حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نحن والإسلام في السينما العالمية

بقلم : د.وليد سيف

مادمنا بصدد تغيير مجتمعي وسياسي جذري سيتحقق بمشيئة الله مهما حاولت قوي التخلف والرجعية مقاومته، فإننا في مصر اليوم تحديدا في مواجهة عالم ينظر إلينا بترقب. وهو يتلهف إلي رؤية سينما جديدة ومختلفة تعبر بصدق وموضوعية عن هذه التحولات وتنقل صورة فنية معبرة عن هذا البلد العريق الذي ينفض عن وجهه غبار سنوات من التراجع والتردي. ويدرأ عن نفسه تهمة الانسحاق والاستسلام الأبدي لحكام طغاة. كان الغرب يري هذا انطلاقا من موروث فرعوني قديم يقدس الحاكم أو من فهم قاصر ومغلوط من بلد الأزهر للحكم في الإسلام، ودون إدراك لأن طاعة ولي الأمر تأتي مشروطة بالتزامه بقيم ومبادئ الخالق سبحانه وتعالي وسنن رسوله التي من المستحيل أن تتفق مع الفساد الفاحش ولا الظلم البين ولا التفرقة الطبقية. انشغل كثير من النقاد والباحثين السينمائيين بصورة المسلم عموما والعربي خصوصا في الأفلام العالمية ومنهم ناقدنا الكبير أحمد رأفت بهجت. وكذلك الأمريكي من أصل عربي جاك شاهين وله كتاب بعنوان "العرب قوم سوء..كيف استطاعت هوليوود تشويه أمة". ومع التقدير الكامل للجهود المبذولة في هذه الكتابات تظل القضية أكثر تشعبا بحجم يصعب تحديده فيما يزيد عن 900 فيلم أمكن حصرهم كأعمال تبرز صورة العرب والمسلمين. إنتاج مخابراتي فدراسة المسألة تقتضي تحديدا علميا لمدلول كلمة فيلم عالمي التي قد تختزل فيما تنتجه هوليوود بمختلف مستوياته أو تمتد إلي إنتاج أوروبي أو مشترك لأفلام تحظي بتوزيع واسع. وقد تشمل أيضا أفلاما شرقية تجوب العالم من الهند أو هونج كونج أو أفلاما راقية المستوي تشارك في المهرجانات وتحصد الجوائز وتحقق شهرة مدوية، ولكنها لا تحظي سوي بمشاهدة جمهور من النقاد والمثقفين وصفوة المهتمين بفن السينما. تبدو الصورة قاتمة في الغالب خاصة فيما أفرزته هوليوود في معظم إنتاجها مما يلوح بشكل واضح في أفلام مثل "قواعد اللعبة" عام 2000، و"أكاذيب حقيقية" عام 1994، و"القرارات النافذة" عام 1996، و"ضربة الحرية"عام 1998 وكذلك في فيلم "الحصار" والذي تدور قصته حول قيام أمريكيين من أصول عربية بهجوم مسلح علي مدينة "مانهاتن" الأمريكية عام 1998 . ويؤكد جاك شاهين نظرية المؤامرة حين يشير إلي مساهمة المخابرات الفيدرالية الأمريكية «إف بي آي» مباشرة في دعم منتجي هذه الأفلام، وذلك ضمن حقائق كثيرة تكشفت له أثناء البحث الطويل، عندما ثبت له أن وزارة الدفاع والجيش والبحرية والحرس الوطني الأمريكي، كلها جهات حكومية تحرص علي وضع كل عدتها وعتادها تحت تصرف منتجي هوليوود، لإنتاج أفلام جماهيرية قوية ومؤثرة هدفها تمجيد انتصار أمريكا علي أنماط الشر العربي! مجرم متدين قد نري التعسف حتي في افلام تنتصر لشخصيات مسلمة وتصنع منها نماذج مثالية للبطولة. في فيلم «المليونير المتشرد» لداني بويل يرسم السيناريو جوانب شخصياته بدقة ومهارة ولا يستثني من هذا سوي شخصية سليم شقيق البطل الذي تبدو دوافعه وردود أفعاله غير واضحة بالقدر الكاف فنحن نراه مثلا وهو مجرد صبي يشهر فجأة ودون تمهيد مسدسا في وجه زعيم العصابة ليقتله.. ويحرص الفيلم علي إظهاره وهو يؤدي الصلاة وسط انهماكه في عالم الجريمة وهو ملمح لا يظهر في الأخ الطيب مطلقا. وهي مسألة لم تأت بشكل عارض بالتأكيد في فيلم يحقق دراسة متأنية في كل تفاصيله إلا في طقوس الصلاة التي لم يكلف أحد نفسه حتي بمعرفة أصولها لتوجيه الممثل ليؤديها بشكل سليم . فلماذا يبدو هذا الجانب ضعيفا ومتهافتا في ظل تماسك باقي العناصر والحرص علي دقة التفاصيل!؟ علي جانب آخر قد نري في إنتاجنا السينمائي العربي القديم محاولات لصنع أفلام تسهم في إبراز صورة الوجه الإيجابي للعربي المسلم في أعمال مثل «الناصر صلاح الدين» ثم في تجارب أكثر طموحا تهدف لغزو أسواق العالم اعتمادًا علي نجوم عالميين مثل «عمر المختار» و«الرسالة». ولكن تغيب هذه الجهود لعقود لتنفرد بالساحة الصورة الساخرة من العرب والمسلمين إذا ما اقتربت منهم السينما الهوليوودية أو الأوروبية. ولكن الشيء المؤكد والذي أعتقد أنه أصبح بارزا في السنوات الأخيرة في هذا المجال هو جهود واضحة تبذل من أجل مواجهة تيار جارف، يدين الشخصية العربية والإسلامية بل وعقيدة تؤمن بها نسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية. تتحقق محاولات المقاومة الأكثر تأثير من خلال فنانين غربيين يسعون إلي تحقيق رؤية أكثر عمق وموضوعية بعيدا عن النظرة السطحية والنمطية التي روجت لها هوليوود عبر عقود طويلة. فوبيا المؤامرة تتغلب نظرية المؤامرة علي البعض منا حتي تصل إلي حد الهوس. وهم يتصورون أن فنان السينما الغربي عندما يتصدي للشخصية العربية أو الإسلامية فعليه أن يقدم فيلما دعائيا زائفا لها. ولكن مخرج مثل بول جرينجراس في فيلم يونايتد 93 يكتفي بأن يقدم صورة أقرب ما يمكن للصدق، اعتمادا علي مادة موثقة وحيث نري في إحدي المرات النادرة صورة مجسدة لشخصيات عربية تكتسي باللحم والدم وتبدو دوافعها وسلوكياتها مبررة بخلفيات اجتماعية وسياسية. وحيث لا يبدون كنماذج مغيبة وفق مفهوم ديني متعصب يسوقهم نحو عملية استشهادية دون خوف او تردد. ومن أهم هذه النماذج زياد الجراح الشاب اللبناني الذي قام بقيادة الطائرة . وهو الذي فجرها في الأرض حين تأكد من استحالة القيام بتنفيذ العملية وضرب البنتاجون . وبعد ان اقتحم عليه الركاب كابينة القيادة وحاولوا إقصاءه عن قيادة الطائرة. ويعود نفس المخرج في فيلم «المنطقة الخضراء» ليسجل وقائع أول شهور للغزو الأمريكي للعراق وعواقبه علي العرب. ويعد الفيلم أول اعتراف سينمائي أمريكي بتورط الولايات المتحدة في العراق. وبأن هذه الحرب الغاشمة التي راح ضحيتها الآلاف والتي خربت العديد من المنشآت بعد سنوات من الحصار والتجويع، كانت بدوافع كاذبة. فالعراق لم يكن بها أسلحة نووية وهذا ما اكتشفه الضابط الذي سافر خصيصا من أجل العثور علي هذه الأسلحة. ثقافة الإسلام أما الطائرة الورقية لمارك فوستر فهو أول فيلم هوليوودي عن هذه المنطقة من العالم. وعبر قصة إنسانية ليس لها علاقة بالحروب أو العنف وإن كانت تتناول في جانب منها التمييز الطائفي الذي يفرق بين البطل وصديقه. وحيث كل درجات الإسلام ممثلة من العلماني إلي الملتزم مرورا بالجهادي ،لكن الفيلم لا يتحدث عن طريقتهم في ممارسة إسلامهم أو كيف يؤثر إيمانهم في قراراتهم ، ولكنه يراه مجرد جزء من ثقافتهم. تتحقق أيضا بعض الجهود في مجال نشر صورة صحيحة عن الشرقي عموما والمسلم خصوصا في أفلام يشارك فيها الشرق بالإبداع أو التمويل وبوجه خاص في الهند وإيران أو بمحاولات نادرة في الإمارات ومن بعدها قطر. وبصرف النظر عن تفاوت مستوي هذه الجهود فنيا وتفاوت مدي انتشارها وقدراتها عاي التعبير والتأثير. تبدو التجربة الهندية الأكثر تأثيرا بحكم اتساع سوقها وجمهورها. ومن أهم نماذجها فيلم «اسمي خان» عن مواطن هندي يعيش في الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر ويعاني من الشكوك الدائمة في نواياه التي تعرضه للاضطهاد، وكل هذا لمجرد أنه مسلم وله ملامح شرقية. فهل سيتمكن من أن يدافع عن نفسه ويثبت براءته؟ بل وأن يقدم للعالم صورة صحيحة عن دينه الإسلامي العظيم بثقافته العميقة ودعوته الأساسية للتسامح والسلام والتواصل بين كل خلق الله دون أي تمييز بين لونهم أو دينهم أو أصلهم. هذا هو باختصار موضوع فيلم «اسمي خان» الذي حقق نجاحا كاسحا في كثير من بلاد العالم . وهو أحد الأفلام الهندية المهمة التي تلقي تقديرًا كبيرًا علي الساحة الدولية والتي تقدم صورة جديدة ومتطورة للفيلم الهندي، وتعود به من جديد إلي أيام مجده التي شهدها في الأسواق العالمية. الحل الإيراني قد يسخف البعض ويستهين بالتجربة الإيرانية. وقد يرون أن رواجها في المهرجانات الدولية هو نوع من تعاطف الغرب مع سينما تزعم صدقا أو كذبا أنها تواجه القمع والاضطهاد في الداخل. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن السينما الإيرانية أصبحت تشكل ظاهرة في العالم وتقدم نموذجا لفنان مسلم اختلف مع نظامه الحاكم أو إتفق. وأصبح الفيلم الإيراني له موقعه شبه الثابت في كبري المهرجانات الدولية. وإذا كان البعض يزعم أن التجربة تتقلص، فخير دليل علي عكس ذلك هو حصول فيلم «انفصال» علي جائزة مهرجان برلين مؤخرا ومنافسته بقوة علي أوسكار أفضل فيلم أمريكي غير ناطق بالإنجليزية والتي لم تعلن بعد. ومن اللافت أن السينما المصرية بتاريخها الطويل وتراثها الغزير تظل بعيدة عن كل هذه المحاولات. ولكن إذا كان الفن هو إعادة إنتاج للواقع. وأن الفنان يكسب مصداقيته من مدي اقترابه من صورة تعبر بصدق عن واقع حقيقي يلمس المشاهد جوانبا منه، فإن السينما المعبرة عن واقعنا في مصر لن تتمكن من تحقيق تأثيرها علي المشاهد إلا بعد أن تترسخ لديه صورة واضحة ومستقرة لنا كمجتمع ديمقراطي حقيقي ودولة مؤسسات مدنية قادرة علي تحقيق أهدافها وطموحات أبنائها دون أن تبح أصواتهم أو تصاب أجسادهم أو تراق دمائهم أو تزهق أرواحهم. سوف تتضح للعالم صورة عن واقع حقيقي لشعب أغلبه من المسمين يسترد ريادته حين يتمكن من تجاوز ماضيه الأليم ويتغلب علي فلول نظامه البائد. وحين نبدأ بالفعل في بناء دولة ناهضة متحضرة تؤمن بقيمة العلم وتمنح الفرص لأبنائها بالتساوي وتتحقق فيها العدالة للجميع. وحيث يطفوا علي السطح العلماء والموهوبين ويتواري الأتباع والمنافقين والبلطجية.

جريدة القاهرة في

14/02/2012

 

يوسف شاهين:

عملت طويلا سمكري سينما فصنعت أفلاما كابوسية

بقلم : د. محمد فتحي 

عبر الإطلال الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي «الأرض» وعلي ازدواجية المثقف العربي وانفصامه «الاختيار» وعلي الفساد كواحد من مسببات الهزيمة «العصفور» مع الاشارة إلي الصراط المتأرجح بين الانهيار والأمل في مستقبل جديد «عودة الابن الضال»، مع ذلك كله يبدو أن شاهين أحس بأن الأمر بات في حاجة ـ بالتوازي مع مساءلة التاريخ وتوجيه أصابع الانتقاد والاتهام إلي الآخرين ـ إلي ما هو أقسي وأشد جرأة وهو محاسبة الذات: «ألست أنت جزءاً من اللعبة؟ جزءاً من التاريخ؟ وبالتالي جزءاً من الواقع والهزيمة؟» حين أنهي يوسف شاهين دراسته الثانوية في "كلية فكتوريا"، حشدت أسرته المتطلعة إلي الارتقاء الاجتماعي كل طاقاتها المالية «باعوا البيانو وقطعاً من الأثاث و...» لكي يتمكن الشاب الطموح من السفر إلي العالم الجديد. وهكذا وجد يوسف نفسه يدرس فنون المسرح والسينما في معهد "باسادينا بلايهاوس" بأمريكا لمدة عامين. هناك اكتشف عدم صلاحيته للتمثيل الذي عشقه وجاء من أجل دراسته وممارسته، حيث إن ملامحه «أنفه وأذنيه وتكوينه الجسماني و...» لاتؤهله للنجومية! فقرر الالتفات إلي الإخراج، رغم أنه ظل يعشق التمثيل كثيراً. وحين عاد إلي مصر «عام 1949» جدّ في البحث عن فرصة، لأن أحوال أسرته المالية تدهورت بشكل كبير بعد موت أبيه. لكنه لم يجد منتجاً يقتنع به وبسيناريو "ابن النيل" الذي أراد البدء به، المنقول عن الفيلم الأمريكي "ابن النهر River boy"، فاضطر إلي العمل كمساعد مع المخرج فرنيتشو في فيلم "امرأة من نار"، حتي رشحه المصور الإيطالي الفيزي أورفانيللي لإحدي شركات الإنتاج، بعد اعتذار أحد كبار المخرجين، فوافقت وقتها لا لشيء إلا لضآلة أجره، وقدم "بابا أمين"، الذي حلّق فيه مع فاتن حمامة وحسين رياض، وقدموا أمثولة أخلاقية في قالب كوميدي راق اعتمد علي المواقف والمفارقات، وكان يوسف ساعتها أصغر مخرج في مصر، فلم يكن عمره قد تجاوز 23 عاما. كانت السينما المصرية تمر بمرحلة ازدهار كاذبة بعد الحرب العالمية، وكان "بابا أمين" فيلما اجتماعياً بعيدا عن أي مغزي أو إسقاط سياسي، فقد عاد يوسف علي غير دراية بالواقع السياسي «وظل- باعترافه الشخصي- بدون وعي سياسي حتي أخرج رائعته "الأرض" عام 1970». لكن شاهين، قدم مع ذلك فيلماً يختلف شكلا وموضوعا عما هو شائع، لينال جواز مرور كمخرج بارز القدرات، ومن هنا بدأ مشواره المتفرد، رغم أن صدمة الأسلوب الجديد أبعدت الجمهور عن فيلمه. ولم يكن هناك من حل للاستمرار، إلا أن يجاري الواقع السينمائي بقسماته التجارية، حتي استطاع، وليس بدون معاناة، تأكيد طزاجة قدراته ولغته السينمائية. ثورة يوليو ومع طلوع ثورة يوليو راح وعيها يتجلي لما في أفلامه، كما حدث في "صراع في الوادي" «1954» الذي يصور العلاقة بين الإقطاع والفلاحين في صعيد مصر، والمعروف أن "القضاء علي الاقطاع" كان من أهم مبادئ الثورة. وصنع شاهين فيلما مختلفا، لا من حيث تعبيره الصوري ولغته السينمائية فقط، بل من حيث مضمونه اليوليوي، ونهايته الغريبة، التي لم تلتزم ما جرت عليه السينما من انتصار للمظلوم، في توخ للعدالة "الشاعرية" بدلا من تحقيقها في الواقع، وجري إعدام الشخصية المظلومة لأول مرة في الأفلام المصرية. لكن شاهين ظل، في مجمل أعماله، بعيدا عن الوعي بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها المجتمع المصري، حتي ان تأميم ناصر المدوي لقناة السويس، وفشل العدوان الثلاثي، ثم أجواء الوحدة مع سوريا، فاجأت شاهين وهو في عالم آخر، مشغول بتنفيذ سيناريو أبو السعود الإبياري "أنت حبيبي" «1957» الذي يحاول رأب الصدع في العلاقة بين فريد الأطرش وشادية، ليجمع بينهما الحب، بعد أن فرقهما الزواج! كان شاهين يعشق التمثيل رغم ابتعاده عنه، وقد كرر في حواراته: صرت أبحث عن أشخاص أمثل من خلالهم، ويا ويل الممثل الذي لا يكون أنا. ولذلك دائما ما كان يحدث تناقض وصدام وانفجار. ووصلت إلي نقطة شعرت فيها أنني في مأزق كبير، مادمت لا أجد الممثل الذي يمكن أن يكون أنا. فقيل لي: "لا بأس من أن تمثل ما دمت ترغب في التمثيل". قرر شاهين مع النصيحة أن يلعب دور قناوي بائع الصحف الأعرج المتيم بحب هنومة بائعة المياه الغازية في فيلم "باب الحديد" «1958». كان انحياز ثورة يوليو للفقراء يتأكد كل يوم، وكانت قضية الحقوق الاجتماعية للطبقات الفقيرة، قد بدأت تجد تعبيرا عنها ليس فقط في الصحافة والأدب والوسائط الفنية المختلفة، بل وراحت تصنع أمجادا لسينمائيين مثل صلاح أبوسيف وتوفيق صالح. وهكذا جاء "باب الحديد" ليعبر عن اقتحام جريء لعالم الضائعين إنسانيا واقتصاديا وجنسيا ونفسيا، في سيناريو يميزه الصدق والبناء الدرامي المحكم، الأمر الذي أكسبه شاهين بلاغة فنية وصورية مذهلة، لم يستوعبها جمهور السينما في حينه، فكان فشلا ذريعا وصدمة مدوية. وعاني شاهين صدمة مختلفة مع عمله التالي "جميلة" «1958». جاء الفيلم تعبيرا عن الشعور القومي الجارف، والتضامن مع الجزائر في حربها التحررية، ونجح الفيلم رغم أنه كان يقدم صورة غير معتادة للمرأة العربية. كان الفيلم فورة حماسية صادقة، لم تتضمن أي تحليل سياسي لقضية الشعب الجزائري، وبالرغم من ذلك شكل نقطة تحول. يقول يوسف: "إن الوعي الاجتماعي قد دخل أفلامي بعد جميلة. فيه كنت وطنياً بالفطرة، وكانت الأمور بالنسبة إلىّ أشبه بلعبة العسكر والحرامية، والناس في الفيلم كانوا إما جيدين أو سيئين. وعندما أحرق الجمهور الغاضب السفارة الفرنسية في القاهرة، أدركت أنني تناولت شيئاً لا أعرفه، وأن هناك في الصراع ما هو أبعد من قصة العسكر والحرامية. ورحت أقرأ عن المذاهب الفلسفية والاجتماعية، وتعرفت علي عدد من السياسيين، وبدأت أكتشف تدريجياً بعض قوانين الصراع ولغته، فأخذت تتكون عندي عموميات فكر سياسي". ومع الدعم الذي قدمته السلطة جسّد "الناصر صلاح الدين" نزعة شاهين الوحدوية، وإعجابه بالدور القومي لعبدالناصر. كما أكد قدراته السينمائية والتقنية، بتقديم ملحمة علي طريقة أفلام هوليوود الضخمة، عن الحروب التي قادها صلاح الدين ضد أوروبا، مومئا- بشكل واضح- إلي الناصر عبدالناصر، الذي حارب أوروبا إبان العدوان الثلاثي، فجاء الفيلم تجسيدا للصراع بين الشرق والغرب، بين حركة التحرر العربية والغزوالاستعماري. وإضافة إلي تقديم شاهين الوجه الإنساني المشرق للقائد العربي عكس الفيلم، من خلال السيناريو الذي كتبه عبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ، رؤية ناضجة للغاية للصراع مع الغرب، بالتركيز علي البعد الحقيقي المتمثل في الاستعمار والهيمنة، وإبعاد فكرة المواجهة الدينية «الصليبية». وقد شغف شاهين- مع ما مثله الفيلم من علامات تفوق وقبول- بعالمه وأحس أنه اخترق من خلاله عدد من الموضوعات الأثيرة، التي ستبقي تشغله طويلا مثل: كيف نقرأ التاريخ ونتعامل معه من منظور فني، وكيف نتعامل مع الآخر ونواجه الهيمنة الأجنبية... وهي الموضوعات التي ستبرز معالجات متنوعة لها في عدد من أفلامه التالية، بينها "الوداع يا بونابرت، المصير، الآخر. وحاول شاهين في فيلم "فجر يوم جديد" «1964» تصوير واقع مصر الجديدة، التي كانت تحلم بالتنمية وتغيير المجتمع ودفعه باتجاه التصنيع وتكافؤ الفرص وإعطاء الحق للجميع في التعلم والمشاركة في بناء الوطن. حاول التعبير عن ملامح التغير الذي استهدفته القوانين الاشتراكية، لكن اللعثمة الشاهينية غلبته، فلاقي الفيلم فشلا مدويا علي المستويين الجماهيري والنقدي. وقد علق شاهين علي هذا الفيلم فيما بعد: "كنت مثالياً، فتصورت إن الأمل يأتي من داخل البورجوازية ذاتها، وربما يعود هذا التصور إلي طبيعة انتمائي الطبقي". الأرض وما كاد شاهين يستقر في القاهرة، بعد عودته من هجرة غير ناجحة إلي بيروت، حتي زلزلته صدمة هزيمة 1967، التي ولدت مرحلة جديدة في سينماه تجلت في أربعة أفلام أساسية، إذ فتحت الهزيمة الباب لإعادة قراءة الواقع، بما جلبته من وعي سياسي. ولعودة الاحتلال إلي أرض مصر، بات التمسك بالأرض وتحريرها عنوان المرحلة. هنا قدم شاهين رائعة عبدالرحمن الشرقاوي "الأرض"، عن سيناريو رصين كتبه حسن فؤاد، الذي شارك في التجسيد البصري للرواية من خلال رسوم تعبيرية واكبت نشرها منجمة. الرواية كانت في الأساس صرخة معبرة عن كفاح الفلاحين في ثلاثينات القرن العشرين، وتمسكهم بأرضهم ودفاعهم عنها، في مواجهة الظالم، حتي النفس الأخير. لكن العودة إلي الرواية، بعد هزيمة 1967 وعودة الاحتلال، كانت تعني التأكيد علي مقاومة الشعب المصري وعدم قبوله الهزيمة. وصوّر الفيلم شخصية "محمد أبو سويلم" نموذج الفلاح المصري بطيبته وأصالته وشعوره الوطني المفعم بالكبرياء والكرامة، وهو يدافع عن أرضه ويتمسك بها ببطولة ملفتة، وجاء المشهد الأخير وهو مجرور بخيول السلطة ويده متشبثة بالأرض تنزف دما، رمزا مروعا للتمسك بالأرض ورفض الهزيمة. كانت نهاية جديدة تماماً علي السينما المصرية، الطين يختلط بالدماء في صورة فريدة شدت الانتباه إلي المغزي العام للوطن والمقاومة والشرف والتمسك بقيم الحياة والدفاع عنها. بعد الهزيمة المفجعة جاء تأثير الفيلم الذي يدعو في وضوح إلي التمسك بالأرض مهولا، وهكذا رسخ يوسف شاهين اسمه في لائحة شرف السينما المصرية بعلامة ثالثة من علاماتها الكلاسيكية: «الأرض» 1970، «بعد باب الحديد» 1958، «الناصر صلاح الدين» 1963، مما جعله واحدا من رموز الواقعية المصرية، التي بدأت مع "العزيمة" لكمال سليم و"السوق السوداء" لكامل التلمساني في ثلاثينات القرن العشرين، قبل أن تترسخ جذورها في الخمسينات علي يد صلاح أبوسيف وتوفيق صالح. وأتاح ذلك ليوسف أن يقول: "في فترة من حياتي عملت سمكري سينما وركبت الموجة السائدة. ركبت حواديت ودلقت كراكيب علي شيء اسمه فن سينمائي فكانت النتيجة ظهور أفلامي المعنونة حب للأبد ورجل في حياتي و... وأنا لا أتذكرها إلا في الكوابيس أوالأحلام المزعجة". وهنا باتت مراوحات شاهين السابقة بين الفني والتجاري مستحيلة، بالذات وقد وضع يديه علي عامل من عوامل التفوق، يتمثل في الاستعانة بعقول حقيقية، تدرك أبعاد العوالم التي تتحدث عنها الأعمال السينمائية. وبالتعاون مع مثل هذه العقول تطرق في مجموعة من الأفلام إلي معالجة موضوع الساعة: الأسباب الداخلية العامة للهزيمة. الهزيمة والسياسة عبر إطلاله الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي في "الأرض" كشف شاهين علي نحو عابر عن سلبية المثقف المصري في مواجهة الأزمات، وتراجعه في الأوقات العصيبة التي تتطلب أن يكون قدوة تحث الآخرين علي النضال. فقد صوّر، في مقابل أهل المقاومة والصمود، من فروا أمام المحنة التي مرت بها القرية، عندما حاول الاقطاعي الكبير انتزاع الأرض من ملكية الفلاحين البسطاء، وذلك عبر مهادنة وتراجعات الشيخ حسونة وغيره من أبطال ثورة 1919، ومن هنا نبعت الفكرة المحورية لفيلم شاهين التالي "الاختيار"، الذي كتب قصته نجيب محفوظ، وركز علي مشكلة ازدواجية المثقف العربي وانفصامه، ودوره في التفاعل مع قضايا الجماهير، كما حلل بجرأة الواقع السلبي للمثقفين العرب، محملا إياهم مسئولية الهزيمة من خلال استمرارية العجز والانهزامية والسلبية والانتظارية ناهيك عن الانتهازية والوصولية والتبعية للسلطة القائمة والخوف منها. وعن هذا الفيلم قال «شاهين»: "إنه المواجهة المباشرة مع الهزيمة، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة، ومسئولية المجتمع ككل". جرت المعالجة في "الأرض" بعيدا عن الشعارات والإطارات الزاعقة. احتفت بصراع الفلاحين ضد الإقطاع في مصر، وفق تقنية سينمائية راقية وشديدة الوضوح تتمتع ببلاغة بصرية عززتها رصانة معمار الفيلم الكلاسيكي وقوته الفكرية وصفاء رؤيته. ووصل إبداع شاهين في التعبير السينمائي إلي ذروته في تقديم ملحمة بصرية كلاسيكية مبهرة. ولكن ذلك لا ينفي أن نمطية السرد بلغت ذروتها أيضا في الفيلم. كان الأرض تقليديا من وجهة النظر السينمائية، وهذا ما دفع شاهين إلي التفكير في الثورة علي فنياته التقليدية. ويمكن أن يكشف لنا ما كان يدور في خلد شاهين ما قاله، في حينه، عن فيلم آخر هو "الناصر صلاح الدين" الذي أحيط بالانبهار علي مر السنين، ورأي- شاهين- أنه لا يستحق الضجة التي أثارها "فهو في النهاية فيلم رسالته مكشوفة"، وحينما سُئل عن سر نجاحه قال: "عادي. الناس شايفة حمير وجمال بتجري، وناس بتجعر وسيوف وما شابه. الناس بتحب كده". وقد عزز ما كان شاهين يفكر فيه اكتشافه أن الدنيا أكثر تعقيدا من أن تكون مفهومة إلي هذا الحد، وهذا ما شجعه علي بدء مغامراته الجمالية متنوعة الآفاق. في "الاختيار" تصاعد كثيرا اهتمام يوسف شاهين بالشكل الفني. ووجد الفرصة متاحة لخلق بناء فيلمي يتوازي مع البناء الفكري المطروح، فانتهج طريقة سرد تقوم علي الشذرات الروائية، وجمل الحوار اللاهثة المتقطعة، مع الاستغناء عن الحبكة التقليدية، وإطلاق العنان للتداعيات الحرة التي تشكل في النهاية لوحة متكاملة. وواصل شاهين في "العصفور" «1973» البحث عن أسباب الهزيمة والعوامل التي أدت إليها، وركز علي دور الفساد والبيروقراطية، إلي جوار الدور التغييبي الذي لعبته أجهزة الإعلام إبان الهزيمة، بإخفائها الحقائق عن الشعب. وأنهي الفيلم بخروج الناس للشارع عقب خطاب التنحي، متمسكين بعبدالناصر رافضين الهزيمة حاملين شعارات الصمود والحرب، في تجسيد يمكن أن نعده رجع الصدي لنهاية فيلم "الأرض". ولأن الفيلم كان محملاً بمضامين فكرية تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية الخربة، تم منع عرض الفيلم طويلا- لم يعرض إلا بعد حرب أكتوبر- مما أصاب شاهين بالإحباط، الذي قاده إلي فكرة فيلمه الجديد. جاء "عودة الابن الضال" 1976 مأساة غنائية تدور أحداثها في قرية "ميت شابورة" التي رمزت للمحنة التي تمر بها مصر، وتحكي قصة طلبة الدكتاتور المسيطر علي أقدار القرية، الذي تربطه مصالح مشتركة مع بعض مؤسسات السلطة، وعلي المثقف اليساري الذي تستقطبه السلطة، بعد طول اعتقال، وتورطه وتقتل تطلعاته وتحوله إلي كيان هامشي يائس، بينما يبقي الأمل كامنا في إبراهيم وتفيدة رمز الأجيال الجديدة. ناقش الفيلم الواقع المصري بعد وفاة عبدالناصر 1970 وقبل حرب أكتوبر 1973 من خلال أفراد أسرة كبيرة ينتظرون عودة ابنهم السجين لتحقيق أهدافهم الحيوية في الحياة. لكن البطل المنتظر يعود منهارا محطما، ليكون بمثابة الوعد الضائع بالنسبة للجميع. وقد جاء سيناريو الفيلم الذي شارك الفنان صلاح جاهين في كتابته شديد التماسك والإتقان والجدة، إذ استخدم الرمز في تكثيف دال، وجاءت الأغاني التي كتبها له وثيقة الارتباط بدراما الفيلم، معبرة عن الأمل بعد مفترق الطرق الصعب، اعتمادا علي المعرفة والعلم والوعي. وجسد شاهين ذلك بتقنية سينمائية راقية وشديدة الوضوح، جعلت الفيلم حالة من حالات التجلي التي تجمع بين الإمتاع والإبداع. عبر الإطلال الواعي علي جذور الصراع الاجتماعي «الأرض» وعلي ازدواجية المثقف العربي وانفصامه «الاختيار» وعلي الفساد كواحد من مسببات الهزيمة «العصفور» مع الاشارة إلي السراط المتأرجح بين الانهيار والأمل في مستقبل جديد «عودة الابن الضال»، مع ذلك كله يبدو أن شاهين أحس بأنه أزاح عبئا ثقيلا عن كاهله، وأن الأمر بات في حاجة، بالتوازي مع مساءلة التاريخ وتوجيه أصابع الانتقاد والاتهام إلي الآخرين، إلي ما هو أقسي وأشد جرأة: محاسبة الذات. في الاختيار «1971» يتأمل شاهين أوضاع المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً ذاتياً، لكن أمر مختلف تماما أن ينظر في المرآة، ويتفرس في ملامحه، يحاسب حاضره وماضيه. ويبدو أنه شاهين آنئذ همس لنفسه: "ألست أنت جزءاً من اللعبة؟ جزءاً من التاريخ؟ وبالتالي جزءاً من الواقع والهزيمة؟". رباعية الإسكندرية لم تكن المرة الأولي التي يتطرق فيها يوسف شاهين إلي شيء ذاتي. كان قد داعب أطرافا من سيرته في أفلامه السابقة. ففي فيلمه الأول "بابا أمين" كان هناك نقد خفيف للأب، وفي الفيلم الثاني "ابن النيل" انتقد أحلامه المنفصلة عن السياق الاجتماعي و.. وفي تلك الأيام حدث ما ألح علي التوجه الذاتي، حيث توجب أن يجري شاهين عملية كبيرة في القلب، وفي هذا الإطار بدأ ما صار رباعية عن سيرته الذاتية وعن الإسكندرية، وهي خطوة فريدة من نوعها في تاريخ السينما العربية، حيث وضع شاهين نفسه تحت المجهر، واخترق الجدران والحواجز والقيود، وغاص في أعماق ذاته بحثا عنها، وكأنه أراد أن يصفي حساباته مع عائلته ونفسه وهواجسه ودوافعه. جسد حلم الخروج من الإسكندرية في "إسكندرية ليه"، الذي انتهي بمشهد اللحاق بالسفينة التي أقلته إلي أمريكا في آخر لحظة. كان موضوع الفيلم الرئيسي نشأة يوسف شاهين، لكن إلي جانب التعليم والبحث عن المستقبل قدم الفيلم الإسكندرية، المدينة العالمية التي يعيش فيها ناس من كل الأجناس والأديان ويتكلمون كل اللغات. من خلال عيون شاهين رأينا إسكندرية الأربعينات خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تأكل الحرب صغار الجنود من مختلف الجنسيات. كما رأينا الحياة الاجتماعية للمدينة التي يتعايش فيها أغنياء الحرب والموالون للسلطة والحالمون بدخول الألمان ليتخلصوا من عبء الاحتلال البريطاني، وذلك إلي جوار التعايش بين المسلم والمسيحي واليهودي، ناهيك عن حياة اليهود المصريون وعلاقتهم بالصهيونية. يومها تصور الجميع وربما تصور شاهين نفسه أنه يقول كلمته الأخيرة، لكنه كان في العمر بقية وبات شاهين يكرر: "لم يعبر "إسكندرية ليه" عن كل الحقيقة. إنه مجرد محاولة لتلمس بداية الطريق للحديث عن الحقيقة. إنه تصفية الحساب مع العائلة، ليبدأ بعد ذلك حساب النفس". وكان ذلك ما أتاح طرح جزء ثان من سيرته الذاتية "حدوته مصرية" صور فيه الأزمة المفترقية التي تعرض لها وهو في الخمسين من عمره، عندما أجريت له جراحة القلب المفتوح، واللحظات الفاصلة بين الحياة والموت التي مر بها. هذه التجربة التي تجعل المرء يتخطي حاجز الخوف ويبدأ في مواجهة الذات بكل تناقضاتها، فنري المخرج "يحيي مراد" بطل الفيلم يواجه المؤسسات القمعية من الأسرة إلي المدرسة إلي الدولة، ويوجه نقده اللاذع لها لأنها تسهم في قهر الإنسان، وتجرده من ذاتيته وتفرده. كما يطرح هاجس العالمية الذي سيطر علي تفكيره لفترة من الزمن، وجعله يحلم حتي بالعمل في هوليوود. ومحاولات الرقابة علي فنه ومصادرة حريته في التعبير، ورفضه الاستسلام لما تحاول المؤسسات فرضه، وتمسكه بحريته واستمراره في مواصلة تحقيق ما يريد، مبينا أن الصراع بين الفنان والطفل ينتهي بالمصالحة بينهما، مما يمنحه أثرا تطهيريا ويعينه علي استكمال مشواره الفني. ولم تنته قصة السيرة الذاتية مع يوسف شاهين عند هذا الحد، إذ ستمتد إلي أن تصبح رباعية، مثل رباعية الإسكندرية، وإن كان في إطارات متباينة. ظروف شاهينية بعد اكتشاف شاهين أن الدنيا أكثر تعقيدا من أن تكون مفهومة علي النحو البسيط الذي تصوره يوما. توالت مجموعة من المتغيرات التي ساهمت في تشكيل عالمه. وزغلل عينيه الكلام الكبير عن سينما المؤلف، وأسفر ذلك مع كثير من الملابسات عن مرحلة ممتدة من اللجلجة الفكرية والفنية، وهذا موضوع آخر.

جريدة القاهرة في

14/02/2012

 

«فيس بوك» و«تويتر» تعترضان علي قوانين حماية الملكية ومنع القرصنة.. وهوليوود تؤيدها!

بقلم : شيريهان المنيري 

يعني قانون «Sopa»، منع القرصنة علي الإنترنت Stop Online Piracy Act ، أما قانون «Pipa» فهو يعني قانون حماية الملكية الفكرية Protect IP Act هذان القانونان اللذان كان من المُفترض أن يتم التصويت عليهِما في الكونجرس الأمريكي في 24 يناير الماضي، مما أثار جدلاً عالمياً وبالأخص في العديد من الشركات العالمية بالولايات المُتحدة الأمريكية. فبموجب اعتماد الكونجرس لهذا القرار كان سيتم إيقاف العديد من المواقع الإليكترونية، فعلي سبيل المثال كانت «Google» العالمية وغيرها من مُحركات البحث علي الإنترنت ستضطر إلي أن تُخفي كُل نتائج البحث الخاصة بتلك المواقع الموقوفة، وفي حالة امتناع أي منها عن تنفيذ ذلك القانون ستُتهم بمُخالفة القوانين بالإضافة إلي تعرضها لفرض غرامات مالية باهظة. ويكيبيديا وفيس بوك وتويتر ترفض كما أكد موقع Wikipedia" " أكبر وأضخم موسوعة علي الإنترنت رفضه لهذا القرار، ووقف ضد هذا القانون بشكل صارم، وعبر عن إستيائِه من خلال منع ظهور المحتوي باللغة الإنجليزية في 18 يناير 2012 فبالدخول لصفحة الموقع كانت تظهر صفحة سوداء وتوضيح لسبب منع المحتوي من الظهور. بالإضافة إلي أغلب مواقع التواصُل الاجتماعي الشهيرة مثلFacebook" "وTwitter" " و"Google+" " وغيرها والتي أعربت عن غضبها ورفضها التام لمثل هذه القرارات، لأنها ستُحتم عليها مُراقبة كُل ما ينشر علي مواقعها وما إذا كان يحمل مُحتوي مُقرصن أم لا !! وهذا بالتأكيد ما يصعُب مُتابعتهِ حيثُ كثرة التحديثات من الـShare""، والـ"Tweet" "، إلي آخرهِ... والتي تُعد بالملايين في الثانية الواحدة علي مواقع التواصُل الاجتماعي. مما سىُعرضها بالتأكيد إلي مشاكل كثيرة في ساحات المحاكم الأمريكية. ان الاعتراض لم يكُن مُنصباً علي فكرة مُحاربة القرصنة نفسها، لكن أيضاً علي الطريقة التي يفرضها القانون ليصل لذلك الهدف. هذه الطريقة التي نظر إليها المُراقبون علي أنها تؤثر علي طريقة مرور المعلومات وتبادُلها من خلال الإنترنت. كما رأي بعض المُحللين أن فرض هذا القانون من المُمكن أن يؤدي إلي أن تتحول الولايات المُتحدة الأمريكية إلي ما يشبه مُمارسات بعض الدول كالصين ودول العالم الثالث من حجب ورقابة علي شبكة الإنترنت. هوليوود تؤيد أما بالنسبة لمؤيدي هذه القوانين، فهُم يتمثلون في استديوهات الأفلام في" هوليوود" وغيرها من شركات الإنتاج والتوزيع الموسيقية، لأنهُم دائماً أكثر المُتضررين من عمليات القرصنة، والتي تُعرضهُم لخسائر مالية كبيرة. ولذلك فهي تُرحب بتلك القوانين من أجل وضع حد لقرصنة مُنتجاتها. وهذا ما تُدركهُ الكثير من الشركات ورجال الأعمال ولذلك يرفضون تلك القوانين التي في حالة صدورها تُعطي الفُرصة لشركات النشر والتوزيع لرفع دعاوي قضائية علي الأفراد والمواقع في حالة نشر مواد مُقرصنة تخُص شركات الإنتاج مما يتسبب في إيقاف أي موقع يقوم بنشر مثل هذه المواد، ولهذا أكدت أغلب كُبري شركات الإنترنت مثل هذه القوانين. مما أدي إلي قيام شركات عالمية مثل كُلاً منAOL، EBay، Facebook Googl ،LinkedIn،Mozilla، Twitter،Yahoo ، Zynga بكتابة رسالة وجهتها للكونجرس الأمريكي وفيها : «نحنُ نشعُر بالقلق من أن مشروع هذين القانونين قد يشكلان خطراً كبيراً علي المسار الحافل للابتكار وخلق فُرص العمل، لذلك لا ىُمكننا دعم هذا المشروع كما هو مكتوب ونطلُب منكُم أن تضعوا قوانين وسُبل أكثر استهدافاً للقضاء علي المواقع المُتخصصة في التعدي علي حقوق النشر وتقليد العلامات التُجارية مع الحفاظ علي الابتكار الذي جعل من الإنترنت عاملاً مُهماً للنمو الاقتصادي وخلق فُرص العمل. إن هذه الاجراءات غير قادرة علي وقف القرصنة لأن المواقع قد تضطر لتغيير عناوينها والاستمرار في نفس أنشطتها بينما ستُعاني المواقع المُقيضة بالقانونين بشكل أكبر. ونحنُ علي استعداد للعمل مع الكونجرس لوضع حلول جدية تستهدف مُعالجة مُشكلة المواقع الأجنبية المُضرة بالفعل». ولم يتوقف الأمر عند الحد السابق، لكن بمُجرد الإعلان عن تلك القوانين ظهرت موجة مُعارضة وعنيفة من الناشطين ومُستخدمي الإنترنت في العالم، عن طريق شن حملات كبيرة في شكل مُظاهرات إليكترونية ضد الشركات التي دعمت مشروع ذلك القرار. مثل ما حدث مع شركة «Godaddy» أحد أشهر المواقع في تخصُص حجز الـ«Domains» النطاقات- والتي دعمت مشروع قانون «Sopa» حيثُ تعرضت لُخسارة أكثر من مائة ألف اسم نطاق خلال عشرة أيام قام فيها أصحاب تلك النطاقات بنقل نطاقاتهِم إلي شركات أخري. لكن بمجرد هذا الانقلاب العالمي من قِبَل أقوي وأشهر الشركات العالمية علي الإنترنت، تم تأجيل اعتماد ذلك القرار، وأصدر "البيت الأبيض" بياناً رآهُ العديد مؤيدا لمنتقدي Sopa" "و"Pipa" "، والذي جاء فيهِ : "علي الرغم من أننا نعتقد أن القرصنة الإليكترونية من جانب مواقع أجنبية مُشكلة خطيرة تتطلب رداً تشريعياً مهماً، إلا أننا لن نُدعِم تشريعاً يقلل من حُرية التعبير، ويزيد من مخاطر الأمن الإليكتروني أو يقنن ديناميكية وإبداع الإنترنت العالمي". اتفاقية التجارة ومكافحة التزييف وفي بداية شهر فبراير الجاري أعلن Darrel Issa" " عضو مجلس النواب الأمريكي أنهُ لن يتم طرح مشروع قرار "Sopa" " و"Pipa" " لما تسبب فيه من جدل وضجة صاخبة في أوساط الإنترنت مُنذ الإعلان عنهِ. لكن لا أعتقد أن إلغاء قانوني «Sopa» و«Pipa» ىُعتبر نصراً للنشطاء العالميين وشركات الإنترنت العالمية، ففي حين توجَه أنظارهم جميعاً لتلك الإشكالية، فوجئ الجميع بتوقيع مشروع إتفاقية Acta Anti-counterfeiting trade agreement أو مايعرَف بـ "اتفاقية التجارة ومُكافحة التزييف"، فهو عبارة عن اتفاقية نتجت عن مُقترح مُتعدد الأطراف بهدف وضع معايير دولية لتنفيذ حقوق الملكية الفكرية عن طريق إنشاء إطار قانوني دولي جديد يمكِن الدول المختلفة من الانضمام بشكل اختياري، وقد قامت كُل من اليابان والولايات الُمتحدة الأمريكية بتطوير الفكرة لإنشاء اتفاق متعدد الأطراف بشأن مُكافحة التزوير في عام 2006 وفيما بعد نالت هذه الفكرة دعماً كبيراً من كثير من الدول وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي. فهذه الاتفاقية تنُص علي تجريم الصناعة والنشر، والأدوات والخدمات التي تُحاوِل التنصل من وسائل السيطرة علي المواد الخاضعة لحقوق النشر - إدارة الحقوق الرقمية - كما أنها ستفرض عقوبات جنائية جديدة تضطر الجهات المعنية في الكثير من الأحيان لرصد ورقابة الإنترنت والاتصالات، مما يتسبب في تهديد رئيسي لحُرية التعبير علي الإنترنت. وأعتقد أنهُ بُدءَ بالفعل تنفيذ بعض من أفكار هذه الاتفاقية حيثُ نُشاهد أحياناً بتصفح موقع الـ«Youtube» جملة مثل : «هذه المادة لا يمكن الوصول إليها من دولتك» وفي مواقع أُخري نري : «لقد قامت الشركة "س" بحجب هذه المادة». وبالتالي نري أن هذه الاتفاقية لا تختلف كثيراً في المضمون عن قانون «Sopa»، فهي مُعاهدة عالمية تُحاول تطبيع حماية حقوق التأليف والملكية الفكرية، أي لها الحق في حظر كُل شيء علي الإنترنت بدعوي حقوق الملكية الفكرية، وهذا بالطبع يتنافي مع فكرة الإنترنت من الأساس والتي تقوم علي المُشاركة وانتشار المعرفة وتداوُل المعلُومات، وتبادُل الثقافات، إلي آخره... لكن مع الأسف تم التوقيع علي اتفاقية Acta" " بين الكثير من الدول دون أن يعلم الجميع بهذا الأمر أي في الخفاء نوعاً ما، حيثُ بدأ التوقيع عليها بدول مثل: استراليا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية، والمغرب ونيوزيلندا وسنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية مُنذ الأول من أكتوبر لعام 2011 ثم انضم حالياً إليها دول الإتحاد الأوروبي فدخلت فيها كُل من: النمسا وبلجيكا وبُلغاريا وجمهورية التشيك والدنمارك وفنلندا وفرنسا واليونان والمجر وآيرلندا وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا ولكسُمبورج ومالطا وبولندا والبرتغال ورومانيا وسلوفنياوإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة. مما تسبب في اعلان مجموعة "أنونيموس" لمُهاجمة كل من يوافق علي هذه الاتفاقية، وبالفعل بدأت في تنفيذ تهديدها مع اليونان حيثُ قامت "أنونيموس" بمُهاجمة موقع وزارة العدل اليونانية مُحذرة السلطات أن الأمر من المُمكن أن يتصاعد ليصل إلي ما يقرُب من ثُلثمائةِ موقع لوسائل الإعلام والوزارات اليونانية في حالة عدم تراجُع اليونان عن قرارِها.

جريدة القاهرة في

14/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)