حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

د.وليد سيف يكتب:

من المهرجانات إلى المقاولات

بناءا على دعوة جمعية الفيلم للأعضاء الراغبين فى المشاركة بلجنة الإنتاج توجهت إلى مقر الإجتماع بكل حماس. ولكنى كنت أشعر بخجل وتوتر شديدين وأنا أجلس على مائدة الإجتماعات الكبيرة بمركز الثقافة السينمائية فى أول إجتماع للجنة.

لم أصدق نفسى أننى أخيرا أضع قدمى على عتبات الفن و أجلس وسط سينمائيين حقيقيين، وأنا الوحيد بينهم بلا خبرة كما تصورت.

قدم لنا مدير التصوير محمود عبد السميع رئيس اللجنة شابا صغيرا نحيفا من بين الحاضرين كمخرج له خبرة كبيرة فى أفلام الهواة هو اسماعيل مراد. وكان بيننا أيضا الناقد زكريا عبد الحميد من جيل أسبق فى جمعية الفيلم و له تجارب فى الإخراج أيضا.

لم أكن أعرف الباقين و لكنى توهمت فى البداية أن لهم خبرات أيضا. ومنهم شاب يتحدث بحماس وثقة وإندفاع إسمه حاتم إكتشفت أنه كان بلا خبرة مثلى و مثل باقى الحاضرين. حضرت الإجتماع مدعما بصديقين من جيرانى هما الجرىء إبراهيم الحديدى ود. نبيل غيث الذى كان طالب طب وقتها و مشروع مثقف موسوعى كبير.

عرض علينا محمود عبد السميع الغرض من اللجنة فى إنتاج أفلام لها قيمة و ذات موضوع و مضمون.و أنه سوف يدربنا على أعمال التصوير والإخراج و الأهم أن نتقدم بالأفكار لمناقشتها و إختيار الأفضل من بينها.

وتحدث محمود كثيرا ولكن كعادته دون أن يضيف أى شىء إلى هذا المعنى المحدد البسيط الذى ذكره فى مقدمته. فى طريق العودة حدثت نبيل و إبراهيم عن فكرة تدور فى رأسى حول التناقض الذى كان يبدو غريبا وقتها، حيث القاهرة مدينة كبيرة مليئة بالعشوائيات وسكان البيوت الصفيح ومفترشى الأرصفة، فى نفس الوقت الذى تحتوى فيه تحت سمائها عشرات الأبراج العملاقة الخاوية و الاحياء السكنية الكاملة والتى لا يسكنها سوى الأشباح.

أبدى الإثنان حماسا كبيرا للفكرة وأبدى نبيل إستعدادا لمعاونتى فيها والإشتراك فى الكتابة. وهو ما لم يحدث ولكنى بدأت أكتب بمفردى نصا بسيطا دون سابق خبرة أو إطلاع على أى سيناريوهات إلا ما قرأته كتتابع مشاهد فى نشرات نادى السينما أو نصوص سينمائية ملحقة بمجلات فنية. و لكنى انجزت السيناريو بسرعة و حماس ربما لأنى كنت اعانى شخصيا من أزمة سكن لظروف عائلية طارئة.

ملل الإنتظار

ولكنى إستطعت أن أصل إلى طريقة بسيطة أعبر بها عن فكرتى التى كانت ضمن أفكار قليلة الأكثر إقناعا للجنة ورئيسها من باقى الأفكار القليلة المطروحة.

وتوالت الإجتماعات بلا فائدة وبحوار عقيم حول معوقات الإنتاج وضرورة تطوير الأفكار قبل التصوير.. و كلام عمومى جدا و معلومات نظرية محدودة من محمود عبد السميع حول التصوير و الإخراج. و ربما كانت الفائدة الاكبر من زكريا عبد الحميد الذى كان ينقل لنا خبراته العملية فى هذا النوع من الأفلام التى كان يطلق عليها أفلام الهواة وتصور بكاميرة الثمانية مللى.

وتوقفت الإجتماعات لأسابيع و شهور حتى يئست من المسألة وأصابنى الفتور واليأس فى ظل البطالة التى كنت أعيشها بعد التخرج مع عدم التحقق و ضياع الوقت والتردد فى إختيار طريق. وبعد فترة من العزلة الإختيارية و تجنب الخروج توفيرا للمال والأعصاب التى إحترقت من طول الإنتظار ذهبت لمشاهدة أحد عروض نادى السينما بقاعة إيوارت. وأثناء خروجى إستوقفنى إسماعيل مراد الذى إندهش من مقابلتى مصادفة بينما تبحث لجنة الإنتاج عنى من أجل تكليفى بتنفيذ فيلمى فورا.

فوجىء أخى مصطفى عضو مجلس إدارة الجمعية بأن أول فيلم ستنتجه الجمعية من إخراجى وتأليفى، وهو المشروع الذى لم يكن يعلم عنه شيئا.

وعاتبنى محمود عبد السميع وزكريا عبد الحميد على أنى لم أذكر أن شقيقى مصطفى عبد الوهاب وإلا لما ضاع كل هذا الوقت فى البحث عنى. كنت محظوظا بمصور ليس محترفا و لكن له خبرة سابقة فى تصوير أفلام الهواة إسمه حسام أبو العلا وكان يهوى التمثيل أيضا قبل ان يحترفه فيما بعد. و بدأنا العمل على الفور بإيقاعى السريع وحماسى الشديد و بإلتزام و تعاون و تفاهم كبير مع حسام.

جرى تصوير الفيلم فى حوالى خمسة أيام غير متصلة. بدأت بأحياء مدينة نصر الجديدة فى ذلك الوقت فى منتصف الثمانينات. وكانت أحياء الثامن و التاسع و العاشر تحديدا، أقرب لمدن الأشباح بالفعل، تكاد تخلوا من السكان و المحلات، تحركنا فيها بسهولة و صورنا بمنتهى الحرية. وكنت أحرص على إبراز كل ملامح غياب البشر عن هذه المساكن وما أصابها من إهمال عبر سنوات نتيجة عدم تسكينها. وانتقلنا إلى أبراج مصر الجديدة و المعادى غير المسكونة. ثم صورنا فى أكثر من منطقة عشوائية ولكنى كنت أكتشف فى كل مكان أن زميلى اسماعيل مراد سبقنى اليه.

وكان إسماعيل قد حقق من قبلى فيلما ذو طابع ريبورتاجى عن سكان العشوائيات إسمه المعذبون فى العراء. وكنت أبحث عن أماكن لم يسبق تصويرها حتى يتضمن فيلمى صورا وموضوعات جديدة. فى أحد الأيام علمت أن هناك مجموعة من سكان أحد المناطق العشوائية قد طردوا من مساكنهم، فإفترشوا الأرض بجوار السور الملاصق لكوبرى عبود ووضعوا أثاث بيوتهم و أقاموا مع أولادهم على الرصيف.

أطفال للبيع

من الصباح إصطحبت مصور الفيلم حسام أبو العلا وطار بنا على موتوسيكله إلى هناك. كانت المشاهد عجيبة لحياة كاملة على الشارع، أسرة ودواليب وكنب وثلاجات وبوتاجازات.. ورجال ونساء وشباب وفتيات فى قلب الشارع بملابس النوم.. وأطفال صغار تراصوا على الأرض ووضع أهاليهم عليهم لافتة "أولاد للبيع". الناس فى حالة غضب من هذا الوضع ويرحبون بالتصوير، عسى أن تصل أصواتهم أو صورهم إلى المسئولين، فيجدوا حلا. تمكننا من تصوير علبة كاملة مدتها خمس دقائق. و بدأنا فى تصوير العلبة الثانية لنفاجأ بضابط شرطة يلقى القبض علينا و يستولى على  الكاميرا ويقتادنا إلى قسم الزاوية الحمراء.

كنت أدارى خوفى الفظيع ، فلم يسبق لى أن دخلت قسم شرطة فى حياتى. أدخلونا للمأمور الذى حدثنا فى إقتضاب عن الجريمة التى نرتكبها فى حق المجتمع حين نصور أفلاما كهذه لننشرها فتثير غضب الجماهير ضد الحكومة و تهدد الأمن و تعرض البلاد للخطر. حاولت أن أشرح له أنه عمل فنى ليس له علاقة بالصحافة أو الإعلام.

سألنا عن تصريح التصوير فأخبرته أننا ننتمى لجمعية الفيلم، وكان يجهلها طبعا. إتصلت بمحمود عبد السميع أستنجد به لكنه لم يفعل شيئا.. مل المأمور من كلامنا عن أفلام الهواة و الأنشطة الثقافية و غيرها من الأمور التى تبدو غامضة تماما بالنسبة له.. أمر بصرفنا من مكتبه، فألقى مساعدوه  خلف سور خشبى قصير يطل على صالة القسم الكبيرة.

طال الإنتظار وتزايد القلق و الخوف و بدأت تهاجمنا هواجس دخول التخشيبة والتعرض للضرب والإهانة وتصاعد الأمر.

كنت أخشى أيضا من تحمل مسئولية تبديد كاميرة الجمعية. وكنت حزينا جدا على ضياع المادة المصورة. و بعد عدة ساعات رأيت المأمور يخرج من مكتبه ويشير نحونا هما دول لسه هنا؟!..روحوهم".. عدت للحياة من جديد و أنا اعبر الحاجز و أتسلم الكاميرا بعد أن إنتزع منها الضابط الصغير الفيلم وألقاه فى درج مكتبه وهو ينظر لنا شذرا.

ولم نجرؤ بالطبع على مطالبته به. فور أن خرجنا إلى الشارع وتنسمنا هواء الحرية بدأت أشعر بالحزن على المادة التى صورناها ويستحيل تعويضها. ولكن حسام فاجأنى بأن المادة التى صادروها لا تتجاوز الدقيقة، أما الشريط الكامل الذى صوره فمازال بحوزته فى جراب الجاكيت الذى كان يرتديه.

إنتهيت مع  صديقى إسماعيل مراد من مونتاج الفيلم و عرضناه على اللجنة. أعجب به محمود عبد السميع و لكنه إقترح أن أصور يوما إضافيا لإثراء المادة المعبرة عن معاناة الناس. ولكنى كنت أشعر بأن الفيلم إنتهى ولا مجال للحذف و الإضافة. صممت على رأيى وربما لم أكن على صواب. أسميت الفيلم (بدون تعليق) لانه كان لا يتضمن سوى لقطات صامتة تعكس التناقض بين حياة سكنى العشوائيات و بين خواء عمارات المناطق الراقية من السكان ..و تتصاعد الصور فى محتواها المؤثر ولا تصحبها سوى أغنية معبرة يقول مطلعها "عصفورة و عصفور بندور على عش .. بجناحنا المكسور من ضربنا بالرش." كانت الأغنية ضمن شريط لفرقة غنائية جديدة إسمها مجانين المزيكا أهدته لنا، و لم يظهر الشريط ولا الفرقة حتى الآن. وينتهى الفيلم بلقطة لطفل من سكان العشوائيات يدخل فى كارتونة ويغلقها عليه. كنت قد لمحت الطفل يفعلها كلعبة. فطلبت منه أن يعيد الحركة لتصويرها. وبدت عفوية وطبيعية جدا وجاءت فى موضعها تماما كمشهد للنهاية.

وفاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان قليبية التونسى لغير المحترفين سنة 1986. وعلى الرغم من تواضع مستواه فى رأيى، إلا أنه كانت هناك بعض العوامل التى تزين لى الطريق إلى الخانكة وإعتبار هذا الفوز أقرب إلى الإعجاز: أولها أن هذه الجائزة غابت عن مصر لأكثر من 15 سنة سبقتها، وكان الحصول على جائزة من أى مهرجان بالمغرب العربى فى فترة منتصف الثمانينات أمرا شديد الصعوبة.

وثانيها أن الزميلان المنافسان الوحيدان زكريا عبد الحميد واسماعيل مراد و قد سبقانى فى مجال أفلام الهواة بسنوات و بعدد من الأعمال، لم يكن قد قدر لأى منهما الحصول على أى جائزة حتى ذلك الوقت، على الرغم من مشاركاتهما المتكررة فى ذات المهرجان و غيره.

وهكذا كبر جدا موضوع السينما فى رأسى بعد حصولى على هذا التقدير. و على الرغم من أن الجائزة فى الغالب لا تعنى سوى مجرد تشجيع و إتفاق لجنة بعينها فى مسابقة بعينها، إلا أننى أقنعت نفسى تماما بأن السينما هى طريقى ومستقبلى، بل ربما أكون أنا أملها و منقذها و مخلصها الوحيد من كل أزماتها و بانى نهضتها الحديثة فى مصر على أقل تقدير. لذا  قررت أن أركز فى هذا المجال الذى كشفت فيه موهبتى المزعومة عن نفسها.. وأن أعطل شهادة تخرجى من قسم الأدب الإنجليزى، وألا أسعى لإستغلالها بأى شكل من الأشكال، سواءا بالعمل فى مجالات التدريس أو الترجمة. فكل هذا إهدار للوقت وإهمال لموهبة تستحق أن أبذل كل الوقت فى سبيل صقلها و تطويرها.

على باب السينما

ولكنى مع الأسف أضعت وقتا كبيرا دون أن افعل شيئا جادا من أجل هذا الصقل أو التطوير لأن أعراض العبقرية و التكبر و البدنجان المخلل قد ظهرت بوضوح. و لذلك كان من الصعب أن أقبل أن ألتحق بمعهد السينما و أنضم لصفوف طلابه بعد أن توهمت بأننى أصبحت ضمن عباقرة الفن السابع. و لكن كان من الممكن أن يرضى غرورى إلى حد ما أن ألتحق بالدراسات العليا بدبلوما المعهد العالى للنقد الفنى التى أنهيتها بتفوق مع قرب إنتهاء خدمتى العسكرية كضابط احتياط فى عام 1987.

ومع تزايد إهتمامى بالنقد تقلصت خبراتى ومعارفى المحدودة أصلا فى الإبداع، خاصة مع صدور قرار غريب بحظر إستيراد الأفلام الخام الثمانية مللى سوبر، بإعتبارها سلع ترفيهية، مع أنها كانت فى غاية الرخص والسبيل الوحيد لصناعة السينما بأقل تكلفة للفقراء من أمثالى. و توقف مشروعى التسجيلى الثانى بسيناريو فرح فى مقابر البساتين بعد معاينات و تحضير و تطوير للسيناريو. كان البديل الوحيد لى وزملائى هو تصوير أفلامنا بكاميرة الفيديو، ولكننا كنا نعتبر هذا تنازلا كبيرا.. وأن زهونا بكوننا فنانين سينمائيين سوف نفتقده عندما نستخدم كاميرات الفيديو التى تصور بها الأفراح والإعلانات. سيطر علينا الغرور وقصر النظر بينما كانت كاميرات الفيديو تتطور وتنتقل من مرحلة الأنالوج إلى الديجيتال لتحقق تقدما مذهلا فى مستوى الصورة والإمكانيات.

ولكنى كنت فى هذا الوقت و مع نهاية الثمانينات قد قررت أن أنتقل من عالم الهواة إلى عالم المحترفين. كان قرارا عشوائيا لا يستند إلى أى مؤهلات أو دعم سوى من زميلى فى المعهد العالى للنقد الفنى جمال الفيشاوى الذى كان يسعى أيضا ليجد فرصته كممثل. ولعله توسم فى شخصى الضعيف سبيلا للصعود معه. تعرفت من خلاله على مخرج سينمائى إسمه يشبهنى بمحض الصدفة: سيد سيف. وكان سيد يمر بظروف صعبة بعد أن بدأ بداية مقبولة فنيا و تجاريا مع فيلم بطولة عادل أدهم عنوانه (كلاب الحراسة)، سرعان ما تخبط بعده فى أفلام لن يتذكرها أحد  من عينة ( رغبة و حقد و إنتقام) و( باب النصر).

عرفت من جمال أن الرجل خرج لتوه من الحبس ظلما، فى قضية شيكات بضمان تمويل فيلم، كان قد سددها بالفعل لمستحقها، حسب زعمه, دون أن يحصل منه على أصولها. وكان سيد فى سبيله لإجتياز الأزمة يجهز لفيلم جديد. ووعدنى بأنى سأعمل مساعدا له فى إخراجه بعد لقاءات قصيرة و مناقشات سريعة حول فن السينما وإطلاعه على مشروع سيناريو لى لم يكتمل حتى الآن.

بعد شهور من الإنتظار وبعد أن أوشكت على اليأس بدأ التحضير بالفعل للفيلم وكان عنوانه (خميس يغزو القاهرة) وأسند لى العمل فيه كمساعد مخرج تحت التدريب. فى البداية شعرت بضيق وبأن المهمة الصغيرة أقل من شخصى الكبير وأن سيد لم يفى بوعده. وهبط بى من منزلة المساعد إلى درجة المتدرب. و لكننى وجدت أن هذا منطقى تماما، خاصة وأننى ليس لدى أى خبرة بعمل المحترفين، وأكاد لا أعرف طبيعة المهام المكلف بها مساعد المخرج بصورة محددة. ولكنى عندما قرأت السيناريو كانت لى إعتراضات عديدة عليه. ووجدت إقتناعا كاملا بملاحظاتى من المخرج، مع أنه كان يعمل فى أصعب الظروف بأقل الإمكانيات ويتعجل بدء التصوير. ولكن كانت هناك معوقات إنتاجية تعطل العمل بالفعل مما أفسح المجال لمناقشة السيناريو ومقترحاتى لتعديلاته من باب شغل وقت الفراغ.

مخرج أسطورى

ولكن من الواضح أن سيد سيف كانت لديه نزعات إستعراضية و مظهرية كانت تزكيها ملاحظاتى المبنية على أسانيد درامية وبلغة المثقفين التى كانت تطربه، وتضفى طابعا من الشياكة على فيلم يجرى إعداده تحت السلم ولكنها ترضى غرور المخرج الذى كان يزعم أنه حاصل على ماجستير فى الإخراج من لوس أنجلوس. كان سيد شخصية أسطورية فيما يجمعه من صفات ومتناقضات. فهو قوى البنية عميق الصوت منمق فى مظهره هادىء ومهذب جدا عادة، على الرغم من ملامحه الحادة ووجهه الصلب الذى يؤهله بقوة للقيام بأدوار الشر بل وكأحد زعما المافيا.

وكان تحجج سيد بالتأجيل المتكرر للبدء فى التصوير بأنه من أجل إجراء تعديلات على السيناريو يوجد مبررا مقبولا و يضفى على عمله طابعا من القيمة والجدية ويخفى حقيقة مصاعب التمويل وإعتذارات النجوم. ويبدو أيضا أن مناقشة كاتب السيناريو الاصلى ماهر إبراهيم فى ملاحظات فنية إستنادا على آرائى تمنح المنتج الفرصة فى التفاوض معه لتخفيض أجره. و هكذا كان وجودى مفيدا لجميع الأطراف. فكانت أرائى ترضى غرور المخرج وكذلك تحقق مصالح المنتج، الذى كان يرى أن السيناريو يحتاج إلى إختصار كبير لأسباب تتعلق بالتوفير بالطبع. بينما كنت أنا أوافقه على نفس الرأى ولكن لأسباب تتعلق بالدراما و الإيقاع فى رأيى.

ولا أعرف كيف كنت أجد الحماس للتفكير فى مثل هذه الأمور فى ظل أجواء تؤكد أننا بصدد صنع فيلم مقاولات بإمتياز، محاصرين بأنصاف الممثلين و بتوصيات لزيادة مساحة ادوارهم مقابل خدمات يقدموها لصناع الفيلم ليس لها أى علاقة بالفن.. وكان المنتج لديه مكتب فى عمارة متواضعة بالهرم نلتقى فيه يوميا حيث تختلط رائحة الطبيخ اليومى للعمال والفنانين بالكلام فى السيناريو والفن بقصة غرامى بسكرتيرة حسناء.

بدأ طموح صناع الفيلم الخيالى بعرض السيناريو على عادل إمام الذى قيل أن السيناريو كتب له و تحت إشرافه أصلا و لكنه تخلى عنه فجأة و تحمس لمشروعات أخرى. و ظلت الترشيحات تتهاوى حتى و صلت إلى سعيد صالح نجم أفلام المقاولات الأول فى تلك الفترة. وزادت أعبائى ومسئولياتى لإشعارى بأهميتى، بإسناد إجراء تعديلات السيناريو لى بشكل سرى، و بعد و قوع مشاكل بين المخرج و المؤلف الأصلى.

وبدأ تصوير الفيلم فجأة وأنا مازلت فى مرحلة إجراء التعديلات التى كنت أكتبها بكل حماس. وكان وجودى فى موقع التصوير كمساعد حتميا للإشراف والإطلاع على ما تم تصويره لكى لا يكون ما أكتبه متعارضا مع ما تم تصويره بالفعل. وكان مساعد المخرج الثانى المسكين فى حالة ضيق من نفوذى وأهميتى، أنا الذى أعمل تحت رئاسته. وهو لا يدرك أن المخرج نفسه لا يعرف ماذا سيصور إلا بناءا على ما أكتبه أو أحذفه بشكل يومى أو أحيانا فورى.

كان يوم العمل طويلا وشاقا، كأى فيلم مقاولات يجب أن ينتهى فى أقصر وقت ممكن. وكنت أعود إلى البيت أوصل الليل بالنهار لمواصلة إجراء التعديلات على السيناريو، وكلى أمل و تفاءل و سذاجة، معتقدا أننى أصنع مجدا بفيلم مقاولات بطولة سعيد صالح و دلال عبد العزيز. ولاحظ السيد المنتج الجهود الجبارة التى أبذلها و عملى المخلص ليل نهار، فقرر أن يمنحنى مرتب مساعد مخرج ثانى ( مائة و خمسون جنيها فى الأسبوع ) بدلا من مكافأة متدرب (خمسون جنيها فقط).

وهو لم يفكر بالطبع فى منحى أجرا عن تعديل السيناريو على إعتبار أنها مجرد مهمة زائدة أقرب للعمل الإضافى. ولكن كان التعويض الأدبى يرضينى و هى أمور كان يحققها لى سيد سيف بمنتهى التقدير والإحترام. بل أننى أذكر أن دلال عبد العزيز أبدت إعتراضها على بعض تفاصيل السيناريو فلم يكن من سيد إلا أن إجتمع بى وبها وظل يحدثها عنى بكل فخر ككاتب و مثقف كبير لا يجوز لها أن تبدى إعتراضا على ما أكتبه، لينتقل إلى شخصه و تاريخه و مؤهلاته التى تتضاءل أمامها قيمة أى فنان.

ولم يكن أمام دلال فى مواجهة حالتين من البارانويا سوى أن تتراجع عن ملاحظاتها تجنبا لإنفعال سيد وصوته الجهورى وخوفا من أن تبدو جاهلة أمام تفنيدى المستهزىء بإعتراضاتها على النص الشكسبيرى الذى كنت أراه شديد الإحكام بعد تعديلاتى. وهكذا لم أكن أفكر وقتها فى حقوق مادية و لكنى كنت سعيدا بالمسئولية والشعور بالأهمية.. والحلم ببناء مجد سينمائى وسيناريو ليس له مثيل يجمع، على حد وصفى بإعلان الفيلم الذى كتبته أيضا، بين الكوميديا والمتعة والإثارة والمغامرة.. وفوق كل هذا جرعة من السياسة الساذجة والتوعية المباشرة والدعوة لإنتقام الفقراء الغلابة من الأغنياء الأشرار بأسلوب فج وتنفيذ ردىء.

سينما حسب الله

 وجاء العرض الأول للفيلم بسينما مصر بالاس. ولم يبخل المنتج بإستئجار فرقة حسب الله بائسة للعزف على باب السينما. وحضرنا الحفلة الأولى وسط جمهور يكاد يعد على أصابع اليدين متفرقين بين صالة السينما و بلكونها الذى جلسنا فيه. و قدر لى أن أسمع بأذناى صوت أحد المتفرجين وهو يسب و يلعن فينا مستعوضا الله فى قيمة مبلغ التذكرة الذى دفعه فى هذا الفيلم الردىء. ويبدو أن الرجل كان يعرف أننا نجلس بينهم فتمادى فى شتائمه.

ولكننى والمخرج أبلينا بلاءا حسنا فى الثبات وتجاهلنا وجوده وشتائمه وخرجنا نهنىء بعضنا البعض. والحقيقة أننى كنت أشعر بتمزق وألم وخيبة أمل. وزاد من شعورى بالمرارة إنتقاد أستاذى عبد الحى أديب لى على عملى فى فيلم مقاولات وكنت قد بدأت العمل معه مساعدا و حيدا فى ورشته منذ بضعة شهور. وقدر لى أيضا أن ألتقى من خلاله بالناقد الكبير سامى السلامونى الذى إختار الفيلم فى مقال له ضمن أسوأ ما عرض خلال العام. وعندما عاتبته فى تردد، متعللا بأن الفيلم سىء ولكنه ليس الأسوأ، أجابنى بحكمته و منطقه القوى السريع "ليس هناك فرقا كبيرا".

توازى مع أزمتى النفسية أزمة مادية طاحنة. فكنت أعمل مع عبد الحى أديب بلا مقابل تقريبا لشهور طويلة وعلى أمل أن يسدد لى مرتبى عندما تتيسر الأمور، وهو الوعد الذى لم يتحقق أبدا. عملت معه فى تلك الفترة فى عدة مشروعات لم تكتمل لأسباب مختلفة منها باب الحديد الجزء الثانى الذى فتر حماس أديب له فجأة و أخبرنى بأنه يشعر بأن من المستحيل كتابة جزء ثانى لباب الحديد، كتحفة يستحيل أن تتكرر. ثم جاءنا مخرج شاب بمشروع من إنتاجه عن رواية يحدث فى مصر الآن ليوسف القعيد. و كنت متحمسا لها جدا و عملنا فيها بنتهى الحماس و أنهينا السيناريو فى زمن قياسى.

ولكن المخرج المنتج فوجىء بأن السيناريو تضمن هجوما شديدا على التيار الإسلامى المتشدد. و إعترض بشدة على إعتبار أن هذا ليس له علاقة بالرواية. و لكن أديب كان يرى أن أزمة البطل فى الرواية الأصلية غير واضحة و أن دخوله فى صراع مع المتطرفين يجسد الصراع و يضفى بعدا واقعيا معاصرا على الرواية.

ففاجأه المخرج أن هذا أمرا مستحيلا لأن أسرته بها الكثيرين من المتدينين الأصوليين الذين سوف يرفضون فيلما كهذا و الذين لا يمكنه أن يصنع فنا دون موافقتهم. فأجابه أديب بأنه لن يعمل ثانية مع مخرج قبل أن يقدم له بيان بالعائلة و فيش و تشبيه له و لأفراد أسرته. و توقف المشروع تماما.

ثم جاء مشروع ثالث كان مرشحا لبطولته عادل إمام و كان يدور أيضا حول الإرهاب و التطرف الدينى، و رفضه عادل دون إبداء أى أسباب. وأخيرا تحقق مشروع إمرأة واحدة لا تكفى الذى إجتهدت فيه كثيرا. ولكن أديب لم يفى بوعده معى. و لم يدفع لى أى مرتبات متأخرة ولم أتقاضى منه طوال فترة عمل ثمانية شهور متصلة سوى مائتان وخمسون جنيه فقط لا غير. ولكنى لم أكن غاضبا من أستاذى الذى تعلمت منه الكثير. ولم تكن أى جفوة تستمر بيننا إلا قليلا حتى قررنا دون إتفاق أن أبقى صديقه و مستشاره دون إلتزام حين تسمح لى ظروفى أو حين يلجأ إلى طالبا المساعدة لفترة محدودة.

لم يخرجنى من حالة الإحباط و اليأس و الإفلاس سوى دعوة مفاجئة من المخرج سيد سيف لتوقيع عقد كتابة سيناريو فيلم بعنوان الراقصة والحانوتى مع منتج هو فى الأصل رجل أعمال فى مجال إستيراد اللحوم إسمه علاء توكل. كنت قد تيقنت تماما من أن سيد سيف محدود الموهبة و يقبل العمل فى أسوأ الظروف للخروج من ورطاته المالية التى لا تنتهى .

ولكنى كنت فى غاية السعادة و لم أصدق أننى أصبحت فى غمضة عين كاتب سيناريو محترف أوقع على عقد سيناريو بمبلغ قيمته أربعة آلاف جنيه و أتقاضى قبل أن أكتب حرفا واحدا ألف جنيه دفعة واحدة. عدت إلى البيت ليلا فرحا لأوقظ أمى وأخى مصطفى ليشاركانى الإحتفال وأدعوهما لوجبة عشاء ساخنة جاهزة.

ولكن مصطفى لم يكن فرحا على الإطلاق وهنأنى فى فتور ليواصل نومه. ربما لأنه لم يكن متفائلا بعملى مع سيد سيف فى أفلام المقاولات أو مستاءا من أن يتقاضى شاب صغير محدود الثقافة والموهبة مثلى مبلغا كهذا، لم يكن بإمكان ناقد كبير مثله أن يتحصل عليه مقابل جهد عام بأكمله.

أسرع سيناريو

علاوة على هذا العربون الكبير بالنسبة لمبتدىء عاطل و مفلس جرى الإتفاق على أن يستضيفنى المنتج لمدة أسبوع فى فندق إيتاب ببورسعيد لأتفرغ للإسراع فى كتابة السيناريو. و كان هدفى أيضا أن أبتعد عن سيد سيف و جلساته التى لا تنتهى و إقتراحاته المعطله ورغبته المستفزة فى إرضاء الممثلين و أشباههم بزيادة مساحة أدوارهم.

كان المنتج متحمسا لفكرة غريبة عن قصة حب تدور بين حانوتى و راقصة. ولا يشغله سوى ان يمتزج فى أحد المشاهد الرقص و الغناء بالعديد و العويل. و كلما يذكر هذه المسألة يضحك بشدة. وهكذا أراد أن ينتج فيلما يضحكه هو شخصيا. و لكنى رأيتها فرصة لكوميديا ساخرة من صراع مصالح بين عدة اطراف يسكنون فى ربع واحد تجبرهم على قبول التعايش واقتسام الرزق من أجل مواصلة الحياة وليكن بينهم راقصة و حانوتى تجمعهم قصة حب.

كانت الفكرة قد اختمرت فى رأسى ولكنى كنت فى حالة إرتباك من ضيق الوقت، فضاع أول يومين دون كتابة شىء. و لكن كانت المفاجأة أننى فجأة بدأت أكتب بغزارة وبلا توقف لساعات متواصلة حتى تمكنت خلال هذا الأسبوع من كتابة اليد الأولى من السيناريو التى أعجبت المخرج جدا، ربما للهفته على بدء التصوير فى أسرع وقت ممكن قبل أن يطير المنتج الذى بدأ يحوم حوله المخرجون ومديرى الإنتاج. ولكن هؤلاء كانوا أسرع واستطاعوا أن يوقفوا مشروعنا لأسباب غامضة بل وأن يحيلوه لمؤلف و مخرج آخر ليتحقق الفيلم بالفعل بأسمائهم.

كنت قد إنشغلت فى تلك الفترة وسيد سيف بمشروع فيلم آخر عنوانه عشش الترجمان عن سيناريو لعزت فرغلى. ولكنى توليت إعادة كتابته على أن أتقاضى نصف أجر سيناريو وأشارك المؤلف أيضا حقه الأدبى فى السيناريو. وفى لمح البصر بدأ التصوير بإشتراك صلاح قابيل وآثار الحكيم. ولكن بنفس السرعة توقف التصوير أيضا بعد إعتذار مفاجىء من صلاح قابيل أعقبه خلاف حاد بين المخرج وآثار التى صممت على الإنسحاب بعد أن صورت تقريبا ربع مشاهدها.

وتزايدت الأعباء الملقاه على عاتقى فى الكتابة لإيجاد مخرج لغياب البطلة عن الاحداث. فلم أجد بدا سوى بإفتعال حادث إختطافها و ظهورها بقية الفيلم من الخلف او زوايا جانبية بالإستعانة بدوبليرة. وهو ما تحقق بالفعل و لكن توقف الفيلم مرة أخرى لتوقف التمويل و إفلاس المنتج الذى كان يملك بالكاد ما أوهمه المخرج بأنه مبلغ كاف للإنفاق على الفيلم.

وفى أثناء التصوير إنضمت إلينا ممثلة نصف معروفة إسمها نجوى الموجى كانت قد أنتجت من قبل فيلم شهد الملكة. وإستضافتنا نجوى بمكتب إنتاجها و عرضت علينا مشروعا لفيلم عن قصة قصيرة بعنوان قصة التامين على الحياة لمحمود تيمور، سرعان ما تلقفتها و بدأت فى إعداد السيناريو عنها. و سرعان ما توطدت العلاقة بين نجوى و سيد و تزوجا عرفيا، كما إرتبطت أنا أيضا بخطوبة مع بدايات إنتعاش مزيفة لأعمالى بالسينما.

كنت قد تعرفت أيضا عبر استاذى عبد الحى أديب على المخرج أحمد فؤاد الذى أسند إلى إجراء تعديلات فيلم الحب فى طابا كما كنت أشارك عبد الحى أديب وضع اللمسات الأخيرة وحضور جلسات العمل لفيلم إمرأة واحدة لا تكفى. وفى وقت واحد تقريبا بدأ تصوير الفيلمين و إنضم إليهما فيلم درب البهلوان.

ووقعت فى نفس الوقت عقدا لكتابة سيناريو مع المنتج طانوس فرنجية الذى تعرفت عليه من خلال أحمد فؤاد. واتفقنا على عدة مشروعات كان أولها فيلما مقتبسا عن الأمريكى صائد التماسيح من إخراج كريم ضياء الدين.

ليتأكد الوهم بأننى أصبحت فارس كتابة السيناريو الشاب المطلوب فى جميع استوديوهات مصر. ولكن بعد هذا الرواج الزائف يعود الركود الطويل. و تتضافر عوامل عديدة لتعطيل أعمالى السينمائية ومشروعاتى العاطفية أيضا. بل وتتوقف فرص العمل فجأة بتعثر مشروع احمد فؤاد التالى الذى إتفقت على كتابته بعنوان إنتقام الصعاليك. وتدب الخلافات بينى وبين كريم ضياء الدين الذى لم أتوافق معه فكريا ولم أستسيغ ملاحظاته ولا طريقته فى العمل. ويبدو أنه أيضا لم يكن مقتنعا بى وغير قادر على إقناعى بأى تعديلات يريدها. فتتوقف مشروعاتى مع طنوس فرنجية بسبب إنفعالى وحدتى من جانب والظروف الصعبة التى كان يواجهها طنوس لضياع مدخراته فى العراق من جانب آخر. وفى تلك الأثناء يتم القبض على سيد سيف فى قضية شيكات جديدة.

فيلم فى الزنزانة

فى ظل هذه الظروف ورغم الخلاف كنت أشعر بإمتنان كبير لسيد سيف فهو أول من منحنى الفرصة و الثقة بصرف النظر عن مستوى الأعمال التى جمعتنى به. وكنت أشعر بمسئولية تجاه أولاده كصديق وحيد تقريبا مقرب من والدهم. وكنت ازور سيد بإنتظام فى السجن وكان الحوار عبثيا و كوميديا اثناء الزيارة بين دهشة الزوار والمساجين حول تعديلات السيناريو للعمل الذى يعد له من داخل السجن والمناقشة فى ترشيحات النجوم و الفنانين.

وكننا نضطر أحيانا لعقد حلسات عمل طارئة فى غير أوقات الزيارة من خلال بلكونة فى الشارع المواجه لشباك سيد فى سجن الإستئناف فكان يقف على ظهر أحد زملائه المساجين ليعرف أخبار التحضير للفيلم التى كنت أشرف عليها ايضا بنفسى كمخرج منفذ. كان سيد فى حالة معنوية جيدة جدا و فى منتهى التفاءل.

وكان يحدثنى بفخر عن أنه محبوس ضمن المتهمين بقضايا الشيكات وبينهم كبار رجال الأعمال الذين كان يبعث إلى بتحياتهم بصوته الجهورى مجلجلا فى الشارع الخلفى لسجن الإستئناف ليصلنى على العمارة المواجهة. وكان سيد يرى ان السجن فرصة للتعرف على رجال الأعمال و لعقد مشروعات لافلام جديدة.

وكان يروى لى أنه يعمل فى داخل السجن أكثر من خارجه و أنه يعقد جلسات عمل لا تنتهى حول مشروعات فنية مقبلة. لم يكن يؤرق سيد سوى شيئا واحدا وهو وجبات الطعام التى يبعثها له المنتج سيد على فى أوان متواضعة لا تليق بمقامه و تضعه فى موقف حرج بين زملائه الذين تأتى لهم الوجبات الساخنة من ارقى مطاعم الوجبات الساخنة فى اوان فاخرة.

طال حبس سيد وتوقفت دفعات السيناريو ولم يعد أمامى سوى العودة للعمل مع عبد الحى أديب من حين لآخر بدون أجر أو حتى مجرد وعد بأجر مع أنه كان يعمل فى فيلم ديسكو ديسكو. فسخت خطوبتى بسبب ضائقتى المالية و بدأت ابحث عن عمل، أى عمل ولو حتى غسيل صحون فى المطاعم أو مدرس إنجليزى بفصول تقوية فى غاية الفقر، فلم يكن من طباعى الإقتراض أو الإستدانة.

 ورشحنى عبد الحى أديب للعمل فى قصر السينما. وتلقفنى د. محمد عزب رئيس القصر ليوظف حماسى وخبراتى فى مجال الثقافة السينمائية فى جمعية الفيلم لاتولى الإشراف على المكتب الفنى. ولأجد نفسى وأنا الفقير الى الله المعين بعقد من الخارج النائب الفعلى لرئيس القصر على حد تعبير د. عزب شخصيا. وإندمجت فى العمل بكل حماس و حققت نجاحا كبيرا فى فترة قصيرة. ولكن العائد المادى كان هزيلا جدا لا يفى حتى بابسط إحتياجاتى. و لم يكن بإمكان إدارة القصر رفع مكافأتى . كما تفاقمات مشاكلى مع الزملاء العاملين فى القصر الذين كانوا يروا أنى أصغر كثيرا من المكانة التى أتمتع بها فى القصر من نفوذ، و لا يفكر أحد أننى أحظى به بفضل تخطيطى للبرامج وإشرافى على تنفيذها و إدارتها. وهى أعمال لم تكن لدى أى أحد الخبرة و لا المعرفة ولا حتى الحماس أو الطاقة للقيام بها. 

والتقيت أثناء عملى بالقصر مع زميلى اسماعيل مراد الذى كان يعكف على كتابة سيناريو لمشروعه الروائى الطويل الأول كمخرج بعنوان مشبوه سياسى. طلب منى ان أشاركه بكتابة الحوار. ووافقت وإتفقت معه على مبلغ خمسمائة جنيه وانهيت كتابة الحوار سريعا ولم أنل أجرى إلا بعد فترة طويلة و كان عبارة عن كاسيت سيارة باعها إسماعيل واحتفظ بالكاسيت ليقدمه لى كمقابل عن اجرى بالفيلم الذى لم يتحقق إلى اليوم.

كنت متفائلا جدا بتعاونى مع إسماعيل واعتبرت ان مشروعاتنا المشتركة هى سبيلى لتصحيح مساراتى الخاطئة فى عالم أفلام المقولات. وسرعان ما حالفنا الحظ بمشروع جديد لمنتج شاب لسيناريو بعنوان إغتيال مذيعة تم تعديله لاحقا ليعرض بإسم إغتيال فاتن توفيق. عرض المنتج المشروع على محمود يس الذى ابدى إعتراضات كثيرة على السيناريو متوافقا تقريبا مع نفس ملاحظاتى التى ابديتها لإسماعيل حين إستشارنى فى السيناريو.

إغتيال فيلم

وسرعان ما إلتقيت بالفنان الكبير لأعرض عليه خطتى بالتعديلات التى وافق عليها فورا و ابدى حماسه الكبير للتعديلات و ثقته الكبيرة فى التى ترجمها إلى توقيع فورى على عقد الفيلم قبل ان أبدأ عملى فى إجراء التعديلات. ولكن السيد المنتج كان متضايقا جدا من وجودى ويشعر بأننى فرضت عليه فرضا و بأن الاجر الهزيل الذى ساحصل عليه مقابل التعديلات و قدره الف و خمسمائة جنيه سيربك ميزانيته.

كما أن شرطى بوضع إسمى تحت بند المعالجة الدرامية سيسبب له مشاكل مع المؤلفين الأصليين. ولكنه لم يكن أمامه سوى أن يقبل شروطى حتى لا يتوقف العمل الذى بدأ تصويره فعليا قبل ان أنتهى من إجراء التعديلات. وشهد اليوم الأول بذرة خلاف كادت تنشب بينى و بين الهام شاهين التى أبدت إعتراضها على ما رأته نقلة درامية مفاجئة فى شخصيتها ولكنى عارضتها بشدة.

وكاد الحوار أن يتطور إلى مشادة كلامية لولا تدخل محمود ياسين لصالحى بدبلوماسيته المعهودة. ولكن هذه الدبلوماسية إختفت تماما فى تعامله مع المخرج الذى قرر النجم وللوهلة الأولى أن يذبح له القطة فور ان أبدى تمسكه بوجهة نظره رافضا لإقتراح ابداه محمود ياسين. ومنذ تلك اللحظة سيطر النجم تماما على مجريات الأمور.

وفقد المخرج توازنه و انقطع الحوار بينه و بين النجم و لم يعد يدرك أى شىء عن السيناريو الذى أصبحت أكتبه بمنتهى الحرية و بثقة تامة من محمود ياسين. ولكن كان لهذا الأمر سلبياته فالسيناريو أصبح جافا والحوار غلب عليه طابع المباشرة وخفتت لغة الصورة إلى اقصى الحدود مع غياب أى إجتهاد أو حماس من طرف المخرج لتحقيق أى شىء.

وأصبح المخرج لا ينفذ سوى المكتوب فى السيناريو ولا يحقق اى تفاصيل فى الإخراج سوى بناءا على توجيهات محمود ياسين. وجاءت النتيجة سلبية للغاية و خابت توقعاتى و آمالى فى الفيلم. فقد كنت أسعى من خلاله إلى توجيه صرخة فى وجه الدعوة إلى رفع الدعم عن السلع التموينية من خلال مذيعة تتبنى قضية موظف أرشيف بسيط .

تقع تحت يدى هذا الموظف مستندات تدين رجال أعمال كبار ومسئولين فى الدولة يتلاعبون بالسلع التموينية و يسطون على دعمها. ويكون إغتيال المذيعة فى نهاية الفيلم هو الإدانة الدامغة لمافيا تحمى مصالها واسرارها ورجالها فى وجه أى شخصية تسعى لفضح جرائمهم ومخططاتهم.

ولكن السيناريو تاه بين فتور حماس المخرج وبين رغبة النجم فى الإستئثار بكل شىء و كذلك حماسى المنفلت ككاتب سيناريو تسيطر عليه افكاره السياسية وهمومه الإجتماعية ولا تلجمه خبرة كبيرة أو تعينه على تليين أفكاره النظرية و نقلها عبر معادلات موضوعية مناسبة و بناء عضوى متماسك. و على الرغم من هذا شارك الفيلم فى مهرجان الإسكندرية و كاد مخرجه إسماعيل مراد أن يحصل على جائزة العمل الأول كما تردد فى أروقة المهرجان، ربما لضعف الافلام المتنافسة على نفس الجائزة؟

ولكن يبدو أن عادل حسنى أحد رعاة المهرجان والمشارك بفيلم إسمه الفضيحة. وبصرف النظر عن علاقة عنوان الفيلم بالموضوع فقد كان لحسنى رأى آخر وضغط بقوة على عدد من أعضاء لجنة التحكيم ليمنحوا فاروق الرشيدى مخرج فيلمه الجائزة التى كان مرشحا لها إسماعيل. وهو ما أسفر عن فضيحة فعلية بدأت بهجوم إسماعيل مراد على صلاح أبوسيف رئيس لجنة التحكيم فور إعلان الجائزة صارخا "ضيعت تاريخك كله يا أبوسيف". ولولا تدخل بعض الحضور لتطور الأمر إلى معركة. ولكن الأمور تطورت بالفعل بعد إنسحاب على بدرخان و داود عبد السيد من لجنة التحكيم بسبب هذه المشكلة وفضائح أخرى أعلنوا عنها فى مؤتمر صحفى.

ومع تراكم إحباطى من تجاربى فى السينما بدأت أفكر فى الإبتعاد عنها من جديد.. فى نفس الوقت تحسنت أحوالى المادية نوعا ما عبر إلتحاقى اخيرا بالعمل بالحكومة بأجر ثابت اخيرا و تحت مسمى أخصائى ثقافى فى عمل إدارى بحت بوزارة التعليم العالى ليس له أى علاقة بالعمل الثقافى. و لكنى إكتشفت أنه يتيح لى بعد خمس سنوت من التعيين فرصة الإنتداب للعمل ملحقا بمكاتبنا الثقافية بالخارج. وهو ما تحقق بالفعل. ولكن قبل هذا كان لى لقاء جديد و مهم مع السينما فى فيلم الجراج ومخرجه صديقى الراحل علاء كريم حيث بدأت آمال الخروج من قبر المقاولات تلوح من جديد.

عين على السينما في

23/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)