حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

2011: كيف كانت حال السينما في بلدان الثورة؟

سقط القذافي وتحول مادة سينمائية لساشا بارون كوهين في مسخرته الجديدة "الديكتاتور" (2012).

هوفيك حبشيان

في يوم وليلة، جاءت الثورة الى العالم العربي، في اللحظة التي لم يكن ينتظرها  أحد. كيف تعاملت السينما مع الضيف الجديد، في أول عام تعايش بينهما، على امتداد البلدان التي غمرتها أحلام الربيع العربي وخيباته؟

2011 عامٌ مصنّف: انه "مختلف" للسينمات العربية. الثورات او الانقلابات أو الاحتجاجات (بحسب معتقد كل منا والموقع الذي ينظر منه الى المسألة) حملت الكثير من المشاريع والتقلبات معها، الآنية والمستقبلية، لم يثمر منها سينمائياً الى اليوم، الا الجزء البسيط. مهرجانان، القاهرة ودمشق (والثالث، بيينال قرطاج، على الطريق) لم يصمدا أمام حجم ما يحدث في كلّ من مصر وسوريا. ما كان يجب أن ينهار منذ زمن بعيد جراء الترهل والاضمحلال، وجد اللحظة اللائقة لينهار من تلقاء ذاته، من دون ان يستدعي "حالة طوارئ". هذه واحدة من الفوائد التي نتجت من هذه الثورات، علماً ان المنطق الانساني السوي يفضل دائماً انعقاد الحدث الثقافي على عدمه، أياً تكن ظروف انعقاده. ان يكون هناك للجمهور موعد مع الثقافة والفنّ، أفضل من الاّ يكون.

1 ـــ تونس

حتماً، لم تأتِ هذه الثورات بما هو ايجابي فحسب، وإن لم تكن الحوادث الناجمة عنها من نتائجها المباشرة: في تونس، البلد حيث بدأ كل شيء، تعرض المخرج النوري بوزيد للضرب على رأسه بآلة حادة بعد اعلانه ان الخمر حلال. لحسن الحظّ، كان الرجل يضع قبعة، ما خفف من الضربة. في البلد نفسه، اعتدى ملتحون على صالة سينما "افريكا آرت" واضرموا فيها النار، يوم نُظمت فيها تظاهرة "نحّي يدك على مبدعينا". مخرجة مغمورة اسمها نادية الفاني تصدرت الصحافة وباتت الشغل الشاغل للمتطرفين التوانسة بعدما أخرجت "لا ربي ولا سيدي"، تدعو فيه الى دولة علمانية. المصير ذاته كان في انتظار فيلم "بيرسيبوليس" لمارجان ساترابي، المعروض في كانّ عام 2007، بعدما بُثّ على قناة "نسمة"، فوجدت المحطة التونسية نفسها أمام 300 متشدد اسلامي يحاولون اقتحام مقرها بحجة أن المخرجة جسدت الله في فيلمها. بالرغم من كلّ الديناميكية الحاصلة في تونس، على صعيد الأخذ والردّ بين الأطراف المتخاصمين، لم تخرج منها الا اعمال سينمائية في منتهى البساطة والبهتان، مشغولة بحسّ بديهي في التقاط اللحظة وابداء الآراء في المستجدات. السينما لا تحبّ المواقف والاعلان، لأن معظمها آنية، ظرفية، لا تدوم. ليس كل من أراد، هو ألان رينه مصوراً "هيروشيما حبي".

2 ـــ الجزائر

في حين بدت الجزائر غائبة عن السمع في لحظة التغيير العربي، جاء أحد أهم مخرجيها ليحركش في وكر دبابير. انه مرزاق علواش وفيلمه "نورمال" (الجائزة الكبرى في الدوحة). من الصعب أن يعبر فيلم لعلواش الحياة الثقافية في بلاده من دون أن يترك خلفه ردود الفعل المؤيدة أو المستهجنة. ففي مهرجان وهران الأخير، أحدثت مشاركته جدالاً واسعاً في صحافة اعتادت أن تحاكم الفنانين وفق مبادئ أخلاقية، ما أغضب المخرج كثيراً.

تطرق علواش في الفيلم الى الازدواجية التي يعيشها المجتمع الجزائري مديناً سلوك الفرد الذي يبدو انه تأهل على نحو يمنعه من ان يواجه نفسه بحقائق الحياة. في مقابل ذلك، يضعنا أمام الخيبة التي يعيشها جيل كامل يسعى الى التعبير عن نفسه، لكنه يصطدم دائماً بالنظام القائم على الفساد والبيروقراطية وسوء ادارة شؤون البلاد.

السينما الجزائرية، شأنها شأن السلطة الحاكمة، بدت بعيدة من كل ما يحصل على مقربة منها، حتى ان مخرجة جزائرية من أصل فرنسي، ياسمينة عدي، فضّلت العودة الى السابع عشر من تشرين الأول 1961، يوم قمعت الشرطة الفرنسية آلاف المتظاهرين في باريس بأساليب غير حضارية، كنقطة محورية لفيملها "هنا يُغرق الجزائريين ــ 17 أكتوبر 1961". مخرجة أخرى، صافيناز بوصبايا، فضلت الموسيقى "الشعبية" والحنين الى الماضي، فكان "ال غوستو".

3 ـــ ليبيا

في ليبيا، بدا المشهد أبوكاليبتياً. الحديث عن سينما يبدو "ترفا بورجوازياً" في هذا الجوّ الذي تنعدم فيه أبسط حقوق الانسان. سقط الظالم وتحول مادة سينمائية لساشا بارون كوهين في مسخرته الجديدة "الديكتاتور"، الذي سيكسح الصالات العالمية قريباً. يبدو مصير ليبيا مشرعاً أمام الاحتمالات. هل ينبغي أن نذكر هنا من كان الزعيم الليبي على الصعيد السينمائي؟ هذا الدموي الذي كان يتعاطى مع الفنّ السابع على انه بروباغندا غير مجدية، لم يؤمن بالصورة كما آمن بالكلمات، كلماته، الرنانة. مع ذلك، ولأسباب تتعلق بتسويق ذاته المتضخمة، ولدوافع سياسية، موّل فيلمين هما "الرسالة" و"عمر المختار" (مصطفى العقاد). رمى الملايين في سبيلهما ثم سخر منهما ونعتهما بأحط النعوت.

في لحظة جنون، أراد أن ينجز فيلماً عن حقبة الاستعمار الايطالي لليبيا: "الظلم ــ سنوات العذاب". استدعى نجدت انزور وطلب منه تحقيقه بموازنة بلغت أربعة ملايين بالعملة الأميركية. مصالحة حصلت في هذا الشأن بين البلدين، قبض القذافي على اثرها عشرة اضعاف ثمن الفيلم من الحكومة الايطالية، فطار المشروع! دفع الأموال يمنة ويسرة لمصادرة الآراء النقدية لصالحه، وهناك حتى من النقاد مَن كان يحاول اقناعه بأفلمة حياته في عمل ملحمي ضخم. لكن الفكرة لم ترق للقذافي كما يبدو. لقد كان أذكى من ان يقتنع بتصوير سيرة لم يُكتب بعد فصلها الأكثر تراجيدية: اغتصابه ثم تصفيته على أيدي ثوار مصراتة.

4 ـــ مصر

في مصر، لم تكن السينما في ذروتها الابداعية حين راح المحتجون يتجمعون في ميدان التحرير دورياً، الى أن اسقطوا قامعهم مبارك. هكذا كان يصف لنا ابرهيم البطوط السينما في مصر، قبل الثورة: "الأفلام الهابطة خير تعبير عن حال الانحطاط التي وصلت اليها مصر. اصحاب هذه الأفلام الرديئة يعتقدون انهم ينجزون أفلاماً عظيمة. صدِّقني، هؤلاء ليس في نيتهم ان ينجزوا افلاماً بائسة، اذا يأتونك باقتناع مفاده انهم ينجزون الأفلام الأهم في التاريخ. وفي الحقيقة، هؤلاء على حق، لأن الجمهور يبحث عن هذه النوعية من الأفلام. هل تعرف ما هي نظرة أرباب صناعة السينما المصرية الينا؟ اذا سألتهم فسيقولون عنا اننا مجموعة من المعتوهين!".

ما ان تعقدت الأمور، حتى سارعت الأوساط المؤيدة للربيع المصري (ولاحقاً سوريا) في تعميم "لوائح العار" الحاملة أسماء فنانين ممن كانت لهم مواقف معادية أو حيادية من الثورة. منهم من استطاع أن يركب القافلة الأخيرة، ومنهم من ظلّ ثابتاً على موقفه. أفلام تسجيلية عدة بدأت تظهر من تأثير "25 يناير"، منها الشريط الجماعي "18 يوم" الذي عُرض على هامش مهرجان كانّ، ضمن جوّ وصفتها بعض الاقلام بـ"الفضائحية"، وايضاً "تحرير 2011: الطيب، الشرس والسياسي" (البندقية ــ أبو ظبي) و"مولود في الخامس والعشرين من يناير" (دبي). يسرا التي لم تكن يوماً من انصار الثورة اضطلعت بدور في أحد هذه الافلام الذي اخرجه يسري نصرالله ("داخلي، خارجي").

عادل إمام، المعروف بالزعيم، كانت له هواجس أخرى، والزمن أثبت انه لم يكن مخطئاً تماماً، ولكنه لم يكن مئة في المئة محقاً كذلك! أسماء صعدت وانتهزت الفرصة وأخرى نزلت في بورصة المناكفات. الأفلام التي كانت انجزت قبل الثورة بدت عديمة القيمة لجمهور بات يريد "شيئاً آخر". الشعبوية ضربت أطنابها والمنابر الافتراضية غدت ساحة لتبادل الشتائم. السينما برمتها صارت رهينة التجاذبات السياسية، والمخرج بات في حاحة الى مَن يطمئنه الى مستقبل السينما في دولة فاز الاسلام السياسي المتطرف في انتخاباتها، أي كل الذين، كما نعلم، لا يريدون الخير للسينما! وما عدا "الشوق" لخالد الحجر و"أسماء" لعمرو سلامة، لم تبدِ السينما المصرية أيّ استعداد لتغير جسدها المرتهن للخفة والسطحية والسماجة الهزلية. نمير عبد المسيح انجز "العذراء، الاقباط وأنا" وسط هذه الأجواء، ونال عنه جائزة أفضل وثائقي في مهرجان الدوحة، مصحوبة بمئة ألف دولار.

5 ــــ المغرب

المغرب كان البلد الأكثر قدرة على الامساك بضلوع السينما في عام 2011. لم يكن الأكثر استقراراً على الصعيد السياسي والاجتماعي، اذ في بعض اللحظات بدت البلاد بأكملها ممَن يجلس على فوهة بركان قابل للانفجار، لكن بعض السينمائيين استطاعوا هناك أن يلفتوا الانتباه بأعمال لا يغلب فيها الموضوع على الفنّ. هشام لعسري، محمد العسلي، فوزي بن سعيدي، حكيم بلعباس، وليلى كيلاني التي شاركت بفيلمها الممتاز "على الحافة" في كانّ (اسبوعا المخرجين)، هم الذين صنعوا عاماً جديراً بالتحية، أنجزوا فيه ما لا يقل عن 20 فيلماً معظمها تحقق قبل الثورات المتنقلة. كل المهرجانات في المغرب، وهي كثيرة، عُقدت في مواعيدها المقررة سلفاً، ولم تشهد الا حادثا واحدا بسيطا يرتبط مباشرة بالربيع العربي، عن الرجل الذي كان يرفع لافتة أمام إحدى صالات مهرجان تطوان مطالباً مديره بالرحيل. لكن، في المغرب، كل شيء ينتهي بالمساومة.

وصول الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الاله بنكيران، الى منصب رئيس الحكومة المغربية، أقلق كثيرين، وبدأت شائعات تسري عن تعديلات في المركز السينمائي المغربي غداة فوز حزبه في الانتخابات، وهو المركز الذي ينتقده المتطرفون الاسلاميون بشدة، ويقفون ضدّ سياسة مديره نور الدين الصايل، وخطه وطريقة تعامله مع السينما. هؤلاء يريدون "سينما نظيفة"، من تلك التي تحدّث عنها جيداً المخرج محمد العسلي في لقائنا معه: "العري من الأجندات الخارجية. أنا الذي لا أحكي عن العري في افلامي، أشعر نفسي أكثر حرية من مخرج يفعل ذلك كي يكون مقبولاً من الخارج ويدعي الحداثة".  

6 ــــ سوريا

في سوريا، نظراً الى الأحوال التي تمر بها البلاد، لم نر شيئاً يبعث على الحماسة والتفاؤل. رحيل عمر أميرالاي في شباط رافقه الكثير من الحزن، واستحضر صورة سوريا بين مرحلتين انتقاليتين. مرحلة عاشها جيل اميرالاي وعانى فيها من الظلم والاضطهاد الكثير، ومرحلة لن يكتشف صاحب "الطوفان" وجهها الحقيقي. لم يأتنا من سوريا شأن مهم في 2011 (لم نشاهد فيلم عمار البيك الطويل "أسبيرين ورصاصة")، لكن بات معلوماً ان هناك خمسة افلام (واحة الراهب، عبد اللطيف عبد الحميد، محمد عبد العزيز، غسان شميط، جود سعيد) انتهى اصحابها من تصويرها، وثلاثة منها من انتاج المؤسسة العامة للسينما. هنا، سينمائي شاب، لا يصفّ مع الثورة، يعبّر عن قلقه حول المستقبل الذي في انتظار السينما السورية والعربية، ويقول ان الفنان الفاشل هو الذي يعتاش من الثورات والفوضى، لأنه غير مطالب بالانجاز. في الآتي، مقتطف من طرف حديث لي معه عبر التشات، قد يتشاركه غيره ايضاً، من دون أن يجرؤ على الافصاح عنه، علناً: "في رأيي، لم تغير الحوادث الأمنية شيئاً في سوريا، فما كان مقرراً تصويره، صُورّ. الناس قاومت وأصرت على العمل. لكن، لا نعرف ما سنقبل عليه في خضم الجو المتدين الذي نذهب اليه. يبدو ان رقابة الله ستزيد ورقابة الانسان ستخف. أنا مثلاً، مررت قبلة في فيلمي. الى الآن، الرقابة في يد السلطة، بيد اننا لا نعرف في يد من ستكون في الأيام الآتية، ولا أحد يعرف ما الحصة التي ستكون للمتدينين في السلطة. عدا ما يتعلق بالجيش والأمن، على غفلة منا بات الحديث عن كل شيء تقريباً متاحا. لكن، في المقابل الموضوع الاثني والديني الذي كان مسموحا تناوله في ما مضى، تحول فجأة الى تابو بعد الثورة. السينما العربية ما بعد الثورات ستستمتع بنتف ريش الأنظمة السابقة ومعيار حريتها سيكون مدى قصر تنورة البطلة".

ربيع سينمائي في الصالات اللبنانية

هـ. ح.

في 2011، كانت السينما اللبنانية مهتمة بنادين لبكي. أخبارها، جوائزها، ما يُقال عنها في الخارج والداخل، ودعايتها لجوني ووكر. بدا المشهد السينمائي في لبنان شبيها بالضيعة الوهمية القاحلة التي صوّرتها في "وهلأ لوين؟"، بمنأى من كل ما يحصل في الجوار.

بغض النظر عن أهمية الفيلم، للأسف، فقد أعطي من رصيد، أكثر مما يستحق، سواء جماهيرياً أو نقدياً، وهو الشيء الذي لا يخدم في الضرورة، السينما التي تريد لبكي الدفاع عنها، بل قد ينحدر بها الى الأسفل. فيلم مثل "شجرة الحياة" لتيرينس ماليك (الحائز "السعفة الذهب" في كانّ) لم يستقطب محلياً الا نحو 2000 مشاهد، في حين تجاوز "وهلأ لوين؟"، الـ300 ألف مشاهد، منذ 22 أيلول الماضي ولا يزال يُعرض، ليصبح أكثر فيلم لبناني استقطاباً للايرادات في تاريخنا. لا أحد عرف كيف يقرأ فعلاً هذه الظاهرة، لأنها ببساطة، غير قابلة للذوبان في أي من الظواهر التي عهدناها. كل ما نستطيع ان نتمناه للبكي الاّ يتم توظيف مستقبلها انطلاقاً من ضربة المعلمة هذه، فكل فيلم، كما كان يقول مخرج كبير، يُعتبر انطلاقة من "تحت الصفر".

سيمون الهبر وهادي زكاك هما اللذان صنعا عامنا السينمائي الحقيقي، في انتظار افتتاح فيلمهما محلياً. الأول جاءنا بـ"الحوض الخامس" الذي عُرض في مهرجان دبي. هناك عند الهبر، قدرة على الاقناع بأقل الامكانات الممكنة؛ قدرة بضرورة التوثيق لكل حكاية من الحكايات. دائماً الصغير يجد مكانه الصحّ الى جانب الكبير. هذا العالم (الحوض الخامس) القائم على هذا القدر من التناقضات والأضداد ينبغي له الاّ يبقى في العتمة. النقيض هنا يولد من أي شيء. بين خشونة يد السائق وذاكرته الطرية. أما زكاك، فأراد في "مارسيدس" (دبي) أن يروي بأسلوب طريف وبصريات معقدة وأرشفة هائلة، كيف استطاعت سيارة ألمانية أن تتحول أيقونة لبنانية والطائفة رقم 19، وبقيت القاسم المشترك بين فئات المجتمع والشاهدة العيان على حروبنا الصغيرة والكبيرة. هناك أيضاً "يامو" لرامي نيحاوي و"القطاع صفر" لنديم مشلاوي، اللذان عرضا بدورهما في الدورة الأخيرة، "اللبنانية" بامتياز، من مهرجان دبي، ونالا تقدير بعض النقاد الجادّين. للأسف، لم تتسنّ لنا مشاهدتهما بعد. فيلم أخر شق طريقه الى دبي، هو "تاكسي البلد"، متوسط الحيلة، يسلك المنحى التجاري والاسلوبي معاً.

في الدوحة، حازت اللبنانية رانيا اسطفان جائزة أفضل مخرجة وثائقية، عن "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة"، في حين بقيت رائعة المخرجة اللبنانية ليلى حطيط سالاس، "أقلام من عسقلان" عن النضال السلمي للفنان التشكيلي الفلسطيني زهدي العدوي في سجن اسرائيلي، بعيدة من أذواق اعضاء لجنة تحكيم الوثائقي بقيادة نيك برومفيلد.

بعد افتتاحه في لوكارنو وعدد من المهرجانات الدولية، اصطدم "بيروت بالليل" لدانيال عربيد، بالرقابة اللبنانية التي اتهمت مخرجته بتقديم نصّ للموافقة عليه، ثم أفلمت نصّاً آخر. الشريط المعمول للتلفزيون اصلاً، سيُعرض على شاشة "آرتي" الفرنسية - الألمانية، الجمعة 20 الجاري الساعة 21:35، ليكون لحظة انتصار لحرية التعبير والخيال المستقى من الواقع. في مقابل هذا، أفلام عدة بدأت تنبت كالأعشاب البرية في الصالات اللبنانية، مثل "صوري مام"، وها اننا مستعدون لاستقبال المزيد منها في السنة الحالية، وفي مقدمها "تحفة التحف": "تنورة ماكسي" لجو بو عيد.

الأفلام اللبنانية التي عُرضت في الصالات لم تحظ بشعبية كبيرة، وإن جرى تناولها في الصحف ووسائل الاعلام بكثرة. هنا قائمة بهذه الأفلام وبعدد مشاهديها: "رصاصة طايشة" لجورج الهاشم (19341)؛ "صوري مام" (14997)؛ "شارع هوفلان" (8705 ــ لا يزال في العرض)؛ "شتي يا دني" لبهيج حجيج (4442)؛ "شيوعيين كنا" لماهر أبي سمرا (1447) "تيتا ألف مرة" لمحمود قعبور (694)؛ "الجبل" لغسان سلهب (677)؛ "ملاكي" لخليل زعرور (474)؛ "أبو كيس" (180 ـــ لا يزال في الصالات).

بالنسبة الى حال الصالات المحلية، تشير الأرقام الى أننا بألف خير. مجموع المشاهدين لعام 2011 بلغ ثلاثة ملايين و345 ألفاً و789 مشاهداً مقابل مليونين و789 الفاً و552 مشاهداً لعام 2010. هناك نحو 20 مجمعاً سينمائياً في لبنان، منها ما يضم 9 صالات ومنها ما يقوم على صالة يتيمة. للسنة الرابعة على التوالي، يتربع مجمع "سينماسيتي" على عرش أكثر المجمعات جذباً للمشاهدين مع نحو مليون مشاهد، وهذا يعني ان نحو ثلث السوق في حوزته. يليه مجمع "غراند" في الـ"أ ب ث"، مع 700 ألف مشاهد تقريباً. المجمعات التالية، كونكورد، دون، اسباس، استقطبت عدداً متعادلاً من المشاهدين، نحو 200 ألف لكل مجمع.

وفي حين، لا يزال مجمع بلانيت ـــ ابراج صامداً بصعوبة (108000 مشاهد)، فلا نستطيع القول الشيء نفسه عن "بلانيت ـــ الزوق" و"بلانيت ــ سانت ايلي" اللذين تشير ايراداتهما (عشرة آلاف مشاهد لكل واحد منهما، مقابل 75 ألفاً للزوق لعام 2010) الى وضع كارثي لن ينجوا منه الا بالاقفال. أما مجمع "متروبوليس" (أمبير ـــ صوفيل)، فاستقطب 58572 مشاهداً (مقابل 45243 لعام 2010)، ما يدل على حسن ادارة هذا الصرح الذي بات مرجعاً للسينيفيلية البيروتية، وعلى خيارات المسؤولين عنه التي غالباً ما تنم عن وعي وادراك وحبّ للفن السابع.

221 فيلماً عُرضت في الصالات اللبنانية، راوحت بين أعمال مهمة (كزافييه بوفوا، نيكولاس ويندينغ رفن، ماركو بيللوكيو، عباس كيارستمي، بيتر وير، أوليفييه أساياس، دوني فيلنوف، بيدرو ألمودوفار)، وأعمال تجارية ضخمة بالأبعاد الثلاثة تشكل مركز اهتمام الموزعين المحليين المرتبطين بالـ"مايجرز". اذاً، مع تفاقم عدد الأفلام في صالاتنا وازدياد الجمهور معه (35 في المئة)، واحتضان ما لا يقل عن عشرة افلام لبنانية داخل القاعات المظلمة (مع التحفظ الشديد عن مستواها)، وهيمنة نادين لبكي على الحصة الكبرى من السوق، يمكننا التحدث عن "ربيع سينمائي" في لبنان!

النهار اللبنانية في

12/01/2012

 

المعالجة السينمائية الحصيفة لجيانو إميلي

«الرجل الأول».. فيلم مقتبس عن روايـــة كامو الملطّخة بدمه

زياد عبدالله - دبي 

ما من شيء جديد في أن نشاهد فيلماً مأخوذاً عن رواية، خصوصاً ان عرفنا أن كاتب تلك الرواية هو ألبير كامو (1913-1960)، لكن هناك ما يدفع إلى التوقف أولاً أمام ما يحيط بتلك الرواية، والذي يستدعي رواية أخرى أو فيلماً عن الظروف التي استخرجت من خلالها هذه الرواية الملطخة بدم كامو نفسه.

عنوان الرواية/الفيلم Le Premier Homme «الرجل الأول»، وهي الرواية التي عثر عليها في سيارة الناشر غاليمار، وقد قضى هو والبير كامو في حادث سيارة بينما كانا في طريقهما إلى باريس، دون أن أفوت فرصة القول: «يا لها من ميتة!» والعبث في أعتى تجلياته يحل على المبشر بـ «العبثية»، وكامو لم ير في الحياة حسب كتاباته إلا ضربا من ضروب العبث، وهو يقول لنا ليس الإنسان إلا سيزيف الذي يحمل الصخرة على عاتقه ويصعد الجبل، لتعود وتتدحرج إلى أسفل ويعود يحملها ويصعد بها، إنه التوق إلى الذروة والصعود والتسامي لكن ليكون محكوماً دائماً بالعودة إلى الأسفل.

أتذكر حين صدور الرواية عام1995 أي بعد وفاة كامو بـ 35 سنة، أني قرأت شيئاً يقول إن جل ما كان يخشاه كامو هو أن يقضي في موت مفاجئ مثل حادث سيارة أو ما شابه، وهذا ما حصل كما لو أنها مصادقة من القدر على العبثية، ولعل هذه الرواية التي ترجمت إلى العربية بعد صدورها بسنة أوسنتين، كانت حاملة لكل ملامح العمل الأخير كونها جاءت على شيء من أدب السيرة الذاتية، وفي تتبع لعلاقة كامو بأمه، تلك العلاقة التي سنضيء لها في سياق عرضنا للفيلم، لكن علينا معرفة أن والدة كامو لم تقرأ عملاً واحداً من أعمال كامو، لا لشيء إلا لأنها كانت أمية.

رواية كامو في أياد سينمائية أمينة، وتوصيف أمينة لا يعني الأمانة على الرواية بالمعنى الحرفي الساذج لهذا التوصيف حين يجري التكلم عن فيلم مأخوذ عن رواية، بل بمعنى أن الأمانة السينمائية التي تستدعي معالجة سينمائية حصيفة للعمل الأدبي، وهذا ما فعله المخرج الإيطالي المعروف جيانو اميلي وهو يقدم «الرجل الأول» الذي اتيح لي مشاهدته في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي، وقد نال هذا الفيلم جائزة النقاد الدوليين في مهرجان تورنتو السينمائي، حيث سيكون الفيلم معبراً بصرياً جميلاً لرواية كامو، وحراكاً مصنوعاً بحرفية عالية بين ماضي وحاضر شخصية الفيلم الرئيسة جاك كورميري (جاك غامبلين)، أو بين كورميري الرجل وكورميري الطفل، وليس كورميري إلا كامو نفسه.

يضيء الفيلم في ملمح مهم من ملامحه علاقة المستعمِر والمستعمَر، ويظهر كامو بوصفه كاتباً فرنسياً جزائرياً، وهذا أمر لا جديد فيه هو الذي وصف لدى نيله جائزة نوبل للآداب عام 1957 بأول كاتب مولود في افريقيا ينال هذه الجائزة، كما أن الفيلم وعبر جاك كورميري يضيء على ما عرف إبان استقلال الجزائر بـ «الأقدام السوداء» التوصيف المرتبط بالفرنسيين والأوروبيين الذين جاؤوا مع الاستعمار الفرنسي واستوطنوا الجزائر، وقد تم طردهم وقد بلغ تعدادهم مليون إنسان من الجزائر بعد الاستقلال، وليكون كامو وعائلته من بين هؤلاء، ونحن نقع على جاك كورميري من البداية وهو يعود من فرنسا إلى الجزائر البلد الذي ولد فيه وعاش طفولته ومراهقته وشبابه فيه، وسنشهد إلقاءه محاضرة يدعو فيها إلى العيش المشترك بين الجزائريين والفرنسيين، وما إلى هنالك من استعادة لموقف كامو المعروف في هذا الخصوص، حين كان يحمل جبهة تحرير الجزائز والاحتلال الفرنسي معاً مسؤولية العنف.

سيتحرك الفيلم في زمنين كما أسلفت، فجاك كورميري الطفل سيكون تحت رحمة جدته القاسية التي لا تعرف الرأفة، بينما أمه ستكون مسلوبة الإرادة أمام سطوة الجدة، إنها طفولة محاصرة بالفقر واليتم كون والده مات بينما كان في سنته الأولى، وعليه سيمضي الفيلم في استعادة طفولة جاك كورميري، كأن نشاهد كورميري الطفل برفقة رفاقه في الحي الذين سيكونون من الجزائريين يقومون بمعالجة قفل عربة تحتوي على كلاب يقوم بالتقاطها رجل أبله، وحين يتمكنون من إطلاق سراح الكلاب، يلاحقهم ذاك الرجل ويتمكن من إمساك جاك، وليضعه في العربة التي لن تكون إلا عربة سجن محاطة بالقضبان، وليتركه ذلك الرجل حبيسها حتى مغيب الشمس، لا بل إن ابنه من سيقوم بإطلاق سراحه.

سرد المشهد السابق ليس إلا مسعى لتقريب الكيفية التي قدم فيها اميليو طفولة جاك كورميري، وتنقلات الإضاءة والبناء الجمالي المتسق مع الحالات الدرامية لمواقع التصوير، وتقديم الطفولة كاملة عبر مشاهد ولقطات تتولى فيها الصورة قول كل شيء.

جدة جاك ستنتقل من قسوة إلى أخرى اتجاه جاك، سيمضي مع أخيه الأكبر المتحلي بطيبة مفرطة للعمل في المطبعة، سنتعرف إلى علاقته مع أمه التي يعشقها ويذهب إلى عملها كل يوم ليتمكن من تناول صحن حساء، وسيكون استاذه في المدرسة هو حبل الخلاص الوحيد لجاك حين ينجح في إقناع جدته بضرورة قبولهما بالمنحة الدراسية التي يوفرها له. وإلى جانب ذلك سيمضي جاك متنقلاً في أرجاء الجزائر، سيكون على شيء من استجماع حياته، سيمضي إلى القرية التي ولد فيها، سيزور صديقه الجزائري في القصبة وكل من يراه يمشي فيها ينظر إليه بريبة كونه فرنسياً، وليكون صديقه معتكفاً في البيت وكله أسى كون ابنه قد حكم بالإعدام على يد الاحتلال الفرنسي، سيسعى إلى انقاذ ابن صديقه لكن من دون ما يشير إلى نجاح يلوح في الأفق، وبرفقة ذلك سيبقى مقيماً لدى أمه العجوز، التي ستنجح في نهاية الفيلم في كتابة شيء واحد ألا وهو اسم ابنها جاك كورميري، ونحن نراها تقلد كتابة الاسم كما حملته إحدى الصحف، فاعلة ذلك بمنتهى المشقة.

الإمارات اليوم في

12/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)