حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ستيليوس كولوغلو:

ما الهدف من أن نصبح كلنا ألماناً؟

هوفيك حبشيان

في عداد الأفلام التي صارحتنا عن الزمن اليوناني الصعب في مهرجان تسالونيك، لم يكن من الممكن التغاضي عن الوثائقي "أوليغارشية" (100 دقيقة) لليوناني ستيليوس كولوغلو، الرجل الذي تنقل من عاصمة الى أخرى لمحاولة فهم خطط الطغمة الاقتصادية التي تحكم العالم سراً وعبر قنوات السياسة الضيقة. بالنسبة اليه، اليونان ضحية تحويل العالم غابة للبيع والشراء حيث الانسان ليس الا رمية نرد على طاولة مصالح الشركات الكبرى، ولا صوت يعلو فوق صوت ديكتاتورية الأسواق العالمية. بتقنية بالغة الدقة في تعرية دورتي الاقتصاد والسياسة، يجعل كولوغلو من بلاده رمزاً ميثولوجياً لصراعات مالية قمعية انتهازية يذهب ضحيتها المواطن الذي لا يقوى على شيء سوى الانتظار غير المجدي. اليكم دعوة الى التمرد على "سيستام" مالي لا يخجل من شيء.     

·         ما الذي جعلك ترى في الأزمة الاقتصادية فيلماً وثائقياً؟

ـــ هذه الأزمة، أنا مقيم فيها ومعها. كل يوم تقريباً ارى أناساً يتألمون جراء وقوعها. أسكن في وسط مدينة أثينا وهناك من الممكن رؤية مظاهر الفقر. هذه أشياء لم نكن نراها قبل ثلاثة أعوام. هذا لا يثير الغبطة عندي. كنتُ اريد ايضاً ان يعرف الناس لماذا حصل ما حصل

·         مقاربتك في هذا الفيلم صحافية استقصائية أكثر منها انفعالية او عاطفية، اذ انك تعود الى جذور المشكلة...

ـــ هناك سببان خلف خياري هذا. أولاً، لا يفهم اليونانيون ماذا حلّ بهم، لذلك تراهم يلجأون الى نظريات المؤامرة. بالنسبة إليَّ، لم يكن ممكناً فهم المعضلة اليونانية من دون العودة الى التاريخ. فأردتُ أن يطلعوا على المشكلة باعتبارها ظاهرة سياسية وايديولوجية. الأمر الثاني انني اردتُ ان اصارح الجمهور الأجنبي بالظلم الذي تعرضنا له في بعض وسائل الاعلام الأوروبية. أنا لا ادافع هنا عن الساسة الاغريق لأنهم فاسدون، لكن هل يمكن أن نطلق على شعب بأكمله صفة "الكسول"؟ هكذا تمّ وصفنا! حتى بعد الحرب العالمية الثانية لم نتعرض لمثل هذه الحملة المسعورة ضدنا. نحن في هذه المسألة "يهود" القرن الحادي والعشرين.

·         نعود الى صراع دافيد وغوليات. أنتم الطرف الأضعف أمام الجشع المالي الذي عند المصارف الاستثمارية الكبيرة. هناك ايضاً هذا الصراع بين قارتين، واحدة قديمة وأخرى جديدة

ــ من خلال استعارة الماتروشكا الروسية، أردتُ اظهار الجانب الخفيّ للموضوع. الحقيقة لا تصل الى الناس لأن مَن يدير الاقتصاد هم أنفسهم الذين يموّلون وسائل الاعلام. هذه هي الأوليغارشية، وبعض السياسيين هم في خدمة الهيمنة الاقتصادية. منذ وقوعنا في الأزمة، حاول الآخرون ودائماً تحت أقنعة الديموقراطية، أن يطعنوا في سيادتنا. طبعاً، أنا لا ادافع هنا، لا عن باباندريو ولا عن برلوسكوني، لكن هل من الجائز أن نستبدلهما بأصحاب مصارف يأتون من خلف الأطلسي؟ كل قرار سياسي اليوم بات يؤخذ تحت مظلمة السوق والأرباح التي تدرها (بغضب وسخرية). السوق حلت مكان الآلهة الاغريقية. لسبب أجهله تماماً، بات من المستحيل على الانسان العادي أن يعيش حياة كريمة

·         في كل حال، لم تكن رحوماً مع انجيلا ميركل، فجزء كبير من هجومك كان ضدها...

ـــ لم تتصرف ميركل كسيدة دولة. كونها رئيسة الاتحاد الاوروبي فعليها أن تفكر في مستقبل أوروبا. ليس عليها أن تهتم بنتائج الانتخابات في منطقة فيديرالية في ألمانيا. هي دائماً ترى الأمور من زاوية ضيقة. هذا السلوك لا يؤسس لاتحاد أوروبي. ميركل كذبت على الناس. قالت لهم إن على الاغريق والبرتغاليين والاسبان ان يعملوا بقدر ما يعمل الألمان، وانه يجب رفع سن التقاعد في هذه البلدان، وكلامها هذا غير صحيح لأن الأرقام تقول اننا نعمل أكثر من الألمان ونقبض أقل منهم

·         طيب، هل ينبغي لأوروبا أن تتوحد ثقافياً وأن يكون هناك نمط عيش واحد. هل اليوناني مهيأ بيولوجياً ليعيش مثلما يعيش الأسوجي مثلاً؟

ـــ أنت محق. أوروبا غنية بتنوعها الثقافي وهويتها المتنوعة. هناك البروتستانتية المتمثلة في الطاعة والدقة والتنظيم الصارم، وهناك البرتغاليون الذين يؤمنون بأن مصيرهم هو الغناء وهناك شعوب تميل الى الفوضى كالاغريق والايطاليين، لكن كيف لنا أن ننسى أن النهضة الثقافية في اوروبا كانت مركزها ايطاليا. ايطاليا مختبر للثقافة الاوروبية بأكملها. لا يُمكن التعامل معهم كما لو كانوا حثالة. ما الهدف من أن نصبح كلنا ألماناً؟ هذا سخيف حتى من وجهة نظر اقتصادية. اذا بدأنا كلنا في تصدير المنتوجات نفسها، مَن منا سيستورد من عند الآخر؟ لو بدأ الكلّ في صناعة سيارات ألمانية، من سيشتري سياراتهم؟ ألمانيا هي أكثر بلد استغل تحول العملة الى أورو وربحت من وقوع الأزمة الاقتصادية أموالاً طائلة تقدَّر، بحسب الاحصاءات الألمانية، بـ46 مليار أورو. لذا، تراهم لا يحاولون ايجاد حل للأزمة، بل كل ما يفعلون هو استيعابها. هذا سبب غضبي من الألمان

·         على الرغم من ذلك، لا نراك غاضباً في الفيلم، بل تدير النقاشات وكأنك تتسلى...

ـــ أحاول الا آخذ الأمور بجدية فأحولها نكتة. أحاول أن أرسم ابتسامة صغيرة على وجه المشاهد، برغم كل شيء. والا سأضطر الى أن أفجر نفسي. لكنني لستُ انتحارياً. نضالي اريده سلمياً ومتحضراً، أراه أكثر مفيداً من الانجرار الى العنف

·         ذهابك الى الصحيفة الألمانية "بيلد" لمواجهة صحافيين تجنوا على الشعب اليوناني ذكّرني بنمط اشتهر به مايكل مور...

- (ضحك). نعم، اعتقد ذلك، لكني فعلتها بصدق. ظللت على مدار عام اطلب مقابلة مع أحد الصحافيين العاملين في احدى هذه الصحف الألمانية التي أقدمت على تحقيرنا، لكن رُفض طلبي. تخيل أن اسبوعية "فوكوس" نشرت صورة لأفروديت ترفع اصبعها الوسطى

·         استعنت بالكثير من الأرشيف أيضاً...

ـــ كان عندي كمية غير معقولة من الأرشيف. كان يمكنني أن أصنع مسلسلاً. النسخة الاولى من الفيلم بلغ طولها ثلاث ساعات. الكل بدأ يخاف ويقول لي "مَن سيشاهد فيلماً عن الأزمة بهذا الطول؟". كان شيئاً مؤلماً أن اختار ما سأقطعه. لكني اعتقد اننا استقررنا على طول منطقي، لأن الأهم بالنسبة إليَّ كان عدم ارهاق المشاهد. كنت اريده ان يستمتع لتصل اليه الرسالة بشكل أوضح

·         ألم تطلب مقابلة مع القائمين على "غولدمان ساكس"، المصرف الأميركي المعروف الذي تتهمه بتوريطكم في الديون؟

ـــ طبعاً، لكن لم يقبلوا. في المقابل، طلبوا مني أن ارسل اليهم نسخة من الفيلم فور انتهائي من انجازه (ضحك).

·         يا لها من وقاحة! في كم بلد صورت؟

ــــ صوّرتُ في بوليفيا والاكوادور وألمانيا وفرنسا والبرتغال واليونان واسبانيا

·         والولايات المتحدة؟

ـــ لستُ أنا مَن ذهب الى الولايات المتحدة للتصوير، بل فريق تابع لي. عندي مشكلة هناك وهي عدم تمكني من الحصول على تأشيرة. كنتُ صورت في أميركا فيلماً يبدو انه لم يرق للسلطات الأميركية. هذا الوثائقي كان اقتباساً لكتاب جون بركينز "اعترافات هيتمان اقتصادي". ذهبتُ برفقته الى الاكوادور حيث كانت أسندت اليه مهمة اغتيال الرئيس الاكوادوري في الثمانينات، ونظمنا مجلساً حيث طلبنا منه ان يعتذر من الشعب الاكوادوري. الفيلم نال نجاحاً كبيراً هنا في تسالونيك، وحاز جائزتين دوليتين. حتى انه عُرض في الصالات الأميركية، لكن يبدو انه أغضب بعض المسؤولين الأميركيين فرفضوا منحي تأشيرة. هذه هي العقلية الأميركية السخيفة التي تستمر حتى في عهد أوباما

النهار اللبنانية في

22/03/2012

 

"تحرير" المواطن و"تحرير" المتفرج:

ستيفانو سافونا لا يريد اسقاط الشعب!

هوفيك حبشيان 

أنماط عدة سادت هذا العام ضمن تشكيلة الأفلام الوثائقية المختارة في مهرجان تسالونيك (9 – 18 الجاري). لكن أكثر التوجهات وضوحاً وتأثيراً كان ذوبان الوثائقي في كلمات الروائي. ثمة تماهٍ بينهما يحلو لنا التعريف عنه باعتباره حواراً، بين الواقع والخيال، بين الخلق والتسجيل. على صعيد المضمون، بدت الهجرة غير الشرعية أحد أكثر المواضيع اثارة لقلق السينمائيين الذين أعطوا صورة جد سلبية عن عالمنا، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً.

يبقى هاجس الساعة: كيف نصور الحركات الشعبية التي ولدت من عمق الهوة بين الناس والأنظمة؟ وما الطريقة لانتشال تلك الصور من الشبكة العنكبوتية الى فضاء السينما الرحب، كي نرتقي بصورة الناس؟ "تحرير" لستيفانو سافونا يأتينا بأحد أهم الاقتراحات في كيفية تصوير الثورة، من خلال التجربة المصرية.

أفضل فيلم عن الثورة القاهرية الى الآن، لم ينجزه ابن النيل، بل جاء بتوقيع مخرج ايطالي شاب يدعى ستيفانو سافونا في شريط سمّاه ببساطة شديدة "تحرير". هذا لا يفاجئ مَن يعرف جيداً طبيعة السينما المصرية وتاريخها: انها سينما مشبعة بسيل من الأحاسيس وتستقطب شتى انماط الميلودرامات الى عقر دارها. فكيف بها اذا كانت "متورطة" حتى النخاع في مشروع تغيير بلد بأكمله واسقاط نظام بكل رموزه. أن تفيض السينما بالأحاسيس ليس انتقاصاً اذا كان الظرف الذي وُضع قبالة الكاميرا ظرفاً عاديّاً، لكن تصوير حركة شعبية مماثلة يحتاج الى أكثر من حماسة وشعار ورفع قبضة اليد الى الاعالي. وربما يحتاج ايضاً الى سينمائي لم يكن ينتظر لسنوات تلك اللحظة. سافونا لا يريد شيئاً من الثورة. بل هو لا يريد شيئاً من "هذه" الثورة، ولا من اي ثورة أخرى. هي، في كل حال، ليست ثورته وقضيته، لذا يعرف كيف يصورها ويعطيها وجهاً انسانياً، شخصانياً، ربما يكون اروع وجه اعطي لها الى الآن، بعيداً من مزايدات السينمائيين العرب

عوّدنا التلفزيون ومن بعده الانترنت على الأسوأ: الا نرى في حدث مماثل سوى اعداد واحصائيات. كل شيء يدور حول الرقم، بل الأرقام. ساحة مقابل ساحة، كاميرا مقابل أخرى، خبر عاجل مقابل آخر أكثر استعجالاً. والكادر التلفزيوني لا يرتاح الا أمام اللقطة البانورامية للجموع والمشاركين، ليتحول فيها المواطن مجرد "بيكسل" في صورة. "تحرير" شيء آخر. هذا فيلم يقتحم ميدان التحرير بطوله وعرضه. يتعرف الى الناس الذين لا نراهم عادة على شاشات التلفزيون لانشغالها بنقل الحدث وليس بمقاربة الافكار. يرافقهم الى أحلامهم الصغيرة والكبيرة. يكاد يمسح العرق من جبينهم. يلتقط ذلك اللمعان في العين. وتلك الدهشة الآنية العابرة التي تتبدد أمام دهشة ثانية. هنا أهمية فيلم كهذا، الذي يكرس مقولة غودار "التلفزيون يُشاهَد برأس خفيض، أما السينما فيجب أن ترفع رأسك لترى".

ما يضعه سافونا هدفاً له هو كيف يمكن النظرة الحميمية ان تتولد في وسط هذا الحشد؟ وما نسبة أن ينتصر التفصيل وسط انعدام التفاصيل، وفي ظلّ محو ما يفرّق لمصلحة ما يجمع؟ سؤال أخير: كيف يُمكن لشريط أن يفقد علاقته بالمساحة؟ هذا فيلم بلا جدران أو سماء. الأرض عبارة عن جانب من رصيف يحطمه المتظاهرون ليرشقوا به رجال الأمن. من القاهرة لا نرى شيئاً، لكن كل سحر الفيلم يأتي من كونها تبقى خارج الاطار السمعي البصري. لا جدران ولا ساحات ولا أزقة. سوى "كلوزات" على وجوه نقرأ عليها تواريخ وتجارب من المعاناة المصرية التي طالت. لكن، يعرف سافونا اننا لسنا في الصحراء. وان السراب يمكن أن يبقى سراباً حتى اذا اقتربنا منه

مع ذلك، يواصل تصوير شخوص من كل الطبقات والألوان والأعمار بلا عقد أو حسابات. من هذا يستمد حريته، فيأخذ عنوان الفيلم تالياً معنىً مزدوجاً: تحرير شعب من قبضة السلطة، وتحرير المتفرج من كليشيهات التلفزيونات التي تقف عاجزة وغير قادرة على نقل هموم الناس وقهرهم، آمالهم وسعيهم الى الأفضل. مناخ الحرية هذا، نجده في الفيلم منذ لقطة الافتتاحية: شاب يخرج من اللامكان ويشق طريقه في اتجاه ميدان التحرير. لماذا هو؟ لمَ لا، بما انه ما من وجه يُمكن أن يُستبدل بآخر. وما من حكاية أجمل من حكاية أخرى

الحكايات، بين العام والخاص، كثيرة هنا في ميدان التحرير، وهي تُروى على وقع أصوات القنابل المسيلة للدموع أو رصاص القناصة، وأيضاً على وقع الأغاني، وبعض هذه الأغاني هي اصلاً حكايات. "ارحل ارحل يا عجوز، انت من جيش المجوس"، يردد بعض المتظاهرين، قبل ان يأتيهم الردّ من هليكوبتر تحلق في السماء. المدينة ليست الشيء الوحيد الذي يبقى خارج الاطار، هناك ايضاً مَن يخطط لها مصائر شيطانية، في العتمة والظلام الحالك. هؤلاء (الإخوان والسلفيون) لا يظهرون ولا يُمنَحون حقّ الكلام، فنتعرف اليهم على ألسنة طلبة وشباب يتمسكون بآخر بصيص آمل برغم ادراكهم المبكر ان المعركة لن تنتهي حتماً مع تنحي حسني مبارك، وان مصر جديدة لن تولد في الضرورة عند رحيله.

لا شكّ ان سافونا سينيفيليّ يخرج من جبّ السينما الايطالية. فالفيلم ايطاليّ في كيفية تشكيل الكادرات وتحويل لحظة قسوة الى عطف وحنان. أجمل اثر عن حال الاختناق التي نشعر بها في جولتنا من وجه الى وجه، يصدر من أحدهم يقول: "ميدان التحرير يفتح أبواب مصر". ولا يُمكن سماع أجمل من شهادة ذلك الرجل البالغ الثانية والستين، الذي لا يخفي استعداده في أن يموت. هذا الأخير يروي أنه كلما عاد الى البيت مساء، شعر انه سيختنق فيعود الى الميدان. بالنسبة الى هؤلاء "التحرير هو دا الوطن". يتطرق الفيلم الى لحظات أشبه بالمفاتيح من تلك الثورة: نقاش عن القوانين والدستور والفصل بين السلطات، مواجهة مع البلطجية، الاحتفال المتواصل على مدار الساعة، الخ

طبعاً، على هذا كله أن ينتهي في عرس وطني، فور اعلان مبارك تنحيه، فتغمر وجوه مجهولة كاميرا سافونا ويتحول المفعول به الى فاعل. صوته وصل وصورته انكشفت على العلن، لكن في غضون ذلك ارتقى من متفرج بسيط على مصيره الى متفرج على مصير مبارك. في ساعة الحسم، انه كمُشاهد الأزمنة الغابرة، أيام سينما باراديزو والعروض في الهواء الطلق. طوال ساعة ونصف الساعة يحشرنا سافونا مع شخصيات قريبة جداً من قلوبنا، مؤكداً أن السينما، وإن اهتمت بمصير الافراد، بيد انها لا تريد اسقاط الشعوب.

النهار اللبنانية في

22/03/2012

 

«شاشات الواقع 8» في سينما «متروبوليس»

حفريات في غليانات فردية وصدامات جماعية

نديم جرجورة 

تبدأ العروض السينمائية الخاصّة بالدورة الثامنة مساء الاثنين المقبل. «شاشات الواقع» باتت جزءاً من المشهد السينمائي اللبناني. باتت حالة ثقافية تمزج السينمائيّ بالإنساني. الأفلام المختارة مرايا أناس ومجتمعات ودول. مرايا حكايات لا تنضب عن أناس ومجتمعات ودول. الثامنة مساء الاثنين المقبل، تُفتَتح الدورة الجديدة هذه، التي يُنظّمها «المركز الفرنسي في لبنان» بالتعاون مع «جمعية متروبوليس»، بفيلم مثير للانتباه: «هنا نُغرق الجزائريين، 17 تشرين الأول 1961» للجزائرية الفرنسية ياسمين عدي. يُحيل العنوان إلى حادثة دموية عنيفة، «أبطالها» فرنسيو سلطة متمسّكة باحتلال بلد، و«ضحاياها» جزائريون وجدوا في جغرافيا البلد الذي يحتلّ وطنهم ملاذاً. اختيار هذا الفيلم في هذه اللحظة مُبرَّر. أو هكذا يُخيّل إليّ. فالعام 2012 هو عام الاحتفال بالعيد الخمسين لاستقلال الجزائر. عام الاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على نهاية احتلال، وبداية ما يُفترض به أن يكون استقلالاً. المناسبة جديرة بالتأمّل الإنساني. بنبش الماضي. بفتح القبور المغلقة على جرائم وعنف

متاهات

غير أن هذا الماضي الأسود لن يكون حكراً على المحتلّ الفرنسي وأفعاله المُشينة. هذا ما تحتاج إليه الذاكرة الجماعية، على الرغم من أن الراهن حكرٌ على إضاءة الفعل الجرمي للمحتلّ الفرنسيّ. المفارقة كامنةٌ في أن فرنسيين عديدين «متورّطون» في هذا التفتيش الدقيق، أكاديمياً وعلمياً في الدرجة الأولى، عن جذور الجريمة، وحكاياتها المتنوّعة. الفرنسيون أولاً، والجزائريون أيضاً. فيلم ياسمين عدي لا يخرج على هذا الإطار. أحداث جرت، وما على المهتمّ أو المعنيّ بالأمر إلاّ أن يغوص بعيداً في أعماق الحكايات المدفونة هنا وهناك. أحداث جرت، وما على المبدعين في الفن والأدب وغيرهما إلاّ أن يذهبوا إلى المتاهات المخفية، والقصص المنثورة على جنبات الدرب الطويل من التحدّيات القاتلة. ياسمين عدي قامت بما اعتبرته جزءاً من التزام إنساني طلبته لنفسها: كأن التاريخ بات جاهزاً للبوح بمكنوناته، سواء أكانت المكنونات دموية أم سلمية.

هناك قصصٌ عدة حول الحادثة الدموية التي ارتكبها رجال الشرطة الفرنسية في السابع عشر من تشرين الأول 1961، أي قبل أقلّ من عام واحد على «الاستقلال الجزائري»، المُعلن في الخامس من تموز 1962. في ذلك اليوم، أي في ظلّ احتدام المعارك بين الجانبين الفرنسي والجزائري، فرضت الشرطة الباريسية منعاً للتجوّل على الجزائريين المقيمين في العاصمة الفرنسية، في محاولة للحدّ من تحرّكهم الهادف إلى الضغط على السلطة المحتلّة. لكن هؤلاء الجزائريين قرّروا المضي في تحرّكاتهم. اختاروا الفعل السلميّ. واجهوا وحشية رجال الأمن الفرنسيين بما امتلكوه من قناعة بأن الحراك السلميّ طريق أكيدة إلى تحقيق الأحلام. ازداد التوتّر. ازداد عنف الصدام بين رجال مدجّجين بالأسلحة، ومقيمين في بلدهم، ومدعومين من سلطة سياسية وجزء أساسي من المجتمع، ورجال مدجّجين بإيمان مطلق بحقّهم في استقلال بلدهم عن المحتلّ.

زارت ياسمين عدي أقارب أناس لقوا حتفهم في تلك الحادثة الدموية. أقارب أناس لم يُعثر على جثث بعضهم، مع أن «نهر السين» شاهدٌ على تلك الجريمة، و«محتضن» آثارها. أقارب استعادوا اللحظة بانفعالاتها وامتداداتها هنا وهناك. بقسوتها. بفضاءاتها المفتوحة على ألف سؤال وخيبة. لم تكتف بهذا. دخلت «مكاتب مغلقة» في أجهزة الأمن والشرطة. أعادت بناء اللحظة، مادياً ومعنوياً. الصُوَر الأرشيفية كثيرة. صُوَر متحرّكة، وأخرى فوتوغرافية. الأسود والأبيض أضافا مسحة إنسانية على الفعل الجُرمي. بل على الحكاية. لعلّ الأهمية الأولى للفيلم، كامنةٌ في قدرته على إعادة طرح سؤال الذاكرة، بارتباطه الوثيق بالراهن. الوثائقي، هنا، شهادة من قلب اللحظة. الإنساني، هنا، ساهم في جعل السينمائي الوثائقي أمتن في صوغه بعض الذاكرة تلك.

ذاكرة

الذاكرة نفسها، وإن في جغرافيا مختلفة وتاريخ آخر، ماثلة في فيلمين لبنانيين جديدين: «القطاع صفر» لنديم مشلاوي (الثامنة مساء الأربعاء المقبل) و«الحوض الخامس» لسيمون الهبر (الثامنة مساء الخميس المقبل). الأول مبتعد عن حالة سينمائية وثائقية لبنانية، مرتكزة على علاقة المخرج بأحد ذويه أو أقاربه، في معاينة الحكايات الفردية القديمة. الثاني مرتبط بهذه العلاقة. هناك، في الفيلمين، عملية حفر في التاريخ والجغرافيا. العمليتان مختلفتان: الأول (القطاع صفر) معتمد على حكايات أناس عاشوا في منطقة الكرنتينا وعرفوا خفاياها وتحوّلاتها المختلفة. معتمد أيضاً على تحليل نفسي وعمراني وسياسي/ ثقافي، ارتكز على المنطقة، وتشعّب في ثنايا البلد والمجتمع. الثاني (الحوض الخامس) ذاتيّ أكثر. هناك علاقة بين المخرج ووالده، تشبه إلى حدّ ما علاقة المخرج نفسه بعمّه في فيلمه السابق «سمعان بالضيعة». أي أن رغبة المخرج في البحث السينمائي الوثائقي في ذاكرة أناس وبيئة جغرافية وتاريخ متنوّع، منطلقة من الحوض الخامس في المرفأ البحري لبيروت، وجدت في الأب منفذاً لتحقّقها. ليس الأب وحيداً في «الحوض الخامس»، لأن شخصيات متفرّقة وجد المخرج فيها أداة أتاحت له الذهاب بعيداً في عمليتي «النبش» والاستعادة. يُمكن القول إن «القطاع صفر» و«الحوض الخامس» معنيان بذاكرة مكان/ زمان آيلة إلى الخراب، كخراب بلد ومجتمع وناسهما. أي أنهما ساعيان لـ«حماية» ذاكرة من الاندثار.

في منحى آخر، حرص إيريك فلاندن، في «الرجل ذو الثعابين» (الثامنة مساء الثلاثاء المقبل)، على مواكبة «بطل» فيلمه هذا في مهمّته الهادفة إلى حماية بلد من تدمير غاباته الممتدّة إلى آلاف السنين. غير أن الرحلة مزدوجة: فإلى جانب الجغرافيا والأرض والغابات، هناك رحلة داخلية منفردة على شاشة بصرية في مقاربة سؤال العلاقة الإنسانية بين الفرد والطبيعة، وسؤال الرغبة الذاتية في حماية الطبيعة أيضاً. الرحلة الذاتية عنوان فيلم آخر، جعل التفاصيل المقيمة في زوايا المجتمع ركيزة درامية للبحث في واقع هذا المجتمع: «العذراء، الأقباط وأنا» لنمير عبد المسيح (الثامنة مساء الأحد، في الأول من نيسان المقبل). المحاولة البصرية منفتحة على شقاء الحياة اليومية في مصر. التوغّل في ثنايا الحكايات جزء من الكشف الفني لراهن مُصاب بألف خيبة. يُمكن، بشيء من المواربة، القول إن الفيلم إضاءة ما على واقع سبق الانقلاب الشعبي ضد الطاغية المصرية. في المقابل، يُمكن القول إن «تونس: العام صفر» لفريال بن محمود (العاشرة ليل الجمعة في 30 آذار الجاري) إضاءة على ما حدث قبل الانقلاب الشعبي السلمي على الطاغية التونسية، وعلى ما بعد سقوط زين العابدين بن علي. هناك أيضاً نظرة غربية لواقع الحال المصري: الإيطالي ستفانو سافونا التقط نبض الشارع المصري في «تحرير، ميدان الثورة» (الثامنة مساء الجمعة في 30 آذار الجاري). أسبوعان اثنان شكّلا الأرضية الدرامية لفيلم مشحون بالانفعال والواقع.

هذه نماذج سينمائية وثائقية مختارة من الأفلام المعروضة في الدورة الثامنة لـ«شاشات الواقع». عنوان التظاهرة مرآة شفّافة وصادقة لوقائع وحكايات. ستة عشر فيلماً حديثة الإنتاج، عرضت حالات ووقائع، وصوّرت غلياناً فردياً وصدمات جماعية.

تُعرض الأفلام الستة عشر في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)، بين السادس والعشرين من آذار والأول من نيسان 2012.

كلاكيت

الإبداع والأمن

نديم جرجورة

لا يزال «بيروت بالليل» لدانييل عربيد عالقاً في مكتب رقابيّ تابع لجهاز أمني رسمي. الجهاز الأمني الرسمي رفض السماح له بالعرض التجاري. فرض شروطاً مناقضة للنصّ الإبداعي السينمائي. مشوّهة إياه. ممزّقة فصوله ومساره الدرامي. الحجج الموضوعة من قِبَل الجهاز الأمني الرسمي باهتة. لا سند لها ولا أساس. مفتوحة هي على بهتان وفراغ. النصّ الدرامي معقود على حبكة لبنانية متوغّلة في الشأن الفردي أولاً. أي في مأزق الفرد المقيم في بلد مشلّع ومنكوب. أي في أزمة الهوية والوجود والعلاقات القائمة، أو التي يُفترض بها أن تُقام بين الناس بشكل طبيعي. أو بين الناس وبلدهم ومجتمعهم. السياسة حاضرة. الأمن أيضاً. الحبّ والجنس. هذا عاديّ جداً، لأنه مستلّ من واقع حقيقيّ. لا يُمكن منع نتاج إبداعي من التواصل مع مُشاهديه. الرقابة المنبثقة من جهاز أمني رسمي أثبتت مراراً أنها أعجز من أن تُتقن الحدّ الفاصل بين الواقع والمتخيّل الإبداعي. المتخيّل الإبداعي الخاصّ بـ«بيروت بالليل» مثلاً مرآة واقع لبناني مزر، إن لم يكن قاتلاً.

علاقة الإبداع اللبناني بالرقابة الأمنية، المستندة إلى رقابات دينية/ طائفية وسياسية واجتماعية متنوّعة، واضحة المعالم: الرقابة عاجزة عن قبول الإبداع. رافضة إياه. الإبداع أقوى من رقابة تلبّي رغبات قيادات سياسية ودينية/ طائفية واجتماعية، ومصالحها. «بيروت بالليل» حلقة جديدة من حلقات المسلسل التاريخي المرتكز على صراع دائم بين الإبداع والأمن. لا سبيل إلى أي لقاء من أي نوع بينهما. الأمن عاجزٌ عن قبول طموحات الإبداع، لأنه نقيضه. الإبداع متمرّد على الأمن، وعلى الرقابات المختلفة كلّها، لأنه حرّ. الصدام واقعٌ أصلاً بين أمن مكبَّل ومكبِّل، وحرية الإبداع. للإبداع، وإن وسمته أخطاء أو ارتباكات أو تشوّهات، حقٌّ في الحضور والتعبير عن نفسه. للمُشاهدين أو المستمعين أو القارئين إبداعاً حقٌّ في مقاربته بأي شكل من الأشكال الحضارية المستندة إلى أبسط القواعد: التواصل والنقاش

اللعبة باتت مكشوفة. مستندة هي إلى القضاء. أي أن قراراً رقابياً أمنياً لن يمرّ (بل يُفترض به ألاّ يمرّ) مرور الكرام. هناك قضاء. القضاء محتاج إلى تجديد وتطوير. هذا صحيح. لكن، لا بُدّ من الاستناد إليه، في لعبة الصراع القائم بين الإبداع والرقابة الأمنية. الفريقان السينمائي والقانوني لـ«بيروت بالليل» توجّها إلى القضاء. إلى مجلس شورى الدولة. على هذا الأخير أن يبتّ بالمسألة. عليه أن يميل إلى الإبداع، وإلى «محاسبة» الإبداع لاحقاً، من قِبل أناس يُمكن أن يشعروا بضرر ما من الإبداع، إذا أساء الإبداع إليهم. أي أن تتحرّر الرقابة من سطوة الأمن، وتنحسر لمصلحة القضاء بموجب قوانين عصرية، تحمي الإبداع وتُحصّنه، ولا تُعرِّض الناس والمجتمعات والأفراد إلى إساءات

ما فعله فريقا «بيروت بالليل» إضافة نوعية على البداية التأسيسية لقضاء يحمي الجميع، بقوانينه المنفتحة والمتجدّدة.

السفير اللبنانية في

22/03/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)