حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"ما هتفت لغيرها":

زمن الحلم الفردي والحلم الجماعي

أمير العمري

 

لعل أهم ملامح فيلم "ما هتفت لغيرها" وهو من نوع الفيلم غير الخيالي، أي انه يمزج بين التسجيلي والوثائقي والروائي، أنه أولا يعكس التجربة الشخصية لمخرجه وصانعه وهو الناقد والمخرج اللبناني محمد سويد، وهو بهذا المعنى يعد أحد أفلام "السيرة الذاتية.

وثانيا: يعكس الفيلم بوضوح هواجس مثقف كان مسيسا حتى النخاع في الماضي، حين ارتبط بحركة اليسار من جهة، وبحركة فتح الفلسطينية من جهة أخرى، مزواجا بين الأفكار الأممية، والأفكار المتعلقة بالتحرر الوطني، وهي مزواجة لها مبرراتها فقد كان خطاب الثور ة الفلسطينية في تلك الفترة من أواخر الستينيات حتى منتصف السبعينيات، خطابا يمزج بين الأفكار اليسارية والوطنية. وكان الانضمام لحركة "علمانية" مهربا من التيار الطائفي الجارف الذي كان سائدا في الساحة اللبنانية، وغن كان الفيلم لا يهتم كثيرا بهذه النقطة. ولكنه بهذا المعنى فيلم مثقف تبدو نكهة الثقافة والتفلسف فيه عالية، وأحيانا تلتبس الأمور بعض الشيء بسبب الطموح الكبير من جانب المخرج لكي يروي كل شيء في سياق فني مبتكر.

وثالثا: بسبب زحام الأفكار والمواد والمعلومات، وتدفق المقاربات والمقارنات والشهادات، يبدو الفيلم أحيانا – من الناحية الأيديولوجية- شديد التشوش، خاصة بالنسبة للمشاهد غير المطلع تماما على التناقضات في الواقع السياسي اللبناني: فالقومي هو الوطني، واليساري يناصر صدام حسين القومي البعثي، والأممية لا معنى لها في سياق ينشد الذوبان في "العروبة"، والعلماني يمكن أن يكون شيعيا أيضا، وبالتالي يمكن أن ينشأ حزب الله من داخل جناح من أجنحة حركة فتح كما يروي لنا المعلق في الفيلم، وحركة فتح ترتبط في الوقت نفسه بحركات التحرر الشيوعية في فيتنام.

والسؤال الكبير الذي يطرحه الفيلم: هل نجحت بيروت في تجنب مصير هانوي، ولماذا فشلت بالمقابل، لت تصبح مثل دبي وهونج كونج؟

"حيث يكون قلبك يكون كنزك".. بهذه المقولة المتكررة يفتتح فيلم "ما هتفت لغيرها". وعنوان الفيلم هو حد الأناشيد الذائعة لحركة فتح في الستينيات، فيالبداية نجد أنفسنا أمام ضابط فيتنامي في ميدان كبير في هانوي. الضابط يتخذ وضعا للتصوير.. وهذه اللقطة تحديدا ستعود لتتكرر كثيرا باختلاف الضباط والجنود، ثم حديث عن أبو داود، حيث يروي حاتم حاتم تجربته في فتح ولكن على لسان المخرج دلالة على العلاقة المباشرة بين المخرج وشخصية حاتم المعادلة له في شبابه البكر.

البطل يفترض أنه يتعقب تجربته الشخصية في مجال السياسة في محاولة لفهم كيف حدث ما حدث ولماذا لم تصبح بيروت هانوي أو سايجون، ولماذا ايضا لم تصبح معجزة النهضة الاقتصادية، ويتناول علاقته بالسيمنا، ولعه المبكر بها، ورغبته في الولوج إلى عالمها. لكنه يبدو كما لو كان يتعقب تجربة والده. والحقيقة أن التليق الذي يرد في الفيلم على لسان الراوي مكتوب بجاذبية واقتصاد وجمال بدون أي تكلف، وهو جزء من سحر الفيلم وجماله ويساهم في شد المتفرج إلى المتابعة.

أنت تسمع في هذا الفيلم الكثير من الشخصيات التي تروي علاقتها بالمكان.. ببيروت ثم بدبي، أما فيتنام فلا صو هناك في الصورة، فقط لقطات هادئة أقرب إلى الصور الخيالية التي تمليء بالابتسامات والإيماءات الرقيقة دون أي تعليق.

محاور الفيلم الأساسية: بيروت، دبي، هانوي، والشخصيات الأساسية: لبناني مقعد بسبب اصابته في الحرب في دكان لبيع الدراجات والمخلفات في بيروت كان أحد المناضلين السابقين في السبعينيات، ورجل أعمال هندي الأصل في دبي يشرح ويتكلم ويعقد المقارنات، ومدير نادي السيارات في بيروت، وكاتب هو عادل عبد الصمد .. يتوقف عند وصفه القديم للبنان بأنه "بلد امبريالي وأنه هانوي العرب".

وهناك أيضا امرأة إيرانية فرت من بلادها بعد الثورة الإسلامية تتحدث عبر الفيلم إلا أنها تفاجئنا حينما تصف وجه الخميني بأنه "جميل وروحاني".

في هذا المزيج الذي يخضع لطريقة في البناء تعتمد على الانتقالات الحرة، والمقابلات، واللقطات المأخوذة من الأرشيف، وعلى الموسيقى واستخدام الوثائق المصورة لأغاني وأناشيد الثورة الفلسطينية (حركة فتح تحديدا)، مع أغنيات شهيرة (لبيك ياعلم العروبة وغيرها) تكمن ملامح عمل شديد الطموح: أساسه فكرة البحث المعذب عن حقيقة الذات، من خلال وجود الفرد في الماضي وسط الواقع الموضوعي.. ودائما، في طيات الفيلم، هناك العلاقة الحميمية مع السينما وعالمها، رغم ابتعادها عن الواقع، ربما تجسد السينما لبطلنا "البطولة" التي كان ينشدها في الواقع.

هناك من يقول لك إنهم "اغتالوا صدام حسين"، وهناك حديث عن أبو داود ودوره البارز الملهم للشباب في تلك الفترة، ثم صور من جنازته، وهناك أبو الحسن هانوي تلك الشخصية الأسطورية التي كانت شديدة الصلة والحماس لفتح ثم قطعت العلاقة معها وذهبت للعيش في جنوب لبنان.

فيلم محمد سويد فيلم معذب، بالبحث الشاق عن الحقيقة، حقيقة النفس وحقيقة الوطن، لن يمكنك الإمساك بكل ما فيه تماما، فهو يربكك بانتقالاته العديدة، ومقارناته التي تبدو ساخرة أيضا، سخرية من الحالة اللبنانية بأسرها، تلك الحالة التي تجعل لبنان يظل "رهينة" وسط الفرقاء في الداخل والخارج، وهو لذلك يدفع الثمن دائما، ولذا لم يكن من الممكن ان تصبح بيروت مثل دبي، أو دبي مثل بيروت. رجل الأعمال الهندي في دبي يعزو الأمر إلى ان "بيروت مدينة كبرى في لبنان.. بينما دبي مدينة صغيرة.. بيروت تعاني من مشاكل العواصم المكتظة" ولا يبدو أنه سيصل قط إلى لب الحقيقة.. لطن الصور التي يدخلها المخرج على خلفية صامتة تظهر دبي عامرة، وبيروت مدمرة.

هناك دائما استرجاع ما للحرب الأهلية، لأجواء القلق والتوتر والصراع المسلح، واستدعاء لزمن الكفاح ولو من خلال الأغاني وشريط الصوت المنسوج ببراعة كبيرة في الفيلم.

ربما يعاني الفيلم من بعض التكرار والإطالة، وربما كان يمكن ضبط الإيقاع أكثر إذا ما خفف المخرج أو تخفف من بعض المقابلات وجعلها اكثر تركيزا. لكن التجربة بشكل عام، ممتعة بصريا وصوتيا، وتجعلنا نخرج وفي أذهاننا عشرات الأسئلة عن الماضي الذي كان، كيف كنا وكيف أصبحنا، ما الذي ينتظزنا في المستقبل، هل كانت التضحيات تستحق أن نخوضها، وما النتيجة القائمة حاليا، من الذي جنى "النصر" بالمعنى المادي المباشر.. هل انتصرت بيروت، هل أصبحت سايجون.. هل تتمتع بهدوء ورونق فيتنام التي أصبحت الآن "مزارا سياحيا" كما نرى في الفيلم، أم أنها فشلت فقط في أن تصبح "دبي"!

عين على السينما في

13/04/2012

 

فيلم"المزاج"..

عندما كانت الموسيقى توحد بين البشر

أمير العمري 

من أجمل الأفلام الوثائقية التي عرضت في الدورة الخامسة من مهرجان أبو ظبي السينمائي فيلم "المزاج" El Gusto للمخرجة الجزائرية صافيناز بوصبايا من الانتاج المشترك بين الجزائر وايرلندا والامارات.

هذا الفيلم البديع يبدأ من حي القصبة الشهير في العاصمة الجزائرية، الذي شهد مولد وترعرع فن الغناء الشعبي الذي يسمى في الجزائر بـ"الشعبي"، حتى عند الحديث عن تلك الموسيقى المميزة التي تجمع بين التراث الأندلسي والتراتيل الدينية الاسلامية والغناء البربري والعربي.. وهو الفن الغنائي الذي ولد على يدي مؤسسه ورائده الحاج محمد العنقا.

في القصبة

مخرجة الفيلم تقوم بزيارة الى حي القصبة في عام 2003 لشراء مرآة من أحد المحلات، وهناك تكتشف أن صاحب المحل كان أحد أعضاء فرقة الحاج العنقا ولايزال يحتفظ بالكثير من الذكريات التي ترتبط بهذا اللون من الغناء الذي يدور حول التغني بحب الوطن وحب الناس والخير والجمال وكل القيم النبيلة، كما يتغنى بالشجاعة والاقدام والرجولة.

من هذا المدخل تسعى مخرجة الفيلم نحو رحلة شاقة لاعادة اكتشاف هذا الفن الذي تعيش في داخل وينتقل اليها الولع به، عن السعي للوصول الى أعضاء الفرقة ومنشدي الغناء الشعبي الذين تفرقت بهم السبل بين الجزائر وفرنسا، ولم يجتعوا معا منذ 50 عاما، أي منذ استقلال البلاد.

هذه الرحلة التي تسعى خلالها المخرجة إلى لم شمل أعضاء الفرقة الأسطورية، تأخذنا إلى رحلة أكثر عمقا، إلى الجزائر كما كانت بالأمس، قبل الاستقلال، وبعده مباشرة، وما شهدته من متغيرات عميقة تركت ندوبها على ذاكرة أجيال من الجزائريين الذين كانوا يعيشون معا في وئام وسلام وحب يجمعهم ذلك العشق للغناء الشعبي، أو ذلك الفن الرفيع الذي يقوم على "المزاج" الرائق.

هذا ليس فيلما بسيطا من الأفلام ذات المستوى الأحادي، يهدف فقط الى تقديم هذا اللون الغنائي الذي يستمد خصوصيته من خصوصية المكان الذي نشأ فيه أي من حي القصبة في الجزائر، ذلك الحي الذي كانت تعيش فيه الأغلبية من السكان العرب في زمن الاستعمار الفرنسي، بينما كان محظورا دخول الحي الفرنسي الذي يتمتع بكل الخدمات على الجزائريين. وبعد الاستقلال فقدت القصبة الكثير من رونقها وسحرها كما نرى من خلال الفيلم.

تاريخ فن الغناء الشعبي يتدفق من خلال الذكريات الحميمية التي نستمع اليها على لسان الشخصيات التي تلتقي بها المخرجة عبر بحثها عن أفراد الفرقة. لكننا نتابع من خلال الصور واللقطات الذكية كل ما يتعلق بالقصبة بل وبالجزائر العاصمة أيضا: ساحاتها الشهيرة، وحوانيتها، أزقة القصبة الضيقة ومنعرجاتها المرتفعة فوق الجبال، فتحات النوافذ، الحفر المنتشرة في الطرقات، البيوت المتلاصقة، الدكاكين الصغيرة.

الحنين

إنه فيلم "نوستالجي" بلاشك، يبرز فيه الماضي بقوة على حساب الحاضر. ففي ذلك الماضي، كما نستمع ونرى من خلال بعض الوثائق المصورة، كانت الموسيقى توحد بين افراد الفرقة من عشاق الشعبي، من المسلمين واليهود الجزائريين.

الكاميرا تتسلل وتمضي في حركة لا تتوقف طوال الفيلم، تنتقل من الساحات الى المنازل الى المباني التاريخية، الى الأماكن القديمة لبيوت لم تعد قائمة، الى حيث كان يوجد المعبد اليهودي (الذي يطلق عليه الجميع في أحاديثهم في الفيلم "جامع اليهود") .. الى لقطات الأرشيف بالأبيض والأسود، التي تعيد رواية قصة الجزائر الحديثة: كيف بدأ النضال المسلح بقيادة جبهة التحرير، وكيف أعلنت الجبهة منع تناول الخمور واغلاق الحانات وبيوت الدعارة وحظر تناول المخدرات.. وكيف انعكست أعمال العنف على نشاط الفرقة، وكيف كان طبيعيا أن يتعاون أفراد الفرقة مع الجبهة ويلتزموا يتعليماتها بعدم الغناء للفرنسيين والكف عن الغناء في الأعراس، بل وكيف نقل محمد العنقا الثورة الى أغانيه وألحانه من "الشعبي" بحيث أصبحت هناك كلمات "شيفرية" تستخدم بشكل رمزي يعرفه الجزائريون في الاشارة الى الثورة التي يتم تمجيدها في تلك الأغاني.

من الخمسينيات الى الستينيات وإلى اعمال التفجيرات التي كانت تشنها الجبهة ضد تجمعات الفرنسيين في الجزائر العاصمة، وما نتج عن هذا من تعقب بعض أفراد الفرقة بل واصابة بعضهم اصابات بالغة أيضا لاتزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.

تنتقل صافيناز بوصبايا أيضا الى فرنسا، والى باريس، تتسلل داخل المعبد اليهودي، تلتقي بأعضاء الفرقة من اليهود الجزائريين هنا وهنا، يروون لها كيف وحدت الموسيقى بينهم وبين اخوانهم المسلمين، وكيف كان الجميع يشعرون بالألفة في "الوطن" قبل أن تبدأ عمليات التهجير القسري أو الهجرة الاختيارية بعد أن تغيرت الأمور والأحوال، ونشأ مجتمع جديد بعد الاستقلال.

فيلم "المزاج" ليس فيلما عن الانتصار والاستقلال فقط بل هو أيضا عما فقدته الجزائر بعد الاستقلال، عن التشتت الذي نتج، عن خروج الكثير ممن يحبون الجزائر، والذين لعبوا دورا بارزا في اقتصادها ونموها من قبل، وكان يمكن استيعابهم والاستفادة من تلك التعددية الثقافية في بناء الجزائر الحديثة.

روح الموسيقى

إنه فيلم عن روح الموسيقى التي توحد القلوب والعقول في حب الوطن، والتي لا تزال تعيش في ذاكرة الجميع من أبناء ذلك الجيل الذي تجاوز السبعين والثمانين من عمره.

ولا يتوقف الفيلم عند تلك الأحاديث الممتدة في الزمان والمكان (هناك شخصية مصطفى تهمي أحد أعضاء الفرقة الذي يجوب بسيارته شوارع العاصمة يروي كيف التحق هو وباقي اعضاء الفرقة بمعهد الموسيقى (الكونسرفاتوار) الى جانب ذكريات أخرة عديدة عن رفاقه وعن ماضي العاصم.

المخرجة تسعى الى جمع أفراد الفرقة وتنجح في النهاية في تنظيم حفل موسيقي كبير يشاركون فيه جميعا مع مجموعة من الشباب الذين ورثوا حب هذا الفن الشعبي الجميل.

افراد الفرقة من الكهول الجزائريين يأتون من الجزائر عبر البحر الى مارسيليا، وهناك يكون في استقبالهم أصدقاؤهم الذين لم يلتقوا بهم منذ خروجهم قبل خمسين عاما، حيث يلتئم شمل الجميع، ثم يستعيدون تألقهم في العزف والغناء في ذلك الحفل الكبير في مارسيليا الذي يؤمه آلاف الجزائريين في المهجر، يرقصون ويتمايلون على أنغام الشعبي.

إن من يعرف هذا اللون من الموسيقى الجزائرية الخاصة سيسعده كثيرا أن يستمع الى مجموعة من أجمل ما في تراث "الشعبي" من أغاني الشيخ العنقا، ومن لا يعرفه سيكتشف كيف أن هذه الموسيقى هي عن حق "موسيقى الروح".. روح القصبة، عاصمة الشعب التي كانت وأظن أنها لاتزال، تلهم أجيالا من الشعراء والفنانين في الجزائر رغم كل شيء.

عمل كبير

إن فيلم "المزاج"El Gusto  الذي يقع في 88 دقيقة، عمل كبير، يمزج بين الحركة والموسيقى، وبين الغناء والذكريات، بين الماضي والحاضر، وبين زمن الأبيض والأسود وعصر الألوان، رسالته الحب والتفاهم بين البشر، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والعرقية، فالرسالة التي تصل الينا من هذا الفيلم البديع، هي رسالة حب وتفاهم. نعم هناك الكثير من الحنين إلى الماضي، ولكن الماضي هنا ليس مقصودا لذاته بل لقيمه وايجابياته التي ذهبت مع كل ما هب على الجزائر من رياح خلال الخمسين عاما الأخيرة.

هل هناك أي نوع من الحنين الى زمن الاستعمار يكمن بين طيات هذا الفيلم؟ أستطيع الاجابة بكل وضوح بالقول إن مخرجة الفيلم التي تتمتع بنضج سياسي واضح، لم تقع في هذا المطب بل استطاعت أن تجعل فيلمها متوازنا من حيث رؤيته، كما هو متوازن في بنائه الفني، وأن تربط بين مفاصله وأجزائه الموسيقى والأغاني.

إنه الشعر الكامن تحت جلد الصور واللقطات، هو ما يرتفع بالفيلم الى مستوى الأعمال الإنسانية الكبيرة. إنه باختصار "متعة خالصة" للعين وللأذن.

عين على السينما في

13/04/2012

 

إعادة اكتشاف فيلم "المواطن كين":

فن سينما التلصص

محمود عبد الشكور 

لا يحاول هذا المقال أن يكرّر ما يعرفه كلُ المهتمين بالسينما من أن فيلم "المواطن كين" للمخرج أورسون ويلز تحفةٌ سينمائية، ومنجمٌ لا ينضب نكتشف من خلاله فى كل مرة ما يقنعنا بروعة الفن السابع وأهميته، ولكن حديثى سينصرف الى التركيز على جانب من حوانب التفرّد فى هذا الفيلم.

سنطرح هنا سؤالاً مهمّاً هو: هل المواطن كين مجرد فيلم سينمائى متكامل العناصرأم أنه فيلم عن السينما كوسيلة للإكتشاف والفضح وإثارة الإلتباس وزعزعة اليقين؟ هل كان لأساليب أخرى ،لو استخدمت،  أن تحقق للفيلم هذا الطوفان من الإعجاب ؟

مع التسليم بأن المواطن كين ساهم فى تطوير أدوات السينما، وقدرتها على التعبير والتوصيل، فإن هذا المقال يقترح نظرة مختلفة وغير تقليدية لهذا الفيلم المختلف، نظرة تربط بين قوة الفيلم، وبين كونه فيلماً عن السينما وليس عن أى شئ آخر، بما فى ذلك شخصيته المحورية مستر كين.

ما معنى هذا التعبير الغامض: "فيلم عن السينما"؟ نحن مدينون فى صكّ هذا التعبير للمخرج والناقد الفرنسى الراحل فرانسوا تروفو، وقد ذكره فى معرض وصفه للحديث عن فيلم "النافذة الخلفية" للراحل ألفريد هيتشكوك (1954).

النافذة الخلفية كما نعرف يدور حول مصور فوتوغرافى محترف يتلصص على جيرانه مستخدماً كاميرا، بعد ان أقعده حادثٌ عن السير. من خلال التلصص يكتشف المصوّر، ونكتشف معه، جريمة قتل، يتمتع الفيلم، الذى قام ببطولته جيمس ستيوارت وجريس كيلى، بسيناريو متماسك مع براعة فى رسم الشخصيات، وتدفق فى السرد يحقق الإثارة والتشويق.

فسّرتُ عبارة "فيلم عن السينما" فى البداية بمعناها المباشر، أى فيلم يوظف امكانيات وأدوات السينما لترجمة سيناريو مشوّق، ولكن هذا التفسير المباشر كان يصطدم دوماً بحقيقة أن كل افلام هيشتكوك تقريباً يتحقق فيها هذا الإتقان الحرفى، دون أن تنفرد بهذا الوصف اللافت.

استرحتُ أخيراً الى تفسير تروفو الأعمق والأجمل لعبارته، فهذا الفيلم  ليس عن اكتشاف رجل  لجريمة قتل، ولكنه فى جوهره فيلم عن اكتشاف هيتشكوك الأعمق للسينما كفن للتلصص بامتياز.

عّدت الى الفيلم، وتأكدتُ بالفعل أن التلصص فى النافذة الخلفية يتحقق على ثلاثة مستويات: المصوّر القعيد يتلصص لحسابه الخاص من باب التسلية وقتل الوقت، ونحن كمتفرجين نتلصص عليه وعلى كل مايراه وعلى ما يفعله مع خطيبته الجميلة، وهناك فى المستوى الثالث غير المنظورهيتشكوك نفسه وهو يراقبنا جميعاً، إنه صاحب لعبة التلصص كلها، يفتح لنا كل نوافذها،  ثم يعاقبنا فى النهاية من خلال لحظات رعب لا تنسى.

يكشف فيلم هيتشكوك ببساطة عن أن السينما هى فن التلصص المدفوع، نحن نشترى تذكرة لندخل حجرة مغلقة نتلصص فيها مع سبق الإصرار والتلصص على أشخاص لايبالون بوجودنا، أو يزعمون ذلك، وكلما تأكدنا كجمهور من لامبالاة الممثلين، كلما زادت نشوتنا من أجل المزيد من التلصص المسروق.

لو عدنا بالذاكرة الى فجر السينما الأول، سنكتشف أن أجهزة العرض السينمائية البدائية الأولى كانت أقرب الى صندوق الدنيا، شخصٌ واحد فقط يتلصص من خلال عين زجاجية على مشاهد قصيرة متتابعة، كان المتفرج قديما يمارس تلصصاً يطابق يالضبط ما يفعله رجل وحيد ينظر من ثقب الباب.

أسلوب السرد السينمائى الذى قدمه هيتشكوك فى فيلمه، يكاد ينقل آلية المشاهدة والتلصص الذى يمارسه جمهور السينما الى الفيلم ذاته، بهذا المعنى تستطيع أن تعتبرأن فيلم النافذة الخلفية يجعل السينما داخل السينما.

يمكن تفكيك اللعبة كما يلى: المتفرج داخل قاعة العرض تحوّل فى الفيلم الى مصور داخل حجرة صغيرة مظلمة، والكاميرا السينمائية، وهو الوسيلة التى تتيح صنع الفيلم وتلصص متفرج السينما عليه بالمشاهدة، تتحول داخل الفيلم الى كاميرا فوتوغرافية، وشاشة العرض التقليدية تتحول داخل الفيلم الى واجهة بناية ضخمة ترصّعها بعض النوافذ الصغيرة التى تتشابه فى شكلها، على نحو غريب مع إطارات الفيلم السينمائى (الكادرات).

من الغريب واللافت أيضاً أن الأحداث التى تجرى داخل كل نافذة / كادر، تكاد تعبّر عن بعض أنواع الفيلم الأمريكى ( مواقف كوميدية وأخرى استعراضية راقصة وثالثة رومانسية ..إلخ)، ثم يتوقف هيتشكوك عند الكادر الذى يناسبه (نافذة الجريمة والتشويق، وهكذا تأخذ حكاية الزوج القاتل مساحة أكبر فى التلصص والمتابعة (من المصور والمتفرج معاً)، وتصنع الحكاية عقدة الفيلم بأكمله.

فن التلصص

جيمس ستيوارت إذن هو مندوبنا ورجلنا كمتفرجين داخل الفيلم، دوره أن يتلصص لنا، كما أنه يمنحنا لذة مضاعفة عندما لا نتردد نحن فى التلصص عليه فى مشاهده الموضوعية الحميمة خاصة تلك التى تجمعه مع خطيبته باذخة الحسن والجمال، ولا ينسى هيتشكوك أن يجعل جريس كيلى تشرع فى تقبيل جيمس ستورات قبلتها الشهيرة بأن تقرّب شفتيها الى الكاميرا، وكأنها لا تكافئه وحده فقط، ولكنها تكافئ الجمهور المتلصص أيضاً.

هيتشكوك، وقد أدرك طبيعة السينما كفن للتلصص، قرر أن يقطع الشوط الى آخره، أراد فى النهاية أن يعاقب كل المتلصصين (الجمهور وستيوارت معاً). اختار الزوج السفاح أن يقتحم على بطلنا حجرته التى تعادل بالضبط قاعة العرض، عندما فتح الباب على جيمس ستيوارت أصابنا الفزع لأنه كان كمن فتح على الجمهور صالة العرض بعد أن ضبطهم يتلصصون على جرائم الآخرين.

وعندما يستخدم جيمس ستيوارت فلاش الكاميرا الذى يحوّل السفاح الى شبح أبيض بلا معالم، فإن هذا التصرف يعادل من زاوية الجمهور، الرغبة الجارفة فى إضاءة أنوار الصالة، لتتحول كل الأطياف من جديد الى شاشة بيضاء، حتى نتخلص من كابوس اللحظة المفزعة.

لكن هيتشكوك يعود بعد ذلك لكى يصالح كل المتلصصين بالقبض على السفاح، هنا يتحقق الخلاص المزدوج، وهنا أيضاً سيقرر الجمهور العودة لممارسة لعبة التلصص من جديد بمشاهدة أفلام أخرى، طالما أن العقاب لم يتجاوز لحظات من الفزع، جعلت طعم المغامرة حريفاً ولذيذاً.

روعة النافذة الخلفية بالتالى فى اكتشاف هيتشكوك وتجريبه آلية للتأثير فى الجمهور، محور هذا الآلية هى أن السينما كفن للتلصص المشروع، ولأن التلصص نوع من السرقة، فإن اكتشافه يثير الفزع والرعب.

تجربة إيطالية

بعد سنوات طويلة من فيلم النافذة الخلفية، سيظهر فيلم إيطالى بديع هو"سينما باراديزو الجديدة" للمخرج جوسيبى تورناتورى، ليتكلم بمعالجة مختلفة عن لعبة التلصص فى السينما، مندوب الجمهور فى هذا الفيلم هو ذلك المخرج الذى يشعر بالحينن الى دار العرض فى قريته الصغيرة، طفلاً ثم شاباً ثم رجلاً فى منتصف العمر، بالإضافة الى جمهور السينما العتيقة الذى نشاهد تجاوبه مع الأفلام المعروضة داخل الفيلم.

أراد تورناتورى أن يلغى الحواجز بين السينما وجمهورها، الجمهور يذهب بنفسه الى قاعة العرض، فإذا لم يستطع الدخول، فإن السينما هى التى تخرج الى الناس فى الشارع، حتى لوكان الثمن أن تحترق آلة العرض (مشهد شهير لا ينسى).

جمهور قاعة العرض الذى يشاهد جمهور سينما باراديزو وهو يبكى تأثراً بما يشاهده من أفلام الأبيض والأسود، سرعان ما سيشعر باختناق وسيحبس دموعه وهو يرى بطل الفيلم يفقد حبيبته فى سن الشباب.

تنتقل كاميرا تنورناتورى الذكية من مشاهد العبث الجنسى فى الأفلام القديمة الى مشاهد مماثلة تحدث فى قاعة العرض، من يدرى فقد تكون قد حدثت أيضاً مع جمهور يشاهد فيلم تورناتورى فى قاعة عرض حديثة فى عصرنا الحالى!

يستمر إلغاء الحواجزبين الأفلام وجمهورها، فإذا كان جمهور سينما باراديزو "القديم" قد حُرم من مشاهدة القبلات لأسباب رقابية ودينية، فإن تورناتورى يقوم بمكافأة جمهور "اليوم" فيدخر هذه المشاهد المحذوفة، ويعرضها مرة واحدة فى نهاية الفيلم. هكذا يفشل متلصصو الأمس، وينجح متلصصو اليوم / ورثتهم الشخصيين، وهكذا لا تستطيع أن تحدّد منْ يتفرج على منْ : الذين يتحركون على الشاشة أم الذين يجلسون فوق المقاعد فى دور العرض وفى المنازل ؟

ريادة ويلز

علينا الآن ، وقد شرحنا باستفاضة معنى صناعة فيلم عن السينما يكشف آلياتها وجوهر تأثيرها، أن نسجّل فضل الريادة للمخرج الفذّ أورسون ويلز فى فيلم المواطن كين، الذى عرض للمرة الأولى يوم 9 أبريل من العام 1941 فى مدينتى لوس أنجلوس ونيويورك.

إذا كان الإستخدام الناضج والخلاق لأدوات السينما صوتاً صورة يخطف أنظار كل من يشاهد هذا الفيلم حتى اليوم، فإن ذلك لا ينبغى أن يصرفنا عن فكرتنا المحورية للإجابة عن سؤالنا وهو: كيف نفهم المواطن كين كفيلم عن فن السينما؟

هناك عنصران أساسيان يركز عليهما السرد لتحويل الحكاية البسيطة (عدة صحفيين يبحثون عن معنى كلمة روزبد وهى أخر كلمات أسطون الصحافة تشارلز فوستر كين قبل وفاته) ، الى بناء بصرى مدهش يعيد اكتشاف السينما، وعلاقتها بالجمهور.

العنصر الأول الذى لعب عليه السرد هو السينما كوسيلة للإكتشاف والفضح والتشريح، المتفرج يذهب عموماً الى السينما لتوقعه أنه سيكتشف شيئأ ما، فى أفلام كثيرة تكون التفاصيل معرفة (أفلام مأخوذ عن هاملت مثلا)، ومع ذلك نذهب لاكتشاف نوع المعالجة الجديدة، أودرجة إتقان الممثل لشخصية هاملت الصعبة..الخ.

يستخدم ويلز، وشريكه فى كتابة السيناريو هيرمان مانكوفيتش، مندوبين عن الجمهور داخل الفيلم لتحقيق متعة الإكتشاف: المندوب الأول هو الكاميرا نفسها، والمندوب الثانى هو مجموعة الصحفيين الذين يبحثون فى تاريخ كين وخصوصاً الصحفى تومسون. يبدو لى الآن أن وجود مندوب أو أكثر للمتفرج داخل الفيلم، يحقق رغبة طفولية قديمة لنا عندما كنا نتمنى أن ندخل الى الشاشة، أو أن نبحث خلفها عن تلك الأطياف الملونة، وقد ظهرت أفلام أخرى تجعل المتفرج يدخل الى الشاشة بالفعل، أو أن تخرج شخصيات الفيلم لتنزل الى الجمهور، وتتفاعل معه.

اكتشف ويلز أن الكاميرا تستطيع أن تقوم وحدها بالإكتشاف بدون أى شخصية درامية كما فى الفيلم التسجيلى، وكما فى الجريدة السينمائية، ولذلك جعل لها الدور الأول فى اللعبة. ربما يكون حلم ويلز الأصلى أن يكون المواطن كين بأكمله جريدة سينمائية، يكتفى فيها بالتعليق من خارج المشهد كما حدث بالفعل فى بداية الفيلم، ولكنه اضطر أن يزج بهؤلاء الصحفيين الباحثين عن حقيقة ما.

ربما اختار ذلك لأن الفيلم نفسه عن عالم الصحافة وصناعة الأخبار والتأثير على الجمهور،وربما لأنه أراد إظهار سطحية العاملين فى هذه الصحف الشعبية (وكين على رأسهم)، حيث يتم تجنيد فريق كامل للكشف عما تعنيه كلمة روزبد، بعد عقد اجتماعات غامضة، تُسهم الإضاءة فى جعلها أقرب الى المؤامرة، أو الإعداد فى غرفة العمليات لمعركة حربية!

من الناحية البصرية، هناك تهميش متعمد لهؤلاء الباحثين عن روزبد، وعلى رأسهم الصحفى تومسون، فهم يظهرون غالباً بعيداً عن النور أو بنصف إضاءة وفى لقطات بعيدة، وفى مشاهد أخرى يظهر تومسون والكاميرا خلف ظهره، وفى مشهد ثالث يتم طرده من الملهى، والأهم من ذلك، أن كل هذا الحشد من الصحفيين لن يعرف أبداً معنى كلمة روزبد، فيستسلمون فى النهاية، ويغادرون قلعة زانادو، لكى يلحقوا بالقطار.

على العكس من ذلك، تتمتع الكاميرا بحرية كاملة ودور جوهرى، من اللقطة الأولى تعترض الكاميرا / المندوب لافتة (ممنوع المرور)، ولكنها تقفز فوقها لندخل معها الى قلعة زانادو، ثم تقتحم حجرة كين لتسجّل كلمته الأخيرة روزبد.

فى مشهد آخر هام، تستعرض الكاميرا سطح الملهى الذى تمتلكه سوزان، زوجة كين الثانية، تقترب بشدة حتى نتوهم أنها ستخترق السقف الزجاجى، ثم تمتزج اللقطة تدريجيا بلقطة من داخل الملهى للكاميرا وهى تهبط أمام سيدة الملهى المخمورة، هنا فقط يدخل الصحفى المهمّش الى الكادر بصحبة الخادم.

مثال آخر: عندما يغلق باب تاتشر فى وجه الكاميرا، تقوم بإذابة الباب (بأسلوب المزج أيضاً)، لتدخل، وندخل معها ، ثم تختلس النظر من وراء ظهر الصحفى تومسون على بعض المذكرات المكتوبة عن شخصية كين. هو يتلصص ونحن نتلصص عليه، وعلى  الجميع.

فى النهاية، فإن الكاميرا وحدها هى التى ستكتشف أن كلمة روزبد مكتوبة على زلاّجة خشبية مهملة كان يلعب بها كين فى طفولته، والكاميرا أيضا هى التى ستُرينا احتراق الكلمة / اللغز الى الأبد،  ثم تصاحبنا الكاميرا للخروج من زانادو، وكأنها تودّع الجمهور الى خارج قاعة العرض.

وعلى سور قلعة زانادو، يتعمد ويلز أن يكتب كلمة "the end" التقليدية، وكأنه ينبهنا الى انتهاء اللعبة السينمائية، لعبة البحث والإكتشاف، وهذا المعنى تؤكده كلمات تومسون الأخيرة التى يقول فيها:" روزبد ليست سوى قطعة من اللعبة.. مجرد قطعة مفقودة".

ويستكمل ويلز اللعبة باستعراضه المبتكر لنجومها، أبطال الفيلم، مستعيناً فى ذلك ببعض اللقطات المهمة فى مشاهد ما بعد النهاية.

اليقين المراوغ

العنصر الثانى الذى يجعل من المواطن كين بالأساس فيلماً عن السينما وليس عن أى شئ آخرهو التركيز على فكرة اليقين المراوغ، وهذه الفكرة تدخل فى صميم طبيعة السينما كفن.

نحن نعرف أن السينما هى الفن الذى جعل تسجيل الحركة ممكناً، ولكننا نعرف أيضاً أن الصور الثابتة لا تتحرك فى ذاتها، ولكنها تسير متتابعة بسرعة معينة، فندركها متحركة، السينما خدعة بصرية تستمد اليقين من الجمهور نفسه، هناك إذن نوع من التعاقد غير المكتوب، والتواطؤ غير المعلن بين السينما وجمهورها.

ندخل الى قاعة العرض بزمن خاص، ورغبات متناقضة، ولكننا سرعان ما نضبط هذا الزمن مع زمن الفيلم، ومع أحلام أبطاله، بل إننا نستعذب هذا اليقين المراوغ الذى يأخذنا من الممكن الى الواقع، ومن الخيال الى الحقيقة وبالعكس.

المواطن كين يجسّد هذه التناقضات، يجعل من جمهور الفيلم شاهداً عليها، من  خلال تومسون والكاميرا، ثم نكتشف فى النهاية، ان هذا هو كل ما أمكن  الحصول عليه من سيرة تشارلز فوستر كين، وعلى الرغم من أننا سنعرف الشئ الذى كُتبت عليه كلمة روزبد، فإننا لن نعلم بالضبط معنى الكلمة بالنسبة الى بطلنا الراحل، ويترك لنا السيناريو لنا هامشاً واسعاً يجعل حكمنا على كين قابلاً لكل التفسيرات.

يكفى أن كل الشخصيات التى تشهد على كين ليست أقل إثارة للريبة وللإلتباس منه شخصياً، على سبيل المثال: هناك زوجة سابقة مخمورة ومحطمة، وصديق قديم مريض ومقيم  بالمستشفى، ويحلم بالحصول على سيجارة من الممرضة، وهناك خادم مرتزق مستعد لكشف معنى روزبد مقابل مائة دولار فقط .. الخ.

شهادة الشهود فى الفيلم تعادل شهادة كاتب السيناريو عن سلوك ابطاله فى الأفلام العادية، ويبقى الحكم للجمهور، فيلم ويلز قال ما يعرفه عن بطله، ولكنه لا يستطيع أن يقول كل شئ عن الإنسان، وكما يقول تومسون مستسلماً فى النهاية:" إن كلمة واحدة لا تستطيع أن تفسر حياة رجل".

نستطيع أن نستكمل هذه العبارة من زاوية علاقة السينما بالجمهور فنقول:" .. وفيلماً واحداً لا يستطيع أن يفسّر حياة الإنسان .. هذا هو الغموض الذى يجعل المتفرج يخرج من فيلم الى فيلم بحثاً عن المزيد من الإكتشاف والتلصص".

كل فيلم ، وليس المواطن كين، لديه روزبد الخاصة به. فيلم أورسون ويلز لا يسخر من السينما باعتبارها وسيلة فاشلة للوصول الى الحقيقة، ولكنه، على العكس من ذلك، يدعونا الى السينما لاكتشاف المزيد من الروزبد، البحث عسير ليس بسبب قصور السينما، ولكن بسبب غموض الإنسان.

التلصص على حياة كين يشبع فضولنا، ولكنه يفتح الباب لأسئلة أكثر جعلت الكاتب "بورخيس" يقول عن المواطن كين أنه عبارة عن "متاهة بلا مركز".

أحسب أن نفس الوصف ينطبق على السينما وعلى الحياة نفسها، ولذلك لا نجد صعوبة كبيرة فى الدخول والخروج، من والى، شاشة السينما، وصالة الحياة والأحياء.

عين على السينما في

13/04/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)