حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"الفنان" ليس عن السينما الصامتة إنه سينما صامتة

محمد رضا

هما كلمتان ينطقهما بطل فيلم «الفنان» للمخرج الفرنسي ميشيل أزانافيشوس وذلك في اللقطة الأخيرة من الفيلم: Wiz Pleasure. طبعاً المقصود هو With Pleasure لكن بما أنه فرنسي فإن اللكنة تغلب وwith تصبح wiz?

هذا مفتاح لنحو تسعين دقيقة من فن السينما الفريد. لا شيء يشبه هذا الفيلم من … من … من… أوه لنقل أيام السينما الصامتة…. والسبب أنه فيلم صامت بدوره و- علاوة عن أنه صامت- هو فيلم عن … السينما الصامتة.

الكلمتان هما مفتاح الفيلم الذي نعثر عليه في اللقطة الأخيرة. صحيح أن الباب كان مفتوحاً من البداية بحيث لو وجدنا المفتاح او لم نجده لما كان ذلك مهمّاً، لكن الآن فقط عرفنا ذلك السر الصغير- الكبير: لماذا لم يرحب الممثل (في الفيلم) جورج فالنتين (يقوم به الفرنسي جان دوجاردا) بالسينما الناطقة؟ لماذا مانعها؟ سخر منها في البداية قبل أن يجد نفسه عاطلاً عن العمل. وجد نفسه بلا عمل. نجم فترة ولّت و"شخصية بلا هوية" لفترة جديدة.

هنا نفهم أن جورج لم يرحّب بالنطق لأنه، كونه ممثلاً هوليوودياً، إنّما امتلك في ناصية الحياة الفعلية لكنة فرنسية. وفي تلك الأيام لم يكن ذلك مسموحاً به. الجمهور لم يكن ليفهم او يرضى بأن يقبل لكنة غير أميركية ينطق بها الممثل حتى ولو كان نجماً محبوباً. النطق، الذي بدأ تدريجياً سنة 1927 ثم اكتمل مع مطلع الثلاثينات، فضح كثيرين: بعض الممثلين كان يمتلك صوتاً غليظاً، بعضهم لم يكن يمتلك قدرة على النطق الصحيح، والبعض الثالث، كهذه الحالة، كان أجنبياً، إيطالياً او لاتينياً او فرنسياً، بحيث أن فرصته لدوام الشهرة كانت معدومة. «الفنان»، الذي يتصدّر هذا العام قوائم الترشيحات في أكثر من مناسبة وجائزة دولية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، يتحدّث عن واحد من هؤلاء.

إذاً، لنعد إلى الوراء: الحكاية بإيجاز أن جورج نجم لامع في السينما الصامتة. تتحرّش به فتاة طموحة اسمها بَبي ميلر (برنيس بيجو) ويساعدها فتصبح ممثلة مساندة ثم نجمة كبيرة بفضله. لكن فيما هي تصعد إلى الأعلى، كان هو يشهد انحداره. منتج أفلامه (جون غودمان) يخبره بأن الخطوة الكبرى التي تنتظر السينما هي النطق، لكن جورج يتركه ساخراً. بعد حين، عندما أخذت أفلامه تفشل في جذب الجمهور وقد نطقت السينما فتوجّه إلى الممثلين الناطقين، يدرك أن المنتج كان على حق. يصنع فيلم مغامرات في الأدغال ويراه يتهاوى بينما الفيلم الذي تظهر فيه بَبي، وقد باتت نجمة، يحقق نجاحاً كبيراً بين الجمهور. يكتشف أنه أصبح على حافة الماضي، ثم ها هو يسقط في حفرة الأمس. عاطل عن العمل، يبيع مقتنياته في المزاد أو في دكان الرهونات، ثم يحرق معظم أفلامه ويسقط مغشياً عليه فيما يحاول كلبه إنقاذه. حين يفيق في المستشفى يجد بَبي إلى جانبه، وبعدما تنقله إلى بيتها يكتشف أنها هي من اشترت مقتنياته حتى تحفظها له. لكن كبرياءه يدفعه لمحاولة دمار نفسه من جديد لولا أنها تنقذه هذه المرّة. معاً سيمثلان فيلماً جديداً. إنه هنا، بعدما يقدّمان مشهداً أمام الكاميرا (داخل الفيلم) بنجاح كبير، يقول له المنتج: "هل تستطيع إعادة تصوير هذا المشهد" فيجيبه جورج wiz pleasure وهنا فقط، ثانية قبل نهاية الفيلم، نفهم السبب الذي من أجله كان على جورج أن يمتنع عن الاستمرار في التمثيل وأن يترك قافلة السينما تمضي من دونه.

«الفنان» ليس فيلماً عن السينما الصامتة. إنه فيلم صامت. وهو ليس فيلماً عن التصوير بالأبيض والأسود. إنه بالأبيض والأسود. ليس فيلماً عن تقنيّة السرد في أيام زمان الأول، بل عن تقنية السرد في تلك الأيام والكيفية التي كان الفيلم ينتقل فيها من مشهد لآخر. إذا كنت تعتقد أن أفلام الأمس ساذجة ستجد هذا الفيلم ساذجاً، أما إذا كنت تعتقد أنك تستطيع فهم كنه السينما من خلاله، كما تفهمها من خلال فيلم مارتن سكورسيزي الذي لا يقل قيمة «هيوغو»، فأنت في ضيافة فيلم من النوع النادر. فيلم ربما يقدّم حكاية من نوع صعود نجم وهبوط آخر في المقابل (كما في «مولد نجمة» مثلاً) لكنه في الوقت ذاته أفضل فيلم عاطفي تم تحقيقه في العام المنصرم. في مواجهته، كل فيلم ناطق يتبادل فيه البطلان كلمة "أحبّك" يبدو لعب "عيال". أمراً خالياً من البراءة ومفعماً بالزيف.

طبعاً أستطيع الدخول في بعض التفاصيل لكي أستنتج أن هناك اختلافات معيّنة: الفيلم الجديد من صنع العشرينات لم يكن بهذه النظافة التي عليها هذا الفيلم- لكن هل نستطيع أن نلوم المخرج إذا ما صنع فيلماً سليم الصورة؟ طبعاً لا. بالتالي، هذا ليس موضوع خلاف خصوصاً حين النظر إلى صنعة الفنيين الذين عملوا في الفيلم من مصمم المناظر الأميركي لورنس بانت، إلى مدير التصوير الفرنسي غويلوم شيفمان إلى موسيقي الفرنسي لوفيك بورس. كل منهم يكمل الصورة المنشودة التي في بال المخرج.

إنه ليس أمراً بسيطاً إقدام مخرج ما على تحقيق فيلم صامت. نعم يستطيع سينمائي ما أن يقرر، بفرض أنه وجد منتجاً مجنوناً، تحقيق فيلم روائي طويل من دون استخدام كلمة واحدة. لكن الأصعب هو البحث عن السبب. لماذا يريد تحقيق مثل هذا الفيلم. المخرج ?أزانافيشوس? وجد السبب: فيلم صامت عن السينما الصامتة. طبعاً حتى هنا كان يستطيع إنجاز فيلم ناطق عن السينما الصامتة وسواه فعل ذلك. لكن إذا ما صنع الفيلم من لحمة وعجينة أفلام ما قبل العام 1927 أو نحوها، فإن الناتج ستكون تماماً هذا الفيلم الماثل باستثناء مشهد كابوسي قصير (يسمع الممثل صوت آخرين وأشياء ترتطم لكنه لا يسمع صوته) والمشهد الأقصر الذي ينطق فيه بالكلمتين الجوهريّتين.

كان الفيلم عُرض في "كان" وخرج بجائزته الأولى من هناك، ثم ها هو الآن معروض في كل مكان حول العالم… لنتصوّر مجدداً: فيلم صامت معروض في صالات السينما الكبرى حول العالم! مثل «هيوغو» لمارتن سكورسيزي و«منتصف الليل في باريس» لوودي ألن هو جزء من ثلاثية تدعو إلى حب الماضي لأنه من دون حب الماضي فإن الحاضر لا جوهر له.

الجزيرة الوثائقية في

12/01/2012

 

مايكل مور: صانع أفلام وصانع أخبار ورمز ثقافي

بقلم: جون فيدلر  ـ  ترجمة: أمير العمري 

يخرج مايكل مور، صاحب النظارات العجيبة والكرش المنتفخ المستدير، الأفلام التسجيلية منذ عشرين عاما أو يزيد. في سياق نقده لفيلم "فهرنهايت: 11/ 9" (2004) في مجلة "نيويورك فيلم ريفيو أوف بوكس" يحدد لنا جيوفري أوبريان الناقد ورئيس تحرير مجلة "مكتبة أمريكا" Library of America  ما يمكننا اعتباره أكثر الأوصاف دقة لطريقة وأسلوب مايكل مور في العمل.

حسب ما يقوله أوبريان فإن  مايكل مور في فيلمه الأول "روجر وأنا"، ابتكر لنفسه هذا النوع السينمائي الذي استمر في صنعه: وهو ما يمكن ان نطلق عليه "نشرة أخبار تعبيرية أو لوحة مسرحية أو قطعة إفتتاحية".

أما الراحل  بول آرثر، فقد كتب في مقال له منشور ضمن كتاب "مايكل مور: صانع أفلام وصانع أخبار ورمز ثقافي"، وهو كتاب يضم ثلاث عشرة مقالة، من اعداد ماثيو برنشتاين أستاذ الدراسات السينمائية في جامعة ايموري، يقول ان افلام مور الانتقائية جزء من هذا "النوع من الأعمال الجليلة والحيوية على نحو متزايد ونوع من المقالات الوثائقية".

آرثر، الذي توفي في عام 2008، وكان استاذا لدراسات اللغة الإنجليزية والسينما في جامعة ولاية مونتكلير، يحدد قائلا: "إن ظهور المخرج كبطل لفيلمه، وميله الى الاستطراد البنيوي، وتجزئة الموضوع وتشابك النغمات الخطابية" هي ميزات أبرز أفلامه.

أما  دوجلاس كيلنر فيصيغ ذلك في صيغة أخرى في مقاله المنشور في كتاب برنشتاين فهو يقول: "في فيلم "روجر وأنا" بدأ مور بناء من نوع فريد. وأيا كان الوصف الذي ينال رضاك لأسلوب ومنهج عمل مايكل مور، فلاشك أن أفلامه جريئة وشجاعة. ومن الناحية التقنية تبدو أفلام مور منفصلة تماما عن الأفلام التي يخرجها فريدريك وايزمان. إن وايزمان لا يظهر أبدا في أفلامه، في حين أن مور موجود في قلب أفلامه. ماذا يفعل مور اذن في افلامه وكيف يفعل ما يفعله؟

يكتب برنشتاين أن مور "ساهم في تحويل الفيلم الوثائقي الى منتج تجاري يمكن أن يدر أرباحا أكثر مما كانت هذه الافلام تفعل في اي وقت في الماضي. (يقول برنشتاين إن افلام مور حصدت اكثر من 330 مليون دولار على مستوى العالم). ويرى برنشتاين أن مور، في هذا السياق، رائد للفيلم التسجيلي التجاري.

إن مجموعة كتابات برنشتاين تقدم لنا فحصا أوليا ومهما لأين يقف مور، وهو في منتصف مسيرته المهنية، وتقييما لأفلامه، وله هو نفسه وموقعه على الخريطة السياسية في امريكا.

يقسم برنشتاين كتابه الى أربعة اقسام هي: " نظرة عامة، مور وتقاليد التسجيلي، الأفلام الرئيسية، وخارج نطاق دور العرض المتعددة الشاشات في أمريكا: مور في سوق وسائل الاعلام".
يحتل كل من كيلنر وآرثر القسم الثاني من الكتاب، أما في القسم الأول فيكتب سيرجيو ريزو Sergio Rizzo الذي يقوم بتدريس اللغة الانجليزية في كلية مورهاوس قائلا: "بينما يصور مايكل مور كشخص من الخارج أي من خارج النظام (نظام الاستديو في هوليوود) يرى ان افلامه نجحت في التعامل مع النظام مثلما يستطيع أن يتعامل معه أي شخص في الداخل".

وتتعارض رؤية ريزو مع ما تراه جايلان ستدللر استاذة العلوم الانسانية في جامعة واشنطن التي تختتم دراستها بعنوان "الطبقة والجنس والعنصر في افلام مور" القسم الأول من الكتاب.

إنها ترى بوضوح ان مور هو شخص من خارج المؤسسة، شخص مثل أي شخص عادي يرغب في معرفة الحقيقة. وفيما بعد، عندما تقوم بتحليل فيلم "لعب كرة البولنج قبل كولمباين" (2002) Bowling for Columbine  أن "ظهور مور بمنظره البدين في افلامه يتيح لشخصيته على الشاشة اكتساب صفات تفتقد الى الذكورية، وتميل الى النعومة بل وحتى التعاطف الأنثوي في تناقض مع شخصيات ذكورية فظة مثل شخصية تشارلتون هيستون" (الذي يظهر في الفيلم نفسه).

أما القسم الذي يحمل عنوان "الأفلام الرئيسية" فيبدو أكثر كمقدمة أكثر منه مصدر للكشف عن افلام مور لمن لا يعرفها جيدا. غير أنني وجدت أن مقالة تشارلز موسر من جامعة يال عن الحقيقة والبلاغة اللفظية في فيلم "فهرنهايت 11/9" مصدرا ثريا وجديدا حول الفيلم.

إنه يحدد أربعة أشكال يستخدمها مايكل مور للوصول الى الحقيقة غير انه يبين للقاريء ما الذي ينساه أو يتركه خلال بحثه عن تلك الحقيقة في افلامه.

إن "التعمق داخل سطح المظهر المخادع يرينا أن الحقائق السابقة المقبولة كحقائق ليست حقيقية بل مزيفة (أو أكاذيب) " بل انها تقدم حقائق جديدة بديلة" و"التأكيد البسيط على "الحقائق" أو الأحداث التي تم تقديمها بالفعل من "الجانب الآخر".. وهو يحلل تفصيليا مشهدا في الفيلم السابق الاشارة اليه، يظهر فيه جورج بوش الابن في فصل دراسي داخل مدرسة ساراسوتا في فلوريدا صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001 حيث يجلس هناك لعدة دقائق (هناك جدل حول ما اذا كانت خمس أو سبع دقائق) وهي الفترة التي يصفها مور بأنها "الفترة التي لم يكن أحد يفعل أي شيء خلالها".

لقد بذل البعض جهودا لدحض افكار مور كما فعل ألان بيترسون في فيلم "فهرنهايب 11/9"   Fahrenhype 9/11  (2004) الذي يقدم فيه رؤية مناقضة عن طريق مناقشة اسلوب مور في الوصول للحقيقة.

على هذا النهج يأتي مقال ريتشارد بورتون من مجلة "سينياست"  Cineast لكي يلقي الضوء على فيلم "سيكو" Sicko (2007) لمايكل مور، الذي يشير الى أن مور "يتقاعس عن رصد جوانب القوة والضعف في النظم الصحية الأوروبية والكوبية". ويرى أن الحقيقة (أيا كان ما تعنيه هذه الكلمة) قد تكون مضللة كحل لأزمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.

وجاء القسم الأخير من الكتاب هو القسم الأكثر أهمية بالنسبة لي لأنه أجبرني على الخروج من منطقة الراحة. إن مور أكثر بكثير من مجرد مخرج أفلام. لقد أنتج وألّف الكتب مثل كتاب "الرجال البيض الاغبياء" 2002  و"أيها المتأنق، أين بلدي؟  2003"، كما أنتج وأخرج العديد من البرامج التلفزيونية الناجحة التي حصلت على جوائز عالمية أو التي رشحت لنيل الجوائز مثل "أمة التلفزيون"، 1994-1996، و"الحقيقة المفزعة"، 1999 -2000، وهو يدير موقعا على شبكة الانترنت نابضا بالحياة هو موقع، MichaelMoore.com. وموقعه الآخر moveon.org.

في المقال الأكثر تألقا في الكتاب، تستكشف كاري إلزا، حاملة درجة الدكتوراه من قسم الإذاعة والتلفزيون والسينما في جامعة نورث وسترن، موضوع ترويج النشاط السياسي عبر الإنترنت.

تقول إلزا ان المؤسسين الأوائل (لشبكة الانترنت) كانوا سيسعدون كثيرا بأن يروا "ان الناس يمكنهم التفاعل عبر هذه الشبكة، مع الشخصيات المعروفة والهيئات العامة". هذا التفاعل، على موقع مور MoveOn.org، يؤدي إلى الحوار بين الناشطين و"الناس". وتشير إلزا، على سبيل المثال، إلى أن نجاح هؤلاء الناشطين في حمل الناس على التسجيل للتصويت في انتخابات عام 2004 انعكس فيما قاله هؤلاء الناشطون للذين سجلوا انفسهم فيما بعد، فقد اخبروهم أنهم يجب أن يشعروا "بأنهم أناس أفضل.. وبأنهم أصبحوا ينتمون للمجتمع المحيط بهم" وتذكرنا بأن المسألة أصبحت مسلية وممتعة، وتؤكد على أن الموقعين يولدان منتجا قويا وفعالا: نشاطا اجتماعيا.

لقد قدم برنشتاين مجموعة قيمة من المقالات. وقد أصبح لدينا الآن لمحة من مساهمات مايكل مور (حتى الآن) في مجلد واحد.

من المؤكد أن رجلا بطاقة مور الكبيرة يجب أن يتم تقديم أعماله حسب تعاقبها الزمني. كنت فقط أرجو أن يبذل القائمون على التحرير في مطبوعات جامعة متشيجان جهدا أكبر في تدقيق نص برنشتاين، فبينما يبدو وجود اخطاء في الكتب التي تصدر حاليا امرا مألوفا إلا أنها تبعث على الضيق. هناك مثلا خطأ في اسم فيلم "لعب البولنج قبيل كولمباين". وهناك بعض  الأخطاء الأخرى في مقال ستادللر تتعلق بالاشارة الى أعمال مور التي تصفها بالسابقة بدلا من الأخيرة، وعير ذلك من الأخطاء.

يلتقط جيفري اوبراين حب مور للجمال وكمأنة المشاهدين عندما يكتب "إن تصوير مايكل مور لما حدث ويحدث في الآونة الأخيرة يعد أحد أشكال السرد الممكنة، ولكن من خلال وجود هذا الشكل ذاته، فإنه يشجع نهجا اكثر فعالية وتشددا في التعامل مع الصور التي تحيط بنا، على أي شيء يكسر تأثير الذهول من التدفق الذي لا نهاية له، من نشرات الأخبار التلفزيونية والنشرات الرسمية التي أصبحت شيئا أقرب إلى واقع مشوه من الصور التي نعلقها في الخلفية، دفق من الصور التي تتحرك إلى الأمام دون النظر الى التطلع أبدا الى الخلف".

وهو يتعمق اكثر عندما يكتب "ان فيلم "فهرنهايت 11/9 " يتعامل مع رغبة الفضول البدائية التي تغري الناس بمعرفة ما سيأتي بعد ذلك في سلسلة من عوامل الجذب، وهو تلاعب يجيد مور استخدامه". 

لهذا فنحن نواصل التطلع للوراء. لقد نجح مور في الايقاع بنا. إننا نريد أن نعرف ماذا سيقدم لنا اليوم، ومن الذي سيتعقبه بعد ذلك، وما هو الكمين الذي أعده لهذا الشخص أو ذاك.

ان الرجل الواقف على باب السيرك لدعوة الجمهور للدخول، يلوح لهم بعصاه، يغويهم  يصوب السهام صوب اللوحة الصغيرة أمامه، يشير الى الستار الموجود خلفه، وحتى لو كان الرجل بدينا ولا يتمتع بوسامة كبيرة، ويرتدي قبعة البيسبول، فإننا نحدق اليه لأننا لا يمكن ان ننتظر لكي نرى ماذا يجري في الداخل.

الجزيرة الوثائقية في

12/01/2012

 

الفيلم الإيراني "انفصال نادر وسيمين"

قصة اجتماعية بسيطة تعكس صورة مجتمع بأسره

رانية حداد 

إلى أي مدى يمكن لقصة اجتماعية بسيطة، وإشكال عائلي مألوف، أن يمثل حالة مجتمع بأسره، ثقافته، وأخلاقه؟ وإلى أي مدى يمكن للأحداث، الأفعال، وردود الأفعال أن تشكل انعكاسا لأوضاع سياسية  واقتصادية؟

قبل أكثر من ثلاثين عاما، حصد الفيلم الأمريكي الاجتماعي "كرامر ضد كرامر" أصداء طيبة، وأوسكار أحسن فيلم، لأن الأحداث التي تناولت قصة طلاق وصراع زوجين على حضانة طفليهما على بساطتها، عكست في جوهرها التغير الثقافي في المجتمع الأمريكي فترة سبعينات القرن الماضي؛ أي بعد عقد من حركات الاحتجاج وتحرر المرأة، واليوم نجد صدى لتلك القصة في فيلم جديد، لكنه ينتمي إلى بقعة جغرافية مغايرة، ينعكس مناخها الثقافي والسياسي والاقتصادي على أحداث القصة، إنه الفيلم الإيراني "انفصال نادر وسيمين" إنتاج 2011، للمخرج أصغر فرهادي، والذي عرض مؤخرا في نادي عبدالحميد شومان السينمائي.

في الوقت الذي كان فيه المخرج "روبرت بنتون"  يقارب شكل التحولات في المجتمع الأمريكي في فيلمه "كرامر ضد كرامر" عام 1979، بدأت ملامح جديدة تفرض وجودها على المجتمع الإيراني مع أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية، فيحاول أصغر فرهادي من خلال "انفصال نادر وسيمين" أن يلامس بهدوء ملامح  هذا المجتمع، بعد هذه العقود على الثورة، فهل هذا سيدعمه في الحصول على أوسكار أحسن فيلم أجنبي؟

إذن ما يزيد عن ثلاثين عاما تفصل بين الفيلمين، لكن لا المسافة الزمنية ولا الجغرافية منعت التقاطعات الكبيرة بينهما، فبداية عنوان الفيلمين يحمل معه قطبا الصراع، ففي الأول؛ السيد كرامر، وزوجته السيدة كرامر، وفي الثاني نادر وزوجته سيمين، في عنوان الفيلم الأول يقف الطرفان بندّيّة في مواجهة بعضهما البعض، وفي الثاني الانفصال هو الحدث الرئيسي لتداعي باقي الأحداث، في كلا الفيلمين تبادر الزوجة إلى طلب الطلاق، في الفيلم الأول الزوج الذي أصبح حجر عثرة في طريق طموح ومستقبل السيدة كرامر كان الدافع لهذا الطلب، وفي الفيلم الثاني الزوج يعيل والده العاجز فيرفض الهجرة مع زوجته التي تطمح في مستقبل أفضل للعائلة خارج ايران، وبناء على ذلك تطالب الزوجة في كلا الفيلمين من خلال المحكمة بالطلاق وحضانة الإبن أو الإبنة، في فيلم "كرامر" يصبح  الإبن محور الصراع بعد الطلاق، في فيلم "انفصال" لا تقبل المحكمة الطلاق ما دام بغير رغبة الزوج، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك قضية حضانة، لكن الانفصال الكائن بين نادر وسيمين سيفتح الباب على حكاية  ثانية موازية للحكاية الرئيسية، تعكس معها طبقة اجتماعية مختلفة، لتصبح الطبقة المتوسطة التي يمثلها نادر وسيمين إزاء أو في مواجهة الطبقة الفقيرة التي تمثلها أسرة الخادمة التي تعمل في المنزل لإعالة الوالد العاجز، ومن خلال نسيج القصتين والصراع المتولد عنهما، سيذهب فرهادي بفيلمه أبعد من "كرامر ضد كرامر" في الكشف عن ملامح مجتمعه المعاصر؛ المجتمع الايراني بعد أكثر من ثلاثين عاما على الثورة.

معضلات أخلاقية ودينية

الظروف الإقتصادية الصعبة تقود رضية لتخدم في منزل نادر - بعد انفصال سيمين عنه- فتعتني بوالده المريض وتنجز المهام المنزلية التي كانت تقوم بها سيمين، وبما أنها من وسط محافظ ومتدين لا يتقبل عمل المرأة في مكان يغلق عليها مع رجل وحيد، مما استدعى أن تخفي الأمر عن زوجها العاطل عن العمل والمسجون بسبب ديونه، كما إن العناية بالوالد العاجز وتغسيله وتنظيفه تضعها أمام معضلة أخلاقية دينية، فتستفتي عبر الهاتف عن مدى حرمية هذا الفعل، وتواصل الأحداث والتجارب سيرها مع رضية بحيث يضعها العامل الاقتصادي الضاغط دائما في مواجهة مع الحلال والحرام دينيا، فحين تضطر لمغادرة منزل نادر قليلا تترك والده مربوطا إلى السرير كي لا يؤذي نفسه، مما يدفع نادر إلى طردها ودفعها بقوة خارج المنزل، فتجهض لكنها مرة أخرى تقف في صراع مع الحلال والحرام، فزوجها قد رفع قضية في المحكمة ضد نادر يتهمه بقتل الجنين، فهل تقبل رضية دية الجنين من نادر، وهي غير متأكدة من أنه هو المسبب الحقيقي للإجهاض، هل سينتصر الوازع الديني؟

على الطرف المقابل الظروف العامة التي يمكن استشعارها تجعل من ايران مكانا ينحسر عنه الأمل، وغير ضامن لطموح سيمين، التي تنحدر من طبقة متوسطة ومتحررة نسبيا، وتحلم بمستقبل لائق لها ولابنتها ولزوجها، رغم ذلك الأولويات تبدو مختلفة لزوجها، فنادر متمسك بالروابط العائلية، والحفاظ على بقاء الأسرة، في أعلى سلم أولوياته، فلن يغادر أبيه العاجز والمحتاج لرعايته، ولن يفرط بحضانة ورعاية ابنته، ولن يُطلّق سيمين، لكنه يترك لها حرية الانفصال والمغادرة، نادر يشكل نموذج الأبن والأب والزوج الإيجابي، لكن الظروف دفعته إلى حافة السقوط عندما كذب على المحكمة حين أدعى بأنه لا يعلم عن حمل رضية، لأنه أراد من جديد حماية أسرته من الضياع في حال تم سجنه، لكن هذه الكذبة تتحول إلى معضلة أخلاقية تحاصره  بها ابنته التي بدأت بالشك في مصداقيته، وما أن تكتشف كذبه، حتى تَسقط صورة الأب القدوة مع دموعها، وهذا يذكر بالفيلم الإيطالي " سارق الدراجة" 1948،  حيث تحول الأب إلى لص بعيني ابنه الصغير، في ظل البطالة التي كانت إحدى انعكاسات الحرب العالمية الثانية على المجتمع الإيطالي، وإن كان ثمة رابط، ففي الكيفية التي تدفع بها الأحداث والظروف - المحيطة والضاغطة- الشخصيات لارتكاب أفعال تخرجها عن أخلاقها وإرداتها، فيتحول المارد إلى قزم، وتنهار معها صورة القدوة.

صورة المجتمع

"القانون قاصر عن تحقيق العدالة" بهذه الجملة يقدم زوج الخادمة في المحكمة صرخته ضد الحياة والوضع القائم، التي تعكس بعض من صورة المجتمع، كما أن الأجيال الثلاثة في الفيلم تستكمل بقية الصورة، فهي تشكل الخط البياني للمجتمع الإيراني المعاصر؛ الجد  بما يمثل من إرث، مريض بالزهايمر وعاجز يتهاوى بلا ذاكرة، جيل الأبناء من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وأخلاق تترنح على المحك، أما الأحفاد فضحايا؛ الجنين المجهض، وابنة نادر وسمين، وابنة رضية، فثمة نظرات إنكسار متبادلة بينهما، وثمة ضياع ينتظرهما بعد تفكك أسرهما، وانهيار المثل والنموذج أمامهما، لذا يترك المخرج النهاية مفتوحة في المحكمة، فلا نعرف ماذا ستقرر الابنة بما يخص العيش مع الأب نادر أو الأم سيمين، حيث لم يكن - في نهاية المطاف- الحب القائم بين الزوجين كافيا ليتنازل أي منهما عن كبريائه وأنانيته، ولم يكن كافيا لحماية الأسرة من السقوط، الذي حاول نادر جاهدا طيلة أحداث الفيلم أن يمنع حدوثه، حتى ولو كلفه ذلك الكذب في المحكمة

الجزيرة الوثائقية في

12/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)