حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"تيتانيك" بالبعد الثالث.. الغرق بالموت والنجاة بالحب

محمود عبد الشكور

 

تحمّستُ كثيراً لمشاهدة النسخة الجديدة من ملحمة تيتانيك لكاتبها ومخرجها القدير جيمس كاميرون لسببين: الأول أن أستعيد مُتعة الفيلم الكبير بعد كل هذه السنوات، والثانى أن أختبر ما ستفعله تقنية البعد الثالث فى فيلم يقدم مزيجاً مثالياً ناضجاً من نوعين من الأفلام بينهما بُعد المشرق عن المغرب.

شاهدتُ تيتانيك فى نسخته الأولى العادية كما أرادها كاميرون عند عرض الفيلم بالقاهرة فى مارس من العام 1998، مازلت أتذكر كيف خرجتُ ممتلئاً حبّاً وشجناً وذهولاً مما شاهدتُ وأحسست وسمعتُ. أدهشنى بشكل خاص بكاء بل ونحيب الجمهور فى نهاية الفيلم، كان معظمهم من الشباب والفتيات الصغيرات، وظل تيتانيك من وقتها أحد الأفلام القليلة التى شاهدتُ فيها جمهور السينما وهو يبكى وينتحب.

كانت لدىّ وقتها ملاحظة وحيدة هى أن كيت وينسليت بدت أكبر سناً وحجماً من حبيبها ليوناردو ديكابريو الذى ظهر كمراهق صغير أكثر منه كمغامر خبير. فى الأفلام ذات الطابع الرومانسى يجب أن يكون التلاؤم الشكلى أساسياً لأن الثنائيات تعبّر هنا عن الحلم أكثر مما تعبّر عن الواقع، ومع ذلك لم تفسد تلك الملاحظة متعة المشاهدة بسبب الموهبة الباذخة عند كل من كيت وليوناردو.

أما موضع العبقرية فى تيتانيك، والذى ما زلت أراه حتى اليوم، فهو فى أنه فيلمان وليس فيلماً واحداً، ولكنهما فيلمان ممتزجين امتزاجاً محكماً بدعم من الصنعة والموهبة معاً، وزاد من إعجابى بهذا المزج أنه يخلط بأستاذية بين نوعين من الأفلام: الفيلم الرومانسى، وأفلام الكوارث!

تصل حرفة المزج هنا الى مستويات رفيعة حقاً  الى درجة تحتار فيها هل أنت أمام فيلم رومانتيكى بالأساس لا يتبلور مضمونه ومغزاه إلا بوقوع الكارثة؟ أم أنك أمام كارثة إنسانية لم يبق شاهداً على إنسانيتها إلا قصة حب رائعة؟

ستقول لى: الفيلم واضح جداً واسمه "تيتانيك"، وهو يتحدث عن كارثة غرق أكبر سفينة، وأعظم جسم يتحرك صنعه الإنسان حتى لحظة الغرق فى الساعة الثانية والثالث من صباح ذلك اليوم الأغبر: 15 أبريل من العام 1912.

سأقول لك: نعم الفيلم يتحدث عن السفينة العملاقة، ولكن لا تتسرع فى الحكم إلا بعد أن تشاهد الفيلم بأكمله (194 دقيقة من المتعة)، وكلّى ثقة أنك ستكتشف أن السيناريو الفذّ،الذى يجب تدريسه فى معاهد السينما، قد صنع بمهارة ودهاء وخبث ثلاثة سفن وليس سفينة واحدة فقط.

سفينة مادية عملاقة من الحديد تحاكى طبق الأصل تيتانيك العملاقة التى اتسعت لحوالى 2200راكب غرق منهم 1500 شخص من الرجال والنساء والأطفال، وكثيرون منهم تجمدوا وسط ماء المحيط.

أماالسفينة الثانية فهى افتراضية، لا نراها ولكن نحس بها ونلمسها، سفينة الموت، مقبرة هائلة تفتح فمها لابتلاع ركابها لا فارق فى ذلك بين الدرجة الثالثة والدرجة الأولى.

والسفينة الثالثة مكانها القلب، هالة ضخمة من مشاعر وأحاسيس الحب، طوفان من اللحظات العذبة الرائقة التى فشل المحيط فى القضاء عليها، فعادت من جديد الى مقدمة الصورة بعد 84 عاماً من الغياب.

لدينا إذن ثلاثة سفن عملاقة وليس سفينة واحدة، والبناء الفذّ المعقد للسيناريو هو محصّلة تفاعل السفن الثلاثة وتصارعها، أرجو أن تضع ثلاثة مشاهد متباعدة جنباً الى جنب لتكتشف هذا المعنى.

المشهد الأول يتعرف فيه بطل الفيلم جاك داوسون على مقدمة السفينة المادية العملاقة التى تكتسح المحيط، والتى تبدو الدرافيل بجانبها مثل سمكة صغيرة، والمشهد الثانى أيضاً عند نفس المقدمة العملاقة، وقد ولد الحب بين جاك وروز فى المشهد الشهير الذى تغلّفه موسيقى أغنية سيلين ديون البديعة، أما المشهد الثالث فقرب النهاية عند نفس المقدمة التى وصلها الحبيبان معاً هرباً من الغرق، لتتحول قمة الحب الى قمة الموت.

تلاعب

انظر كيف يتلاعب كاميرون بحكايته وبالنوعين الممتزجين فى يده مثل قطعة من الصلصال ، ليس فقط فى مكان واحد هو مقدمة السفينة، ولكن على مدار البناء الضخم والعملاق أيضاً. لن يفلت منه خيط واحد، ولن يترك ضربة فرشاة إلابعد أن يضعها فى مكانها ليقول ببساطة ممتنعة إنه إذا كان الحديد قد غرق فإن القلب قد استيقظ، وإذا كان الغرق بالموت، فإن الحياة والبعث بالحب، وإذا كانت تيتانيك سفينة عملاقة، والموت أيضاً عملاق، فإن الحب هو عملاق العمالقة.

أسوأ قراءة لفيلم تيتانيك أن يوصف بأنه فيلم بسيط، هو فى رأيى فيلم ظاهرُه البساطة، ولكنه من أكثر الأفلام تعقيداً لأنه فى الحقيقة نتاج إتقان احترافى لفيلم رومانسى فى أنضج حالاته، ونتاج احترافى لفيلم كوارث فى أفضل نماذجه، ثم نتاج إتقان احترافى أصعب للمزج بين نوعين شديدى التباعد.

فى خانة الرومانسية لدينا كل العناصر التقليدية: حبيبان بينهما من الإختلاف والفوارق ما يجعل من المستحيل الجمع بينهما لولا سهام الحب، أرستقراطية متمردة ورسام صعلوك، هى مخطوبة وهو على باب الله، هناك أيضاً العزول التقليدى، الخطيب رجل الأعمال الثرى كال (الرائع بيللى زان)، لدينا أيضاً العقدة الكلاسيكية: الجميلة لابد أن تتزوج من الثرى لأن أسرتها الأرستقراطية فقدت أموالها، الصراع كذلك نموذجى: عاشق ومعشوق وبينهما عزول.

فى خانة الكارثة لدينا أيضاً هذا البناء الكلاسيكى، خطر فتجاهل فانهيار مفاجئ فصراع ضد الموت فخسائر فادحة، قبطان السفينة لديه خبرة 26 عاماً، مع ذلك لم يتوقع أن تغرق سفينة قال عنها كال بعنجهية: "إن الله نفسه لا يستطيع إغراقها" . أخطاء كارثية، مهندس السفينة اكتفى بنصف المطلوب من مراكب الإنقاذ، استجاب القبطان لطلب مضاعفة السرعة لكى يفاجئ الصحفيين بالظهور فى أمريكا، لم يحسب حساب جبل الجليد الأبيض، عملاقٌ أيضا هذا الجبل وأبيض مثل الموت.

لوازم رومانسية

كل اللوازم الرومانسية: خفة ظل، كلمات رقيقة، لمسات، قبلات، وهديتان عابرتان للزمن: لوحة عارية رسمها جاك لروز، وقلب من الألماس ينتقل من العزول الى الخطيبة الى الحبيب ليعود من جديد الى الحبيبة، القلب هو الحب نفسه وقد هزم الموت بعد كل هذه السنوات، القلب هو نقيض جبل الجليد، روز العجوز ستعيده الى المحيط فى  نهاية الفيلم ليتحقق اسمه حرفياً: "قلب المحيط".

كل اللوازم التى نجدها فى أفلام الكوارث: صروح تنهار، أصوات تصرخ، إنقاذ فى آخر لحظة، موت فى قلب الحياة، وحياة تخرج من الموت، أسوأ ما فى الإنسان من أنانية، وأفضل ما فيه من حب للآخر، وأداء للواجب، أطلال مدينة ضربها زلزال الموت، بصمة الإنسان، لمسته على لوحة أو بيانو محطم.

أما حلقات الوصل فهى مدهشة، مثل تيتانيك التى انشطرت، ينشطر الفيلم الى نصفين يتصلان "بصنعة لطافة"، النصف الأول مقدمته تنتمى الى أفلام الكوارث، الغوص للبحث عن أطلال السفينة، بدلاً من الماس يجدون الصورة، يكتشفون ماهو أغلى، الحب . يجدون صاحبة الصورة، العجوز روز، تنطلق فى الحكى ليبدأ الجزء الرومانسى حتى ظهور جبل الجليد، يتغلب جزء سينما الكوارث حتى موت جاك متجمداً ونجاة روز، ثم خاتمة رومانسية صريحة، لا تنتهى فقط ببعث الحب من قلب الموت، ولكن أيضاً ببعث السفينة وكل ركابها من جديد، وكأن السينما انتصرت أخيراً لمعنى سفينة النجاة.

تتضافر خيوط الحب والخطر، يستخدم كاميرون ببراعة الأيدى للتعبير عن المعيين سواء فى أوقات التعارف أو النشوة أو مواجهة الموت، الأيدى هنا حلقة وصل بصرية تحتاج الى دراسة خاصة، يتجادل الثابت والمتحرك ما بين الدرجة الثالثة والدرجة الأولى، جاك لن ينقذ روز من الموت فقط، ولكنه سينقذها من المنطق الصارم الذى يجعل الناس مجرد آلات، والنساء والآلات لا تمتزجان كما يعلّق أحد شخصيات الفيلم.

روز روح متمردة قادمة من أوربا القديمة لن ينقذها إلا هذا الأمريكى المغامر،ابن العالم الجديد، هو أيضاً يشعر رغم فقره بأنه "ملك العالم"، فى بداية الفيلم تقول روز تعليقاً على لوحة لفنان جديد اسمه بيكاسو: "إنها لوحة مليئة بالأحلام ولكنها تخلو من المنطق".

فيما بعد لن تعتمد روز على المنطق لإدراك أن حبيبها لم يسرق، ولن تعتمد على المنطق فى العودة الى السفينة بعد أن ركبت فعلاً قارب النجاة، ستثق أكثر فى مشاعرها  وأحاسيسها، وستثق أقل فى العقل والمنطق.

لم يصنع كاميرون فيلم "تيتانيك" باستخدام تقنية البعد الثالث كما فعل بعد ذلك فى أفاتار، ولذلك أرى أنه من الخطأ تحويل فيلم معقّد كهذا الى التقنية الجديدة. إذا كان من المقبول أن يساهم البعد الثالث فى تضخيم أهوال الكارثة، فإن استخدامه فى الأجزاء الرومانسية كان بشعاً لأنه أعطى التكوين مظهراً كوميدياً.

استخدام هذه التقنية يفصل مقدمة الصورة عن عمقها ثم يدفع هذه المقدمة الى صالة العرض بل الى عين المتفرج مباشرة، إنه يحطم تكوين الصورة تحطيماً، قد يكون ذلك مفهوما إذا كان فى مقدمة الصورة طوفاناً من المياه الغزيرة المُغرقة، ولكن التأثير يصبح كوميدياً تماماُ إذا كان فى مقدمة الصورة " قفا " ممثل أو ممثلة لأن الكاميرا أحذت اللقطة من الخلف!

فى مشاهد كثيرة كان كاميرون يتعمد أن يمر الكومبارس امام بطليه وهما يتحدثان على ظهر السفينة. باستخدام البعد الثالث، أصبح هناك جيش من المارة يعبرون داخل عيوننا، لاشك عندى أن دافع استخدام التقنية الحديثة كان تجارياً بحتاً ولا علاقة له بفهم الفيلم أو بنوعه أو مضمونه أو مغزاه، ولاشك أننى أفضّل لذلك النسخة القديمة العادية كما أرادها وابدعها مؤلفها ومخرجها الكبير.

"تيتانيك" سفينة من المواهب الرائعة التى أثبتت جدارتها فيما بعد، أريد أن أتوقف عند أصعب أدوار الفيلم فى رأييى، بيللى زان فى دور كال، صعوبة الشخصية فى أنها  بركان من الداخل يحيط به وجه من الثلج، هو طوال الوقت يحاول السيطرة على انفعالاته، إنسان بدائى يرتدى بدلة السهرة، صراعه الأهم بين عشق حقيقى لروز ورغبة عارمة فى الإمتلاك، بين روح تحاول أن تحب، ومادة تحاول أن تغضب، الحب الدفين والشر المستطير، هذا الدور لا ينجح فيه إلا مشخصاتى قدير، كنت أتوقع استمرارا ونجاحا أكبر لهذا الممثل الكبير.

المونتاج الذى حافظ على تماسك البناء العملاق، قطعات ذكية جدا بين حيوية الدرجة الثالثة وثبات وجمود الدرجة الأولى، بين براكين الصراخ المكبوتة داخل روز، ولقطة مدخنة السفينة الهائلة، الصورة الثرية بين ألوان الحب الدافئة وألوان الموت الزرقاء والبيضاء، إن مشهد الجثث المتجمدة فى المحيط  بالأبيض والأزرق والأسود، وسفينة إنقاذ تبحث عن الناجين، يستدعى بقوة صورة العالم السفلى للموتى فى الأساطير الإغريقية. فى أول ظهور لروز أمام جاك تكون الكاميرا فى زاوية منخفضة بحيث تبدو روز خلف قضبان السفينة، الموسيقى حالمة ومفزعة مع توظيف نموذجى فى الحالتين.

الحوار الذى أصبح من أيقونات سينما القرن العشرين، معنى أن تصنع أنت لحظاتك الهامة، معنى أن تأخذ الحياة كما هى ثم تضيف إليها، أهمية أن تعيش كما تريد، أن تحلم، أن تحس لا أن تفكر فقط، ألا تخشى أى شئ لأنك لا تمتلك أى شئ.

"تيتانك" فى نجاحه المتواصل (تكلف حوالى 200 مليون دولار وحقق إيرادات عالمية تقترب من ثلاثة مليارات دولار) يعبّر عن تقدير مستحق لامتزاج الحرفة والموهبة معاً، أراه ترجمة لانتصار الإنسان للمشاعر النبيلة. صغيرٌ هو حقاً ذلك الإنسان أمام الطبيعة وأمام الكوارث، ولكنها عملاقٌ حقاً بالحب، ضعيفٌ جداً بميزان الجسد، وقوى جداً بمعيار القلب.

"تيتانك" ليس فيلماً عادياً، ولكنه ملحمة حديثة، عظيمة ومُلهمة، عن الحب والموت.

عين على السينما في

06/04/2012

 

بنسعيدي يقرأ شعراً درويشياً والجائزة الكبرى لفيلمه

تطوان (المغرب) - فجر يعقوب

 

شهد يوم السبت الماضي حفل اختتام مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط (24 – 31 آذار 2012)، في صالة «أفينيدا» وسط المدينة الواقعة شمال المغرب، بعد تغيير ملحوظ في مكان حفل افتتاح واختتام المهرجان المتوسطي بعد أن كانت فاعلياته تدور في سينما «إسبانيول». واذا كان تبديل مكان الحفل يشير إلى مشكلة خاصة بالصالات السينمائية التي كانت مهددة في العام الماضي على الأقل بالتوقف عن العروض، إلا أن انطلاق فاعليات هذه الدورة من هذا المكان بالذات، يبعد شبح التوقف ويزيد في عمر المهرجان بعد أن أصبح يمتلك هوية واضحة تسمح بأن يواصل دوره السينمائي المتوسطي في الاختيار والترشيح لسينمات تشهد نهوضاً بعد طول تعثر.

واذا كانت الجائزتان الكبريان عن فئتي الأفلام الطويلة والوثائقية قد ذهبت إلى البلد المضيف عن فيلمي «موت للبيع» للمخرج فوزي بنسعيدي و «أرضي» للمخرج نبيل عيوش، فيما ذهبت جائزة الفليم القصير إلى التونسية ليلى بوزيد عن فيلمها (مخبى في قبة)، فإن هذا لا يقلل البتة من أهمية الفيلمين، اللذين رأى فيهما النقاد والجمهور على حد سواء حالة سينمائية مغربية متقدمة، بخاصة أن جمهور تطوان أيضاً منح جائزة الجمهور لفيلم «أياد خشنة» للمخرج المغربي محمد العسلي (راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة).

يحكي فيلم «موت للبيع»، والذي صور في مدينة تطوان نفسها، قصة ثلاثة شبان تربطهم علاقة صداقة متينة ويقومون بالتعيش على السرقة، حتى يقرروا يوماً سرقة محل للمجوهرات والمصاغ الذهبي، إلا أنهم يختلفون على المبررات والدوافع التي تودي بهم إلى هنا. وكأن فوزي بنسعيدي هنا يقدم قراءة فلسفية في الإحالات التي تقف وراء سلوكهم، ما يعني أن صراع المصالح هنا لا يعود مسألة ثانوية في سياق الحكاية، وهو ما دفع المخرج إلى تأكيد أن شيوع الرغبة بصفتها غريزة متقدمة قد تسمح بالقضاء على أصحابها ببساطة مطلقة، وإن شاب تفكيك هذه العلاقة نوع من التعقيد، فإن هذا يجيء ليؤكد اللغة السينمائية المتفردة التي اشتغل عليها بنسعيدي في فيلم جميل حظي بإيقاع رشيق وإجماع لجنة التحكيم برئاسة الأميركي بيتر سكارليت. وربما دفعت لحظة التتويج بنسعيدي إلى قراءة مقطع مؤثر من قصيدة محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، متمنياً على الجمهور المغربي إشهار علاقته بسلطة الفن والشعر والسينما والجمال.

شريط ذكيّ عن فلسطين

وفي فئة الفيلم الوثائقي قدّم المخرج المغربي نبيل عيوش فيلماً ذكياً عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومن موقعه الذي يحتل هنا خصوصية شديدة الأهمية بالنسبة لمخرج ولد لأب مغربي مسلم وأم يهودية تونسية دفعت إلى مناداته طويلاً باسم (ابن اليهودية)، وهو ما ترك تأثيراً عاطفياً ونفسياً فيه وحفر طويلاً في مخيلته. وهو يروي لنا هذا في مقدمة الفيلم حين قرر أن يعرض معاناة الفلسطينيين على الجيل الإسرائيلي الجديد، الذي بدأ يحتفظ لنفسه (وجودياً على الأقل من خلال النماذج التي عرضها علينا الفيلم) بمسافة واضحة بينه وبين الآباء المؤسسين للدولة الإسرائيلية. فهنا في «أرضي» وبالتوازي مع معاناة اللاجئين الفلسطينيين في مخيّم عين الحلوة القريب من مدينة صيدا اللبنانية، يمكن المشاهد المدقق، أن يكتشف تحولاً ملحوظاً في هذه العلاقة، فنحن نقف أمام جيل جديد متردد بدأ بطرح أسئلة عن مغزى وجوده في أرض ربما لم تكن يوماً هي أرض الأجداد، لا بل إنه أصبح ملزماً بإعادة تفكيك وقراءة هذه العلاقة من جديد.

فيلم عيوش، فيلم مراوغ وذكي. وهو موجّه إلى جمهور ذكي لم يكن ممكناً الاقتراب منه سوى بإماطة اللثام عن تيمة ما زالت تشكل لدى البعض ارتياباً لمجرد الالتفات إليها، ولكن «ابن اليهودية» فعلها وذكّر بأن هناك أناساً ما زالوا يعيشون في العتمة منذ أكثر من ستة عقود، ويراهنون بصفاء البصيرة على إمكانية أن يقوم الجيل الجديد في دولة إسرائيل بعمل انقلاب في الذهاب إلى المفاهيم والعودة منها بما يتصل بموضوعة الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في الأرض التاريخية التي يكون فيها «ما يستحق الحياة» فعلاً كما قرأ علينا بنسعيدي، وكأن ثمة تناغماً غير مقصود البتة بأن يكون هنا لحظة توزيع الجوائز فاصل تاريخي هو النقطة التي سيقف عندها الجميع لحظة تقويم مثل هذا الفيلم.

جوائز وتكريمات للممثلين

وحصلت الممثلة المغربية هدى الريحاني على جائزة أحسن ممثلة عن دورها في فيلم «أياد خشنة» للمخرج محمد العسلي فيما ذهبت جائزة أحسن دور رجالي إلى الممثل الإيطالي راد سيبيجيدا عن فيلم «أنا هنا» للمخرج الإيطالي أندريه سيجري، وهو الفيلم الذي حصد أيضاً جائزة عز الدين مدور، فيما ذهبت جائزة لجنة التحكيم إلى الفيلم الصربي «العدو» لمخرجه ديجان زيشــيفيك. وأمــا في فئة الفيلم القصير فقد حصل الفيلم التونسي «مخبى في قبة» للتونسية ليلى بوزيد على الجائزة الكبرى وحاز فيلم «الطريق إلى الجنة» على جائزة الابتكار. وأما في فئة الوثائقي فقد حصل الفيلم الوثائقي «مرمرة تحت النيران» للمخرج الإســـباني ديفيد سيكارا على جائزة لجنة التحكيم. وشهد حفل الاختتام، إضافة إلى توزيع الجوائز، تكريم الممثل المغربي محمد مجد والممثل التونسي هشام رستم والممثل المــصري كــريم عبدالعزيز.

الحياة اللندنية في

06/04/2012

 

الصفاء رغم القسوة... من مخرج مثير للسجال

الرباط - مبارك حسني 

ككل فيلم يأتي بعد نجاح الفيلم الأول، كان عمل محمد العسلي الأخير منتظراً بشغف الفضول العام وتساؤل السينمائي المهتمّ. ليس لأن النجاح الأول كان جماهيرياً، بل لأنه كان فنياً في الدرجة الأولى. فـ «الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء» الفيلم الأول للعسلي، شكل حدثاً إبداعياً مهماً ومفاجأة سينمائية في حينه. وذلك وفق مقاييس ثلاثة في رأينا: الذكاء والإبداع والمحلية المتألقة. وها هي المقاييس نفسها تتجلى عبر «أياد خشنة» فيلم العسلي الثاني، والكل تقريباً اتفق على ذلك. 

في المقام الأول لا يبدو الذكاء هنا معياراً للتفوق، ولكن علامة على القدرة على مراعاة ذكاء المتفرج. فالموضوع المختار هو من صميم معيش الإنسان بعامة والمغربي بخاصة. في انحداره الإجباري كما في لحظات سعادته الصغيرة، في الواقع المتعدد المبهم كما في الأحلام والطموحات للخروج من الدوامات المختلفة. الإنسان وهو يرى طيبوبته ومعدنه الأصلي في محك النوازع والأهواء والشرور. وهنا الأمثلة الأساسية تتمثل في طموح معلمة الروضة التي تود ملاقاة خطيبها المهاجر فتداهن للحصول على وثائق ثبوتية مزورة وتخشّن يديها كي تتمكن من العمل في حقول إسبانيا. ورغبة الحلاق الجار في توطيد كيانه الاعتباري وخلق سلطة صغيرة مؤثرة في محيطة الشعبي البسيط، بمحاباة زبائنه من علية القوم الذين يصفف لهم شعورهم ويجملهم، مساعداً في ذلك من طرف زميل له يقلم أظافرهم. حول هذه الشخوص وأخرى من النخبة أو من بسطاء القوم يعمل الفيلم على تقديم واقع إنساني قوي في واقعيته «الفجة» لكن الحقيقية، لأن المخرج لم يشأ التلوين والتزويق في رسم الشخوص وتقديمها، بل رسمها عارية كما هي إلا من مُمْكناتها المحدودة، وفضل البحث عن مواضيع من التي توجد بملايين المرات بعدد الساكنة البسيطة المطحونة. محمد العسلي يتجاوز خطّاً سينمائياً مألوفاً يسعى إلى التميز بخلق شخصيات مفارقة وإن لم تكن مغربية المحتد والطابع. ومن هنا الحديث عن احترامه ذكاء المتفرج بدل خداعه بتقديم صور نخبوية لا غير أو تيمات نخبوية أيضاً قد ترضي القلة المؤثرة ولا ترضي الكثرة التي تعول القلة.

بانوراما متأنية 

وللنجاح في إيصال هذه الحيوات والأقدار التي تجاهد كي تخرج من عنق زجاجة الواقع المدمر، وتلك الحيوات الأخرى التي تسعى إلى النهل والخطف وتحقيق الذات عبر التدمير وإن عن لاوعي، ارتأى المخرج تأكيد خياره السينمائي الأول. أي توظيف بعض مزايا سينما الواقعية الإيطالية، مع نزوع ملحوظ إلى السينما التسجيلية، من دون مغامرة شكلية أو «عشق للصورة الخالصة». فالفنية هنا تلتزم بالمقاربة الصورية «العارية» المختصرة لكن التي تمت صناعة اختصارها بدقة كي تبلغ المراد. ولقد أتى هذا كله عبر تكرار لقطات البانوراما المتأنية الجميلة والموحية بعمق بما تحويه، وتوخي الإيقاع المساير للسرد في سلاسة عفوية، والمزج المتحكم فيه بين الحوارات المقتضبة القليلة والموسيقى المناسبة، وتوالي الوقائع وفق منطق داخلي غير مقحم، وإدارة مقتدرة للممثلين الذين تم اختيارهم بذكاء. لقد بدا واضحاً هنا أن ممثلي الفيلم الرئيسيين الثلاثة، محمد بسطاوي وهدى الريحاني وعبدالصمد مفتاح الخير، يشكلون أبرز عناصر ريبرتوار التشخيص الفني الأكثر تعدداً في أدواره، وهم معاً من طينة من يؤِدي الشخصية إلى حدود استبطانها، بخاصة في حكايات الناس البسطاء. وإذ تضاف إليهم الرائدة أمينة رشيد التاي، مثلت على مدى عقود طويلة دور المرأة البورجوازية الأرستوقراطية، يبدو جلياً أن المخرج اختارهم لأنه شاهدهم من قبل، ومن خلال المعروف عن عملهم، فارتسم الدور على الممثل بطلاقة ظاهرة. كما لو أن «الكاستينغ» صمم من المشاهدة القبلية وليس من السيناريو، أو أن السيناريو سهّل اختيار الشخصيات المغربية المعروفة في الدراما وفي السينما المنتجين منذ عقود.

محلية متألقة

أما عنصر الإبداع الإضافي في الفيلم فيتجلى كذلك في الصورة العامة المقدمة. صورة سينما لا تريد أن تفجر الفن ولا تريد أن تنتج فيلماً فيه سبق ما. كما أنها ليست صورة تمنح سينما تروي قصصاً وتكتفي هي بتصويرها فقط. السينما هنا لدى محمد العسلي تحقق التوازن المطلوب ما بين المحكي والمرئي. كلاهما يشكل الكل المؤثر. وطبيعة المواضيع هي التي فرضت الأمور في هذا الشكل. أن تحكي عن أعطاب بلد ومجتمع تتنازعه شتى السلوكات وشتى الأيديولوجيات، بلد يحاول أن يعيش أفراده ميزات العصر الحضاري الحالي كما لا ينفكون يحرصون على ثوابت أخلاقية وممارسات وعادات متأصلة، المعطى الحضاري الآخر الموروث. نعم، قد تبدو الصورة قاتمة وقاسية ومبالغاً فيها، لكن ديدن الفن السابع أن يُثور لا أن يداهن. وهو في فيلم «أياد خشنة» منتصر لأنه قدم قطعاً بليغة مؤثرة، مليئة بالشحن العاطفي اللازم، وإن بدت مقلقة ومحيرة ومشاكسة للهناء العام. «أياد خشنة» فيلم فيه قصص مغربية محلية محكية بقدرات سينمائية عالمية. السينما هنا لم تضطر إلى النهل من خارج ضفاف البحر والمحيط، ولا من وثائق خارجية فيها محاباة أو اقتناص لفكرة، ولا من مواضيع مملاة. وفي علامة حضرية تشترك مع العلم في حداثتها المتوحشة، بدت مدينة الدار البيضاء المتعملقة بالحجر والإسمنت والزحام والعنف، والتي تشهد على انهيار علاماتها الثقافية الموروثة لتصير ميداناً لانهائياً لقسوة العيش، بدت مدينة منازلها مثل الأقفاص المعلقة جوار السطوح المترامية في اللقطة الموحية التي يبدأ بها الشريط في إشارة دالة ومعبرة.

قدم محمد العسلي المعطى الاجتماعي المغربي بفضح اختلالاته، وقدم الممارسات الشائنة الشائعة فيه من تسلط ونفاق ومداهنة ووصولية وانتهازية واستغلال في طبقاته الميسورة والفقيرة كافة سواء بسواء، حيث الكل شريك في وضع غير مريح. وقدم صورة كئيبة على رغم جمالها الفني. وهنا لا بد من الإشارة إلى الظرفية التي خرج فيها الفيلم. نعرف جميعاً ومنذ الفيلم الأول، أن المخرج محمد العسلي ليس مخرجاً عادياً يكتفي بإبداع الأفلام. هو مخرج منخرط بقوة في الجدال العام الذي يعرفه المغرب من أكثر من عقد من الزمن. وله في ذلك تدخلات وأراء لا تتوافق مع أراء عدد من المخرجين وصناع السينما في البلد المعروفين، والدليل في ذلك كلامه والجدل الذي أحدثه حول فيلم «ماروك» لليلى المراكشي (أين هي الآن؟) قبل سنوات. السينما لديه «يجب أن تكون مغربية بوصفات محلية وعالمية فعلاً». ولكن حين تتجرد من التوجيه كيفما كان ومن أية جهة، وحين ترحب بشريطه هذا، شخصيات مؤثرة محسوبة على التيار المحافظ أمر مستحب ويستحق الانتباه... لكننا نود الإشارة في الوقت ذاته إلى أننا لا نحبذ كثيراً أن يتم زج الفيلم في خانة أفلام ما ضداً على الأفلام التي يخرجها مخرجون آخرون جريئون بطريقتهم الخاصة. نحب السينما الجميلة الكبيرة كما يبديها لنا شريط «أياد خشنة» وكل شريط يعلي من شأن الفن والإبداع كيفما كان طابعه.

الحياة اللندنية في

06/04/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)