حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

 "ضاع مشروعي السينمائي كما ضاع الوطن"

غالب شعث: السوريون أخذوا أرشيف السينما الفلسطينية

حوار:  أسماء الغول

 

الوحدة والذكريات ما تبقى للمخرج الفلسطيني غالب شعث بعد تحطم العديد من النماذج على مدار عمره الطويل في الوطن والابداع والاخراج، لكن الاحلام لا تزال تراوده: تلك التي بدأت ولم تكتمل وأخرى قاربت على الاكتمال لكن الاحتلال قوضها، وأحلام لا تزال عالقة في الرأس يتطلع لتحقيقها.
كان شعث من أول المخرجين الفلسطينيين ممن حققوا العالمية وكذلك من أول من صنعوا أرشيف السينما الفلسطينية الذي ضاع وضاعت معه حقيقة اختفائه.

المخرج المقيم في القاهرة حيث التقته الجزيرة الوثائقية لا تزال روح الشباب تشوب صوته وابتسامته، يتكلم عن المستقبل بتفاؤل لا تعيقه أعوامه التسعة والسبعون، رغم أنه حين يتكلم عن الوطن تشعر بثقل عمره دفعة واحدة، فإحباطه مقيم في القلب، لكن ليس من الأرض بل ممن فاوض عليها.

عن وحدته ومشوار حياته وأفلامه فتح لنا شعث قلبه في هذا الحوار، كما فتحه حين كتب سيرته الذاتية التي ستصدر قريبا في القاهرة:

§         كيف تشعر الآن في القاهرة وأنت تنظر للماضي؟

أشعر بالرضا إلى حد ما، وأشعر بالراحة في الوطن العربي. وقد عشت في أوروبا عشر سنوات، ولم أتمنَ يوماً أن تكون بديلا عن وطني، فأنا لا أنتمي إلى هناك، ثقافتي مختلفة عنهم، ناهيك عن أن القدس ظلت في روحي تواسيها من غربة المكان، فقد ولدت فيها وعشت إلى أن بلغت الثالثة عشرة من عمري، إذ كنت أعيش في البلدة القديمة التي بقيت مبانيها وشوارعها في ذاكرتي.. هي ذكريات مغبشة لأنها قديمة، ولم تتجدد فالاحتلال يمنع ذهابي الى هناك، ورغم هوية غزة التي أحملها الآن إلا ان مشاعر القدس والحنين لها لا تزال تعشش في الروح.

§         إذن السفر والترحال أغناك عن أرض الوطن ذاتيا وابداعيا؟

لا شيء يغني الذات عن الوطن، ولكن الابداع عندما يتحقق في الغربة يصبح وطنا ليمنحك بعض الرضا، وأعترف أن تنقلاتي الكثيرة في حياتي بين بيروت وتونس مع منظمة التحرير الفلسطينية وتواجدي في أوروبا تكثف حنينا فوق حنين، أوجد في أفلامي الوطن. وبالنسبة لمشواري فأنا من مواليد القدس عام 1934، وبقيت أراها كما كنت أراها قبل 1948 إلى أن لجأنا الى غزة وانتهيت هناك من مرحلة الثانوية، وبعدها ذهبت الى السعودية إذ كان العمل فيها في تلك السنين ملجأ للشباب الفلسطيني المُهَجر، وبعدها توجهت إلى النمسا في عام 1957، وكنت احلم أن أصبح مخرجاً، وبالطبع عائلتي لم تقتنع ان اذهب لدراسة السينما لذلك بدأت في دراسة الهندسة المعمارية وخلال دراسة الهندسة دأبت على مشاهدة أفلام السينما، ومنها أفلام صهيونية تؤيد إسرائيل، مما جعلني أقرر مواصلة دراستي العليا في معهد السينما باكاديمية الفنون التعبيرية في فيينا، لأتخرج منها في العام 1967 لكني لا أتخيل أن السينما وقتها كانت بنفس فاعليتها اليوم..

ربما أكثر، فقد وجدت لحظتها ان السينما سلاح رهيب وقوي، فهنالك العديد من الناس يصدقون السينما، ويأخذون مواقف مع اسرائيل ضدنا بمجرد حضور فيلم، وبدت لي حينها السينما كأنها عبارة عن وسيلة تروج لتاريخ جديد، وفي هذا الوقت تزامن نشاط المنظمات الفلسطينية، وكنت رئيساً للتجمّع الطلابي الفلسطينيين في فيينا، وهذا دعم قراري لأتخرج من معهد السينما وألتحق بإعلام الثورة، وأساهم في خلق شيئا اسمه سينما فلسطينية، حيث لم يكن يوجد، حسب معلوماتي آنذاك أحد فلسطيني يفكر في التخصص بدراسة فن الإخراج السينمائي

§         وهل كان العمل الذي خضت فيه على مقدار أحلام الطالب الذي يريد مواجهة السينما الصهيونية؟

"يهز شعث رأسه، وفي عينيه حزن قديم قائلاً .."

الاجابة المباشرة على هذا السؤال هو فخ بحد ذاته.. خاصة أننا نعرف أن الثورات داخلنا وأحلامها تبقى دائما أقوى مما لو خرجت إلى الواقع، وسأجيبك بشكل آخر أو بوقائع، ففي بداية رجوعي مكثت في مصر بهدف اكتساب الخبرة العملية أولا قبل أن أتفرغ للعمل في سبيل القضية ببيروت، وكنت في مصر عملت بعض الأعمال في التلفزيون المصري، واشتهرت بعض تلك الأعمال حينذاك رغم أن دراستي متخصصة في السينما. ثم بدأت بكتابة سيناريو أول أعمالي السينمائية، واشتركت مع مجموعة من المخرجين الشبان في تشكيل جماعة أطلقنا عليها اسم "جماعة السينما الجديدة"، وصنعنا فيلمين هما "أغنية على الممر" من إخراج الزميل علي عبد الخالق و"الظلال في الجانب الاخر" من إخراجي وهو مقتبس عن رواية بنفس العنوان للكاتب المعروف محمود دياب. لكن الرقابة في مصر منعت الفيلم من العرض في ذلك الوقت لأسباب واهية، وبقيت أنتظر الإفراج عنه دون فائدة، مما جعلني أعجل في طلب تفرغي للعمل في بيروت، وكنت بصدد السفر حين تفاجأت بجريدة الاهرام وقتها تنشر خبرا مفاده فوز فيلم "الظلال في الجانب الاخر" في مهرجان كارلو فيفاري في تشكوسلوفكيا وكان من ارسله بعض الجهات التي ساهمت في منعه، وبعد اخذ الفيلم للجائزة سمحت به الرقابة لتمنعه مرة اخرى بعد اسبوع لما اثاره من مشاكل سياسية.

§         وماذا كانت قصة الفيلم ليستفز الرقابة إلى ذلك الحد؟

يحكي الفيلم قصة مجموعة من الطلبة الدارسين للفنون الجميلة في السنة النهائية، ومن بينهم شاب فلسطيني، وكل واحد منهم يعمل على بلورة مشروعه الإبداعي للتخرج في كلية الفنون. والفلسطيني بدأ يعمل على قضية اللاجئين، ثم تجاوباً مع نشاطات الثورة، قرر إنجاز مشروعه عن المقاومة الفلسطينية. وكي يرسم هذا الشاب مشروعه يذهب ليعيش في الاغوار مع المقاومة، وينضم للفدائيين فتنقطع أخباره عن زملائه، وينتقل إلى بيروت، ولكنه رويداً رويداً يشعر بالإحباط من الثورة التي لم تعد بسبب حصارها قادرة على التعبير عن نفسها بشكل صحيح، فيقرر أن يهاجر ويذهب لألمانيا، وهناك يبيع الصحف ومن ثم يكمل دراسته، وتتوفر له كل مقومات الاستقرار من عمل ودراسة وقصة حب إلا أنه لا يحس بالانتماء لحياته تلك، ومن هنا بدأ يلتقي بالفلسطينيين من جديد، وبطريقة سينمائية يشعر المشاهد ان البطل انضم لمجموعة فدائية جديدة.

§     رجعت إلى الوطن بعد اتفاق أوسلو في النصف الأول من التسعينيات فكيف تصف مشاعرك، بالسعادة أم أن ما يقوله الكاتب كارلوس فوينتس :"من النادر أن تتوافق السعادة مع التاريخ" صحيح؟ 

"ينظر بعيداً بتأمل ويقول.."

بالطبع صحيح.. فحين تكون هناك ثغرات من الظلم المحفورة عميقاً في تاريخ شعب فغالبا ما يلجأ هذا الشعب ليعبئها بنفسه بأوهام وأحلام عن الوطن، ورغم هذه الأحلام الكبيرة بالعودة إلا أنني كنت مِمّن رفضوا اتفاق اوسلو المشبوه، وما تحقق لم يكن حلماً او أي شيء بل كان كابوساً حرمني الحد الأدنى من حقوقي، ونحن نرى ماذا أخذنا من اوسلو وكان علي أن أختار ما بين السيء والأسوأ: الرجوع الى ما هو متاح من الوطن أو البقاء في الغربة، واخترت أهون الشرّين بأن أعود إلى بلاد لا تشبه بلادي تسود فيها أخلاق غير أخلاق الثورة التي شاركنا فيها في شبابنا، فما حدث كان مختلفاً، فهناك من حاولوا اقتسام الأرض والوطن كما يقتسمون الغنائم وبدون مراعاة للقدرات والكفاءات. وانكسر نموذج الوطن كما انكسر مشروع السينما، ورجعت إلى القاهرة محبطاً وهي كلمة رقيقة بالنسبة الى حالي التي كنت عليها.

§     دائما الأمكنة والمدن مفاصل محورية في ابداعنا الأول وعملنا الأول، كي يكتمل أو تشعر بالرضى عنه وأنت تنقلت من مصر إلى بيروت وتونس فكيف تواءمت المدن مع تطلعات الشاب الثورية؟

كان في مرحلة السبعينيات، إلى حد ما، الكثير من الإحباط خاصة بعد الهزيمة، ولكن الجيل حينذاك كان يحلم بالاستقلال لذلك كان العمل مدفوعا بهاجس الانجاز والابداع، وفي بيروت كنت بالفعل متفرغاً بشكل كامل للمساهمة في تطوير السينما الفلسطينية دون أن أعاني ما كان يعانيه البعض من الأنا المتضخمة التي منعتهم من الانجاز الحقيقي، فقد أردت أن أوجد حالة من الابداع بكليتها الفلسطينية في ظل الشتات أكثر من أن أبرز اسمي، وحين نظرت حولي في بيروت اكتشفت انه لا يوجد هناك "سينما فلسطينية" بل محاولات "افلام تسجيلية عن فلسطين"، وكان عندي مشروعي المرئي والسينمائي الذي قدمته الى اصحاب القرار في الانتاج السينمائي والذي كان مسؤول عنه دائرة الاعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية، تحت مسؤولية المخرج الراحل مصطفى أبوعلي لكنهم رفضوا المشروع، وبذلك مات كثير من التفاؤل حين وصلت الى بيروت، فقد وجدت اناسا يجلسون وراء المكاتب واهدافهم شخصية تتركز حول امتلاك سيارة أو بيت وأثاث فخم، ولا توجد أبدا مؤسسة سينمائية بالمعنى الصحيح...

"يسكت متنهداً بثقل...."

§         ثم ماذا حدث..؟

كان العمل السينمائي مشتتا يشبه تشتت الشعب الفلسطيني، وكنت في قسم السينما الذي يقع تحت مسؤولية حركة فتح، وحاولت مرارا خلق قاعدة لجسم سليم بالتعاون مع الراحل عبدالله الحوراني الذي كان مديرا لدائرة الثقافة في المنظمة، ولكن لم تنجح المحاولات. ولكن مسؤول الاعلام الموحد في منظمة التحرير، وهو "ماجد ابو شرار" رحمه الله، نصحني بالبقاء في بيروت لان هناك مؤسسة إنتاجية اسمها "صامد" وهي "معامل أبناء شهداء فلسطين"، اقتنع رئيسها ابوعلاء قريع ان يكون في المؤسسة قطاعا للسينما لانتاج الأفلام، وبالفعل بدأنا في التأسيس وأصبح حلمي بدل أن أعمل فيلماً أن اصنع مؤسسة تنتج افلاماً، ونسيت مشاريعي الخاصة، وبدأت أشتغل على أساس مؤسسة تنتج وتصنع افلام روائية وافلام تسجيلية وتعليمية، وأنتجنا في البداية فيلما اسمه "المفتاح" من خلال "قطاع السينما" ومن ثم فيلم "يوم الارض" وفيلم "غصن الزيتون"، وكنا نتطور بالفعل بدليل الجوائز الدولية المتميزة التي حصلت عليها تلك الأفلام ، وكان هناك تخطيط ان يكون لدينا معمل سينمائي كامل، فمثلاً حين صورت فيلم "المفتاح" في بيروت كان المونتاج والطبع في لندن وفيلم "يوم الارض" كان مونتاجه وطبعه في روما، وعندما نضجت فكرة  فيلم "غصن زيتون"، كان معمل الصخرة السينمائي قد اكتمل في 1982. عندها  شعرت  بالفعل اني احقق حلمي وأني أصنع فيلما من الألف الى الياء في بيروت، في معمل فلسطيني وبأيدٍ فلسطينية

§     من حديثك سأتوقع هنا أن الحلم تقوض مرة أخرى بإجتياح بيروت، فأحلامك مثل وحش الهيدرا في الميثولوجيا كلما قطعت رأسها ينمو آخر وأحيانا أكثر، ولا يوجد هرقل ليقضي عليها؟

"يضحك بمرارة ويتابع.."

حتى الآن لا يوجد هرقل ليقتل أحلامنا، لأن غيرها ينمو بشكل دائم كلما قطعوها، وفي تلك السنة كان من قتل الحلم الإجتياح وضاع كل شيء سواء مؤسسة صامد للسينما أو مركز الأبحاث، ومن هذه الأشياء التي ضاعت الارشيف السينمائي فقد قيل ان اسرائيل سرقته، وحين سألت رئيسي المسؤول المباشر وقتها، أبو علاء، عن المعمل وعن الأرشيف، قال لي إن السوريين هم من أخذوه. ولا أعرف هل هو أمر جيد أم سيء أنني في يوم الاجتياح كنت في السعودية لأمر خاص، وحين علمت بالاجتياح الذي حال دوني والعودة إلى بيروت رجعت إلى مصر حزينا على المشروع الكبير الذي تخليت عن اسمي من أجله. وفي مصر تجدد الحلم فقد كان هناك مشروع قديم بيني وبين ابوعلاء قريع بإيعاز وإشراف القائد أبو عمار، بأن نبني هناك مؤسسة للانتاج السينمائي، وهكذا تجدد الأمل، على أن تكون هذه المؤسسة فرعا لشركة انتاج في بيروت رخصتها لبنانية، ويهمها الانتاج التجاري إلى جانب الأفلام الفلسطينية، ولكن مع الأسف لم تأخذ التصريح المفترض في مصر، بسبب إصرار البعض منا على أن تسجل المؤسسة باسمهم . وماتت الفكرة.

الجزيرة الوثائقية في

06/05/2012

 

وثائقي بريطاني عن الثورة اليمنية

"الثوري المُتردّد" حسم أمره ومضى مع ثورته!

قيس قاسم ـ السويد 

بعد أيام قليلة على اندلاع "الربيع اليمني" وخوفاً من نقل المراسلين الأجانب حقيقة ما يجري في شوارع العاصمة وساحاتها، أصدرت السلطات قراراً بترحيلهم جميعاً من البلاد، وعلى الفور. غادر كل المراسلين اليمن، إلا واحداً  توارى عن أنظار السلطة، وقرر البقاء سراً لتسجيل تطوراتها، وبسبب علاقة الصداقة القديمة التي تجمعه بأحد أصحاب الفنادق في صنعاء، لجأ اليه ليختفي عنده، منتحلاً هذة المرة صفة سائح جاء عبر وكالة السفريات التي يديرها صديقه الى اليمن في زيارة قصيرة وليس كصحافي أجنبي. هكذا رتب المراسل والسينمائي البريطاني شون ماكليستر اقامته "السرية" عند اندلاع الثورة اليمينة بعد حصوله على فيزا سياحية عن طريق الرشاوى. لم يخطر بباله أول الأمر، ان يشتغل فيلماً عن صديقه قيس، صاحب الفندق، فهذا أصلاً لم يكن متعاطفاً مع الحراك الشعبي والى حد معين كان ضده، فقد أثرت الأحداث سلباً على تجارته، فلا سياحة في زمن الإضطرابات ولهذا كَثُرت ديونه وبسببها كان يعاني من مشاكل زادتها "الثورة" ثقلاً عليه. لم يكن قيس موضوعاً مقترحاً في ذهن ماكليستر، ولكنه كان مضطراً بسبب مصاحبته له وقتاً طويلاً وبدافع من "غريزته" السينمائية الى تصوير جولاته وسهراته معه، فهو زبونه الوحيد تقريباً وقيس دليله المؤتمن في المدينة المنتفضة. صَورَهُ  في كل مكان؛ في البيت والشارع وفي مكتبه الفارغ، ومع الوقت صارت الكاميرا المحمولة مثل شخص ثالث أخذ على عاتقه تسجيل يوميات "المراسل السري" وصديقه اليمني في زمن الثورة.

اليوميات الشخصية، وبالتدريج، أخذت في التحول الى يوميات ثورة. الشخصي تداخل بالعام، حين انتقل قيس تدريجياً الى صفوف الثوار المعارضين للرئيس علي عبد الله صالح، منهياً تردده الأول دون أن يشعر، أو بعبارة أدق لم يدرك أن الظروف الخارجية وقوة منطق الثورة سحبته من موقعه وزجته في خضم حراكها، هكذا شأن ملايين من البشر حين يدخلون الثورات بعد تردد وخوف وعنوان الفيلم، "الثوري المتردد" يوحي بهذا، ويحمل في طياته الكثير من هذة الدلالات، وبالتالي فنحن أمام فيلم تسجيلي تحليلي، اجتماعي، كونه يأخذ شريحة مصغرة من طبقة صغار التجار ويسجل تطورات موقفها المتردد في باديء الأمر وكيف تم  حسمه فيما بعد، الى جانب امتلاكه درجة عالية من درجات ملاحقة نمو الشخصية والحدث، فماكليستر لم يذهب الى ساحة التحرير في صنعاء مباشرة ويسجل اندفاع الناس وتصادمهم مع رجال السلطة من جيش و"بلطجية" بل أراد تسجيلها بعين رجل يمني مصالحه الإقتصادية بشكل من الأشكال كانت في سلة السلطة، التي بدأت تهتز وقد ينكب كل ما فيها من إمتيازات وفي هذة الحالة وبالحس المنفعي العادي يبدأ الأنسان بزعزعة موقفه الأول المؤيد لها بالكامل فيسمح  لنفسه قبول مناقشة آراء وأفعال الطرف الآخر الذي كان يرفض الإعتراف به باديء الأمر. هكذا نقل لنا "الثوري المتردد" موقف قيس. في بداية الشريط كان يقول بالانكليزية الواضحة "إذا رحل الرئيس ستسيل دماء، وهذا ما لا يريده صالح. أنه يريد السلام". ثم كان يلوذ بالصمت حين يسأله المراسل البريطاني: هل أنت خائف؟ كان يخفي خوفه الحقيقي من حرب أهلية قد تنشب في أي لحظة فاليمن يملك سلاحاً أكثر من عدد نفوسه بثلاث مرات وإذا ما دارت الحرب فلغة السلاح هي التي ستُسمع وتَطغي
بعد تردد وإلحاح صديقه الصحافي يقبل قيس الدخول الى ساحة الحرية لأول مرة فيصاب بالدهشة فلا "القاعدة" ولا الملتحون يسيطرون عليها، كما كان يظن، والناس فيها يمنيون عاديون مثل الذين يعرفهم يعبرون وسطها عن موقفهم الرافض للسلطة. في كل زاوية فيها كانت تجري فعاليات وعروض تسودها روحاً فكهة، ساخرة. لقد شاهد مسارح شعبية وسمع أغاني ثورية وفولوكلورية يغنيها الصغار والكبار، فزاد الأمر من مخاوفه وبدأ بترتيب حساباته. فمن جهة ضغطت عليه الظروف الإقتصادية فإقتنع بأن السلطة لم تعد "البقرة الحلوب". لقد نضب حليبها، أو شارف على نهايته، ومن جهة ثانية لمس وجود طرف جديد في طريقه ليأخذ دورها لا محالة، لهذا صار يزور الساحة يومياً وصار جزءا من نسيج المحتجين. لقد زال تردده وحل محله شعور بأن ثورة قادمة، يقودها يمنيون شجعان يضحون بأنفسهم من أجل الحرية والخلاص من ديكتوتارية دامت أكثر من ثلاثين عاماً أفقرت اليمن وأرجعته الى عقود من التخلف

ثمة تطور جديد، سجله "الثوري المتردد" دفع بقيس الى طرف الثوار، وهذة المرة دون حسابات منفعية ضيقة، تمثل في مطاردة الشرطة اليمنية السرية له، وسؤالهم عن السائح الأجنبي الذي كان برفقته وما إذا كان صحافياً؟ أسئلة زادت من قلقه وقربته دون أن يشعر الى عامة الناس المتضررين من سلوك أجهزة أمن السلطة القمعية، التي كان يسمع بها من قبل ولا يصدقها. "الجمعة الدامية" بدورها دقت المسمار الأخير في نعش "تردده" ورسخت حوادثها الرهيبة قناعاته الجديدة، عندما رأى بأم عينية المجازر التي إرتكبها أعوان الرئيس مستخدمين فيها المدافع والراجمات وحتى الطائرات  ضد متظاهرين سلميّن عزل، أدرك وقتها أن كلام رئيسه عن السلام وعدم رغبته في القتل كلام فارغ، كشفت الأحداث كذبه ومسحت دماء القتلى كل حرف فيه. لقد صار قيس جزءاً من الثورة يحمل الجرحى الى المستشفيات الميدانية ويهتف مع الهاتفين منهم، بل وفي أحد المرات عندما تعذر على صديقه المراسل الأستمرار بالتصوير بسبب كثافة الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجيش عليهم صاح به: "هات الكاميرا لأصور أنا بنفسي". هل تحول قيس الى صحافي أم أن حرصه على عدم تفويت أي لقطة أو حتى "فريم" واحد دون أن يسجل ما يجري أمامها من قتل ضد أخوته اليمنيين دفعه الى ذلك؟. لقد صار قيس الشاهد والمشارك

في النهاية غادر شون ماكليستر الى وطنه ليكمل ما قام به، لقد شكره قيس كثيراً لتوفيره فرصة المشاركة في ثورة بلاده، وطلب منه نقل وقائعها الى العالم كله، أما علاقته بزوجته فتحسنت بعد أن أنجبت له طفلة، كل ما يتمناه لها الآن، العيش بسلام في بلد خال من الدكتاتورية. هكذا يُنهي "الثوري المُتردّد" قصة رجل يمني تردد في باديء الأمر، ثم قرر المضي مع ثورته حتى النهاية.  

الجزيرة الوثائقية في

06/05/2012

 

الجياد مرآة لارواح اصحابها

محمد موسى – أمستردام 

الذين شاهدوا فيلم "الهامس للحصان" ، تعرفوا دون قصد على الامريكي باك برانامان . فهو الذي قام بالحقيقة بكل الحركات الصعبة مع الجياد ، والتي من المفترض ان النجم روبرت ريدفورد أداها في الفيلم. وهو بالاضافة لعمله كبديل (دوبلير) للشخصية الاساسية في الفيلم الذي عرض في عام 1998 ، منح خبرته الطويلة لفريق الانتاج ، كما ساهم بتنقيح وتعديل بعض المفاهيم الشائعة عن الجياد ومروضيها . لذلك ليس غريبا ان يطل الممثل والمخرج الامريكي المعروف روبرت ريدفورد في الفيلم التسجيلي "باك" عن باك برانامان ، متحدثا بامتنان كبير عن الاضافة التي قدمها مروض الجياد في فيلم " الهامس للحصان "، والذي قام روبرت ريدفورد باخراجه ايضا . كما ليس غريبا ايضا ، ان يتم اختيار الفيلم التسجيلي ضمن قائمة افلام مهرجان "سندانس" السينمائي في دورة العام الماضي، وهو المهرجان الذي يديره "ريدفورد" منذ سنوات طويلة.

لا يأخذ حديث فيلم "الهامس للحصان" الا بضعة دقائق فقط من زمن فيلم "باك" التسجيلي ، والذي يعرض حاليا في صالات سينمائية مختارة في بريطانيا وبعد عرضه في الولايات المتحدة الامريكية. فالتجربة السينمائية الوحيدة لم تكن الا محطة عابرة لباك برانامان ، والذي يقضي 9 اشهر من كل عام ، متنقلا بين مدن الغرب الامريكية ، مقدما خبرته، التي تعدت الاربعين عاما، لمئات الامريكيين الذين يواجهون مشاكل مع خيولهم ، مصرا في كل الجلسات العامة التي يعقدها ويطلق عليها "العيادات" : "ان الجياد تحمل بالعادة صعوبة مرآس اصحابها" ، ولا توجد خيول بطباع شرسة، لكن هناك بشر متقلبي المزاج ، وهم الذين يدفعون خيولهم للتمرد والعصيان.

يوفر الفيلم التسجيلي، الذي اخرجته الامريكية سيندي ميهل، مشاهد عدة تشير الى الموهبة الفريدة لباك برانامان بترويض الجياد الصعبة الطباع . هو لا يهمس لها ، كما يفعل روبرت ريدفورد في الفيلم الروائي الطويل ، لكنه يقودها بحركات تتنوع بين الحزم وتفهم كبير الى هدوء لم يعرفه اصحابها ابدا ، حتى انها تتحول بين يدي "باك" الى مايشبه حيوانات السيرك ، لكن دون المساس ابدا بكرامتها ، وكأن هناك طاقة ما تتسلل من المدرب الى الحصان ، لتهديء من روعه اولا ، ثم تجعله ينساق الى رغبات اصحابه . دون ان تخلو هذه العلاقة من إشتراطات ، ترتبط بصدق المدرب واخلاصه لجواده.

باك برانامان ليس ساحرا ، ونجاحه او فشله يرتبط احيانا بفداحة الضرر الذي اصاب الجياد ، فهو يفشل في الفترة التي تتابعه كاميرا الفيلم في ترويض حصان تعرض عند ولادته لنقص الاوكسجين ، الامر الذي اثر على دماغه ، ليتحول الى ما يشبه الحيوان المفترس .هذا الحصان البهي المظهر سيستحوذ على عشر دقائق شديدة الترقب من وقت الفيلم . في مشاهد عديدة سنراقب "باك" ومعه اخريين وهم يحاولون وقفه وحشية الحصان الذي كسر ظهر مربيته ، وعض في مشهد مرعب حقا رأس مساعد ل "باك". لكن الاخير يرفض ان يصف الحصان بالمتوحش ، ويذكر بالظروف التي احاطت ولادته وكيف كان يمكن تجنب هذا المصير باهتمام مضاعف بالحصان الذي شبهه بالطفل الصعب التعلم.

هناك قصة شخصية قاسية لباك برانامان ، سنتعرف على جزء منها في الفيلم التسجيلي . هو الابن الذي فارقت امه الحياة مبكرا ، ليبقى تحت رعاية أب كان يضربه بالسياط ويجبره على تعلم العاب رمي الحبل ومهارات اخرى يشتهر بها رعاة البقر الامريكيين. الصدفة بعدها ستنقذ الابن من تصرفات الاب السادي ، لتنقله الشرطة الى بيت عائلة تقوم برعايته. ما تركته سنوات الطفولة سيلاحق "باك" معظم حياته ، وهي "الحياة" التي سخر جزء كبير منها لفهم عالم الخيول ، والذي سيكون الطريق الاساسي واحيانا الوحيد له لفهم عالم البشر!

الطفل المختبأ تحت الدمية 

هناك ما يجمع بين باك برانامان و كيفين كلاش ، والاخير هو الشخصية التي يسلط عليها الانتباه في الفيلم التسجيلي "ان تكون إلمو: رحلة محرك الدمى " للمخرجة كونستانس ماركس والذي يعرض حاليا في صالات سينمائية في بريطانيا (عرض ايضا في الدورة قبل السابقة لمهرجان سندانس الامريكي). فهما لم يعرفا طفولة عادية ، واتجها في وقت مبكر جدا وبشغف كبير الى هوايات ، والتي ستتطور بعد ذلك لمهن ، كما ان مسار الشخصيتين في الحياة يتشابه في اخلاصه لهاجس ، بدا واضحا من سنوات فتوتهما المبكرة.

لم يشبه كيفين كلاش في صباه اقرانه من الاطفال السود في الحي الذي ولد ونشأ فيه ، فبينما كان معظم ابناء الحي يتجهون الى الرياضات بانواعها ، كان "كيفين" يفكر بعالم الدمى المتحركة ، والتي سيقوم بعمر مبكر بصناعتها وتحريكها بنفسه ، في غرفته الصغيرة ، قبل ان تنتبه الى موهبته قناة تلفزيونية محلية ، وبعد ذلك قنوات تلفزيونية كبيرة في مدينة نيويورك . ليجد نفسه بعد سنوات فقط من عمله الاحترافي الاول ، ينضم الى فريق مسلسل "افتح ياسمسم" الامريكي ، وهو البرنامج الذي جذب جمهور واسع الى برامج الدمى ، ولازال يعد واحدا من اكثر البرامج التلفزيونية تاثيرا في العالم.

النجاح الحقيقي لكيفين كلاش سيكون عندما يستلم مهمة تحريك وصوت دمية "إلمو" ، فبعد ان كانت هذه الدمية على مقربة من الحذف من برنامج "افتح ياسمسم" بسبب عدم شعبيتها ، ستخضع على يدي كيفين كلاش لعملية تغيير شامله تبدأ من الصوت ، والذي سيؤديه كيفين بنفسه ، الى الشخصية ذاتها ، فهي ستتحول من حيوان متقلب المزاج الى آخر بريء، محب لغيره ، ولا يشبع من العناقات التي يطلبها من الجميع. هذه الشخصية ستحقق نجاحات كبيرة جدا ، بعضها تجاري ، اذ بيعت مئات الالف من لعبة حقيقة تشبه "إلمو" حول العالم ، واخرى تلفزيونية ، حيث كرست برنامج "إفتح ياسمسم" كاحد اكثر البرامج الاطفال تاثيرا . كما ان شعبية لم تقتصر على الاطفال ، فمشاهير كثر ظهروا من خلال حلقات البرنامج ، كان من آخرهم زوجة الرئيس باراك اوباما (ميشيل).

على صعيد العائلة ، تختلف نشاة شخصية فيلم " ان تكون إلمو: رحلة محرك الدمى " عن تلك في الفيلم الاول . فكيفين كلاش تلقى الكثير من الحب من والديه ، وهم الذين سيلهموه في ادائه لشخصية " إلمو " . فالعاطفة التي تتفجر من الدمية هو تشبه تلك التي حصل عليها من والديه ويامل ان يعيد جزءا منها لهم ، وكما يصف هو نفسه في الفيلم. وعندما يظهر والدي كيفين في الفيلم ، وهما المسنان الآن، يتحدثان بحب كبير عن الابن الذي دعما هوايته منذ البداية ، ثم يظهر بعدها كيفين وهو يقدم عروض خاصة لاطفال يعانون امراض مميته و يحاول ان يهبهم سعادة قصيرة ، تبدو إن دائرة انسانية عذبة قد إكتملت.

الجزيرة الوثائقية في

06/05/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)