حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نجيب محفوظ.. في مدرسة صلاح أبوسيف!!

بقلم : سمير الجمل 

نعم تعلم نجيب محفوظ الروائي الكبير معني السينما وكيفية كتابة السيناريو في مدرسة صلاح أبوسيف.. هذه حقيقة لا تقلل من شأن أديب نوبل.. ولا تزيد من قدر المخرج الكبير رائد الواقعية.. لأن السيناريو حرفة تختلف تماماً عن الإبداع الأدبي في مجال الرواية والقصة وإن كان يعرف عند البعض بأنه رواية سينمائية. عندما قرأ صلاح أبوسيف رواية «عبث الأقدار» أدرك أن هذا الأديب الشاب يمكن أن يصبح كاتباً للسيناريو بدرجة جيد جداً وتحدث في ذلك مع صديقه فؤاد نويرة شقيق المايسترو عبدالحليم نويرة الذي أصبح فيما بعد قائداً لفرقة الموسيقي العربية.. وقد كان فؤاد صديقاً لمحفوظ وكلاهما كان ينتمي إلي حي العباسية البديع الذي قدم لمصر عشرات النجوم في الأدب والرياضة والفن والسياسة.. وحدث اللقاء واندهش محفوظ من طلب «أبوسيف» واعتذر لأنه لا يعرف ما هو السيناريو.. ولم يفكر في كتابته من قبل لأن السينما كانت فناً في هذا الوقت لايزال حديثاً ولها أهلها.. والأديب يشعر بأن قلمه أرقي من أن يكتب للشاشة.. لأن الورق مملكته الإبداعية المنسوبة إليه وحده.. بينما الفيلم عمل جماعي والمخرج في نهاية الأمر هو الكاتب التنفيذي للعمل.. والقائد الميداني الذي يتولي أمر الشريط السينمائي من الألف إلي الياء في الأدب يكتب الروائي ما يطوف بخياله ويخلط أزماناً بأزمان ويطير من مكان إلي مكان.. مهما تباعدت المسافات.. لكنه في السينما يجب أن يدرك أن كلمة «سوف» تتحول إلي رقم في ميزانية الفيلم وكان يوسف شاهين في أثناء تدريسه لطلاب معهد السينما يتندر بجملة قد يكتبها السيناريست ولا يلقي لها بالا وتكون سبباً في خراب بيت المنتج وربما إفلاسه عندما يقول مثلا ً في كلمات قليلة: «وأخذت القرية تغرق رويداً رويداً».. ومعني ذلك مطلوب بناء قرية لكي يتم إغراقها وكل هذا في أقل من دقيقة بميزانية قد تفوق ميزانية العمل كله. طبعاً الكمبيوتر حالياً باركه الله يتولي هذه المسألة بمنتهي السهولة.. يغرقها ويشعلها ويهدمها ويبنيها وكان محفوظ معروفاً بانضباطه الشديد فهو يكتب رواياته في فصل الشتاء.. ويعتبر أشهر الصيف بمثابة إجازة لأنه يعمل بانتظام ولا يدلل مزاجه الإبداعي مثل غالبية الكتاب.. وقد وافق «أبوسيف» علي العمل في هذه العطلة فقط من باب التسلية ليس إلا.. ولأنه لم يكن قد رأي من قبل هذا «النص» الذي يسمي بالسيناريو قدم إليه «أبوسيف» نموذجاً.. وراح هو يقرأ ويستزيد عليه من كتب أخري في هذا المجال وإن كانت قليلة في هذا الوقت وأغلبها مترجم. وقد اعترف في حوار مع زميلنا الأديب الكبير يوسف القعيد بأن صلاح كان متعباً للغاية في شغله ويعمل علي السيناريو أكثر من مرة ولا يطمئن إليه إلا بصعوبة بالغة ومن هنا تميزت أفلام «أبوسيف» بالبناء الدرامي المحكم والاهتمام بالسيناريو والحوار إلي أقصي درجة مقارنة بغيره من كبار المخرجين.. لذلك ظهرت في مقدمات معظم أفلام عدة أسماء عن قصة وسيناريو وحوار الفيلم الواحد.. فقد تكون القصة أدبية.. ثم هناك من يقوم بمعالجتها سينمائياً وقد يشترك أكثر من كاتب في السيناريو.. ويختص واحد بالحوار وأحيانا أكثر وهو يختار لكل فيلم فريق عمل ينسجم مع موضوعه ونفتش عن الكاتب المناسب من الناحية السياسية أو الإعلامية أو الاقتصادية. ورغم أن أغلب الدراسات والمقالات والموسوعات تشير إلي أن الفيلم الأول لنجيب محفوظ هو «المنتقم».. لكن الحقيقة أن السيناريو الأول هو «مغامرات عنتر وعبلة».. لكن المنتقم سبقه في العرض وتفصل بينهما عشرة أشهر.. وقد جاء في موسوعة محمود قاسم الأولي ان فيلم «عنتر» سيناريو صلاح أبوسيف ونسب القصة إلي نجيب محفوظ وعبدالعزيز سلام والحوار إلي بيرم التونسي ثم عاد وصحح هذا الأمر في موسوعته الثالثة ونسب القصة إلي عبدالعزيز سلام والسيناريو نجيب محفوظ وصلاح أبوسيف.. ولكن يعقوب وهبي ومني البنداري في قاموس السينمائيين المصريين يضيفون اسم فؤاد نويرة إلي المشاركة في السيناريو.. وقد حسم صلاح أبوسيف هذا بنفسه في محاوراته مع الناقد هاشم النحاس التي أصدرها في كتاب حيث قال إن عبدالعزيز سلام كتب السيناريو وتناول فيه الصراع بين العرب والعرب.. وهو ما لم يوافق عليه.. ومن هنا لجأ إلي نجيب محفوظ الذي حول مغامرات عنترة ضد الرومان مع العلم بأن السينما قدمت سيرة عنترة أكثر من مرة وفي فيلم «المنتقم» اشترك محفوظ مع «أبوسيف» في السيناريو وكتب الحوار السيد بدير مع محمد عفيفي. وكما اعترف نجيب محفوظ للأديب القعيد بأن أسلوب «أبوسيف» في كتابة السيناريو مرهق للغاية فهو شديد الدقة في رسم الشخصيات واللعب علي تناقضاتها.. ويحرص علي تصور الصورة التي سيقدم بها الفيلم كمخرج، لذلك يعيد ويزيد في السيناريو إلي ما قبل التصوير بساعات وقد يتدخل حتي بعد التصوير في المونتاج.. بتقديم مشهد أو بتأخير آخر. محفوظ الذي عمل كسيناريست مع نيازي مصطفي وعاطف سالم وحسن رمزي ويوسف شاهين وإبراهيم السيد.. بعد خمسة أفلام متوالية مع «أبوسيف» لم يجد نفس الصعوبة مع هؤلاء مثلما كان يعاني مع صلاح وكيف لا وهو المخرج الوحيد الذي فكر في إنشاء معهد السيناريو وتخرجت فيه أسماء لامعة عديدة رغم أنه لم يستمر لأكثر من دفعتين فقط. مهارة خاصة الكتابة للسينما وان كان فيها الكثير من المقومات الأدبية.. لكنها تظل محكومة بقواعد خاصة مختلفة عن الكتابة الأدبية فهي في نهاية المطاف صناعة وقاعدتها أوسع.. بينما الرواية الأدبية لها قارئ لمواصفات معينة حتي يستطيع استيعابها.. بينما نفس الرواية إذا تحولت إلي فيلم من خلال سيناريو لن يجد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب أدني صعوبة في متابعتها والاستمتاع بها.. وقد تستقر في وجدانه لسنوات.. لهذا أدرك أحد أدباء نوبل الكبار وهو الكولومبي «جارسيا ماركيز» أهمية الصورة في السينما.. واقتحم ميدانها ليس فقط كروائي.. لكن كسيناريست وأسس ورشة لكتابة السيناريو تضم مجموعة من المؤلفين والمخرجين والأدباء تشترك في كتابة الأفلام والمسلسلات لحساب شركات الإنتاج من خلال مجموعات عمل وقد رصد ماركيز منهج العمل في هذه الورش في ثلاثة كتب بديعة بعنوان «فن الحكي» تناول فيها عدة أعمال تم كتابتها وكيف بدأت الفكرة حتي اكتمل السيناريو وهي تجربة ممتعة لكل محب لدراسة السيناريو.. والكتب أصدرها مهرجان دمشق السينمائي في مطبوعاته.. بينما توقفت علاقة محفوظ بالسينما كسيناريست عند 13 فيلماً.. واكتفي ببيع قصصه الأدبية وأعطي لمن يشتريها حق التصرف فيها كاملاً دون تدخل منه واعتبر السيناريو السينمائي أو التليفزيوني أو المسرحي المأخوذ عن روايته هو إبداع خاص منفصل تماماً عنه ويخص كاتبه ومخرجه.. مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه لكي يكتب من أعماله ما يريد وقد كتب بعض القصص خصيصاً للسينما.. لكنه في نهاية المطاف انتصر وانحاز للأدب علي حساب الكتابة للسينما في عصر يسمونه حالياً بعصر «الصورة» فهل لو امتد العمر بمحفوظ لتغيرت وجهة نظره هذه رغم تخرجه كسيناريست في مدرسة صلاح أبوسيف الكبري؟.. سؤال نترك إجابته مفتوحة لمن يمتلكها من عشاق أدب محفوظ ومحبي سينما أبوسيف رائد الواقعية.

جريدة القاهرة في

03/01/2012

 

السيناريو .. كمرحلة انتقالية في أعمال نجيب محفوظ الأدبية

بقلم : د. محمد كامل القليوبي 

للمرّة الثانية أتلقي دعوة خارج مصر لإلقاء محاضرة عن نجيب محفوظ والسينما. وكانت هذه المرّة في مدينة إشبيلية حاضرة الأندلس القديمة بإسبانيا، حيث كانت جامعة بابلو دي أولافيدي تحتفل بمئوية نجيب محفوظ علي مدي ثلاثة أيام في الفترة من 24: 26 أكتوبر 2011، أقيمت خلالها مجموعة من الندوات والحلقات الدراسية عن نجيب محفوظ وأعماله الأدبية، وشارك فيها عدد من الأكاديميين الإسبان والمصريين وبعض الأساتذة الإسبان ذوي الأصول المصرية من جامعات إسبانية مختلفة. محاضرات بين موسكو وإشبيلية أما الاحتفال الأول الذي شاركت فيه فلقد تم في 11 ديسمبر 2007 بمناسبة إزاحة الستار عن تمثال نجيب محفوظ في المكتبة المركزية لجامعة العلاقات الخارجية الروسية "مجيمو" وهي جامعة تحتل مكانة مهمة بين سائر الجامعات الروسية، فهي الجامعة التي يتخرج فيها الدبلوماسيون الروس في جميع أنحاء العالم، ولقد أقيم احتفال بهذا الحدث المهم حيث إن تمثال نجيب محفوظ هو التمثال الأول ولعله الأخير الذي تم وضعه في المكتبة المركزية لهذه الجامعة المتميزة، بالإضافة إلي وجود قسم بها لمؤلفاته باللغتين الروسية والعربية، ومجموعة الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعماله، وهو أمر لا يخلو من دلالة، فهو يعني ببساطة أن نجيب محفوظ بكل ما يمثله سيحتل حيزًا في عقل وضمير أي دبلوماسي روسي في أي مكان من العالم أتيح له أن يطالع كل صباح تقريبا تمثال نجيب محفوظ ويعرف الكثير عنه أثناء دراسته الجامعية، ولقد تم الاحتفال بهذه المناسبة علي مدي يومين، أقيم في اليوم الأول معرض لكتب نجيب محفوظ باللغتين الروسية والعربية بمعهد الدراسات الشرقية، أما اليوم الثاني وهو يوم إزاحة الستار عن تمثاله بجامعة العلاقات الخارجية الروسية فلقد تضمن محاضرتين عن نجيب محفوظ، أولهما عن أدب نجيب محفوظ قامت بإلقائها أهم وأكبر مستشرقة في العالم الآن فاليريا كريبتشنكو التي ترجمت أعمالا لنجيب محفوظ وجمعتهما صداقة وطيدة، بينما قمت بإلقاء المحاضرة الثانية عن نجيب محفوظ والسينما، عن عمله بها كاتبا للسيناريو ثم عن الأفلام المأخوذة عن أعماله، ولقد بدأ افتتاح هذه الاحتفالية بعرض الفيلم التسجيلي "نجيب محفوظ ضمير عصره" للمخرج التسجيلي الكبير هاشم النحاس، واختتمت بعزف مقطوعات موسيقية مصرية مؤلفة للبيانو قام بها عازف البيانو المصري المتميز محمد صالح.. ومما يسترعي الانتباه أن أيا من هذين الحدثين لم يرد لهما ذكر في الإعلام المصري المقروء والمسموع والمرئي علي حد سواء، ونفس التجاهل أيضا حظيت به احتفاليات أخري بنجيب محفوظ في مختلف أنحاء العالم باستثناء احتفاليات قليلة للغاية علمنا بها بإيجاز شديد، وقد يكون آخرها احتفال مهرجان أبو ظبي السينمائي بمئوية نجيب محفوظ، وإصدار كتاب عنه بهذه المناسبة، وهو احتفال اقتصر بطبيعة الحال نظرًا لطبيعة الجهة التي قامت به علي نجيب محفوظ والسينما، وعلي نفس المنوال يأتي احتفال لجنة السينما بالمجلس الأعلي للثقافة ليقتصر علي هذا الجانب فقط، أي عمل نجيب محفوظ بالسينما، أما ما يقال إنه من المزمع القيام به احتفالا بهذه المناسبة قبل أن تحلّ نهاية عام 2011 التي أصبحت قاب قوسين أو أدني، فهو ضئيل للغاية لا يتناسب بحال مع هذه المناسبة العظيمة التي يحتفل بها العالم شرقه وغربه. ولقد حرصت علي أن أسجل في هذه المقدمة الحدثين الاحتفاليين بنجيب محفوظ في موسكو وإشبيلية الذي كان لي شرف المشاركة فيهما، في مجال الاحتفال الذي تقيمه لجنة السينما بالمجلس الأعلي للثقافة، وحرصت علي أن تكون ورقة البحث التي أقدمها لهذه الندوة هي نص المحاضرة التي ألقيتها في جامعة العلاقات الخارجية الروسية كنوع من التوثيق لاحتفاليات دولية مهمة قام بها العالم تحية وتقديرًا لهذا الكاتب العظيم الذي تحظي أعماله الأدبية باهتمام كبير بل وبشعبية لمستها بنفسي كما لمسها الكثيرون سواء في روسيا أو إسبانيا أو عدد من بلدان العالم، وقد حضر هاتين الاحتفاليتين عدد من أساتذة وطلاب الجامعتين من شباب وفتيات في مقتبل العمر قرأوا أعمالا أدبية لنجيب محفوظ وكانت أسئلتهم ومناقشاتهم تنبئ بمعرفة جيدة بأعماله، ولقد استرعي انتباهي أيضا أنه لا أحد يأتي علي ذكر جائزة نوبل باعتبارها تميزًا خاصًا بنجيب محفوظ وأعماله، وإنما يأتي ذكرها في معرض سيرته الذاتية من بين ما حصل عليه من جوائز، ولم يذكر شخص واحد ذلك التعبير المتباهي البليد الذي نطلقه عليه في مصر وهو "أديب نوبل" أو "الكاتب العالمي"... إلي آخر هذه التعبيرات التي يتجاوزها نجيب محفوظ بمراحل... ولقد استدعي ذلك ذاكرتي رسمًا كاريكاتيرىًا ذا دلالة عميقة رسمه فنان الكاريكاتير الراحل ماهر داود ونشره علي صفحات جريدة الأهرام، صوّر فيه نجيب محفوظ علي هيئة تمثال «أبوالهول» ووضع أمامه عدسة صغيرة كتب عليها جائزة نوبل متسائلا هل كنا في حاجة لهذه العدسة كي نري نجيب محفوظ !؟. مئوية نجيب محفوظ هي احتفال بأهم كاتب مصري في تاريخنا علي الإطلاق قديمه وحديثه ومعاصره.. ليس لمجرد أننا نري أنفسنا في أعماله، لكن وذلك هو الأهم، كيف ينبغي أن نري أنفسنا بعين نجيب محفوظ المتأملة الفاحصة الراصدة لا لواقع وتاريخ وطن فحسب، لكن أيضا لمسار واقعه وتاريخه وملامح مستقبله. محاضرة في موسكو الموضوع الذي نتناوله اليوم هو "نجيب محفوظ والسينما"، وهو موضوع نادرًا ما نتحدث عنه، فعلي نحو غامض يأتي ذكر هذه العلاقة في إطار عام من التعريف بنجيب محفوظ، ويبدو عادة كما لو أنه يقتصر علي الأعمال السينمائية المأخوذة عن أعمال روائية لنجيب محفوظ وهي كثيرة إذ يصل عددها إلي نحو خمسة وأربعين عملا مأخوذا عن رواياته وقصصه القصيرة، بينما يصل عدد الأعمال السينمائية التي قام بإنجازها للسينما ثمانية عشر عملا، وهو قدر كبير إلي حد ما... نجيب محفوظ واحد من ثلاثة كتّاب حازوا جائزة نوبل في الأدب ومارسوا كتابة السيناريو مباشرة للسينما، والكاتبين الآخرين هما الكاتب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الذي أصبح عنوانا للرواية في أمريكا اللاتينية تماما كما أن نجيب محفوظ عنوان للرواية العربية، والكاتب المسرحي البريطانبي هارولد بنتر الذي تبدو كتابته للسيناريو السينمائي أمرًا طبيعيا نظرًا لتقارب الوسيطين "المسرحي والسينمائي" دراميا وحواريا، فكلاهما وسيط سمعي بصري وإن اخلتفت وسائله وأساليبه... ويبدو هنا سؤال يفرض نفسه لماذا يشترك نجيب محفوظ وجابرييل جارثيا ماركيز في عملهما بالسينما إلي جانب كتابة القصة والرواية، ولماذا عرفنا وأحببنا الكولومبيين بخصائصهم وعاداتهم ومكوناتهم النفسية وحقولهم ومدنهم وقراهم من خلال أعمال جابرييل جارثيا ماركيز كما عرفنا وعرف العالم وأحب المصريون وأحياء مصر الشعبية وحواريها الضيقة وسكانها وحرافيشها من خلال أعمال نجيب محفوظ؟ وكيف أمكن لهذا الكاتب العظيم أن يحول كل ما كتب عنه إلي معالم وآثار ينحت عنها دون كلل وعندما نعثر عليها تتجسد خلالها شخصيات محفوظ التي أصبحت جزءا أصيلا منها مثل "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" و"زقاق المدق" بالقاهرة القديمة، و"بنسيون ميرامار" بالإسكندرية، بل وحتي تمثال سعد زغلول برمل الإسكندرية الذي ما نكاد نلمحه حتي نبحث عنها علي نحو لا إرادي عن عيسي الدباغ بطل رواية "السمان والخريف" وهو يجلس أسفله!؟ وكيف تمكن هذا الكاتب خلال حياته الحافلة أن يحوِّل مقاهي القاهرة والإسكندرية إلي مزارات توضع علي خرائط السياحة في القاهرة مثل "قهوة عرابي" بالعباسية، حيث كان يلتقي كل يوم ثلاثاء مع أصدقاء الصبا، و"كازينو أوبرا" ثم "مقهي ريش" بالقاهرة، و"مقهي بترو" بالإسكندرية، وجميعها أماكن اعتاد نجيب محفوظ أن يلتقي فيها بكل من يعن له الإلتقاء به من كتاب مصر كهولاً وشبابًا، وبكل من تسول له نفسه أن يتخذ من الكتابة مهنة له حتي ولو كان ما يكتبه نزوة عابرة!؟ وفي الواقع فإن الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن نجدها في المكانة المهمة الراسخة التي تحتلها الأمكنة في أعمال نجيب محفوظ، وهو ما يشير إلي أن السينما كحضور حي للمكان مجسد تماما، بوجوده المادي وليس بمجرد وصفه لغوىًا، في علاقة مباشرة بشخصياته وبتأثيرها عليه وبتأثرها به، وهو الأمر الذي شكّل محور عمل نجيب محفوظ للسينما في مجال كتابة السيناريو خلال ثلاثة عشر عاما، بدءًا من عام 1947 وحتي عام 1959، قام خلالها بإنجاز سبعة عشر فيلما ككاتب للسيناريو ثم عاد عام 1963 للمشاركة في كتابة سيناريو فيلم "الناصر صلاح الدين" من إخراج يوسف شاهين استجابة لمشروع عُد وطنيا من الدرجة الأولي وقتها حيث قدمت صورة البطل القومي العربي صلاح الدين الأيوبي كما لو كان قد تجسد في جمال عبد الناصر بأسلوب يقترب من تصوير المخرج الروسي الكبير سيرجي إيزنشتاين للبطل القومي الروسي الكسندر نيفسكي في الفيلم الذي حمل اسمه عام 1939، كما لو كان قد تجسد في جوزيف ستالين، وهو قياس مع الفارق بطبيعة الحال، ثم قام نجيب محفوظ بإعداد وليس كتابة السيناريو لفيلم آخر من نفس النوع الذي ندعوه "أفلامًا وطنية في مصر"، وهو فيلم "ثمن الحرية" عن مسرحية لإيمانويل روبليس بنفس العنوان ومن إخراج نور الدمرداش عام 1965، ثم توقف تماما عن العمل في السينما وأخذت السينما بدءا من عام 1960 في تقديم أفلام مأخوذة عن أعماله الروائية فيما يمكن أن نطلق عليه "التيار المحفوظي" في السينما المصرية، وهو تيار مازال يجتاح السينما المصرية حتي الآن، ووصلت بعض أنوائه خارج مصر عابرة المحيط الأطلنطي إلي المكسيك حيث تم "مكسكة" عملين روائيين لنجيب محفوظ وهما "بداية ونهاية" من إخراج أرتور ريبستين عام 1963، و"زقاق المدق" الذي عرض تحت عنوان الترجمة الإسبانية للرواية "حارة المعجزات" من إخراج خورخي فونس عام 1995، ولقد حقق الفيلمان نجاحا كبيرا علي المستوي الفني فحاز فيلم "بداية ونهاية" الجائزة الكبري لمهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي عام 1993، بينما حصل فيلم "زقاق المدق" أو "حارة المعجزات" علي شهادة تقدير من لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 1995. نجيب والحكيم ونجيب محفوظ هو أول كاتب مصري كبير يعمل بالسينما، ولا يوجد سوي استثناء واحد في عمل واحد فقط لا غير، وهو توفيق الحكيم الذي قام بكتابة الحوار لفيلم "رصاصة في القلب" من إخراج محمد كريم عام 1945، وهو فيلم مأخوذ عن مسرحية لتوفيق الحكيم نفسه بنفس العنوان، أي أنه بصورة أو بأخري قد قام بإعداد حواره المسرحي كي يتناسب مع الشكل السينمائي للفيلم. أما عمل نجيب محفوظ في السينما فلقد كان عملا سينمائيا خالصا منقطع الصلة بأعماله الأدبية، ومن الجدير بالانتباه أنه قد بدأ عمله في السينما بدفع وحفز أحد أهم مخرجي السينما عبر تاريخها وهو المخرج الكبير صلاح أبوسيف الذي يطلق عليه عادة رائد الواقعية في السينما المصرية، وكان اول عمل يقدمانه سويا هو فيلم "عنتر وعبلة" عام 1948، وهو فيلم عن حياة الفارس والشاعر العربي الأسود الذي كان عبدًا عنترة بن شداد وحبه الكبير لعبلة الذي كتب عنه الكثير من قصائده حتي أصبحت قصة حبه لعبلة إحدي قصص الحب الخالدة في الأدب العربي، وكان صلاح أبو سيف هو صاحب فكرة الفيلم الذي حاول أن يضع أبعادا سياسية معاصرة للفيلم بإيماءات تشير إلي حرب 1948 التي انتهت باحتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، أما ما إسترعي انتباه صلاح أبو سيف إلي نجيب محفوظ وحفزه علي الكتابة للسينما فهو كما يقول نجيب محفوظ :"وقد شجعني للعمل معه بعد أن قرأ لي "عبث الأقدار" وأوهمت بأن كتابة السيناريو لا تختلف عما أكتبه عندما سألته عن ماهية هذا السيناريو. والحقيقة أنني تعلمت كتابة السيناريو علي يد صلاح أبو سيف. كان يشرح لي في كل مرحلة من مراحل كتابته ما هو المطلوب مني بالضبط. وبعد أن أنفذه أعرضه للمناقشة التي كان يشاركنا فيها الدكتور فؤاد نويرة، وهو من عرفني بصلاح أبو سيف، ومعه عبد العزيز سلام كاتب الحوار والأغاني"،(من كتاب نجيب محفوظ والسينما، للمخرج والباحث هاشم النحّاس، إصدار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2006). وهكذا بدأت علاقة نجيب محفوظ بالسينما، لقاء بين أهم كاتب للرواية وأهم مخرج في السينما المصرية، وفي تقديري فلقد كان من الصعوبة بمكان أن يجد نجيب محفوظ من يقنعه بالكتابة للسينما سوي المخرج صلاح أبو سيف، فلقد كان هناك الكثير من الروابط التي جمعتهما معا، ليس مجرد النشأة في الأحياء الشعبية حيث نشأ نجيب محفوظ في حي الجمالية الذي رصد شوارعه وأزقته وسكانه في العديد من أعماله، ونشأ صلاح أبو سيف في حي بولاق الذي رصده وقدمه في عدد من أفضل أفلامه، وإنما الرابط الأساسي والعامل المشترك بينهما هو عشقهما لهذه الأماكن، ورصدهما بعيون محبة لساكنيها ولعلاقاتهم وأنماط حياتهم، وليس من قبيل المصادفة أن نجد من بين الثمانية عشر فيلمًا التي قام نجيب محفوظ بكتابة سيناريوهاتها للسينما عشرة أفلام قام صلاح أبو سيف بإخراجها، بل وتمثل عددًا من أهم الأفلام التي قام بإنجازها طوال عمله في السينما، ومن بينها علي سبيل المثال لا الحصر أفلام "لك يوم يا ظالم" عام 1951، وهو مأخوذ عن قصة "تريز راكان" لإميل زولا، و"ريا وسكينة" عام 1953، وهو مأخوذ عن حادثة حقيقية لسفاحتين شهيرتين بمدينة الإسكندرية، وهو أول فيلم مصري يتم استيحاء موضوعه من حادثة حقيقية، ثم تلاه بفيلم آخر مأخوذ عن حادثة حقيقية أيضا وهو "الوحش" عام 1954، الذي يقدم قصة الخط وهو مجرم وقاطع طريق شهير بصعيد مصر، و"شباب إمرأة" عام 1955، عن قصة لأمين يوسف غراب، وهو فيلم ذو طبيعة حسية تشي باختلاط مفهوم الواقعية عند كل من صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ بالطبيعية كمفهوم واتجاه في الأدب والفن، ثم "الفتوة" عام 1957، وهو واحد من أهم أفلام السينما المصرية طوال تاريخها وليس من أهم أفلام صلاح أبو سيف فحسب، ويقوم نجيب محفوظ بكتابة السيناريو لفيلمين في إطار ما عرف بـ"مرحلة الإحسانيات" في أعمال صلاح أبو سيف نسبة إلي الكاتب إحسان عبد القدوس الذي قام صلاح أبو سيف بإخراج مجموعة من الأفلام المأخوذة عن قصصه ورواياته الذائعة في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي، وهما فيلما "الطريق المسدود" عام 1958، و"أنا حرة" عام 1959، ثم يقوم نجيب محفوظ في نفس العام أيضا بكتابة قصة فيلم "بين السماء والأرض"، وهي قصة كتبت خصيصًا للشاشة وتتضمن تجربة شديدة الخصوصية حيث يكون الزمن الحقيقي للأحداث هو نفسه الزمن السينمائي، وحيث تدور معظم الأحداث في مكان واحد ضيق وهو المصعد الذي يتعطل بركابه، والأحداث والمواقف بالفيلم تجنح إلي شكل من الدراما الذهنية رغم واقعية القالب الذي تدور فيه أحداث الفيلم، تطرح خلالها الأسئلة الأبدية المعلقة عن الحياة والحب والموت والميلاد بنزعة فلسفية واضحة.. ولعل ما يسترعي الانتباه أن هذا الفيلم تزامن مع كتابة نجيب محفوظ لروايته "أولاد حارتنا" التي بدأ بها نجيب محفوظ اتجاها جديدًا في الرواية العربية عام 1959، والتي ظلت تطارده طوال حياته حتي أدّت إلي محاولة اغتياله الآثمة علي يد أحد المتطرفين الدينيين قام بتوجيه طعنة من سكين إلي رقبته في 14 أكتوبر 1994، ولقد جاء هذا العمل الاجرامي كنتيجة للتحريض المتواصل ضد نجيب محفوظ واعتبار أن كتابته لرواية "أولاد حارتنا" نوع من الكفر البين بالأديان السماوية، ولقد تم ذلك خلال مصادرة الرواية ومنع طبعها وتداولها لأكثر من أربعين عاماً من رقابة الأزهر التي تجاوزت حدودها في مراقبة الكتب الدينية وطبعات المصاحف لتتحول إلي رقابة علي الفكر والإبداع، متجاوزة حدودها بصورة غير قانونية وغير دستورية ومغتصبة لحقوق أصيلة في حرية التعبير. أسلوب جديد وعلي أية حال فإن ما يسترعي الانتباه هنا أن نجيب محفوظ ومع كتابته لرواية "أولاد حارتنا" مختطًا أسلوبا جديدًا في اتجاه الرواية الجديدة علي نحو معاصر تماما، انقطعت صلته بأشكال الكتابة الكلاسيكية للرواية والتي وصلت إلي قمتها في ثلاثيته الباهرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، وانقطعت صلته في نفس الوقت تقريبا بالعمل في السينما، انتهت علاقته بالسينما ككاتب سيناريو وبدأت علاقة رواياته وقصصه بالسينما، وبدأت تشكّل مصدرًا لا ينضب منذ عام 1960عندما استمر صلاح أبو سيف في عمله مع أعمال نجيب محفوظ هذه المرّة عوضا عن عمله معه، وذلك بتقديم رواية "بداية ونهاية" في فيلم بنفس العنوان، ويعد إحدي التحف السينمائية في تاريخ السينما المصرية وتاريخ صلاح أبو سيف علي حد سواء، ولقد عرض هذا الفيلم بمهرجان موسكو السينمائي الدولي في دورته الثانية عام 1961، ولفت الأنظار بشدة، وحازت بطلته الممثلة المصرية سناء جميل علي إحدي جوائز التمثيل. وقبل أن نستطرد في الحديث عن الأعمال السينمائية المأخوذة عن أعمال نجيب محفوظ، أود الإشارة إلي عدد من الأعمال السينمائية التي قام نجيب محفوظ بكتابة السيناريو لها لمخرجين آخرين غير صلاح أبو سيف، وشكلت جزءًا متميزًا من إبداعاتهم السينمائية، حيث كتب نجيب محفوظ السيناريو لعدد من أكثر أفلام المخرج عاطف سالم أهمية وتميزًا وهي "جعلوني مجرمًا" عام 1945 و"النمرود" عام 1956 و"إحنا التلامذة" عام 1959... كما كتب القصة السينمائية وشارك المخرج توفيق صالح في كتابة السيناريو لفيلم "درب المهابيل" الذي قام توفيق صالح بإخراجه عام 1955. وعودة إلي رواياته التي تحولت إلي السينما فلقد شكّل العديد منها أهم الإنجازات الفنية لصانعيها، ولعل أهم إنجازات المخرج حسن الإمام مأخوذة جميعها تقريبًا عن أعمال روائية لنجيب محفوظ مثل "زقاق المدق" عام 1963 و"بين القصرين" عام 1964 و"قصر الشوق" عام 1967، و"السكرية" عام 1973 وكذلك الحال بالنسبة لكمال الشيخ في فيلميه بالغي الأهمية "اللص والكلاب" عام 1963 و"ميرامار" عام 1969، وحسام الدين مصطفي في فيلميه المتميزين "الطريق"عام 1963 و"السمان والخريف" عام 1968، وحسين كمال في فيلميه "ثرثرة فوق النيل" عام 1971 و"الحب تحت المطر"عام 1975، وعلي بدرخان في بعض أفلامه المتميزة "الكرنك" عام 1975 و"أهل القمة" عام 1981 و"الجوع" عام 1986، وعاطف الطيب في فيلميه "الحب فوق هضبة الهرم" عام 1986 و"قلب الليل" عام 1989 وغيرهم من المخرجين الذين قدموا أعمالا عن روايات وقصص لنجيب محفوظ.. لقد أتاحت لهم هذه الأعمال فضاء رحبًا وأرضًا جديدة وأفكارا لم تطرق من قبل لتنطلق إبداعاتهم السينمائية إلي أعلي مستوياتها، وهو أمر نسبي علي أية حال يتراوح بين مبدع وآخر، وإن كان معظم هذه الأعمال لم يتجاوز الأصول الروائية لنجيب محفوظ إلا فيما ندر.. أود أن أشير إلي تصرف لمحفوظ تداولته الأوساط السينمائية وقتها ببعض الدهشة وأري أنه يحمل دلالة ما، ففي آخر أعمال نجيب محفوظ ككاتب للسيناريو في فيلم "إحنا التلامذة" عام 1959، أعاد نجيب محفوظ الدفعة الأخيرة من أجره إلي المنتج قائلا عبارة بدت غريبة وقتها:"شكرا لقد تقاضيت ما فيه الكفاية.. لقد كنت أتعلم"، فهو من جانب يعني أن نجيب محفوظ قد اتخذ قراراً بالتوقف عن العمل بالسينما، ومن جانب آخر يشير إلي أمر يمكن فهمه في ضوء قراءة المرحلة الجديدة من عمله الروائي خلال هذه الفترة، وهي مرحلة بدأت بكتابة رواية "أولاد حارتنا" ثم خطت خطوات واسعة في اتجاه الرواية الجديدة بروايات "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار"... فما الذي كان نجيب محفوظ يتعلمه خلال عمله بالسينما؟.. منذ أكثر من مائة عام عندما بدأت السينما في التحول من أداة لتسجيل الأحداث الأشخاص والمواقف إلي أداة للحكي، استمدت بناءها من أشكال السرد الأدبي الروائي، ثم بدأت تتطور في تعاملها مع الزمن عن طريق إعادة ترتيب هذه الأزمنة المختلفة التي تم الحفاظ عليها علي شرائط السليلويد المصورة، ثم إعادة ترتيبها عن طريق المونتاج، مما أدي إلي خلق أشكال جديدة في السرد والبناء الزمني للفيلم مثل الفلاش باك Flash back (العودة إلي الماضي)، والفلاش فوروارد Flash forwardالتقدم إلي المستقبل)، وكذلك خاصية اختزال ما نعرفه بالأزمنة الضعيفة لصالح الأزمنة القوية، وإمكانية اختزال الحيز الزمني لشهور أو أعوام طالت أم قصرت إلي حيز زمني محدود... وغير ذلك من وسائل التعامل مع الزمن فيما يعرف الآن بالسرد السينمائي والبناء الزمني للفيلم، وهو ما أدي إلي تغيير وسائل التلقي للعقل البشري نفسه، وحان الوقت كي تسدد السينما دينها إلي الرواية، لا بتطوير وسائل السرد فحسب لكن أيضا بتطوير العقل البشري وتعويده علي تلقي وسائل أخري للسرد يتعامل فيها مع الزمن بطريقة مختلفة، ولقد أدت وسائل السرد الجديدة التي ابتكرتها السينما إلي تغير ملحوظ في أشكال السرد الأدبي، وأدي إلي ظهور ما عرف بالرواية الجديدة في العالم، وبصدد ذلك أشير إلي أن نجيب محفوظ كان من بين أوائل الكتاب في العالم الذين استجابوا لهذه الوسائل الجديدة في السرد الروائي، وعلي نحو ما نقل نجيب محفوظ وسائل السرد والتعامل مع الزمن السينمائي بصورة طبيعية إلي السرد الروائي الأدبي، متجاوزًا بمهارة شديدة الأزمة التي تعرض لها كتّاب الرواية الفرنسية الجديدة الذين أتوا في فترة متوافقة تقريبا مع عمل نجيب محفوظ الروائي في مرحلته الجديدة، مثل ناتالي ساروت وآلن روب جرييه ومرجريت درواس.. ثم ما لبث أن تحول كل من آلن روب جرييه ومرجريت دوراس إلي العمل السينمائي مدفوعين بعجز الشكل الأدبي وأسلوب البناء الزمني الذي اختاراه لأعمالهما عن التعبير، وأصبحت السينما هي الوسيط المناسب لتقديم أعمالهما وليس الأدب، أما نجيب محفوظ الذي يعد من هذه الزاوية رائدًا من رواد الرواية الجديدة في العالم، فلقد استخدم السينما ليقفز إلي قلب الراوية الجديدة مدفوعًا بضرورات الشكل والقالب الفني للرواية الجديدة للاستمرار في التعبير عن رؤيته للعالم... ويمكننا أن نلاحظ الفارق الكبير بين مرحلتين من الأعمال الروائية لنجيب محفوظ، البناء الكلاسيكي الراسخ في أعماله الأولي مثل "خان الخليلي" و"زقاق المدق" وغيرهما، وهي المرحلة التي توجت بثلاثيته الكبيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، وبين مرحلة الرواية الجديدة عند نجيب محفوظ في أعماله التالية لـ"أولاد حارتنا"، انها انتقالة ثورية لا تتم بصورة انقلاب مفاجئ لو حسبناها بمقياس التطور التدريجي في أشكال السرد والكتابة، وفي تقديري فإنه يمكن فهمها فقط باعتبار أن عمله السينمائي جزء من عالمه الروائي، وهنا فقط يمكننا أن نفهم مراحل التطور عند نجيب محفوظ ككاتب روائي، وكيف حدثت هذه الانتقالة الكبيرة ما بين مرحلتي الرواية الكلاسيكية والرواية الجديدة... عند نقل الأعمال الأدبية إلي شاشة السينما دائما ما توجه نصيحة بأن يتم تناول أعمال أدبية أخطأت وسيطها إلي الشكل والقالب الروائي بينما كان وسيطها الطبيعي هو السينما، ويرجع ذلك علي الأرجح إلي أن الكاتب لم يجرب العمل السينمائي ولم يفكر في امتلاك أدواته، وان الكتابة والصياغة الأدبية في القالب الروائي هي الشيء الوحيد الذي يشغل اهتمامه، ولذلك فنادرًا ما نجد أعمالا سينمائية معادلة للعمل الروائي الذي يكتمل في صورة الرواية الأدبية ويتطابق محتواه مع صياغتها، وعندما يتجاوز الفيلم الرواية بصورة أو بأخري فهذا يعني أن الرواية لم تكن الوسيط الأمثل وأن هناك خلا ما في اختيار الوسيط يكشفه العمل السينمائي علي الأغلب، ويمكننا أن نلاحظ ذلك بوضوح في أعمال مثل "زوربا اليوناني: لنيكوس كازنتزاكيس الذي يتجاوزه الفيلم المأخوذ عنه من إخراج اليوناني مايكل كاكويانيس، أو الرواية المصرية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان التي يتجاوزها فيلم "الكيت كات" المأخوذ عنها للمخرج المصري داود عبد السيد، وغيرهما الكثير... وتبدو هذه القاعدة صحيحة بالتطبيق علي الأعمال السينمائية المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ ذات الصياغات الكلاسيكية المُحكمة، ويتبدي ذلك علي نحو واضح في الثلاثية بعد نقلها إلي شاشة السينما حيث تعجز صياغتها السينمائية في الأفلام الثلاثة التي قام حسن الإمام بإخراجها عن تقديم جوهر العمل، وتتحول إلي صورة شاحبة تحتفي بالجانب الحسي الذي يسيطر علي رؤية حسن الإمام والموجود بالفعل كجزء من عالم نجيب محفوظ ، ولكنه بالطبع ليس كل عالمه كما يتبدي في هذه الأفلام.. وباستثناء فيلمي "بداية ونهاية" وإلي حد ما فيلم "القاهرة 30" المأخوذ عن رواية "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ ، والفيلمان من إخراج صلاح أبو سيف، لا نجد أفلاما أخري تعادل روايات نجيب محفوظ خلال هذه المرحلة من عمله في إطار الرواية الكلاسيكية.. أما في مرحلة الرواية الجديدة عند نجيب محفوظ ، ونظرًا للأسلوب المختلف تماما في الشكل الفني الذي اختاره لكتابة رواياته خلال هذه المرحلة، والذي توصل إليه عبر خبرته السينمائية التي نضحت بصورة ما علي أعماله الأدبية، فلقد أحرزت الأفلام المأخوذة عنها نجاحات فنية ملحوظة، وجاء بعضها موازيا للعمل الأدبي أو مقتربا منه إلي حد كبير كما هو الحال في فيلم "السمان والخريف" لحسام الدين مصطفي، و"اللص والكلاب" لكمال الشيخ، وفيلمي الكرنك" و"الجوع" لعلي بدرخان، وفيلمي "الحب فوق هذبة الهرم" و"قلب الليل" لعاطف الطيب، فلقد ساعدت خبرة نجيب محفوظ السينمائية المنعكسة علي الصياغة الروائية وعلي البناء الزمني لهذه الأعمال الروائية علي تحويلها للسينما، انها أعمال تحمل علي نحو ما مفاتيح فك شفراتها لتتحول إلي أفلام لا تقل كثيراً عن الأصول المأخوذة عنها.. هناك مجال عمل سينمائي آخر في حياة نجيب محفوظ، وهو عمله الوظيفي، فلقد عمل منذ عام 1959 وحتي عام 1971 في وظائف حكومية متنوعة في مجال السينما، كمدير للرقابة علي المصنفات الفنية، وهو أمر لا يستطيع أحد أن يستوعبه بأن يكون كاتبًا من أهم كتّاب الرواية في القرن العشرين رقيبًا علي الأفلام والمسرحيات، كما شغل أيضا عددا من المناصب الحكومية كمدير ثم كرئيس لهيئة السينما.. ويحاول البعض أن يعطي أهمية ما لهذه الفترة من حياته في العمل الوظيفي في مجال السينما، ولكنها علي حد علمنا كانت علاقة وظيفية خاملة، فلم يكن نجيب محفوظ يوما ما رقيبًا، ولم يحظر أي عمل فني طوال توليه لهذا المنصب، كما أنه لم يكن يوماً ما مديرًا ناجحًا لهيئة السينما، أو حتي مؤثرًا بصورة أو بأخري علي الإنتاج السينمائي رغم المناصب القيادية التي تولاها في هذه المؤسسات التي كانت مسئولة عن الإنتاج إبّان فترة القطاع العام في السينما المصرية (1963 - 1972)، لقد كان موظفاً شكلياً خاملاً في هذه الوظائف الحكومية التي تولاها، لقد وظف حياته كلها وكرسها لمهمة واحدة وهي الكتابة والإبداع في مجال الرواية الأدبية التي طال بعض رذاذها الفن السينمائي في مصر، لقد منح العالم كله بعطائه الوفير الكثير والكثير... هناك أربعة مصريين حازوا علي جائزة نوبل، ولكن نجيب محفوظ وحده الذي أشعر المصريين جميعهم بأنهم قد حازوا علي الجائزة معه، لقد قدمت لحواري القاهرة وأزقتها وأحيائها الشعبية، ولمقاهي القاهرة والاسكندرية، ولباعة الصحف وشرطيي المرور وعمال المقاهي الذين يطالعونه كل صباح في رحلته اليومية سيراً علي الأقدام من شقته الصغيرة علي نيل حي العجوزة وحتي مقهي "علي بابا" في ميدان التحرير، لقد قدمت لكل كاتب ومبدع مصري من مختلف الأجيال، ولكل من سوّلت له نفسه أن يتخذ من الكتابة مهنة له حتي لو كانت نزوة عابرة ومهما كان عمره، من طلبة المدارس الثانوية وحتي خريجي الجامعات الذين يتوجهون إليه في محله المختار بمقهي "ريش" بوسط القاهرة حيث اعتاد أن يجلس إليه مساء يوم الجمعة من كل أسبوع، حاملين إليه قصصهم وإنتاجهم الأدبي ليقرأه ويبدي رأيه فيه، ولم يحدث أن رد واحد منهم قط أو استهان بعمله، لقد قدمت الجائزة لكل من قرأوا أعماله أو تابعوا الأفلام المأخوذة عنها... لقد أهدانا جميعاً هذه الجائزة ووضعنا داخل العالم وجعله في متناول أيدينا، انه ليس مجرد كاتب ولكنه حالة استثنائية حازت إجماعاً شعبياً لم يمنحه المصريون لكاتب غيره. تمرّ اليوم ستة وتسعون عاماً علي ميلاد نجيب محفوظ، وهي سنوات غالية في تاريخنا وتاريخ الأدب والثقافة العربية والإنسانية.. ويجري الاحتفال بهذه المناسبة هنا بإزاحة الستار عن تمثال نجيب محفوظ في جامعة العلاقات الخارجية الروسية "مجيمو"، ولهذا دلالة كبيرة علي عمق العلاقات الروسية المصرية في مجال الثقافة والإبداع، وطوال الوقت وأنا ألقي هذه المحاضرة ينتابني شعور قوي بانني أقف في رحاب نجيب محفوظ ، وأود أن أقول بأن هذا التمثال لنجيب محفوظ هو الثالث في العالم والأول خارج مصر، حيث يوجد تمثالان له بمدينة القاهرة، أحدهما في ساحة دار الأوبرا، والآخر في ميدان "سفنكس" بحي المهندسين، وأحسب أن نجيب محفوظ لو كان حياً حتي يومنا هذا واتيح له أن يري صورة لتمثاله الذي أبدعه المثال الروسي اللامع جريجوري باتوتسكي لشعر بالرضا لما يحمله ذلك من معني وإحساس عميق في بلد يستهويه تراثها الأدبي والثقافي إلي حد كبير، أقول لو كان حياً وقدر له أن يري صورة تمثاله، وليس الأصل بالطبع حيث ان نجيب محفوظ لم يكن يغادر مصر لأي سبب من الأسباب إلا في ظروف اضطرارية قاهرة، ولقد فرض عليه السفر ثلاث مرّات إلي خارج مصر طوال حياته، مرّة إلي اليمن ومرّة إلي يوغوسلافيا بناء علي طلب من جمال عبد الناصر، أما المرّة الثالثة فكانت إلي لندن لإجراء عملية في القلب، بل انه داخل مصر لم يغادر مدينتي القاهرة والإسكندرية اللتين دارت فيهما أحداث كل رواياته محتفظا بنقاء عالمه الداخلي ورافضًا أية شوشرة عليه... ولم ينتقل إلي دار الأوبرا ليري تمثاله الذي أقيم له في ساحتها رغم أنها علي بُعد خطوات منه، وعندما ألحّ عليه أصدقاؤه أن يشاهد التمثال الذي أقيم له في ميدان سفنكس، استجاب لهم واصطحبوه في سيارة وطافوا به حول التمثال الذي يصوره ماشياً ومتكئاً علي عصاه وهو يرتدي نظارته الشهيرة، وعلّق نجيب محفوظ لدي رؤيته لهذا التمثال قائلا بسخريته اللاذعة المعهودة:"يبدو أن من قام بصنع هذا التمثال لم يقرأ لي سوي رواية الشحاذ".

جريدة القاهرة في

03/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)