حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الحائز على جائزة "غولدن غلوب" لأفضل مخرج لهذا العام

سكورسيزي: لم يعد بإمكاني تنفيذ أحلامي

إعداد: عبير حسين

استهوته السينما وهو طفل لم يتجاوز السابعة، خاصة أنه كان يعاني من أزمات ربو منعته من اللهو مع أصدقائه بمثل عمره، وكانت السينما بخيالها هي كل عالمه، حيث حرص والده على اصطحابه إليها لمشاهدة كل فيلم جديد . وفي عصر هوليوود الذهبي بالخمسينات عندما بدأت موجة الأفلام الثلاثية الأبعاد ارتبطت بذاكرته أفلام رائعة مثل بوانا ديفيل BWANA DEVIL  وديل مي فور ميردر  DIAL ME FOR MURDER ، ومع أن “بدعة الأبعاد الثلاثية” لم تستمر طويلاً فإنها تركت انطباعاً هائلاً لدى الصغير صاحب النظارات الضخمة التي كانت تلتهم نصف وجهه، والذي أصبح فيما بعد واحداً من أفضل صناع السينما في هوليوود .

إنه المخرج مارتن سكورسيزي الذي تحول ولعه بالسينما صغيراً إلى شغف أبدع حالة سينمائية خاصة متعددة المواهب، فإلى جانب براعته بالإخراج، عمل كاتباً للسيناريو، وممثلاً، ومنتجاً، واختاره الجمهور في اقتراع على الإنترنت أجرته مجلة “توتال فيلم” TOTAL FILM  عام 2007 ثاني أفضل مخرج في تاريخ السينما الأمريكية بعد الفريد هيتشكوك ومتقدماً على ستيفن سبيلبيرغ .

سكورسيزي الضيف الدائم على قائمة مجلة “التايم” لأكثر 100 شخصية مؤثرة بالعالم، والحائز على أوسكار أفضل مخرج 2008 عن فيلمه “المنشق” THE DEPARTED ، ومؤسس جمعية الفيلم ،1990 وجمعية سينما العالم ،2007 خاض تجربة جديدة مختلفة بعد 60 عاماً على مشاهدته أول فيلم بالأبعاد الثلاثية، عندما قرر استخدام التقنية نفسها لإخراج أحدث أفلامه “هوغو”  HUGO المقتبس عن رواية برايان سليزنك  THE INVENTION OF HUGO CARBET وهي قصة لطفل يتيم يعيش بمحطة سكة حديد باريس في الثلاثينات، ويبحث عن الحقيقة وراء بدعة غامضة تركها والده (الذي يلعب دوره جود لو) والفيلم من بطولة السير بن كينغسلي وكلوي مورتيز وساشا بارون كوهن، وحاز عنه سكورسيزي جائزة غولدن غلوب لأفضل مخرج وهي الجوائز التي تعد مؤشراً قوياً على اتجاهات الأوسكار لهذا العام .

مجلة “انترتانمينت” التقت سكورسيزي في حوار حول عشقه للسينما، واستعادته ذاكرة أفلام الماضي قبل بداية أي عمل جديد، ورأيه في صناعة السينما العالمية حالياً، فكان الحوار التالي:

·     بعد “عصابات نيويورك” GANGS OF NEW YORK  و”ماين ستريت” MAIN STREET يأتي “هوغو” مختلفاً تماماً عن كل ما قدمت في السابق، فهل نستطيع تصنيفه عائلياً، بعيداً عن أفلام العصابات والمطاردات التي اشتهرت بها؟

نعم، تصنيفك صحيح، ابنتي الصغرى فرانشيسكا (12 عاماً) شاهدت الفيلم مع صديقاتها وكانت سعيدة للغاية، في السابق كانت تسألني دوماً متى ستخرج فيلماً أستطيع مشاهدته، وأضحكتني ذات مرة عندما استفسرت إذا كنت اعرف الأبعاد الثلاثية، ولماذا لم استخدمها في أي من أعمالي .

·         إذاً أخرجت “هوغو” خصيصاً حتى تتمكن ابنتك من مشاهدة أحد أعمالك؟

نعم إلى حد ما، لكنها ليست كل الحقيقة، فمنذ فترة طويلة تراودني رغبة في تنفيذ شيء مختلف عما قدمته في السابق، وكانت قصة هوغو مناسبة تماماً .

·         لماذا تحمست الآن لاستخدام تقنية الأبعاد الثلاثية، وهل تعتقد أن الجماهير بدأت تمل منها؟

لم يكن هناك توقيت محدد لاستخدام الأبعاد الثلاثية، أنا لا أعمل بهذه الطريقة، في السابق لم أنفذ عملاً يحتاج إليها، أما قصة هوغو فكانت مناسبة لها، ولا اعتقد أن الجمهور بدأ يمل منها، بل على العكس كانت الأبعاد الثلاثية سبباً رئيساً لنجاح بعض الأفلام بسبب الإبهار الفني الذي تخلقه على الشاشة، ويبقى نجاحها أو إخفاقها دوماً رهناً بمدى تطورها تقنياً، ومناسبة القصة الدرامية لها .

·     بصراحة هل تحمست لاستخدام الأبعاد الثلاثية في فيلم هوغو،لأن ستيفن سبيلبيرغ وجيمس كاميرون سبقاك في هذا المجال، ولم ترغب في التخلف عنهما؟

(ضاحكا) . . أبداً الأمر ليس كذلك، لطالما كنت منبهراً بالأبعاد الثلاثية، وأحتفظ حتى الآن بنسخة فيديو لفيلم قديم اسمه “إنها قادمة من الفضاء الخارجي”  IT CAME FROM OUTER SPACE عندما كانت النظارات التي نرتديها ضخمة للغاية وباللونين الأزرق والأحمر . لكن الفكرة هنا ليست تقليداً، وجدت فكرة الفيلم وقصته أفضل إذا نفذت بهذه التقنية المتطورة، لذا استخدمتها من دون تفكير من يأتي أولاً، أو آخراً.

·         ما نوعية الأفلام التي تفضل أن تشاهدها ابنتك الصغيرة؟

بدأت فرانشيسكا مشاهدة الأفلام وهي صغيرة جداً، وفي كل عطلة نهاية الأسبوع كنت اخصص جزءاً من اليوم لأعرض عليها أفلاما قديمة بالأبيض والأسود مثل  BRIBGING UP BABY ، وتدريجياً بدأت تشاهد أفلام الستينات الموسيقية والاستعراضية، ثم أفلام الفريد هيتشكوك، وبخاصة NORTH BY NORTHWEST  و REAR WINDOW .

·         لا تقل انك سمحت للصغيرة بمشاهدة فيلمي PSYCHO  أو VERTIGO ؟

بالتأكيد لا، إنها أفلام معقدة للغاية، ومرعبة، وصعبة، على الرغم من أنهما رائعتان لمخرج عبقري مثل هيتشكوك، وعموماً فهي تفضل أفلام جيري لويس مثل  WEST SIDE STORY و THE NUTTY PROFESSOR .

·         هل ورث أحد من أبنائك شغفك بصناعة السينما؟

لا، لم يهتم أي منهم بالعمل في السينما، لكن جميعهم بكل تأكيد يفهمون كثيراً عن الصناعة، عندما نشاهد سوياً أحد الأفلام الحديثة يعرفون على الفور المشاهد التي صورت دفعة واحدة، والأخرى التي حدث خلالها توقف، ونتبادل الحديث عن أمور فنية مختلفة متخصصة مثل حركة الكاميرا، وانفعالات الممثلين وغيرها .

·         كان مفترضاً تنفيذ فيلم هوغو قبل أربعة أعوام؟ لماذا كل هذا التأخير؟ وهل ترى صناعة فيلم الآن أمراً صعباً؟

نعم إعداد فيلم بحرفية عالية أمر ليس سهلاً على الإطلاق، أما السبب في تأجيل تنفيذ الفيلم كل هذه السنوات، فهو عدم تحمس الشركة المنتجة “وارنر براذر” للعمل، وافقت عليه لكن من دون حماس، ولم ارغب في العمل على هذا النحو، خاصة أني نفذت معهم قبلها فيلمي  THE AVIATOR  ذا آفياتور، وTHE DEPARTED  “ذي ديبارتد”، وأعرف كيف يكون الحماس لإنتاج فكرة معينة، لذا قررت التأجيل .

·         هل شعرت بخيبة أمل وقتها؟ ولماذا لم تنفذ أعمالاً أخرى؟

نعم شعرت بخيبة أمل كبيرة، لأن العمر تقدم، ولم يعد بإمكاني تنفيذ كل الأفكار التي احلم بها وأتمنى إخراجها، كان هذا ممكناً قبل ثلاثين عاماً، أما الآن عندما تسنح الفرصة يجب اقتناصها على الفور، ربما لا تأتيك مرة أخرى .

·     كان عام 2011 مزدحماً بالنسبة لك، إلى جانب هوغو أخرجت حلقات “إمبراطورية بورد ووك” boardwalk empire" عن حياة العصابات بمدينة أتلانتا عام 1920 لشبكة HBO، إضافة إلى عملك على إنجاز وثائقي عن جورج هاريسون، وإيليا كازان، هل أنت راض عن كل هذه الأعمال؟

نعم، كان عاماً مزدحماً للغاية، لا أتذكر أنني انشغلت إلى هذه الدرجة من قبل، فبجانب المسلسل، لم أتمكن من رفض فكرة الأعمال الوثائقية القصيرة عن راحلين مبدعين أكن لهم شخصياً كل الإعجاب، خاصة هاريسون عازف الغيتار المميز لفريق البيتلز، والمخرج العبقري إيليا كازان، كذلك استعد لإنجاز آخر عن الكاتب فران ليبوتيز، والتجربة مثيرة حقاً أتمنى تكرارها مجدداً .

حقاً لقد استمتعت بهذا الزحام في العمل، لكنني لن أكرره، سأعمل على تنسيق أولوياتي، ولن أبدأ عملاً قبل أن أنتهي من الآخر .

·         إذا رغبت في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ما أكثر شيء ترغب في تنفيذه، ولم تتمكن؟

القراءة، ليتني تمكنت من القراءة أكثر مما كنت أفعل، الآن لم يعد بمقدوري قضاء ساعات أتصفح كتاباً، وكان الأفضل لو فعلت ذلك شاباً.

الخليج الإماراتية في

25/01/2012

 

 

دراجة نارية تقتل المخرج السينمائي ثيو أنجيلوبولوس

يوسف يلدا – سيدني: 

أن يكون مصير أحد أبرز رموز السينما العالمية ينتهي بإصابته في حادث دراجة نارية يقودها رجل شرطة، ومن ثم تؤدي هذه الإصابة الى موته، لهو أمرٌ يدعو الى السخرية من المصير القاسي الذي كان في إنتظاره.

فقد كان السينمائي اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، الفائز بجائزة السعفة الذهبية عام 1998 عن فيلمه (الأبدية ويوم)، في مهرجان كان السينمائي، يعد أحد أبرز المخرجين العالميين، والأكثر إثارة للجدل، وقد وصفه النقاد بأحد أكبر الألغاز المستعصية على الحل في السينما.

وكان ثيودور أنجيلوبولوس قد توفي يوم الثلاثاء، 24 يناير الحالي، بعد ساعاتٍ معدودة من إصابته في حادثٍ مروري، أثناء  عملية تصوير فيلمه الجديد في أثينا. وكان المخرج اليوناني برفقة طاقمه الفني في منطقة (درابيتسونا)، القريبة من بيراياس، عندما صدمته دراجة نارية مساء الثلاثاء. وقد وقع الحادث عندما كان أنجيلوبولوس، البالغ 76 عاماً، يحاول عبور أحد الشوارع المزدحمة. وتشير التحقيقات الأولية الى أن رجل شرطة كان يقود الدراجة النارية، وإن لم يتم تأكيد ذلك. وبعد نقله الى المستشفى، خضع للعلاج في وحدة الرعاية المركزة، ولكنه فارق الحياة متأثراً بجروحه الخطيرة، بعد ساعات قليلة. 

وقد إكتشف المخرج اليوناني المولود في عام 1935، إنحيازه للسينما في أواخر عقد الستينات، بعد أن هجر مهنة المحاماة، ونال شهادة عالية للأدب في باريس. وإستطاع أن ينضم، في هذه المدينة، الى مدرسة للسينما، إلاّ أنه قرر العودة الى بلده اليونان، والتفرغ للصحافة. وكان يعمل كناقد سينمائي في الصحيفة اليومية (ديموكراتيكي آلاغي)، عندما وقع إنقلاباً عسكرياً في اليونان عام 1967، وتم إغلاق الصحيفة حينذاك. وكان ان إنتقل من الصحافة الى السينما.

في العام 2008، وخلال حفل العرض الأول للفيلم الوثائقي (مكان في السينما) لألبرتو مورايس في مدريد، عاد المخرج اليوناني بذاكرته الى الوراء قائلاً: "في صباي، كنت أتردد على الصالات، وعلى الحفلات أيضا، برفقة أصدقاء، وجيران. كانت تلك بمثابة أنشطة إجتماعية، تبنى خلالها علاقات صداقة وحب، ولقد عمل التلفاز على تدمير ذلك النسيج الإجتماعي، وأنا اليوم أجلس وحيداً أمام هذا الجهاز". ويشعر صاحب فيلم (تحديقة يوليسيس) بالحنين الى النجاح الذي كانت تحققه الأفلام الطويلة والتي تمتد لثلاث ساعات، حيث كانت تتميز أعماله السينمائية بطول مدتها: "كان ذلك يحدث فعلاً على مدى سنواتٍ طويلة". و يصرّ على أهمية التعليم قائلاً: "في الحياة العامة، وكذلك في المدارس يجب مشاهدة الأفلام السينمائية، والحديث عن السينما، وتدريس كيفية مشاهدة السينما". لكن السينما الشبيهة بالتي يقدمها ثيو أنجيلوبولوس. وقد كان فيلمه الروائي ( إعادة بناء) عام 1970، حقق إنتشاراً واسعاً ، الأمر الذي أطلق إسمه في عالم السينما، ودفعه لأن ينجز ثلاثية (أيام 36 – 1972)، و(الممثلون الجوالون – 1975)، و(الصيادون – 1977)، التي تناولت تأريخ اليونان إبتداءاً من الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن الماضي. وقد أكسبته شهرته العالمية كمخرج سينمائي مبدع، إسماً بارزاً في أوساط السينما الأوربية.

وإعتاد أنجيلوبولوس، في أغلب لقاءاته الصحفية، على القول: "أنا رجل متشائم، لأنني أعتقد أن الأجيال الجديدة من السينمائيين عاجزة عن المضي قدماً في أعمالها، لاسيما إذا إختاروا مثلي رؤية شخصية جداً".

وقد أنجز السينمائي اليوناني في الثمانينات أشرطة فيلمية تخلو من السياسة، كما هو شأن (رحلة الى سيثيرا - 1984)، الذي حصل على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان، أو ( منظر في السديم – 1988)، والذي فاز، هو الآخر، بالجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا السينمائي. وبعدها عاد ليصنع سينما جميلة من خلال (تحديقة يوليسيس – 1995)، الحاصل على جائزة النقاد في كان، ولعب دور البطولة فيه الممثل هارفي كيتل، و(الأبدية ويوم - 1998).  وبسبب من عدم قدرته تحمل نفقات إنتاج أعماله السينمائية، فقد كان عليه الأنتظار حتى العام 2004، لينطلق من جديد عبر ثلاثية بدأها بفيلم (إليني).

ويعود أنجيلوبولوس مرة أخرى، ولكن هذه المرة سياسياً اكثر من ذي قبل، ليتحدث عن الهجرة، ويحشر قصصه المفعمة بالعاطفة في اكثر اللحظات حرجاً في تأريخ اليونان. وبعد مرور أربع سنوات، عاد ليستمر في إنجازاته السينمائية من خلال فيلم (غبار الزمن)، الذي جسّد ويليام دافو فيه دور مخرج أمريكي يقوم بتصوير فيلم عن والديه، اليونانيين. وساهم في الفيلم، الى جانب دافو، آيرين جاكوب وميشيل بيكولي. وإشترك في  كتابة السيناريو تونينو غيرا، مثال الحب العميق الذي كان يكنه السينمائي اليوناني لإيطاليا، حيث كان يتم إنتاج أغلب أفلامه بالإشتراك مع إذاعة وتلفزيون إيطاليا (راي).

ثيو أنجيلوبولوس، المتزوج والأب لثلاثة ابناء، لم يرحل تاركاً خلفه ثلاثيته غير المكتملة فقط، بل تركنا من دون أن يقدم تحليلاته الثاقبة، التي وعدنا بها، في (البحر الآخر)، فيلمه الذي كان سيدور حول الأزمة التي تعصف ببلده اليونان.

إيلاف في

25/01/2012

 

السينما والفلسفة:

عندما تحول كهف افلاطون إلى قاعة سينمائية!

د. بوشعيب المسعودي  

لقد صرح جيل دلوز: إن السينما ممارسة جديدة للصور وللعلامات، ويجب على الفلسفة أن تؤسس النظرية الخاصة بها، باعتبارها ممارسة مفهومية، لأنه لايكفي وجود التحديدات التقنية ولا التطبيقية ولا التأملية لتشكيل مفاهيم السينما ذاتها. هذه مقدمة لكتاب 'حوار الفلسفة والسينما' من ترجمة الدكتور عز الدين الخطابي، والذي أراد به المترجم تفعيل شعار 'التفلسف مع السينما' ولم يقصد التفلسف في السينما واختار نصوصا عديدة تمثل اجتهادات عدد من الفلاسفة أمثال: برغسون ودولوز وفليني وغودار وغيرهم....

والسؤال الذي طرحه عبر هذه النصوص وهو بأي معنى يمكن للسينما أن تكون موضوعا للتفكير الفلسفي؟

ويتفرع عن هذا السؤال عدة أسئلة في نفس السياق، هل هناك تباعد أم تقارب بين حقل السينما وحقل الفلسفة؟ وما مدى تأثير الفلسفة على السينما؟ وما موقع الفلسفة مقارنة مع السينما؟....

إن مغامرة السينما بدأت كمغامرة الفلسفة: كهف أفلاطون وصور مضاءة من الخلف وقاعة مظلمة مع صور بالأبيض والأسود أو بالألوان متحركة. فهل هذا هو الواقع الحقيقي أم الواقع المزيف والخادع، فبالنسبة للفيلسوف فنحن مقيدون داخل الكهف والسينما تقيدنا كذلك بصورها وتشدنا إليها، حسب قيمة وقوة العمل الفني، ويمكننا في بعض الأحيان أن ننسى الجانب الميكانيكي للعرض ونتفاعل مع العمل السينمائي كالعمل المسرحي، أما سجين أفلاطون فهو لايصفق ولا يحتج ولا يطرح أي سؤال. وظلال الكهف صور فاسدة وليست صورا خادعة عكس صور السينما المزيفة ومع ذلك فالمشاهد يغوص في
العرض إن كان جيدا ويتفاعل معه ويشارك في الأحداث.

إن شقاء الفلسفة ينبع من إلزام مزدوج: الفكر يوجد خارج السينما لأنه يهتم بالجدية وليس بالترفيه، والسينما تشكل الآخر الشاعري. إن السينما تحرج الفلسفة، وهذا ما تبين من خلال فحص التمثيل المجازي الأفلاطوني الذي يلزمنا بالخروج من الكهف مهما كان الثمن.

وقد أصبحت العلاقة بين السينما والفلسفة ذات معنى عندما قرر الإنسان الذهاب إلى السينما. وقد تحول كهف أفلاطون إلى القاعة السينمائية. إن الفيلسوف وهو يشاهد فيلما لايراه كإنسان عادي، فليس لديه نفس المرجع وليس له نفس الاهتمام ونفس المعنى. ولكنه في نفس الوقت يكمن بداخله الإنسان العادي الذي يضحك ببلاهة على منظر مسلي.

لقد طرح سؤال عميق هل الفلسفة والسينما على توافق؟ إن التخيل والأحلام وتفسيرها عبر أفلام السينما يسقطون في طرح مفاهيم واستفسارات مبنية على أحكام شخصية تؤرخ للحظات فلسفية محضة، من طرف أشخاص عاديين، وعلى مفاهيم فلسفية عميقة متطورة من طرف نقاد وفلاسفة يرون ما لايراه الشخص العادي.

إن السينما تعتبر أدبا متجددا فهي تهم الفلاسفة بسبب التيمات التي تعالج في الاقتباسات وفي تجسيدات السينما للعدد الكثير من الكتاب والفلاسفة. ولكن هل هذا التجسيد أمينا وممثلا بشكل جيد؟

إن دور السينما دور فني بالمعنى العميق ووظيفة السينما شعرية وفنية. إن الفيلم يحوي لوحات شعرية ذات معنى وأفلام مثل ماتريكس وترومان شو... الذين يطرحون تساؤلا كبيرا عن الحياة وعن الوعي وعن الواقع وعن المعايير وعن المنطق وعن المشاعر... إنه منهج فلسفي في الحياة للبحث عن معناها الملموس والغائب وكثيرة هي أفلام هيتشكوك التي تمر عبر تفسير الأحلام، والغوص فيها والتعريف بمحاورها الفلسفية. إن فيلم 'الشمس المشرقة الخالدة لعقل نطيف' يطرح مشكل المعانات. هل يمكن أن نمحي كل ذكرياتنا؟ كيف تبدو الحياة بدون ذكريات؟ ماهي الحياة التي ترفض الزمن وترفض التجربة وترفض إذن المعاناة؟ فيلم 'ريو برافو' أو فيلم 'القطار يصفر ثلاث مرات' يتساءلان عن معنى الحياة وعن الأخلاق وعن السياسة. وما الذي يجمعنا ويجعلنا نعيش سويا على الرغم من خساسة الناس وبؤسهم؟

لقد استفادت السينما من القيم الدينية والأخلاقية وعلاقة البشر بعضهم بالبعض، وولدت نقاشا حادا وسط المجتمعات، غاص النقاد فيه يمينا وشمالا، وخلقت أفكارا جديدة وتصورا فلسفيا جديدا للعالم الذي نعيش فيه ممزوجا بذكريات الماضي مع حلوها ومرها مرورا بمشاكل الحاضر وتمنيا بحصول التغييرات في المستقبل. فتحليلنا للأفلام في الوقت الحاضر ينقسم بين التحليل الظاهر للفيلم ولمقوماته وتقنياته وبين التحليل الباطني للبحث عن الشاعرية لضبط التنافر والمضادات الخارجية والظاهرية للفيلم.

لقد صرح أستاذ مدرس للفلسفة لتلاميذه بأن المنهج الفلسفي يمكن له أن يدرس عن طريق السينما، وأن البداية تبدأ بمشاهدة الأفلام والذهاب إلى السينما وأخذ الوقت الكافي للتفكير في الأفلام وإجراء مقارنات مع أفلام أخرى ومع كتب ومقالات أخرى. إن المنهج الفلسفي يفترض أن لا يكون المشاهد مجرد مستهلك. لا شك في أن بعض السينمائيين هدفهم الربح المالي، والمعادلة الربح التجاري/الربح الأدبي الفلسفي صعبة المرادفة وصعبة التحقيق والتسويق لجمع الإثنين معا، هناك نماذج ولو قليلة. إن بلوغ أسمى القيم الثقافية والكتابية صعب المنال.

والفلسفة باهتمامها بالسينما تفتح مجالا مغايرا لطرقها القديمة والأكاديمية وخروجها من كهف أفلاطون عمليا. إن للفلسفة جمالية وللسينما جمالية، والفلسفة لصيقة بالفكر والعقل والسينما لصيقة بالرغبة والمتعة. إن مفارقة غودار التي مفادها أننا نجد النظرية داخل الأفلام أكثر مما نجدها داخل النظريات تعتبر غير مقنعة، وكما يقول باشلار: ' إن المشاكل لا تطرح من تلقاء ذاتها في الحياة العملية'. إن بازان يهتم بالكشف عن الدلالات المثالية وراء الظواهر وهذه الظاهرة تقوم بإبراز الوجود الفردي للأشياء ككائنات وتحدد موقع المشاهد وحريته في علاقته مع العالم.

لقد تطور العمل السينمائي. فقد كتب بازان بأن السينما في المرحلة الصامتة كانت توحي ما كان المخرج يريد قوله. وهناك تعابير أخرى من قبيل: 'يكتب مباشرة بلغة السينما' و 'على قدم المساواة مع الروائي'... وهذا ما يوحي تحرر السينما من التقاليد ويبرز شاعريتها وجماليتها. لقد قال دانييل باروشيا: 'إننا نخترق لبعض لحظات عالما أثيريا، شفافا، منبثقا وراء المادة والمكان والزمان، عالم أعيد إنتاجه من طرف الذاكرة والأخبار وتشكيله من طرف الانفعالات الحية التي تجردنا منها، والتي تظل قائمة بشكل آخر مع ذلك، عالم مناسب للمغامرة وللولاءات الجديدة.

ولا تنسى الاستتيك في السينما فلها مكانة هامة للتأمل في العمل الفني السينمائي، ولقد كان أرنايم من الأوائل الذين ألحوا على فكرة السينما كفن ولكنه ركز على جودة الإنتاج السينمائي. وتأسف كثيرا على أنه لم يحصل التمييز بين العمل الجيد وبين العمل غير الجيد، فأغلبية الكتاب لايميزون في الحقيقة بين الجودة العالية وبين النجاح التجاري.

وأسس جان ميتري جزءا كبيرا على فكر السينما كفن (جمالية وسيكولوجية السينما، 1966). إن أبحاث الجمالية تتضمن نظريات مختلفة ومتناقضة، وتباعد المفاهيم والأهداف بالنسبة لنظريات السينما يطرح مشاكل على المستوى المنهجي وعلى المستوى المضموني، ومع ذلك تظل تأملات غنية بالعبر مثال ذلك الرهان الأنطولوجي وبعد الحقيقة لدى غودمان.

وهكذا انتقلت السينما من التاريخ والنقد إلى النظرية، وجب عليها الانفتاح على أنماط جديدة من التفكير. وعندما سطر أفلاطون أسطورة الكهف فقد مهد بدون قصد إلى تقارب السينما والفلسفة. وقد صاغ هذا المعنى غودار:' إني أفكر، إذن فالسينما موجودة' ومع ذلك فالسينمائي يصنع صورا وأصواتا حية، بينما الفيلسوف يعالج مفاهيم مجردة وغير مرئية.

عندما ولدت السينما اعتبرت في بداية الأمر ترفيها، ولم تتعجل الفلاسفة بملاحقة هذا الشيء العجيب المستخرج لترفيه الشعوب. ولكن كيف استطاعت هاتين الحالتين أن تقتربا؟ الحركة الفنية الشابة والمعرفة النظرية القديمة وأم العلوم. لقد أنشأت الفلسفة مع السينما علاقة غريبة متقاربة ومتباعدة ومتشابكة، واستثمرت الفلسفة السينما في شخصيات كثيرة مثل برغسون ودولوز وغودار... وخلقت عدة علاقات مثيرة ومتناقضة ناهيك عن المناقاشات التي جرت في هذه 'الكهوف' العصرية وهذه القاعات المظلمة المسماة 'قاعة سينمائية'. وقد حضيت السينما بنماذج كثيرة من العلوم الإنسانية، ولو كانت المواضيع علمية صرفة ودقيقة جدا، فقد اشتغل عليها الفيلم الوثائقي منذ بدايته.

وقد بسطت السينما، كما يعرف الجميع، جناحيها على جميع المواضيع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية.

وتدخل الفلاسفة في جميع عناصر الفيلم وصناعته. يعرف عن أندي بازان أنه من المناهضين للتوليف المنتج وهو المتأثر جدا بالفكر البرغسوني. كما أكد دولوز على التفريق والتمييز بين الصورة-الحركة والصورة في الحركة، وحركية الكاميرا لا تغير من المبادئ المؤسسة للسينما. ولما تطورت السينما على مدى ما يزيد عن القرن من الزمان وبرز دور دولوز ودور فيليني في خلق عوالم وأزمنة متطورة ومستقلة. وقد قال دولوز: إن السينما لا تعرض صورا فقط فهي تحيطها بعالم محدد. ونجد عوالم فيليني ساحرة وممتعة ومتعلقة بالحياة. ويقول سارتر بهذا الصدد لقد قذفت بكل شيء، بعالمي عالم الوعي وعالم المعرفة والذكريات وعالم الوجود، باتجاه عالم متخيل ضمن الصورة. وهكذا فقد مارست السينما منذ ظهورها تأثيرا قويا على رجال الأدب والفنانين والمثقفين والفلاسفة بعدما كانت تعتبر ترفيها ومتعة شعبية. وقد كتب روبير دينوس سنة 1925: إن ليل السينما العظيم لا يقدم لنا فقط معجزة الشاشة كبلد محايد تعرض فيه أحلامنا بل يمنحنا أيضا الشكل الأكثر تشويقا للمغامرة الحديثة. ومن جهته، فإن السوسيولوجي ادغار موران اهتم بنظرة المشاهد الذي فاجأته ألاعيب الظلال والأنوار حيث أصبح تائها أمام تعقد الواقع واللاواقع. ويعتبر أن السينما حالمة ومستيقظة في نفس الوقت وأنها تجمع بين الحلم والواقع. ورغم كونهما منبثقتين من عالمين مختلفين فإن السينما والفلسفة تتقاسمان لغة مشتركة داخل عالم محايد شرحه دينوس. وعلاقة السينما بالفلسفة علاقة الصورة بالمفهوم (دلوز)، والسينما تصلح القطيعة الواقعة بين الإنسان والعالم حيث نرى التصالح داخل الفيلم وإن كانا غير متصالحين خارجه وبذلك يحصل التبادل بين الواقع والصورة وتبرز نظرية المكان والزمان المهمين في السينما والمحددين للمفاهيم الفلسفية.

المراجع:

·         حوار الفلسفة والسينما، ترجمة الدكتور عز الدين الخطابي

·         بعض دفاتر السينما

·         جيل دولوز: الصورة-الزمان. الصورة-المكان

القدس العربي في

26/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)