكنهم فوجئوا بعد ذلك بالاعتداء. العجيب أن الدكتور عادل يحيي، عميد المعهدالعالي للسينما، وزميل الدكتور يونس، قال إن أنباء حرق التمثال عارية تمامًا من الصحة، وإنه لا يمكن لأحد أن يحرق التمثال لأنه ليس من الورق.. وشدد علي أن هذه ليست المرة الأولي التي يذاع فيها نبأ إحراق التمثال، موضحًا أن هناك مجموعة تحاول لفت انتباه الإعلام للتمثال، ومحاولة الضغط علي الأكاديمية لقبوله كإهداء ممن قام بعمله، في حين أنه لا يحمل أي صفات تشبه المخرج محمد كريم، كما أن حجمه يساوي خمسة أضعاف حجم الإنسان الطبيعي.. وأشار إلي أن التماثيل التي وضعت لرموز الفن والإبداع داخل الأكاديمية كل منها عبارة عن رأس تعبر عن هوية الفنان، ولا تحتاج لأي إشارة توضيحية للتعريف باسمه. كما أن عمر زكي نائب مدير عام الدراسات العليا بأكاديمية الفنون، أكد أن ما تداولته صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من شائعات حول حرق التمثال، غير صحيح، وأنه بحالته التي عليها داخل مدينة السينما، بين الأكاديمية وستوديو المدينة. الشمس و"الخيش" لكن بعض شهود العيان أكدوا أن الواقعة صحيحة، ومنهم هيثم يوسف، أحد أعضاء لجنة قراءة النصوص في جهاز السينما، والذي يطل مكتبه علي التمثال، حيث قال إنه صور التمثال وهو محترق حتي يثبت للجميع الواقعة، لكن الأكاديمية مصرة علي نفي الواقعة.. وأضاف أنه عندما سأل مسئولي الأمن قالوا كلاماً غير منطقي، ومنه أن الشمس تفاعلت مع "الخيش" الذي كان ملفوفاً علي التمثال مما أدي إلي احتراقه، وتساءل: إذا كان ذلك حقيقيا، هل كان الحريق سيبدأ في الثالثة فجرا، أي بعد غياب الشمس بحوالي 8 ساعات أو أكثر؟ وأوضح أن سبب توجيه التهمة لبعض المتأسلمين، أنهم قالوا من قبل إنه إذا ظل التمثال موجوداً خارج الأكاديمية سيحطمونه، وسيتخلصون منه تماما إذا وُضع بالداخل أيضا، لأنهم لن يسمحوا بوجود "أصنام" بعداليوم، فقد انتهي هذا العصر إلي الأبد! ولفت نظري أن هناك ما يشبه التعتيم الإعلامي علي الواقعة، كما لم تهتم أي جهة رسمية - سينمائية أو غير سينمائية - بتأكيدها أو حتي بنفيها بشكل قاطع، وكأن محمد كريم نكرة.. وعلي العموم، لمن لا يعرف محمد كريم (8 ديسمبر 1896-27 مايو 1972)، فهو مخرج مصري رائد بدأ حياته ممثلاً. أخرج للسينما فيلمين كلاهما يحمل اسم "زينب"، لكن الأول صامت أُنتج عام 1930، والثاني ناطق أنتج عام 1952. ارتبط اسمه مع الموسيقار محمد عبدالوهاب حيث أخرج له الأفلام السبعة التي قام ببطولتها من "الوردة البيضاء" حتي "لست ملاكاً". كما أخرج فيلم دليلة من بطولة عبدالحليم حافظ عام 1956، وهو أول فيلم مصري ينفذ بطريقة سينما سكوب، وأخرج فيلم أولادالذوات عام 1932، وهو في رأي البعض أول فيلم عربي ناطق. الحوريات "الخارجة" وكان الحاضرون في مؤتمر انتخابي أقامه حزب النور السلفي قبيل إجراء الانتخابات التشريعية الأخيرة، في ميدان الرأس السوداء بالإسكندرية، مساء الاثنين 31 أكتوبر 2011، قد فوجئوا بقيام منظمي المؤتمر بتغطية تمثال ضخم في وسط الميدان بالقماش والحبال، وحجبه تماما عن الحاضرين، معتبرين أنه "خارج".. التمثال من الفن الإغريقي، ويصور الإله اليوناني زيوس، في هيئة 4 حوريات بحر، يجلسن علي منصة رخامية.. وحسب قول أحد منظمي المؤتمر، فإنهم اعتبروا أن وجوده وسط الحديقة خارج، خاصة أنه كان مواجهاً للمنصة التي جلس عليها قيادات الحزب، فقرروا تغطية التمثال بستائر من القماش، وتم ربطها بإحكام بالحبال لحجب معالمه عن الحضور، وعلقوا عليه لافتة تقول: "المرأة المصرية هي التي تستقطع من وقتها لزوجها ولا تنسي بناء وطنها"! وفي واقعة سابقة علي حادث الإسكندرية، تم تحطيم تمثال من الآثار المصرية القديمة في مدينة المنصورة، بعد أسابيع من مطالبة أحد قادة الجماعات المسماة سلفية بضرورة إخفاء التماثيل بطبقة من الشمع، وهي فكرة عجيبة من شأنها أن تجعل مصر مثار سخرية الدنيا كلها، بعد أن كانت مهد فن النحت.. وإزاء هذه التجاوزات، طالب البعض - وأضم صوتي لهم - المجلس العسكري بإصدار مرسوم بقانون يقضي بالسجن المؤبد علي كل من يحطم تمثالاً في مصر، أو جزءاً منه عامداً، كإجراء للدفاع عن الثقافة المصرية التي تعدالتماثيل جزءاً منها، وكخطوة علي طريق مواجهة الهجمة الهمجية الشرسة علي الإبداع.

جريدة القاهرة في

22/05/2012

 

مصاص الدماء له قلب يحب أيضاً

بقلم : ماجدة خيرالله 

لو كنت ناوي تتفرج علي فيلم "لجوني ديب" فأنت علي موعد مع الجنان الاصلي في انقي صوره، والجنون عندما يوصف به فنان ما، فهذا يعني أنك تمدحه، فالجنون وعشق المغامرة، والخروج عن المألوف، ترجمة اقرب للصدق، في وصف الفنان، ومع ذلك فالرجل في حياته يبدو قمة في العقل والاتزان، وجنونه ومجونه لا يظهران إلا من خلال افلامه، وكأنها عقله الباطن الذي يتمرد علي وقاره، التقيته يوما، وجها لوجه في عام 1997، علي باب القاعة التي اجري فيها المؤتمر الصحفي لفيلم "الشجاع" أول فيلم يخرجه، ويلعب بطولته امام العملاق مارلون براندو، وسامته ملفتة للنظر، ولكنه "حريص" مش فاهمة ليه، أن يبدو في قمة القبح في افلامه، ويبدو أن زوجته فينسيا برادي هي من شارت عليه، تلك الشورة السوداء، فمعظم افلامه أو أكثرها شهرة، يقدم خلالها أحد النماذج الغريبة، بدأها بفيلم حدث ذات يوم في المكسيك، امام انطونيو بانداريس، وفي هذا الفيلم ضربت احدهم رصاصة في عينه، وظلت عينه تنزف بقية الفيلم، وقد خرجت من مكانها! وعليه لم يقدم بعد ذلك شخصية "عدلة" أو شخصية زي الناس، استهواه تقديم الشخصيات الغريبة، في الشكل والسلوك والمظهر، والأداء أيضا، نادرا هي الشخصيات التي قدمها علي الشاشة ويمكن أن تلتقي بمثلها في الشارع، أو في اي مكان علي الارض! ولأن كل فنان في حاجة لمن يفجر جنونه، فقد كان لقاء جوني ديب مع المخرج تيم بيرتون، يشبه الحلة عندما تجد غطاءها المناسب، وقدما معا سلسلة من الافلام الغريبة المدهشة في نفس الوقت، كان اولها مع فيلم "إد وود"وهو اسم ممثل ومخرج ومنتج للأفلام الهابطة، في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين، ثم تبعه بفيلم"إدوارد ذو الاصابع التي تشبه المقصات" وهو بداية مرحلة "اللسعان"الفني، وجاءت قمته مع فيلم"مصنع الشيكولاتة" و«سويني تود الحلاق السفاح» ثم «أليس في بلاد العجائب». القاتل الوسيم وبعيدا عن مخرجه المفضل تيم بيرتون قدم سلسلة افلام «قراصنة الكاريبي»، واصبحت شخصية جاك سبارو، من اشهر الشخصيات السينمائية نجاحاً، وفي فيلمهما الأخير"يقدم جوني ديب شخصية، ليست مبتكرة ولكنه يقدمها باسلوب مبتكر، وهي شخصية "بارنباس كولينز" مصاص الدماء الوسيم، الذي تعشقه النساء، ولا تمانع الواحدة منهن في أن تترك له رقبتها عن طيب خاطر، فيغرس أنيابه في شرايينها ويمتص دماءها، ليحولها بعد ذلك إلي مخلوق ابدي لايموت، موضوع الفيلم مأخوذ عن مسلسل طويل يحمل نفس الاسم، وقد أضاف له المخرج، أحدث الخدع السمعية والبصرية، مع كثير من المشهيات، منها الإفراط في تقديم مشاهد العنف المرتبط بقدر من "الإباحة"والسخرية! وحكاية الفيلم تبدأ من القرن السابع عشر، حيث تعيش اسرة كولينز بالغة الثراء في ليفربول بانجلترا، وتبتلي العائلة بلعنة تطلقها ساحرة شريرة"إيقا جرين" تعشق باراناس وحتي تسيطر عليه تماماً تحوله إلي كائن ليلي ومصاص دماء، بل انها تحبسه في تابوت بعد أن تلف جسده بسيور من الحديد، حتي لايستطيع الفكاك، وتدفنه حياً! كل ده ليه؟لأنه لا يبادلها الحب، وتقفز الاحداث إلي سنوات السبعينات، حيث ينجح "باراباس" في فك وثاقه والخروج من تابوته، ويهيم في الشوارع يمتص دماء ضحاياه، ويبحث عن بقايا عائلته الكبيرة حتي يصل إليهم ويقرر أن يحميهم من الساحرة التي علمت بخروجه من مدفنه. وتدور الأحداث في أجواء بالغة الغرابة والطرافة! ولكنها تقل كثيرا عما قدمه لمخرج "نيل جوردون " في فيلمه "لقاء مع مصاص الدماء" في عام 1994، وكان بداية لشهرة براد بيت وكريستين دانتست وأنطونيو باندداريس! لم يرحب نقاد السينما في هوليوود كما ينبغي بفيلم "الظل الأسود" للمخرج تيم بيرتون، ووصفوه بالتقليدية والسخافة، ولكن ايا منهم لم يقترب من أداء "جوني ديب "، فقد قدم دوره بحالة رائعة من الابداع الفني، تقول عليه "تهييس" تقول عليه "لسعان"، براحتك، المهم أن عينك لن تري في الفيلم غيره، رغم وجود حشد هائل من النجوم منهم ميشيل فايفر، إيفا جرين، هيلينا بونهام كارتر وبيللا هيتشوكت، لكن كل دول كوم وجوني ديب كوم تاني خالص، ليس لشدة حماسي له، لكن لأنه يستحق هذا الحماس!

جريدة القاهرة في

22/05/2012

 

«ميلاد».. هل شاهدت هذا الفيلم؟

بقلم : يوسف هشام 

في عام 2000 استطاع المخرج البريطاني (جوناثان جلايزر) لفت الأنظار له كمخرج سينمائي واعد عندما قدم فيلمه الشهير (Sexy Beast ) والذي قام ببطولته كل من (راي وينستون) و(بين كينجسلي) وجاء هذا بعد أن أخذ (جلايزر) شهرته الحقيقية كمخرج اعلانات وأغان مصورة مهم. وبعد هذا النجاح كانت تواتي (جلايزر) فكرة فيلم قائم عن الحب الأبدي الذي لا يفرقه الموت وظلت هذه الفكرة مستمرة معه الي أن تعرف علي السيناريست الفرنسي الشهير (جان كلود كارييه) الذي كتب مع (لويس بونويل) بعضا من أشهر أفلامه مثل (حسناء النهار سحر البرجوازية الخفي وشبح الحرية) ومع (كارييه) الذي كان بمثابة المستشار الفني للكتابة وبمشاركة الكاتب (مايلو أديسا) صاحب فيلم (Monster's ball) استطاع (جلايزر) أن يستلهم من هذه الفكرة سيناريو متكاملا ومختلفا وأصيلا باسم (ميلاد Birth ) ونظرا لنجاحه السابق كان من الطبيعي أن يتبني مشروع (جلايزر) ستوديو مثل (نيو لاين) وأن تسعي نجمة معروفة وممثلة مهمة مثل (نيكول كيدمان) لكي تكون بطلته. الفيلم ببساطة يحكي قصة امرأة تستعد للخطوبة بعد عشرة سنين من وفاة زوجها السابق ويظهر لها طفل في العاشرة من عمره يقول لها إنه زوجها الراحل ويستشهد بذكريات قديمة كانت تجمعهما بل ويحثها علي ألا تتزوج بخطيبها! عرض (ميلاد) لأول مرة في اطار المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية (فينيس) السينمائي الدولي عام 2004، وعلي الرغم من الاشادة بأداء (كيدمان) وأسلوب (جلايزر) وفنيات الفيلم المرتفعة ككل الا أن الفيلم هوجم بقسوة عند عرضه نظرا لغرابة الفكرة. وحتي مع ترشيح (نيكول كيدمان) فيما بعد لجائزة افضل ممثلة في جوائز (الكرة الذهبية) عن دورها في الفيلم الا انه عند عرض الفيلم تجاريا لم يلاق نجاحا يذكر أو ترحيبا نقديا حقيقيا. وكنت قد شاهدت الفيلم لأول مرة عندما عرض في الصالات المصرية تحت اسم (عودة الحياة) عام 2005 ولكني وجدت هذا الفيلم يطاردني بمشاهده وحالته وموسيقاه الا ان نجحت في الحصول علي نسخة أصلية منه لأجد نفسي أعيد اكتشاف هذا الفيلم البديع كل عام. وفي الحقيقة أري ان هذا الفيلم قد وقع عليه ظلما بينا من ناحية النقاد الذين لم يبذلوا المجهود الكافي في قراءة هذا الفيلم متعدد المستويات وهذا الظلم ادي الي أن الفيلم أصبح من الصعب العثور عليه وتجد الآن قلة هم من رأوه برغم من حداثته، وسأسعي هنا الي تقديم قراءة لهذا الفيلم الذي لم يأخذ حظه مع التنبيه اني سأروي بعض التفاصيل التي قد تفسد متعة المشاهدة الأولي. نفق مظلم الفيلم يبدأ بمقطع صوتي لـ(شون) دون أن نراه وهو يعطي محاضرة ويعطي فيها مثلا قائلا "اذا توفيت زوجتي ثم جاءني طير بعد ذلك يقول لي إنه زوجتي أعتقد سأصدقه لكن بعيدا عن ذلك أنا لا أؤمن بتناسخ الأرواح أو بالغيبيات بصفة عامة". ثم نري بعد ذلك هذا المتكلم من ظهره وهو يجري في حديقة مانهاتن في الشتاء ثم يدخل في "نفق مظلم ويسقط نتيجة سكتة قلبية ويموت ثم نري في اللقطة التالية طفلاً وهو يولد تحت الماء. تمر عشر سنوات ونري أرملة هذا الرجل "آنا" (كيدمان) وهي تزور قبره في الوقت التي تستعد فيه لخطبة رجلا آخر "جوزيف" (داني هيسوتن). وفي حفل الخطوبة يصل الي الحفل صديق زوجها الراحل "كليفورد" وزوجته "كلارا" (آن هايتشي) لكن تتركه كلارا بحجة أنها نسيت أن تلف هدية الخطوبة ولكنها تترك المبني لتذهب للحديقة لتدفن شيئا ما ونري طفل في العاشرة من عمره يتبعها دون أن تراه. وأثناء محاولة "آنا" للاستمتاع بالوضع الجديد والتغلب علي أحزانها يظهر هذا الطفل (كاميرون برايت) في احتفال صغير بعيد ميلاد أمه (لورين بيكال) ليقول لها إنه زوجها الراحل "شون" وإنها ستخطئ اذا تزوجت "جوزيف". تكتشف "آنا" أنه بالفعل اسمه "شون" وانه ابن لأحد المدرسين الخصوصيين لأحد سكان المبني الذي تسكنه "آنا" وأنه من منطقة أفقر في نيويروك علي عكس "آنا" وعائلتها الثرية سكان جزيرة مانهاتن. لكن يعاود الطفل "شون" الاتصال بها طالبا منها أن تقابله في الحديقة في المكان الذي توفي فيه وعندما تقابله وهي في حالة حيرة وعدم تصديق يطلب منها أن تسأله في أي شيء كي تصدقه وبالفعل ترسل له زوج أختها الطبيب ليستجوبه وبالفعل يبدأ في حكي تفاصيل دقيقة في العلاقة تدهش الجميع. تدعو "آنا" والدة "شون" ان تجلبه ليبات عندها يومين زاعمة انها ستستطيع فك هذه "اللعنة" التي أصابته مخفية شعورها الحقيقي بالشوق والحب لزوجها الراحل التي لم تستطع قط تجاوزه. وعندما تقترب من "شون" أكثر ويبدأ هو في ملاطفاتها باشارات بسيطة تبدأ في تصديقه رويدا رويدا الأمر الذي يزعج خطيبها ويجعله يتعامل مع هذا الطفل بعنف ويترك منزل "آنا" التي باتت مقتنعة أن زوجها عاد اليها. يعود "كليفورد" وزوجته "كلارا" ليقابلا هذا الزوج المزعوم وتواجه "كلارا" الطفل بأنه لو كان "شون" لكان جاءها أولا لأنها كانت حبه الحقيقي وأنها كان يعطيها كل جوابات الحب التي كتبها لـ"آنا" كدليل علي اخلاصه لها وأنها كانت تنتوي أن تعيدهم لـ"آنا" في حفل خطوبتها قبل أن تغير رأيها وتدفنهم في الحديقة وتشتري هدية أخري هذه الجوابات التي عثر عليها الطفل "شون" عندما كان يتبع "كلارا". يصدم الطفل من كلام "كلارا" ويجري بعيدا قبل ان تعثر عليه "كيدمان" وعندها يقول لها إنه ظن انه "شون" ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك لأنه يحبها بالفعل. تنفعل "آنا" بشدة وتصفه بالطفل الكاذب وتعود لخطيبها لكن في حفل الزفاف تحاول الانتحار غرقا في البحر قبل ان ينقذها خطيبها "جوزيف" في النهاية. أكثرمن تفسير تحتمل نهاية الفيلم تفسيرين وربما أكثر التفسير الأول أن هذا الطفل كان يكذب بالفعل وأنه عرف ما عرفه من تفاصيل من خلال الجوابات التي قرأها وأنه كان مجرد يعبث مع هذه العائلة. أما التفسير الثاني والذي أميل اليه شخصيا أنه بناء علي منطق الفيلم خصوصا مع مشهد الولادة الذي تلي مشهد موت "شون" أن هذا الطفل بالفعل يحمل روح "شون" وأنه عندما شاهد "كلارا" وقرأ الجوابات تذكر علاقته بـ"آنا" وحبه لها لكن عندما اكتشف جزءا من حياته السابقة اراد أن يمحوه وهو علاقته بزوجة أعز اصدقائه رفض هذا الاستنساخ ولم يتصالح مع نفسه وترك حياة "شون" السابقة الملوثة بهذه الخيانة. وفي كل الأحوال مات تأكدنا منه هو أن "شون" كان يخون "آنا" و هو الأمر الذي كان مفاجئاً في حد ذاته فنحن نظل طوال الساعة الأولي من الفيلم (مدة الفيلم 95 دقيقة) نري عشقا شديدا من "آنا" لذكري زوجها الراحل والتي لم يخطر ببالها في الطبع أنه كان يخونها في يوم من الأيام وبعد أن يقر الطفل أنه ليس الزوج الراحل تعترف له أم "آنا" أنها لم تحب يوما "شون" في اشارة أنها كانت لا تثق به وربما استشفت أنه كان يخون ابنتها. فنحن لا نري أبدا علاقة "آنا" بـ"شون" التي نظل نسمع عنها طوال الفيلم ونري لها تصوراً شاعرياً وكل هذا من وجهة نظر "آنا" في علاقة قد تكون كانت مبنية علي كذبة أو خديعة الامر الذي لا تعرفه "آنا" حتي نهاية الفيلم. لكن منذ البداية نراها وهي غير مستريحة في علاقتها الجديدة وشاردة في ذكريات زوجها الراحل طوال الوقت. قد يصنف البعض الفيلم أنه من أفلام الخوارق ولكنه أقرب لكي يكون تساؤلاً أو افتراضاً والفيلم بالفعل يطرح أسئلة اكثر مما يجيب وتعامل المخرج (جوناثان جلايزر) مع هذا الموضوع بحساسية شديدة فلم يسقط في كلاشيهات أفلام التشويق بل صنع حالة من الترقب مع أصالة في الجو العام للفيلم وايقاع هادئ بطيء رغم عدم بطء سرعة الأحداث نفسها. ولكن (جلايزر) لم ينجح وحده في أن يجعل لهذا الفيلم مذاقاً خاصاً ومختلفاً وحالة متجانسة من كل العناصر. فلولا وجود (هاريس سافاديس) كمدير تصوير للفيلم لكان الفيلم قد فقد الكثير من تميزه فهو تجانس مع أسلوب (جلايزر) واستطاع من خلال الاضاءة ودرجات الألوان في ألا يخرج المتفرج من عالم واحساس الفيلم الخاص الذي "يكاد يشبه" العالم الحقيقي وهو تميز ليس غريبا عليه فهو من قام بتصوير اعمال رائعة مثل Elephant) Last Days (zodiac& أضف الي ذلك الموسيقي الساحرة التي وضعها الفرنسي الشهير (أليكساندر ديسبلات) والذي نال شهرة أكبر وترشيحات للأوسكار فيما بعد من خلال أعماله في أفلام (the king's speech the curious case of Benjamin Button & The tree of life ) لكن في رأيي أن الموسيقي التي وضعها (ديسبلات) في فيلم (ميلاد) هي أهم انجاز له علي الاطلاق ربما تم تجاهله مع تجاهل الفيلم نفسه فالي جانب أن الموسيقي في حد ذاتها رائعة ولا تنسي لكن أهميتها في الفيلم لم تقل عن أهمية التصوير من خلال الحالة الميتافيزيقية التي فرضتها مع بعض التيمات التي تشبه موسيقي الاطفال التي تذكر المتفرج بانه يشاهد طفلا. أما علي مستوي التمثيل فـ(نيكول كيدمان) هنا في أحد أفضل ادوارها علي الاطلاق فلم تنفلت منها قط خيوط هذه الشخصية المضطربة التي يزداد اضطرابها واختلاط مشاعرها مع تقدم الأحداث. أما الطفل آنذاك (داني هيوستن) فبرغم من انه كان قد انتشر في أدوار هوليوودية نمطية إلا انه تمكن هنا من اداء دور هذا الطفل الواثق الذي يتكلم كالكبار ليندهش منه المتفرج كما تندهش شخصيات الفيلم هذا بالإضافة الي أداء رائع من القديرة (لورين بيكال). الفيلم حالة فريدة وسواء أحببته أم لا ستجد أنه من الصعب نسيانه وربما تعاود مشاهدته مرة أخري وأعتقد أنه كما حدث مع أفلام كثيرة ممكن أن يعاد اكتشاف هذا الفيلم مرة أخري ويتحول لمرجعية سينمائية وربما يستطيع فيلم (جوناثان جلايزر) القادم (تحت الجلد under the skin ) والذي تقوم ببطولته (سكارليت جوهانسون) ان يعيد لفت الأنظار له كمخرج وأتمني أن يكون في مستوي تميز فيلم (ميلاد).

جريدة القاهرة في

22/05/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)