حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عرش السينما بعد الثورة.. ينتظر الوريث

بقلم : د. وليد سيف

 

يعتقد البعض أن نظام النجوم بالطريقة التي نعرفها من سيطرة تامة علي عناصر الفيلم هو اختراع مصري بحت. وقد يتصور الكثيرون منهم أنه مستحدث، فهم يستبعدون مثلا فكرة أن نجومنا القدامي الكبار كانوا يتدخلون في أعمال الفيلم كما يفعل الشباب الحاليون منهم. فالماضي بالتأكيد ولابد أن يكون جميلا دائما عند حضراتهم. ولكن الحقيقة أن نظام النجوم في العالم كله ومنذ وعت عليه السينما يقوم علي الإستبداد ويمنح النجم صلاحيات شبه مطلقة. إن نجمات بحجم ومكانة جوليا روبرتس أو ساندرا بولوك أو ويثرسبورن لا تتحقق مشروعات أفلامهم إلا من خلال حماسهم لها ورضاهن عن كل تفاصيلها. وهن بالطبع حسب ما نقرأ يتدخلن في عمل السيناريو وبالتأكيد يشترطن علي المخرجين بعض الأمور في جلسة صفاء ليضمنوا ألا ظل سوف يعلو فوق ظلهن علي الشاشة. ولكن من المؤكد أن فهم هؤلاء ومعرفتهن بقيمة التخصص واحترام مواهب وخبرات كل فنان في مجاله يضع حدودا للحوار ولمساحات التدخل. ولا تصل الأمور بالطبع إلي السداح مداح كما كنا نري في أفلام نادية الجندي ونبيلة عبيد علي الشاشة الله لا يعيدها. حيث يمكنك أن تعرف من أحجام اللقطات وزوايا الكاميرا ودرجة الإضاءة وإيقاع المشهد وأسلوب الحوار أنك تشاهد فيلما لنجمة الجماهير أو نجمة مصر حتي ولو كان ذلك ضمن أحد المشاهد القليلة التي لا تظهر فيها السيدتان الفاضلتان. شابلن والريحاني لم يكن غريبا علي نجومية شارلي شابلن الطاغية كمخرج وممثل أن يكون صانع أفلامه وصاحب الرأي الأول والأخير فيها خروجا علي عرف هوليوود في ذلك الوقت الذي كان يمنح للمنتج الصلاحيات الكبري. ولا أعتقد أن نجما مثل نجيب الريحاني كان يعلو علي صوته صوت أحد في البلاتوه. فهو لم يكن شريكا في السيناريو فقط مع توأمه الفني بديع خيري ولكن من المؤكد ومن شهاداته هو شخصيا في مذكراته أنه كان يتدخل في كل شيء. وهو السبب الذي ربما أوقف تعاونه مع نيازي مصطفي رغم إبداعه الرائع في فيلمي «سلامة في خير» و«سي عمر» الذي تقبله الريحاني بعد جدل وشجار. وكانت الخلافات بين نجوم شباكنا السينمائي الكبار أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب مع مخرجي افلامهم تملأ صفحاتنا الفنية وتكشف عما يدور في الكواليس من صراع علي السلطة الإبداعية. من المؤكد أن أي نظام في العالم سينمائي أو غير سينمائي يسعي إلي تجديد شبابه وإنتاج أجيال أو كوادر جديدة تحمل الراية وتتولي المسئولية. وإذا كانت أمريكا هي الصانعة الأولي لنظام النجوم إلا أنها أيضا صاحبة المقولة الشائعة التي تحولت إلي أغنية شعبية "كل يوم في أمريكا نجم جديد". قد يستمر بعض النجوم عابرون للازمان مثل داستين هوفمانوروبرت دي نيروولكنها حالات نادرة فكل جيل هناك له نجومه. ولكن الشيء المؤكد الذي احتكرته السينما المصرية هو نظام البقاء الأبدي للنجوم. في نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات كان معظم نجومنا الكبار قد تجاوزوا العقد الخامس وظل هناك إصرار علي أن يبقوا جاثمين علي العرش الملعون. فمن منا كان بإمكانه أن يصدق أن ليلي مراد تلميذة في الابتدائية في فيلم «غزل البنات»، وظل الفنان الكبير عماد حمدي يواصل قيامه بأدوار البطل الحبيب بعد أن تجاوز الستين. وكان منظر شكري سرحان وكمال الشناوي ورشدي اباظة بعد أن بلغوا من العمر أرذله وهم مازالوا يقومون بأدوار الطلبة أو الخريجين الجدد مثيرا للشفقة علي المشاهد طبعا. في منتصف الخمسينات ظهر جيل جديد من الشباب سعي للمنافسة علي عرش النجومية منهم عبدالحليم حافظ وعمر الشريف وأحمد رمزي وحسن يوسف. وعلي الرغم من نجاح هؤلاء إلا أن القدامي ظلوا جاثمين علي سلطة السينماولم يتمكن أن ينتزعها منهم إلا جيل محمود ياسين ونور الشريف وحسين فهمي في مطلع السبعينات. الزعيم الأبدي عرف الجمهور عادل إمام منذ نهاية الستينات وقام ببطولة (مدرسة المشاغبين) أشهر وأنجح مسرحية في تاريخ المسرح الخاص. ولكن أسهمه في السينما كانت متواضعةوظلت تصعد علي مهل طوال عقد السبعينات.ولكن مع نهاية العقد ومطلع الثمانينات كانت الطفرة المفاجئة في إيرادات أفلامه التي صعدت به إلي مكانة النجم السوبر متفوقا علي الجميع. وربما توازي الصعود الصاروخي لعادل إمام برحيل السادات وبداية عهد مبارك.. وسرعان ما تباري المنتجون في إظهار وجوه كوميدية جديدة مثل سمير غانم وسعيد صالح ويونس شلبي ولكنهم جميعا لم يتمكنوا من اللحاق به وإنما أمكن للكوميديا من خلالهم أن تستأثر بنصيب الأسد من الإنتاج السنوي. وكانت النكتة الشائعة في الوسط الفني أنه برحيل السادات صعد الكوميديانات باعتباره كان كوميديان مصر الأول وأن حواراته وخطبه كانت مثيرة للضحك أكثر من أي فيلم أو مسرحية هزلية. في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كان مستوي الفيلم المصري ينحدر من سيئ إلي أسوأ علي أيدي مجموعة من التجار يحصلون قيمة بيع أفلامهم قبل تصويرها من الموزع الخارجي . ولم يعد يشغلهم مستوي الفيلم أو يحرصوا علي تكامل عناصره أو تطوير تقنياته أو حتي قياس شعبية نجومه، لأن الموزع الخارجي كان يشترط في الغالب أسماء النجوم القدامي الذين يعرفهم الجمهور في الخارج والذين ربما تكون أسهمهم في الداخل قد تراجعت بشدة. وظلت السينما كنوع من الاستسهال تعتمد علي نفس نجومها القدامي مهما تقدم بهم العمر حيث كانت أسمائهم تضمن عائدا متواضعا، ولكنه مضمون ومقبول، من تسويق الأفلام للدول العربية. لهذا تفشت ظاهرة أفلام المقاولات كإفراز طبيعي لحالة من الكساد الاقتصادي واليأس من تحقيق تقدم في إيرادات شباك التذاكر. انتعاشة السوق استمرت هذه الحالة من الركود والاستسلام حتي جاء النجاح التجاري والجماهيري الكبير الذي حققه فيلم (إسماعيلية رايح جاي) من إنتاج 1997 علي الرغم من تواضع مستواه الفني. بالتأكيد أثار دهشة المنتجين والمراقبين هذا النجاح المفاجيء لفيلم قليل التكلفة بنجوم شباب من الصف الثاني تم تنفيذه بصعوبة، بل وقام منتجه ببيعه للموزع، وفق تصريحه ، قبل العرض خشية خسارة فادحة أو مغامرة غير مأمونة العواقب. يفاجأ الجميع بأن الفيلم يحقق إيرادات تضاعف أعلي الإيرادات لأكبر النجوم. وكان من الواضح أن هذا النجاح يعبر عن احتياج جماهيري للتغيير في السينما بأي شكل من ألأشكال واستعداد لتقبل جيد جديد من النجوم في عمل يحقق لهم الحد الأدني من المتعة الفنية. وبدأت هذه الرغبة تعبر عن ذاتها بقوةوبشكل مفاجيء لكسر حالة الجمود التي عاشها الفيلم طوال عدة عقود. والأهم من ذلك أن هذا التغيير كشف للسينمائيين أن الفيلم المصري بإمكانه أن يحقق إيرادات تفوق أضعاف ما كان يحققه. وأن صناعة السينما في مصر فرصة هائلة للاستثمار لو أمكن استغلالها، ولو تمكن صناعها من تطويرها ومن التواصل مع جمهور عريض أصبح بالإمكان استقطابه. جاء التغيير سريعا وتحقق بشكل مباشر في مظاهر عديدة يأتي في مقدمتها تصعيد جيل جديد من نجوم الكوميديا الشباب بدأ مع محمد هنيدي وتواصل مع علاء ولي الدين وأحمد آدم وهاني رمزي ومحمد سعد وكريم عبدالعزيز ومحمد السقا وأحمد حلمي وغيرهم . وعلي الجانب الآخر اختفي أو انزوي إجباريا بشكل شبه كامل جيل من النجوم كان يملأ السمع والبصر ويسيطر سيطرة كاملة علي السوق السينمائي مثل نور الشريف ومحمود عبد العزيزوفاروق الفيشاوي ونبيلة عبيد ونادية الجندي . بينما استطاع عادل إمام أن يسترد عافيته بعد فترة كمون قصيرة إمتدت لثلاث أو أربع سنوات . مقاومة الهزل فرضت سيطرة الهزلية حالة من الهيمنة الكاملة للنجم علي العمل الفني. فخفة دم حضرتهوحضوره هي العناصر الاساسية للنجاح. ومن هنا يصبح الإفراط في الهزلية وإفراغ أكبر كم من النكات في الفيلم الواحد هو الوسيلة لتحقيق الإيرادات بعيدا عن شروط الدراما وهمومها التي توجع قلوب النجومواتباعهم. ولكن سيطرة الفيلم الهزلي تقلصت تدريجيا خلال العقد ذاته، واستطاعت نوعيات أخري من السينما أن توجد لها مكانا علي خريطة الأفلام . فظهرت الأفلام الرومانسية والواقعية الإجتماعية بل والتراجيديات المفرطة في المأساوية وعادت أفلام الحركة بغزارة وأفلام النقد السياسي بل وظهرت نوعيات نادرة الوجود في السينما المصرية مثل أفلام الرعب والغموض والإثارة البوليسية والسحر ومعظمها كانت لمخرجين جدد سنتعرف عليهم أثناء تحليلنا للأفلام . مع نهاية العقد الأول من القرن الجديد انقلبت توجهات الجمهور في دورة شبه كاملة. ولم يعد محمد سعد علي قمة السباق ولا حتي في الصفوف الاولي. وانضم للمنافسة علي القمة مع أحمد حلمي النجم الجديد أحمد مكي. وحدث انقلاب تام في موازين النجوم وبدأت محاولات الدفع بوجوه صاعدة مثل آسر ياسين ومحمود عبد المغني وعمرو سعد. وكذلك البحث في معادلات البطولة الجماعية وتنويع الموضوعات ونوعيات الأفلام إلي حد غير مسبوق. محاولات طموحة ولكن الأهم من كل هذا هي هذه المحاولات الطموحة في تقديم أفلام بعيدة عن التيار التقليدي لسينما النجموالمنتج إلي سينما المؤلف المخرج والرؤية الأكثر طموحا والجنوح نحو التجريب ولو بمعناه البسيط في أعمال تحررت كثيرا من قيود السوق وشروطا ومشكلات الميزانيات الكبيرة وسطوة النجوم بالتحقق عبر كاميرة الديجيتال قليلة التكلفة . والتي وإن كانت لم تتمكن من تحقيقات إيرادات كبيرة في معظم تجاربها مثل عين شمس وميكروفون إلا أنها أمكنها ان توجد لنفسها مكانا في دور العرض وأن تحقق قدرا من الشهرة وأن يتحقق لها حضورا إعلاميا مقبولا بفضل تواجدها بقوة في المهرجانات الدولية وحصولها علي جوائز مهمة. وهكذا كان التغييروالتحول السريع في مزاج الجمهور أحد سمات السنوات التي سبقت الثورة. وكان ظهور الفيلم المستقل وسيلة لتقليص سيطرة النجم علي مقاليد السينما المصرية. فهل تشهد السنوات القادمة اندثار الظاهرة وتنعم أفلامنا بمذاق الديمقراطية. هذا احتمال واردولكنه غير مؤكد. فالفلول عائدون بقوة في مسلسلات رمضان. وسوف يبذل التليفزيون المصري جهوده المخلصة من أجل القضاء علي وعي المشاهدوإطلاق كتيبة النجوم الرجعيين القدامي بفنهم الرديءوأفكارهم المستهلكةوأعمالهم التي لا تهدف إلا لتدعيم عروشهم التي شيدوها في عهد المقصي برضاه وإشرافه ومباركته غير المباركة.

جريدة القاهرة في

15/05/2012

 

أفلام الاسكتشات منجم اكتشاف النجوم

بقلم : د. رفيق الصبان 

قد يكون فيلم «اللاتسامح» الصامت الذي أخرجه رائد السينما الأمريكية الأول جريفيث هو أول «أفلام الاستكتشات» التي تقوم علي ضم ثلاث أو أربع قصص بخيط درامي واحد.. رغم اختلاف أحداثها وأبطالها وأزماتها أحيانا. اللاتسامح في «اللاتسامح» الذي يروي قصص غضب الإنسان وثوراته يضعنا «جريفث» أمام حالات أربع يبدأها ببرج بابل وغضب الله الذي حل عليه لجبروت ملكه.. ثم يأخذنا إلي ربوع فلسطين يروي لنا صلب السيد المسيح ومحاكمته صورة أخري عن قسوة البشر ولا تسامحهم وينتقل بعد ذلك إلي الثورة الفرنسية وبالضبط إلي واقعة «سان برفلوجي» ومذبحة البروتستانت علي يد الكاثوليك بتحريض من كاترين دي مدسيس وأخيرا يصل بنا إلي ظلم الإنسان المعاصر.. من خلال حكم قضائي جائر يقع علي أحد الأبرياء.. ويكاد أن يقوده إلي الإعدام. وتراجعت أفلام الاسكتشات بعد هذا الفيلم الملحمي ولكنها سرعان ما عادت للظهور مرة أخري عن طريق إيطاليا وفرنسا. في إيطاليا قدم رائد الواقعية الجديدة فيلمه «حب» المكون من قصتين منفصلتين مثلتهما صديقته آنذاك «آنا مانياني» إحداهما مقتبسة عن مسرحية «جان كوكتو» الصوت البشري والثانية المعجزة يظهر فيها «فدريكو فيلليني» لأول مرة ممثلا.. بدور راع ساذج يشهد حدوث معجزة. في فرنسا عبر «جوليان دوفينيه» عندما هاجر إلي أمريكا هربا من الحكم النازي عن نفسه من خلال فيلم أطلق عليه اسم «حكاية مانهاتان» وجمع فيه فطاحل النجوم في السينما الأمريكية بدءا من ريثا هابورت وشارل بوابيه وهنري فوندا وجنجر روجرز ووصولا إلي شارل لوتون الذي طغي علي النجوم ككل بدور موسيقار فقير يأخذ فرصته الكبري في قيادة أوركسترا ويضطر لاستئجار بذلة سموكن ضيقة عليه.. تتمزق منه اثناء عزفه، أداء عبقري طغي فيه أداؤه علي أداء النجوم الذين معه ككل. لذة موباسان وفي فرنسا تتابعت أفلام الاسكتشات من خلال العبقري النمساوي ماكس الذي قدم أربع قصص لموباسان تحت اسم «اللذة» كما قدم رائعة شولتزر «الدائرة» التي تروي تسلسل علاقات جنسية عابرة بين مجموعة مختلفة من الشخصيات بدءا من عسكري في أجازة.. ووصولا إلي ممثلة مسرحية شهيرة. مغامرات يغلب عليها الطابع الجنسي ولكنها تحمل في طياتها معاني اجتماعية ونفسية ثقيلة وبعيدة المدي. وقدم «كريستان جاك» فيلم «الأشياء الضائعة» الذي يروي عن طريق الأشياء الضائعة والموضوعة في أمانات المحطة ذكريات الأشخاص الذين أضاعوها وظروفهم العاطفية والنفسية. وفي «الخطايا السبعة» تكاتف سبعة مخرجين ليقدم كل منهم تصورا عن الخطايا التي عددها الإنجيل، وكل خطيئة يمثلها نجم كبير أو ممثلة شهيرة. وفي أمريكا التي حاولت أن تقلد علي استحياء هذا المنهج الأوروبي رأينا فيلم «أو هنري» الذي يقدم ستة نماذج مختلفة من قصص أديب القصة القصيرة الأمريكي. بينما سارع البرتو كافلاكنتي في انجلترا ليقدم قصصا مرعبة جمعها تحت اسم « في غياهب الظلام». ولكن تبقي ايطاليا بمخرجها وأبطالها سيدة هذا النوع من السينما الذي تضافرت جهود كبار فنانيها علي تقديمه بصورة لا يمكن لأحد منافستها. سلفانا مانجانو وهي في أوج شهرتها تطلب من كبار المخرجين أن يقدموها في فيلم واحد اطلقت عليه اسم «الساحرات» وقدم كل من فسكوني وبازوليني ودوسيكا رؤيته عنها بقصة مختلفة وجو مختلف. وهذا ما فعله أيضا ثلاثة مخرجين كبار هم روسليني ودوسيكا وبولونيتي مع انجريد برجمان في فيلم «ثلاثة نساء» أو ما فعله انطونيو في الفيلم الذي قدم فيه امبراطورة إيران السابقة ثريا اصفندياري في فيلم صادرته بعد ذلك إيران ولم يعد له من أثر. أما أفلام الاسكتشات الحقيقية التي جعلت منها إيطاليا مدرسة سينمائية ومنهجا له قوامه.. فكثيرة ومتناثرة وتجمع اسماء مخرجين عظام أو اسم مخرج واحد يقدم رؤي مختلفة لموضوع يشغله كما فعل دنيوريزي بفيلم الوحوش الجزء الأول ثم الجزء الثاني والذي يصف فيه نماذج من البشر تبدو عادية في تصرفاتها وقصتها تخفي في أعماقها متوحشا لا يصدق. وتفنن دوسيكا في هذا الشأن فأخرج لصوفيا لورين فيلم «البارحة واليوم وغدا»، ووصفها في حالات ثلاث مختلفة وكرر التجربة في هوليوود مع «شيرلي ماكلين» حيث قدمها في فيلم «سبع مرات امرأة» في سبعة أدوار مختلفة لسبع شخصيات كاد أن تكون متناقضة ولكن يبقي فيلم «بوكاشيو 70» الذي تجمع فيه كل من فيلليني ودوسيكا وفسكونتي واحد من أهم أفلام الاسكتشات من ابطالها ويقوم علي تقديم رؤية معاصرة لقصص بوكاشيو.. التي قدمها بازوليني بعد ذلك بشكلها الأصلي كما قدم بعدها قصص «ألف ليلة وليلة» وقصص «كاتريزي» لشاوسر الإنجليزي. كلاسيكيات مصرية تكررت أفلام الاسكتشات الإيطالية كثيرا وحاولت مصر أن تقلدها في الستينات فقدمت أفلاما تعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما المصرية كفيلم «البنات والصيف» المأخوذ عن قصص صيفية لإحسان عبدالقدوس يجتمع في قصة منها لأول ولآخر مرة كل من سعاد حسني وعبدالحليم حافظ كما قدمت السينما المصرية فيلم «3 نساء» عن قصص ليوسف السباعي. ولعل من أهم تجارب أفلام الاسكتشات في مصر الفيلم الذي انتجه القطاع العام وأتاح لمجموعة من شبان المخرجين أن يقدموا طموحاتهم في أفلام قصيرة فكان أن رأينا فيلما لأشرف فهمي وفيلما آخر مدهشا لمدكور ثابت يعتبر الآن من أيقونات السينما القصيرة. وفي الفترة الأخيرة عادت أمريكا وهوليودها لتعاود تجربة أفلام الاسكتشات فقدمت فيلما عن رأس السنة جمعت فيه مجموعة من الشخصيات مختلفة الطباع والأمزجة لتروي مغامراتها في هذا اليوم المشهود وبعد نجاح الفيلم كررت السينما الأمريكية التجربة بفيلم عن «أعياد الميلاد» لم يحقق النجاح الذي حققه الفيلم الأول. سوريا رغم انتاجها القليل حذت حذو مؤسسة القطاع العام في مصر فأفسحت المجال لمخرجيها الشباب بأن يقدموا أفلاما قصيرة تتجمع بعد ذلك في فيلم طويل واحد.. وتتيح الفرصة للشباب الواعد بأن يثبت نفسه وسينماه وكالعادة احتلت قضية فلسطين مقاما مهما في هذه الأفلام التي كان من شأنها أن قدمت لنا المخرجين الكبار الذين تعتز بهم سوريا الآن. الشرس والقبيح في مصر عادت موجة الاسكتشات الروائية بعد الثورة من خلال فيلم «18يوم» الذي كان له شرف الحضور في مهرجان «كان» السابق وفيلم «الشرس والقبيح» الذي جمع رؤية ثلاثة مخرجين شبان وأتيح له العرض في مهرجان «البندقية» الأخير بنجاح ملحوظ. وقد حاولت السينما المصرية تقديم أفلام تجمع بين أكثر من قصة ولكن في نطاق درامي واحد كما في فيلم «كباريه» أو «الفرح» اللذين حققا نجاحا شعبيا غير متوقع مما قد يشجع علي هذا الاتجاه الذي لا يمكن أن نطلق عليه اسم أفلام الاسكتشات قدر ما نصح تسميته بأفلام المجاميع. ولكن يبدو لي مع الأزمة الحالية التي يواجهها المخرجون الشبان في إيجاد أفق سينمائي يعبرو من خلاله عن أنفسهم أن أفلام الاسكتشات هذه قد تكون واحدة من السبل الجيدة التي يمكن أن تخرجنا من «الباب الضيق» الذي انحشرت سينمانا بين دفتيه. شباب يملكون الموهبة والإرادة والطموح يتخرجون من المعاهد المختصة ويتعاقبون في طابور طويل ، ينتظرون فرصة من السماء تتيح لهم ايصال اصواتهم إلي جمهورهم ولا يجدون أمامهم إلا منتجين لا يرون في السينما إلا «فرخة تبيض ذهبا» دون أن يفطنوا أيضا أن «البيض» أيضا قد يكون عامرا بالحياة مليئا بالدفء. أفلام الاسكتشات قد تكون بابا ذهبيا ينفتح علي سماء رحبة واسعة تدفع هذه الأقلام الشابة إلي التخلص من الوحل العالق في أحذيتها والذي يعيقها عن التقدم وتفسح لهم المجال للانطلاق نحو السماء الواسعة والأفق الذي لا يحد.

جريدة القاهرة في

15/05/2012

 

«بيرسبوليس»..

أزمة الصدق مع الذات في بلاد فارس

بقلم : د. حسن عطية 

اعتدنا أن نتعامل مع أفلام التحريك، رسوم أو صلصال، علي أنها تعالج موضوعات بسيطة ومثيرة للبسمة غالبا، وتوجه للأطفال عادة، ومن ثم نقدمها علي شاشة التليفزيون في الفترات الصباحية، ونشارك بها في مهرجانات سينما الأطفال، غير أن العالم يعرف مجالات أخري لسينما التحريك، تتراوح ما بين التأمل الفلسفي والفكر السياسي والعرض البورنوجرافي، ويثار حول موضوعاتها وأشكالها الكثير من الجدل، وصل الأمر معه بأن تحكم محكمة تونسية يوم الخميس الثالث من هذا الشهر بغرامة تصل لنحو ألف وثلاثمائة يورو علي مدير قناة (نسمة) التونسية، لأنه بث في أكتوبر الماضي فيلما من أفلام التحريك، وأدين الرجل، وليس صناع الفيلم الذي تمت الموافقة علي توزيعه بتونس، بالإساءة للأخلاق الحميدة، وتعكير صفو النظام العام. الفيلم الأزمة صحيح أن الفيلم ليس إنتاجا جديدا، لكن العرض التليفزيوني عادة ما يثير القضايا وردود الأفعال لدي الرأي العام أكثر من العرض السينمائي، فالفيلم الذي يحمل عنوان (بيرسبوليس) أي مدينة أو بلاد فارس، أنتج عام 2007، وحصل علي جائزة لجنة النقاد الخاصة مناصفة مع الفيلم المكسيكي (الضوء الصامت)، بمهرجان كان السينمائي في نفس العام، كما رشح كأفضل فيلم تحريك لجائزة أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة (الأوسكار) في العام التالي . والفيلم للكاتبة والمخرجة الإيرانية "ماريان" أو "مارجان ساترابي"، بالاشتراك كتابة وإخراجا مع الفرنسي "فانسان بارونو"، وصاغته صاحبته الإيرانية في البداية كرواية مصورة (كوميكس) تعيد تلخيص حياة وطن، وحياة فتاة من أبنائه عبر وقائع متتالية مصورة ومصحوبة بنص حواري شارح لها، مستخدمة فيه الأسماء الحقيقية لها ولأفراد أسرتها دون مواربة، وحصلت بها علي جائزة العمل الأول في مهرجان أنجوليم العالمي للروايات المصورة، ثم أعادت تقديمها سينمائيا بحوار مسموع تنطق به الشخصيات، وتجسد فيه الممثلة الفرنسية الشهيرة "كاترين دونيف" بالصوت شخصية أم "مارجان" في النسختين الفرنسية والإنجليزية، بينما تبرز شخصية الابنة "مارجان" شابة في النسختين الفرنسية والإنجليزية أيضا بصوت الممثلة والمطربة "كيارا ماستورياني" ابنة "كاترين دونيف" والممثل الإيطالي الأشهر "مارشيلو ماستروياني" . دجاجة مشوية للفقراء يبدأ الفيلم بألوان الحياة المزدهرة من لحظة راهنة، تصل فيها الشابة "مارجان" إلي مطار أورلي بفرنسا، ثم يرتد بنا عبر ارتدادات (فلاش باك) طويلة، فمدة الفيلم ساعة ونصف الساعة، ينبثق كل ارتداد للماضي من ارتداد آخر، بأسلوب ألف ليلة وليلة الحكائي، ليقدم لنا باللونين الأبيض والأسود المقدمات التي أدت لهذه النهاية، والتي دفعت الفتاة الإيرانية للهجرة النهائية من بلدها لأوروبا، جالسة في حالة ذهول بالمطار، عائدة بذاكرتها لأيام طفولتها، في الأيام الأخيرة لحكم الشاه لإيران، لتحكي لنا عن أحلام هذه المرحلة الطفولية، والموصوفة بالخيالية، حيث يحلق الطفل في أجواء غير واقعية، خالطا المتخيل بالحقيقي، ومتصورا أنه قادر علي فعل المستحيل، فتحلم الطفلة بأن تكون نبية، تهدي البشر بأسمي القيم، فتعيد صياغة ما تعلمته في توصيات حازمة: أن يسلك الإنسان سلوكا حسنا، وينطق كلاما طيبا، ويفعل أفعالا مفيدة، وأن يأكل الفقراء دجاجة مشوية يوميا، وألا تعاني أية امرأة عجوز في أيامها الأخيرة، لقد تربت في أسرة تقدمية، تؤمن بضرورة تحقيق العدل بين أفراد المجتمع، وهي تري كيف تعاني الخادمة وكيف تتعب جدتها العجوز، وسجن عمها"، ويسقط حكم الشاه بقوي المناضلين الثوريين التقدميين، غير أنها تعلن في البداية حبها للشاه المخلوع، لأن معلمتها أخبرتها أن الشاه "محمد رضا" مختار من السماء لحكم البلاد، بعد أن أسقط والده "رضا بهلوي" حكم الدولة القاجارية في إيران، ونصب نفسه عام 1925 إمبراطورا، مهتديا بأفكار حاكم جارته القوي "كمال أتاتورك" في نشر التنوير والتحديث في بلاده، ومحاولا إعلان الجمهورية، غير أن الإنجليز أقنعوه أن يكون إمبراطورا مطلق السلطات، وبدعم كامل منهم مقابل البترول، فراح يحدث بلاده بممارسة الاستبداد، بينما جاء ابنه "محمد" ليستبد دون تحديث، فثارت الجماهير عليه، وخرج عليهم علي شاشة التليفزيون ليقول لهم العبارة التي سيكررها من بعده كل الحكام العرب المستبدين، حيث قال، وفقا لما جاء في الفيلم : "إني أتفهم ثورتكم، وسنحاول السير معا نحو الديمقراطية"، غير أن الثوار يرفضون كلماته، ويسقطون بالحبال تمثاله، بنفس طريقة إسقاط تمثال "صدام" في العراق بعد ذلك . ديمقراطية مزيفة نفس العبارات التي سمعناها في العامين الأخيرين بالعالم العربي، ونفس التعلق بالديمقراطية المزيفة، هو ما يجعل قراءة الفيلم الإيراني لا تتوقف عند حدود بلد ثار علي استبداد حاكمه (هناك)، بل نقرأه علي هدي ما يحدث علي أرصنا (هنا)، وقد نرتعب مما حدث لهذه الثورة الإيرانية التي اختطفها رجال الدين هناك، ونحن نري خطف رجال مثلهم للثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية والسورية، فيبدو حاضر الواقع الإيراني هو مستقبل الواقع العربي، وتبدو خاتمة الفيلم باغتراب المواطن المستنير خارج وطنه، هي المصير الذي قد يؤول إليه حال المواطن العربي المتعلقة عيونه بالمستقبل في حالة حكم الملالي العائدين بأفكارهم لأوائل القرن الرابع عشر. قلع عين الأطفال ما بين طفولة "مارجان" في زمن الثورة الإيرانية أواخر سبعينات القرن الماضي، ووصولها لبلاد الغربة أواخر تسعيناته، جرت في نهر إيران مياه كثيرة، منحتها القوة المعتمدة علي ثروات طبيعية، واغتصبت حق المرأة في الحياة، وأزالت البسمات من علي الوجوه، خرج المناضلون في البداية من السجون، ومنهم والد صديقة "مارجان" الطفلة، وتسمع منه كيف كان رجال الأمن القومي (السافاك)، بإشراف رجال المخابرات الأمريكية يجلدونهم بالكابل الكهربائي، فتسعي في لعبها مع الأطفال لاستخدام نفس الوسيلة، وتدفعهم لقلع عين ابن أحد رجال الأمن القومي القدامي، ولا ينقذه من بين يديها إلا حضور أمها، فهي تسمع وتصدق في حقيقة ما تسمعه، خاصة إذا جاء من أقرب الناس إليها، والدها ووالد صديقتها الحميمة، وهو ما ينبه إليه الفيلم دون مباشرة، فكل ما يعيشه ويسمعه ويراه الطفل يترسب في لاوعيه، ويدفعه لفعل غير مدرك عواقبه، ويشكل سلوكه الآني والمستقبلي. بخيال الطفلة الصغيرة تتخيل عقب هذا الفعل الذي أقدمت عليه أن الرب يحادثها، ويعلمها بأنه لا يجب أن تأخذ جارها الطفل بوزر أبيه، وأن عليها أن تثق بعدالته، وأنها ليس مطلوبا منها تحقق العدل بيديها، بل الصفح فقط، وللعدالة رجالها ومحاكمها، ويتركها هانئة، تعتذر لجارها، وتتابع ما حدث مع الثورة، حيث تحول معلمها الموالي للشاه إلي ثائر ضده، وأزيلت صور العائلة المالكة من الكتب، وأضحي أعداء الأمس أبطال الأمة، وصوت الشعب للجمهورية الإسلامية، ورأي التقدميون أنه أمر انتقالي وسيمر، فالنزعة الدينية تحرك الجماهير، غير أن المرحلة الانتقالية لم تمر، وبدأ التخلص من أعداء النظام الجديد بقانون الدم، وقتل عمها ووالد صديقتها، وتشجع النظام العراقي وفجر الحرب مع إيران، ودعم الغرب الطرفين بالأسلحة والمعلومات لهدمهما معا، وأرسل والدا "مارجان" ابنتهما الطفلة لفيينا، لتنتقل هناك من بيت لبيت، ومن تجربة لأخري، تنضج خلالها، لكنها لا تملك تغيير هويتها التي يراها الغرب همجية، ولا تنجح في إقامة علاقة عاطفية جيدة، فتعود لوطنها، لتعاود الشعور بالغربة بين أهلها، كما كانت تعانيها في النمسا، وتصاب بالانهيار العصبي، لكنها تقاوم وتخرج للحياة، تبحث عن الحرية والسعادة، تدرس بكلية الفنون الجميلة علي (موديل) محجب، وتعاني التميز بين النساء والرجال، وتتلقي الحكمة من جدتها، وتعرف علي يديها معني الأمانة والشجاعة، تحب وتخرج مع حبيبها رغم مطاردة رجال الحرس الثوري لكل مظاهر الحب العلنية وغير العلنية، وإجبارها علي الجلد او الغرامة المالية لأنها سمحت لخطيبها بأن يلمس يدها، تتزوجه ثم تنفصل عنه بعد عام، وتكتشف أنها غير قادرة علي أن تكون صادقة مع ذاتها، في مجتمع يطارد الذات ويحبسها في قوالب مجمدة، فترحل إلي باريس، فربما تكون الغربة مع الحرية أفضل لها من الغربة بقيود العبودية. طاردت خفافيش الليل ضوء الحرية، فأجبرت "مارجان" علي الرحيل من بلدها، وحكم علي مدير القناة التونسية بالغرامة المالية لبثه الفيلم المستفز لهذه الخفافيش اللابدة في ظلمة الأيام، والتي أخرجتها ثورات تمسكت بالديمقراطية الغربية، دونما انتباه إلي أن فتح كل النوافذ مرة واحدة يؤدي في غيبة الوعي الصحيح لهبوب رياح متعاكسة، تقلب الأرض ومن عليها، وتثير الغبار الذي يحجب ضوء الشمس، فتنتهز القوي المضادة الفرصة لجر المجتمع للوراء، فلا نملك غير الحصرم .

جريدة القاهرة في

15/05/2012

 

الجيش في السينما المصرية.. فرسان وشهداء وقدسية

بقلم : محمود قاسم 

الذين كانوا يقرأون مجلة «سمير» في النصف الأول من الستينات لن ينسوا أبداً قصص الكومكس المعروفة باسم الشبح، خاصة القصة التي قام فيها الشبح بتجنيد المراسل الصحفي الذي ظل يناهضه، فلما ضمه إليه وصار واحدا منه تغير المراسل وتغيرت مفاهيمه بعد أن عرف أهمية التجنيد. نحن جيل عرفنا متعة التجنيد، رغم خشونته وقسوته، حين صار لكل أسرة مصرية تقريباً جندي أو أكثر علي الجبهة المواجهة للعدو الإسرائيلي، وقد تباينت سنوات التجنيد لكن لاشك ان وجود شباب هذه المرحلة في مصهرة التجنيد قد غيرتهم إلي الأفضل وقد تساءلت وأنا أشاهد شباب العباسية عن موقفهم من التجنيد، هل ذاقوا لذته وخشونته فلو أن التجنيد قد طال الكثير منهم لتغيرت مواقفهم، في الوقت الذي أعلم أن ريادات مصرية عديدة لهؤلاء الشباب كانوا يوما في الجيش. إلا.. الجيش هذا هو ما انتاب مشاعري علي الأقل فأنا واحد من الذين رأوا أن الجيش حائط صد قوي للغاية مرتبط بالمهابة والقدسية والعديد من الرموز المثالية خاصة ان هناك عدواً قوياً مسلحا نوويا يقف عند حدودنا، قام الجيش المصري بمجابهته في أربع حروب، بصرف النظر عن الانكسار الذي أصابنا في ثلاثة من هذه الحروب. في السينما المصرية كان الجيش دوما هو تهذيب وتأديب وإصلاح وتربية وطنية وتحول إلي الأفضل وقد كانت هذه هي صورة الجيش عند المصريين منذ عام 1935 حتي الآن، وفي الوقت الذي تعرضت فيه صورة الشرطة إلي الاهتزاز كثيراً في الأفلام فإن الجيش ظلت له مكانته في قصص الأفلام باعتبار ان الخطر يحوط بمصر في السلم والحرب وانه لا منقذ من رد الخطر إلا من خلال الجيش. ولاشك ان هذه الصورة قد تعاظمت بعد أن صار حكام مصر منذ يوليو 1952 هم من رجال الجيش، وانتقل إلي الحياة المدنية الفنية الكثيرون من رجال الجيش في مجالات متعددة منها الإخراج والتمثيل وكتابة الأفلام والإنتاج فساعد هذا علي تحسين صورة الجيش ورأينا الكثير من القصص تدور أحداثها داخل الثكنات، سواء لمجابهة العدو الإسرائيلي في حرب 1948، أو عدوان 1956، وقد ساعد علي ذلك الضباط الذين حكموا مصر بعد يوليو ومن أبرز هؤلاء الفنانين العسكريين عز الدين ذوالفقار وأحمد مظهر ووجيه أباظة والأسماء كثيرة. والغريب في هذا الأمر أن السينما المصرية بدت كأنها تعلن أن الجيش المصري ولد فقط مساء الثاني والعشرين من شهر يوليو 1952 أي منذ ستين عاماً تقريباً ولم يعد الناس يعرفون أي صورة رآها الناس للجيش في الأفلام التي تم انتاجها قبل هذا التاريخ. قبل الثورة سوف نقصر حديثنا هنا اليوم عن منظور السينما المصرية للجيش قبل يوليو 1952، وذلك لعدة اعتبارات منها كشف الصورة المقدسة للجيش لدي المصريين، حيث وضعوه في مكانة عالية مقدسة وغنوا له ورأوه في المقام الأول تربية وتهذيب وإصلاح وأيضاً رمزاً لقوة الوطن، كما أننا سنتلاقي بهذا الحديث ما قد تشوب أفلام الخمسينات والستينات وما بعدها من «عمد» لتقديم الجيش المصري في الصورة المثالية وأيضاً فنحن بذلك نحاول أن نقدم صفحات مجهولة يجب أن يعرفها الناس عن علاقة الجيش بالوطن، وعلاقة الناس به، فالعسكر هم أبناء الوطن المجندين والعاملين ولم يكن جيش مصر في القرن العشرين للمرتزقة أو للأجانب وهذه الفترة بالذات كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، لكن الجيش كما صورته الأفلام سيظل مصرياً رغم وجود الأورنس في بعض المناطق لكن هوية جيشنا كانت مصرية. تبعاً لعدم وجود كل النسخ من أفلام العشرينات والثلاثينات فمن الصعب تحديد أول فيلم مصري كان بطله ضابط جيش إلا أن الأمر سهل بالنسبة للشرطة من خلال فيلم «الضحايا» لبهيجة حافظ عام 1932 وتشير الوثائق التي لدىّ أن الأمر كان أكثر وضوحاً عام 1940 من خلال فيلم مصري صميم هو «تحت السلاح» إخراج وسيناريو فؤاد الجزايري، أما الحوار فقد كتبه بديع خيري وزكي صالح واستيفان روستي، عن قصة لزكي صالح والفيلم من تمثيل أحمد علام وزينب شكيب وعباس فارس ومن إنتاج شركة الأفلام الشرقية بالإسكندرية، وهو أحد الأفلام الضائعة من أرشيف السينما المصرية، لكن دفتر الفيلم يشير بقوة أن أحداثه كلها تدور في الجيش والحروب التي خاضتها مصر، وأغلب ان لم يكن كل هؤلاء العسكريون في الفيلم من المصريين، وقد جاء في الدفتر أن الفيلم تم عمله بالاشتراك مع وحدات الجيش المصري وسوف تنقل هنا بعضا مما جاء في الدفتر يتعلق بالجيش: «ستوديو الفيزي يتقدم بوافر الشكر إلي وحدات الجيش المصري وسلاح الطيران الملكي المصري لما قدماه من مساعدة وتسهيلات في إخراج فيلم «تحت السلاح» فأوجد للفيلم جواً حربياً ينطق بما لمصر من رفعة ومجد». وفي إطار عرض قصة الفيلم فإن البطل الرئيسي اليوز باشي خالد السعيد «أحمد علام» هو أركان حرب الأسلحة الميكانيكية يعيش من أجل الجندية ولا يعرف في الحياة إلا الجيش وانظمته وبينما كانت الدنيا تستعد للحرب «المقصود الحرب العالمية الثانية» قامت مصر بنصيبها من الاستعداد للدفاع، فاتجه جيشنا إلي الحدود متربصاً للقاء العدو، وذلك دون الإشارة إلي هوية الحدود، واتجاه الحدود.. ويستكمل الدفتر حديثه عن أبطاله من رجال الجيش أن «الملازم أول عادل زينار يقع فريسة الحمي فيدخل مستشفي الميدان في حالة خطرة، فتحضر أمينة بالطيارة لزيارته وهناك يلتقي بها اليوزباشي خالد فيبهره جمالها». وقد انتقلت كاميرا الفيلم إلي داخل الثكنات العسكرية، كما ذهبت إلي الحدود حيث نري ضابطا يرتاب في زوجته أثناء غيابه عنها. عاش الملك ورغم ان أغلب أحداث الفيلم تدور في الثكنات فان دفتر فيلم «ليلي بنت الفقراء» إخراج وإنتاج أنور وجدي عام 1945 قد أكد أن هذا الفيلم هو «أول فيلم تدور حوادثه بين صفوف الجيش المصري» كأنما هنا سباق بين الفنانين لنيل الشرف ان تكون أفلامهم هي «الأولي» في تصوير ما يدور في ثكنات الجيش المصري والطريف أن «ليلي بنت الفقراء» يظل بالنسبة للناس عملاً غنائياً عاطفياً ليست له علاقة بالجيش، وذلك لأن الحكام العسكر الذين جاءوا بعد يوليو 1952، قد عز عليهم ان يرتبط وجود الجيش في هذا الفيلم من خلال أنشودة عسكرية تحمل عنوان «عاش الملك» من نظم أحمد رامي، وتلحين الصاغ عبدالحميد عبدالرحمن والسبب في ذلك بسيط، أن أسلحة الجيش قد تغنت باسم الفاروق، ونتيجة لأن هذا المشهد الاستعراضي العسكري قد تم حذفه ولا نعرف مصيره أبداً فإننا سننقل كلماته هنا: سلاح المشاة في ظل فاروق رفعنا العلم رمز الولاء للمليك والوطن أرواحنا فدي له وللحمي عزت به أيامنا علي الزمن يامن روينا روحنا من منهلك نحيا لنا عاش الملك عاش الملك سلاح الفرسان علي ظهور الخيل نجري كالرياح إلي سبيل النصر بين الفاتحين في كفنا سمر العوالي والرماح نهوي بها كالبرق في ساح المنون فاروق يافخر الزمن تحيا لنا عاش الملك عاش الملك سلاح الطيران وفي عنان الجو تسري كالشهاب نشق صدر الريح كالسيف السليل لنا بساط طائر بين السحاب نخضي به للعز في كل سبيل فاروق ياكنز المني تحيا لنا عاش الملك عاش الملك سلاح المدفعية وفي لهيب النار نقضي عمرنا حديثنا علي لسان المدفع نزود بالأرواح عن ديارنا ونلتقي حول المليك الأرفع الجميع فاروق ياحامي اللواء تحيا لنا علي المدي معززاً مؤيداً تحيا لنا عاش الملك عاش الملك وهكذا تغنت أغلب وحدات الجيش المصري بأمجادها، وعليها وقد ظهر أنور وجدي في هذا الفيلم كطيار شاب وسط وحدات الجيش كما بدت هذه الوحدات أو رموزاً منها.. لكن كل هذه المشاهد قد اختفت تماماً.. مثلما اختفي فيلم.. قلبي وسيفي.. أحد أشهر الأفلام عن الجيش المصري وهو من إخراج جمال مدكور.. الذي لا نعرف مصيره، ولا أين مصيره فهو من إنتاج المطرب محمد البكار الذي قام بالبطولة أمام صباح عام 1947 وكان هناك أيضاً دولت أبيض وسليمان نجيب وبشارة واكيم وأحمد علام والفيلم من تأليف مصطفي السيد. وفي مقدمة دفتر الفيلم قام المنتج والممثل محمد بكار بتوجيه كلمة إلي «مولاي صاحب الجلالة» أهدي إليه بكل تواضع باكورة أفلامي قلبي وسيفي.. وقال إنه نقل صورة مشرقة في أجمل إطار للجيش المصري الباسل. سلاح الفرسان تاريخ إنتاج هذا الفيلم لم يتحقق مع أحداث سياسية وجد الجيش المصري نفسه يخوضها فليست هناك حروب بالمرة مثلما سيحدث بعد سنة واحدة من إنتاج هذا الفيلم وقصة الفيلم كما جاءت في الدفتر عن طلعت بك المهندس والمقاول الكبير، من ذوي الأملاك وصديق حميم لجاره جلال بك قائد سلاح الفرسان. انعقدت النية فيما بينهما علي خطوبة الآنسة سميحة بنت جلال بك إلي منير نجل صديقه طلعت بك.. ولكننا نري منير يهمل دراسته الجامعية وانساق وراء تيار اللهو والعبث مع خاله المستهتر بهجت أفندي ثم يضبط وهو يغش في الامتحان فيرفض من الجامعة. وفي أثناء ذلك يكون مطلوباً للخدمة العسكرية فيري والده ان الجندية خير وسيلة لتهذيب نفسه وإبعاده عن الغي والضلال. وتقوم الحرب فيطلب آلاي السيارات الذي الحق به منير للاشتراك في الدفاع عن القتال، وهنا تظهر المجهودات العظيمة وفي إحدي هذه المواقع يصاب الجاويش منير برصاصة في ذراعه أثناء مطاردته لإحدي طائرات العدو، لكنه يستمر علي الرغم من هذه الإصابة بضرب الطائرة حتي تسقط ثم ينقل مع اثر ذلك إلي مستشفي حيث يمضي مدة علاج ثم يرقي إلي رتبة باشجاويش تقديرا لبطولته. يتنبه جلال بك قائد سلاح الفرسان ووالد خطيبته سميحة لشجاعة منير فيلحظه برعايته ويشركه في أعماله، وهكذا خلقت حياة الجندية من منير بطلاً شجاعاً أوقف حياته لخدمة الجيش والدفاع عن الوطن. وقد نقلنا أغلب ما جاء في هذا النص كي نؤكد أن هذه القصة كانت فاتحة لإنتاج أفلام كثيرة عن مسألة ان الجيش هو تهذيب وتأديب وإصلاح وهي مجموعة كبيرة كان آخرها فيلم «عبود علي الحدود» لشريف عرفة عام 1999 . وفي هذا الفيلم هناك أكبر عدد من الاغنيات التي تغني أبطالها بالجيش ومنها نشيد الجيش من نظم أحمد رامي، تلحين وغناء محمد البكار وننقل هنا بعضاً مما جاء في هذا النشيد: منير وكورس يارجال الجيش ياروح الوطن مجدكم تاج علي رأس الزمن رفرفت أعلامكم فوق الحمي خافقات بالأماني والفن صفحة التاريخ زانت ذكركم في الخالدين وربوع النيل صانت رسمكم في الفاتحين كورس: نحن للوادي وللعرش الغدا نذكر الماضي ولا ننسي غدا مصرنادتكم إليها ومضيتم طائعين وانقضي الدهر عليها وبقيتم صابرين أما الأغنية الثانية فتحمل اسم «أغنية الجهادية» من تأليف صالح جودت، تلحين وغناء محمد البكار أيضاً وننقلها هنا كاملة: عالجهادية عالجهادية رمز الإخلاص والوطنية عالجهادية عالجهادية ياللي بتهربوا من الجندية فين الهمة والرجولية لو كنتوا عرفتوا إيه هيه ماكنتوا دفعتوا البدلية عالجهادية عالجهادية لما البوري علينا ينادي نوهب أرواحنا للوادي وفداكي الدنيا يابلادي يا بلاد النور والمدينة عالجهادية عالجهادية أرواحنا للنيل وهوانا مكتوب لبلادنا ومولانا وفاروق يهدينا ويرعانا وتعيش الأمة المصرية عالجهادية عالجهادية تسهيل المهمة وقد لوحظ أن الأشخاص هنا هم الذين ينتجون الأفلام، وان الجيش يقدم تسهيلات للتصوير في فترة كان من السهل دفع البدلية لعدم دخول الجيش أي أن الدور الاجتماعي لهذه الأفلام كان واضحاً وهو أن الوطنية مرتبطة بوجود جيش قوي سليم وأطرف ما في دفتر الفيلم هو نشر النوتة الموسيقية، نشيد الجيش التي وضعها عزيز صادق. مع بداية الصراع العربي - الفلسطيني وحدوث المواجهة العسكرية انتبهت السينما المصرية إلي أهمية التلاحم مع الجيش وقد بدا ذلك واضحاً من خلال «فتاة من فلسطين» إخراج محمود ذوالفقار.. الذي عرض في أول نوفمبر عام 1948 أي بعد هزيمة الجيوش العربية بفترة قصيرة جداً، وقد امتلأ الفيلم بحماس وطني ملحوظ وحسب دفتر الفيلم فإن عادل «عشق الجندية» ووهبها حياته، ولم تعد تستهويه المتع التي تستهوي من الشباب حب واحد يملأ قلبه هو حبه لواجبه، وفخر واحد يضم عليه جوانحه هو فخره بأنه من ضباط جلالة الملك، وحلم واحد يساوره بين النوم واليقظة ان يشتري بدمه وسام المجد ويهديه لبلاده. وكأنما الوطن الكريم يحتوي علي حلم هذا الابن البار من أبنائه ويستجيب له فيدعوه للجهاد.. أن فلسطين في محنة وهي عضو في جسد الأمة العربية.. أن تألم أحس الألم بقية الأعضاء وعلي رأسها مصر. «والآن صار الحلم حقيقة أن عادل يحلق بطائرته في سماء الأعداء ويحدث فوق رؤوسهم ضجيجاً تندلع ناره وتلتهم الظالمين». هذا الكلام مكتوب عام 1948 وقد جاء في دفتر الفيلم أيضاً أن أفلام عزيزة أمين تدين بالشكر العظيم لمعالي وزير الدفاع الوطني ورجال الجيش وضباطه من مختلف الأسلحة علي كريم معاونتهم ومساعدتهم الصادقة التي كان لها أبلغ الأثر في تنفيذ فيلم «فتاة من فلسطين» وإظهاره بالصورة الرائعة التي ظهر بها. وتعتبر أغنية سعاد محمد التي تغنت بها في الفيلم «يامجاهد في سبيل الله» واحدة من أشهر الأغنيات» الوطنية التي تعرفها الأجيال المتلاحقة حتي الآن والطريف أن الشاعر بيرم التونسي الذي كتب الأغنية كان يعيش في الماضي وليس مثل بطل فيلم «تحت السلاح» القائد في الأسلحة المكيانيكية حيث يقول: طول يابطل ما معانا سيوف الدنيا ياما بكره تشوف احنا عرب اسمنا معروف من الحب احنا بدعناه بما يعني ان الجيش المصري يحارب بالسيوف وهذا يعني ان الشاعر لايزال يحارب بالسيوف كعادة الشعراء في نظرهم ان الحياة لم تتحرك منذ قرون طويلة وقد حاول الزوجان عزيزة أمير ومحمود ذوالفقار أن يقدما عملاً آخر هو «نادية» عام 1949 من إخراج فطين عبدالوهاب.. وقد خفت فيه درجة ظهور حرب فلسطين، إلا أننا ما زلنا أمام ضابط جيش يشارك في هذه الحرب، والمرأة في هذا الفيلم تناصر قضية وطنها، هي ممرضة تصدم أن حبيبها الضابط واقع في غرام اختها الصغري، انها القصة نفسها التي رأيناها بعد خمسة عشر عاماً في فيلم «الراهبة» لكنها مغموسة بأجواء العسكرية والحرب. مصطفي كامل وفي السنوات القليلة التي أعقبت حرب فلسطين لم يعد هناك حديث في السينما عن الجيش بالقوة نفسها التي عرفناها فيما قبل إلي أن جاء يوليو 1952 وكتب أحمد بدر خان في دفتر فيلمه «مصطفي كامل» قائلاً: شكراً لثورة الجيش هدمت الطغاة، ونصرت الأحرار وشجعت علي نشر آرائهم فافرجت عن مؤلف قصة فيلم «مصطفي كامل» الأستاذ فتحي رضوان، وعن فيلم مصطفي كامل نفسه، ويكون بدرخان بذلك من أوائل السينمائيين الذين أطلقوا علي ماحدث في يوليو 1952 أنها ثورة الجيش، وقد كان ذلك فاتحة لعشرات الأفلام التي انتجت في عقود متتالية عن الجيش وثورة يوليو، فأعطت المزيد من هالة التقديس للجيش حتي إذا قامت ثورة يناير 2011، بدأت آلية التعامل مع الجيش تتغير، كي تصل الأمور إلي ماحدث في العباسية، ولا نعرف كيف ستكون الصورة في الأفلام السينمائية التي سيتم إنتاجها في العقود التالية.

جريدة القاهرة في

15/05/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)