حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"الجمعة الأخيرة" للأردني يحيى العبدالله

السينما أداة للبوح الذاتيّ الإنفعاليّ

نديم جرجوره

خطا المخرج الأردني الشاب يحيى العبدالله خطوة إضافية إلى الأمام، بتحقيقه "الجمعة الأخيرة"، فيلمه الروائي الطويل الأول. خطوة ثابتة وواثقة من قدرتها السينمائية على التعبير الإنساني بواسطة الصورة، وعلى البوح الحميم عن مشاعر ذاتية خاصّة، وعن انفعالات نابعة من وقائع العيش اليومي على حافة الهاوية، ومن علاقات مبتورة (أكاد أقول "مخصيّة") أو معلّقة أو ملتبسة بين أفراد تائهين داخل ذواتهم وخارجها، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض أيضاً. اللغة السينمائية المعتَمَدة في قراءة اللحظات الإنسانية هذه شفّافة وهادئة، على الرغم من الغليان الانفعالي والنفسي. بل على الرغم من الضجيج الكثيف الذي يعتمل في روح كل فرد من أفراد المجموعة المختارة في الفيلم، المستلّة من الواقع، وخصوصاً الشخصية الرئيسة، التي شُيِّد البناء الدرامي على سيرتها اليومية المشحونة بألم المرض الجسدي والتمزّق الروحي.

شكّل "الجمعة الأخيرة" مناسبة فنية جميلة لمزيد من التعرّف على الجانب السينمائي في ذات يحيى العبدالله (المولود في ليبيا في العام 1978)، الباحث والناقد الأدبي، والدارس شؤون السينما في باريس. أفلامٌ قصيرة متفرّقة أنجزها منذ أعوام قليلة، كشفت حساسية مرهفة في التقاط النبض العام، وفي معاينة أحوال البيئة والناس. ومع أن بعض الأفلام هذه محتاج إلى بلورة سينمائية تمنح المناخ الدرامي حيوية أقوى في تشريح الذات والبيئة، إلاّ أن بعض أفلامه القصيرة هذه، المتراوحة بين الوثائقي (ست دقائق) والقصير (آلو.. آلو..) والتجريبي (رجل في فنجان قهوة)، جعل النصّ البصري مرآة صادقة في تعرية بعض معالم البيئة، وفي فضح بعض الناس، محيلة التجريبيّ مثلاً إلى اختبار فني للعلاقة الوطيدة بين الصورة وارتباكاتها الضوئية واللونية من جهة أولى، والقلق الإنساني في مواجهة العدم والالتباسات والتوهان من جهة ثانية. في حين بدا الوثائقي تشريحاً للجهل والأميّة المعتملين في الذات الفردية لأردنيين لا يفقهون شيئاً من الثقافة العامّة. وبين التجريبي والوثائقي، بدا يحيى العبدالله مهموماً بمعنى الصورة في معاينة الحكاية والعلاقات والانفعال، والتفاصيل اليومية للناس وأمكنتهم.

لعلّ العناوين العامة التي اختزلت بعض أفلامه القصيرة، وجدت في "الجمعة الأخيرة" متنفَّساً أكبر لها. وجدت حيّزاً للبوح الذاتي المتمثّل بغضب عارم مزّق الذات ودواخلها، وظهر علناً بهدوء مناقض لحقيقتها. أي أن البراعة واضحة في كتابة النصّ الأصليّ للفيلم، إذ استخدم يحيى العبدالله الصمت والهدوء والإيقاع "البطيء" (ليس بالمعنى السلبي) لقول الأشياء وتفسيرها وتحليلها، بعيداً عن المباشرة الحادّة، مقترباً من خصوصية المرء وقلقه وغضبه بأسلوب جمالي، ومبتعداً (في الوقت نفسه) عن فوضى الصراخ والضوضاء، لقناعته بقوّة الصمت في كشف مكامن التوتر والقلق والغضب داخل المرء (لقطات عدّة تُحيل المُشاهد إلى النكهة الخاصّة بالسينمائي الفلسطيني إيليا سليمان، مع الإشارة إلى أن الصمت في "الجمعة الأخيرة" ظلّ متواضعاً في لغته التعبيرية، على نقيض ما هو معتَمَد في أفلام سليمان). علماً أن المدخل الدرامي للحبكة العامّة منطلق من الصمت نفسه هذا: متتاليات بصرية تلاحق أناساً وتروي تفاصيل صغيرة، ومقدّمات متمكّنة من مهمّتها في قيادة المُشَاهد داخل الدهاليز النفسية والاجتماعية والروحية للشخصيات والمعالم والبيئة المجتمعية لاحقاً. أي أن الصمت إشارة إلى حجم الغضب الذاتي. والأداء (علي سليمان تحديداً في تمثيله الدور الرجاليّ الأول) مُسَاهم فعّال في جعل الصمت هذا مدخلاً إلى العالم المخفيّ في طيّات الحبكة، وفي إدارة الغضب، كي لا ينفلش صراخاً وحدّة لا طائل سينمائياً منهما.

"الجمعة الأخيرة" حكاية فرد ومجتمع. لكن الفرد طاغ بحضوره السينمائي، في حين بدا المجتمع مختبئاً في الزوايا والدوائر المحيطة بالفرد وعالمه المنهار ببطء قاتل، كانهيار الفرد نفسه في الخيبة والتمزّق والألم والضياع. هنا أيضاً، تبدّت براعة الكتابة في موازنة الانهيار الفردي بالتبدّلات الخطرة التي يعاني الناس تداعياتها. أي أن النصّ المكتوب وترجمته السينمائية متوافقان معاً على إيجاد معادلة جمالية بين الأشياء والناس المتخبّطين في أوجاعهم وانسداد آفاق يومياتهم وانكسار أحلامهم من جهة أولى، واللغة السينمائية المنسجمة والمناخ المسحوق والمنهار للأشياء تلك، وللناس هؤلاء من جهة ثانية. في هذا كلّه، حافظ يحيى العبدالله على سلاسة درامية في السرد والمعالجة وإدارة الممثلين، وعلى المساحة الحرّة للممثلين أيضاً، أو بالأحرى لعلي سليمان تحديداً (وللممثلين الآخرين طبعاً، وإن بتفاوت لافت للانتباه)، في منح الشخصيات مزيداً من حيويتها الإنسانية. فمنذ اللحظات الأولى، وبفضل البراعة الأدائية لسليمان مثلاً، تمكّن المُشاهد من إدراك جمالية الملامح المعبّرة، بصمتها وهدوئها، عن مأزق ما. كأن المأزق مرتسم في الملامح تلك. أو كأن الملامح نفسها جزء من اللعبة السينمائية التي صاغ يحيى العبدالله، عبرها، جوهر الحبكة وامتداد حكاياتها في الذات والعلاقات والروح والمدينة والعائلة.

أيام قليلة تفصل اللحظة الراهنة عن العملية الجراحية التي يُفترض بيوسف (علي سليمان)، ابن الأعوام الأربعين، إجراؤها في إحدى خصيتيه (من هنا الإشارة السابقة إلى أن العلاقات القائمة بين الناس "مبتورة" بل "مخصيّة"). إنها الأيام القليلة الأقسى والأكثر ألماً، لأنها عرّت التفاصيل، وكشفت المخفيّ، وباتت أشبه بخلاصة سنين طويلة، ومرارات كثيرة، وخيبات حادّة. كأن الأيام تلك مطهراً فُرض على يوسف الاغتسال به، من دون أدنى قدرة على رؤية المقبل من الأيام، أو مغزى الاغتسال، أو نتيجته النهائية. كأن الاغتسال نوع من تعذيب آخر، لأن الخلاص المنشود لا يأتي إلاّ بعد ألم، والخصيّ أقسى أنواع الألم الذكوريّ. فشله في الحياة الزوجية أدّى إلى طلاقه من دلال (ياسمين المصري)، وارتباكه مع ذاته والآخرين أفضى إلى علاقة غير متوازنة بابنه الوحيد عماد (فادي عريضي)، وعجزه عن تأمين تكاليف العملية الجراحية دفعه إلى السعي لاستعادة عمل قديم برع فيه (بيع سيارات)، وخيبته من العمل في الخليج زادت، بالإضافة إلى انسداد الأفق وانكسار كل شيء معه وأمامه، من تحطّم روحه وانعدام أفق خلاص ما. فدلال منشغلة بتسيير أمور حياتها الجديدة مع زوج آخر وابن جديد. وعماد رافض الانصياع إلى رغبة والده في الدراسة والفلاح فيها. والعمل الجديد معلّق. والحالات الإنسانية الموازية ليوميات يوسف لا تقلّ خراباً وضياعاً وانكسارات.

على الرغم من المناخ الكئيب هذا، لم يسقط النصّ والمعالجة السينمائيين في فخّ البكائيات، ولم ينشدا قصيدة البؤس والشقاء. فالأسلوب سينمائي بامتياز، لانفتاحه على اللعبة الفنية الأقدر على التعبير الصُوَري (المعطوف على حوارات متفرّقة طبعاً) عن المضامين المخبأة في الذات، أو على ضفاف الحياة. والاشتغال البصري متوافق ومعنى الصورة السينمائية في مواكبة الحالات وتبدّلاتها، وفي رفد الحبكة بالهوامش المكمِّلة لها. لهذا كلّه، بدا "الجمعة الأخيرة" منطلَقاً فنياً واضح المعالم، لا شكّ في أن عثراته الفنية القليلة (تسجيل الصوت، بعض المونتاج، بعض اللقطات الهامشية، إلخ.) لا تقف حائلاً دون اعتباره بداية موفّقة لمخرج مشحون بعاطفة سينمائية مستندة إلى وعي معرفي وثقافي متين بأحوال السينما وألعابها الخطرة والجميلة. لا تقف حائلاً دون اعتماده "شهادة ميلاد" لمخرج متمكّن من أداوته السينمائية.

يُذكر أن "الجمعة الأخيرة" قُدِّم في الدورة الثامنة (7 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2011) لـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي" في عرضه العالمي الأول، مُشاركاً في "مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة"، وفائزاً بثلاث جوائز فيها هي: جائزة لجنة التحكيم الخاصّة، وجائزة أفضل ممثل (علي سليمان)، وجائزة أفضل موسيقى (الإخوة جبران).

مهرجان أبوظبي السينمائي في

26/12/2011

 

أفلام وثائقية عربية جديدة وسؤال الإبداع السينمائي

العائلة والسياسة والذاكرة والتاريخ محاور إنسانية مختلفة

نديم جرجوره 

على الرغم من الفرق الواضح بين جماليات التعبير السينمائي للفيلم الوثائقي العربي، واستعادة التقاليد القديمة في صناعته، شكّلت المشاهدة المكثّفة لأفلام وثائقية عربية حديثة الإنتاج مناسبة نقدية لإعادة طرح سؤال الفيلم الوثائقي العربي في ظلّ التطوّرات التقنية من جهة أولى، وفي لحظة التبدّلات الحاصلة في المجتمعات العربية، سياسياً وثقافياً واجتماعياً وإنسانياً، من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن بعض الأفلام الجديدة هذه مُنتَج بأموال غربية بحتة، ما يدفع إلى اعتبارها (بحسب المتداول حديثاً) أفلاماً "غربية" تناولت مواضيع عربية، أو أنجزها مخرجون عرب مقيمون في المنافي والمهاجر الأوروبية، إلاّ أن الفرق المذكور سابقاً مردّه أساليب الاشتغال الفني والثقافي للمواد الإنسانية المختارة. وإذا تنوّعت العناوين العامّة للأفلام تلك، المُشاركة كلّها في "مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية" في الدورة الثامنة (7 ـ 14 كانون الأول/ ديسمبر 2011) لـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي"، فإن التنويع واضحٌ في الشقّ التنفيذي أيضاً، أي في آلية الإخراج وأسلوب المعالجة والمدى الثقافي للإبداع البصري الجمالي.

أفلام قليلة للغاية حافظت على النَفَس التجديدي الذي أدركته صناعة الفيلم الوثائقي العربي، في الأعوام القليلة الفائتة. كأن قوة الحدث الآنيّ أو الذاكرة الجماعية طغت على براعة الإبداع في صنع جمالياته الوثائقية. أو كأن انعدام المخيّلة وسط ضجيج الراهن سبّب سقوط أفلام وثائقية عدّة في فخّ الريبورتاج التلفزيوني، أو في مفردات الفيلم التقليدي. لكن، في مقابل هذا كلّه، برزت أفلام مزجت الحدث وأهميته وسطوته على الآنيّ والذاكرة معاً، بلغة سينمائية جمالية، بجعلها الصورة السينمائية أبرز، والإيقاع الدرامي أوضح، والمعاينة المادية للحبكة أجمل. فبدلاً من الإسراف في حوارات مطوّلة مع الشخصية الرئيسية الواحدة، أو مع شخصيات عدّة التزم اهتمامها وتحليلها ورؤيتها الأمور نفسها مناهج وأفكار وحساسيات مختلفة، أقدم مخرجون عديدون على منح الصورة شيئاً من خصوصيتها الإبداعية، متيحين لها فرصة البوح والتعليق أيضاً.

هناك أمر آخر: مواضيع إنسانية مهمّة للغاية، نشأت من اللحظة الراهنة للحدث العربي المتمثّل بالحراك الشعبي العفوي في تونس ومصر، لم تجد صوغاً سينمائياً يوازي أهميتها وامتلاكها كَمّاً هائلاً من المواد القابلة للترجمة السينمائية. لم يستطع مخرجون عديدون (لغاية اليوم على الأقلّ) الاستفادة الفنية من الحدثين التونسي والمصري مثلاً، وتحويل الوقائع والحكايات إلى متتاليات بصرية أعمق وأجمل، لأنهم اكتفوا بنقل اللحظة ومناخها، تاركينها تروي حكاياتها من دون تدخّل بصري جماليّ. وإذا تدخّل أحد المخرجين هؤلاء رغبة منه في تبديد بعض القسوة والعنف المتمثّلين في الواقع والراهن، بهدف منح الفيلم شيئاً من الجمالية السينمائية، أخفقت المحاولة، وظلّ الفيلم أسير البهتان البصريّ في تقديم المادة، وسرد الحكاية. وهذا لا يقف عند الحدثين التونسي والمصري فقط، لأن استعادة فصول من التاريخ القديم، وبعضه مخفيّ بسبب تدخّلات سلطوية، بدت شبيهة بهذا أيضاً: قوّة الحكاية وتفاصيلها الحقيقية تفوّقت على الجماليات السينمائية، أو قهرتها. ولعلّ البعض يرى في ذلك مصدر "قوّة" للفيلم، بإشارته إلى أن البساطة الوثائقية، الأقرب إلى التوثيق والاستعادة العادية، مطلوبة منذ البداية، بهدف إبراز الحكاية وإثارة اهتمام المُشاهد بها، بدلاً من "ضياعه" بين الموضوع والجماليات السينمائية. باختصار، يُمكن الإجابة على هذا بالقول إن أمثلة عدّة مزجت الجماليات السينمائية بالمواضيع المهمّة والمثيرة لنقاشات لا تنتهي، توصّلت إلى جذب الاهتمام الكلّي للمُشاهد، القادر على التوفيق بين متعة المُشاهدة ومتابعة سجالات المادة وعناوينها العامّة. أبرز الأمثلة الحديثة تلك: "القطاع صفر" للّبناني نديم مشلاوي (الجائزة الأولى في المسابقة نفسها). اختيار بقعة جغرافية على المدخل الشمالي لبيروت اختبار سينمائي واضح المعالم منذ البداية للتوغّل في أعماق المجتمع اللبناني، ماضياً وحاضراً، بتفكّكه وخرابه وصداماته وتمزّقاته وتقوقعه. اختيار البقعة هذه، التي أقام فيها لبنانيون وغير لبنانيين فترات طويلة من الزمن في مراحل تاريخية مختلفة، والتي شهدت فصولاً دامية من البداية الأليمة للحرب الأهلية، وعاشت تحوّلاً قاتلاً في بنائه الهندسي والاجتماعي في فترة السلم الأهليّ المنقوص والهشّ، الاختيار هذا، بدلالاته كلّها وامتدادته الإنسانية وأسئلته الأخلاقية أيضاً، بدا مدخلاً لقراءة الواقع اللبناني، من خلال عيون طبيب نفسي (شوقي عازوري) ومحلّل سياسي (حازم صاغية) ومهندس معماري (برنار خوري)، بالإضافة إلى أصوات أناس رووا، من دون ظهور علني لسبب سينمائي بحت، أشياء من الذاكرة القديمة للبقعة الجغرافية هذه. أقول لـ"سبب سينمائي"، وأعني به أن المخرج مشلاوي أخفى ملامح الناس المرتبطين فعلياً بالبقعة الجغرافية، تماماً كما فعلت الحرب الأهلية بهم، عندما أخفتهم أو غيّبتهم عن واقعهم وحكاياتهم. في المقابل، وهذه لعبة سينمائية جميلة وذكية، أظهر الشخصيات العامّة الثلاث أمام الكاميرا، في معاينتها الخارجية/ الداخلية في آن واحد، وقائع الحياة والموت والسلم الهشّ والحرب المنفلشة في الجغرافيا والثقافة والعلاقات الإنسانية أيضاً.

البراعة السينمائية غير منحصرة في "القطاع صفر". أفلام عدّة بدت مرتكزة عليها في اشتغالاتها المختلفة، وإن شَابَها بعض الوهن أو العجز عن تمتين التوازن بين الشكل والمضمون السينمائيين. الذاكرة الجماعية، سواء انبثقت من تجربة الفرد أو من معاناة المجموعة، شكّلت مادة درامية أساسية لخمسة أفلام أخرى: "حلبجة، الأطفال المفقودون" للكردي أكرم حيدو (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة في "مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية")، "هنا نُغرِق الجزائريين، 17 أكتوبر 1961" للجزائرية الفرنسية ياسمينا عدي (الجائزة الثانية في المسابقة نفسها)، "الحوض الخامس" للّبناني سيمون الهبر، "عمّو نشأت" للأردني أصيل منصور و"يامو" للّبناني رامي نيحاوي. كل مخرج من هؤلاء مرتبط بذاكرة ما: سواء تعلّقت بأحد أقاربه، كالأب (الهبر) أو الأم (نيحاوي) أو العمّ (منصور)، أم ارتبطت به شخصياً (حيدو)، أم شكّلت فصلاً من التاريخ الجماعي لشعب (عدي). "العائلة محور الوثائقي" عنوان متداول بشدّة في صناعة الفيلم الوثائقي اللبناني تحديداً، في الأعوام القليلة الفائتة. سيمون الهبر نفسه، في فيلمه الوثائقي السابق "سمعان بالضيعة" (2008)، اختار عمّه سمعان كشخصية رئيسية للبناء الدرامي المفتوح على أسئلة الحرب الأهلية اللبنانية والتهجير والصدامات الطائفية والتحوّلات الاجتماعية، من دون تناسي البُعد الذاتي الخاصّ بالشخصية هذه، التي طرحت بدورها أسئلتها المتعلّقة بالوحدة والعودة إلى قرية مهجورة والعزوبية والذكريات القديمة. في حين أن المخرج الهبر انتقل إلى والده، في "الحوض الخامس"، ليستعيد معه وعبره، وبالتعاون مع شخصيات أخرى مختلفة، مراحل لبنانية وذكريات عتيقة وحكايات لا تنتهي، عن الحرب وما قبلها أولاً، وعن تبدّل أحوال الدنيا بعد الحرب تلك.

أحد أفراد العائلة شخصية رئيسية أيضاً في فيلمي "يامو" و"عمّو نشأت". الأم أولاً، لانتمائها إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ولزواجها هي، ابنة عائلة مسيحية، من سوري مسلم ناضل مع الفلسطينيين طويلاً، اختار نيحاوي الحكاية الفردية المنفتحة على أحوال بلد ومساراته القاتلة، وعلى سيرة عائلة وتمزّقاتها الداخلية. فبين الذاتي والعام، قدّم نيحاوي شهادة إنسانية حيّة عن أسئلة معلّقة وأجوبة ملتبسة جعلته ربما يغرق في جحيم أرضيّ، مستعيناً بالسينما والكاميرا الوثائقية تحديداً لتحرّر منشود. أكاد أقول إن المناخ العام المسيطر على "يامو" وعلى مخرجه رامي نيحاوي، هو نفسه المسيطر على "عمّو نشأت" وعلى أصيل منصور: هناك أسئلة معلّقة وأجوبة ملتبسة (وإن اتّضح بعضها في النهاية) متعلّقة كلّها بسيرة عائلة وعلاقات غير سوية (أقلّه في مراحل سابقة) بين أفرادها، تماماً كتعلّقها بسيرة قضية ونضال وجماعة. أسلوبا العملين متشابهان أيضاً لاستعانتهما معاً بتوليف سلس أدّى إلى إعادة بناء الحبكة الأصلية من خلال مقاطع ومتتاليات ولقطات بدت لوهلة خارجة عن السياق، قبل أن تكشف عن متانتها في تدعيم النصّين وفضاءاتهما وأسئلتهما الأخلاقية. بالإضافة إلى هذا، هناك جانب سياسي. أي أن "يامو" و"عمّو نشأت" لا يستعيدان الإنساني والعائلي والاجتماعي فقط، بل يمخران البحر الهائج للسياسة والنضال العسكري والثقافي أيضاً، من دون التوغّل في أعماقه، ومن دون جعله العنوان الأول. لعلّها صدفة هي تلك التي دفعت المخرجان الشابان نيحاوي ومنصور إلى التماس البُعد السياسي في فيلميهما: صدفة أن تكون الأم في "يامو" والعمّ في "عمّو نشأت" مناضلين سياسيين. لكن الفيلمين ليسا سياسيين، بل إنسانيين: هنا، تبرز المواربة السينمائية الجميلة. أكاد أقول الحيلة الإبداعية المصنوعة بسلاسة وشفافية: إيهام المُشاهد بان للسياسة حضوراً، قبل أن تغيب السياسة لمصلحة الفرد كإنسان يحاول المخرج، معه أو بفضله، إعادة بناء الذاكرة وترميم ثقوبها وفهم أسئلتها. الأم في "يامو" حيّة تُرزق، بينما العمّ في "عمّو نشأت" قُتل ذات يوم من أيام الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، فبات "شهيداً". الأسئلة المتمحورة حول الأم، سياسية وثقافية واجتماعية. أي أنها مفتوحة على معاني الحياة والعلاقات العاطفية والعائلية (الأم وأهلها ومشاكلهم التي لا تنتهي) والاجتماعية (زواج طرفين منتميين إلى طائفتين وبلدين مختلفين عن بعضهما البعض). السؤال الأبرز المتمحور حول العمّ أخلاقي بامتياز: لماذا قُتل؟ وكيف قُتل؟ وأين تحديداً؟. وإذا بمطاردة أشباح الماضي، وضعت المخرج الشاب أمام معضلة العلاقات المتوترة بين أعمامه جميعهم، من فلسطين إلى الأردن. أكاد أقول فضحت التوترات كلها، المقيمة بين أفراد العائلة الواحدة، أو تلك القائمة داخل البلد الممزّق (فلسطين) أو داخل البلد المؤقّت (الأردن).

السياسة أيضاً، لكن بمعناها الأوسع، وبجرائمها المعلّقة في الذاكرة الجماعية. في "حلبجة" و"هنا نُغرق الجزائريين"، شكّلت السياسة ركيزة أساسية، قبل أن تنسحب لمصلحة الجريمة المرتكبة بحقّ أبرياء. في الفيلم الأول، وانطلاقاً من واقع موت الشخصية الرئيسية العائدة إلى بيئتها الجغرافية والإنسانية والبيولوجية فإذا بـ"خطأ" إعلان موته ينكشف، عاد أكرم حيدو إلى إحدى أبشع مجازر صدام حسين بحقّ الأكراد (حلبجة)، من خلال قصّة التشرّد الذي عرفه أطفال ناجون من الجريمة البشعة. في الفيلم الثاني، وانطلاقاً من واقع موت عشرات الجزائريين "المدفونين" في نهر "السين" الباريسي، عادت ياسمينا عدي إلى مطلع الستينيات الفائتة، نابشة في ملف العلاقة الصدامية بين الجزائريين وفرنسا أثناء حرب الاستقلال الجزائري عن واحدة من جرائم النظام البوليسي الفرنسي في باريس: درءاً لمخاطر قد تنشأ من تحرّكات الجزائريين الموالين لـ"جبهة التحرير الوطني"، أصدرت الشرطة الباريسية قراراً بمنع تجوّل الجزائريين ليلاً، فانتفض هؤلاء، وواجهوا القرار والشرطة سلمياً، قبل أن تبدأ المجزرة، ويسقط مئات المواطنين الجزائريين ضحايا القمع الاستعماري والعنصرية الفرنسية. أما الأرشيف فحاضر: في "حلبجة"، صُور فوتوغرافية عدّة حمت الذاكرة من الضياع. في "هنا نُغرق الجزارئيين"، امتدّ الأرشيف على صُور فوتوغرافية وتسجيلات صوتية وأشرطة مُصوّرة، تناولت كلّها الساعات الطويلة والمريرة التي عاشها الجزائريون في باريس، بالإضافة إلى شهادات حيّة لأناس شاهدوا الحدث ولا يزالون أحياء يُرزقون، وهم يروون الآن تفاصيل الليلة تلك.

فيلمان آخران يُمكن إضافتهما هنا: في العلاقة بالأهل أو العائلة، استعادت الشابّة المصرية هبة يُسري تاريخ جدّتها المغنّية المعروفة شهرزاد، التي أثنت أم كلثوم على نقاء صوتها، وأحبّها محمد عبد الوهاب، والتي شكّلت جزءاً من التاريخ غير المكتوب للقاهرة القديمة، ولحراكها الفني الإبداعي. وهذا كلّه في "ستّو زاد... أول عشق". العائلة أيضاً، المتقاطعة مع السياسة والانشقاق في السودان: "سودانّا الحبيب" لتغريد السنهوري مبني على ركيزة إنسانية مؤثّرة، برعت المخرجة في الاشتغال عليها: الشخصية الرئيسية ابنة عائلة واحدة ممزّقة بين جنوب السودان وشمالها، بسبب زواج رجلها من امرأتين منتميتين إلى منطقتين مختلفتين. من هنا، انطلقت السنهوري في إعادة رسم الملامح التاريخية والآنيّة للسودان، الممزّق والمنهار، تماماً كتمزّق الشخصية الرئيسية وانهياراتها المفتوحة على أسئلة البلد أيضاً: الهوية، الانتماء، التواصل، العلاقات، إلخ.

مهرجان أبوظبي السينمائي في

26/12/2011

 

تجليات الآصرة الخلّاقة

ألبوم سينمائي عائلي يضم "أحفاد" كلوني و"مجزرة" بولانسكي

زياد الخزاعي 

أبوة النجم الأميركي جورج كلوني في جديد صاحب "انتخابات"(1999) و"طرق جانبية" (2004) و"عن شميدت" (2002)، المخرج الكسندر باين، "الأحفاد"، تخضع الى امتحان عسير، إذ إنها في وجهتها الدرامية عبارة عن شغف السينما في مقاربة الحنين الى الآصرة الخلاقة: العائلة، اولاً كحكاية وثانياً كهدف استثماري يضع نصب عينيه قطاع شعبي دولي تخطفه حيوات شبيهة اليه، تمده بالأمل من جهة والنصيحة من جهة أخرى. هناك نصوص بالغت في مناكفة حسراتنا عن أفول العاطفة بين أفراد جمعهم الإسم والمحتد، لكن الخيارات تفرقهم وتحولهم الى أغراب عواطف وممحوني أقدار. من هذا المنطق، صور الرائد الالماني الكبير أف. دبليو. مورناو عمله الفذّ "شروق الشمس"(1927) ليحتفي بحكاية زوجين ريفيين شابين تخطف المدينة الكبيرة الرجل، وتبعده عن أمانه العائلي، ويقع ضحية لعنات البارات وطاولات الميسر وبائعات الهوى.

عنون مورناو نصه "اغنية لإنسانين" ليؤكد على البعد الإجتماعي لعمله الخاطف بجماليات مشهدياته، وأيضا على المثل الذاتية التي يسيرها ضمير حيّ، شجاع لا يخشى الإعتراف بالزّلات. فحين تغوي امرأة المدينة اللعوب الزوج الشاب وتدفعه للتخلص من زوجته المصّرة على البقاء وفية الى بيئتها البرّية عن طريق إغراقها، والإلتحاق بها للعيش في الحاضرة المدينية الصاخبة، يصبح خيار البطل قدرياً للوقوع في الإثم الكبير، ليس قتل زوجته وحسب، بل الوليد الذي يدفعه الى صحوة خواطره، والتعويض عن الفكرة الخائنة التي كادت أن تحرق كيانه إلى الإبد.

تنتصر إرادة العائلة في شريط "شروق الشمس" لان الرّب ـ حسب مورناو ـ لن يترك عبده ضعيفاً أمام إغراءات المتع الزائلة، فواجب ذلك الإنسان ان يدافع عن قيمه الشخصية التي توارثها وفي مقدمتها الوفاء.

هذه الاخيرة هي مفتاح عمل المخرج الاميركي باين "الأحفاد" من حيث ان البطل مات كينغ، المحامي ومالك الاراضي الغنية في هونولولو، يؤثر شؤون عمله الخاص على الإلتفات الى عائلته. انه الجزء المقتطع غصباً عن الصورة الجماعية للعائلة الصغيرة. ان غيابه يؤدي إلى تفكك أفرادها وبعثرتهم واختراق أخلاقياتهم. ترى كيف السبيل الى صحوة ضميره الأبوّي؟ الإجابة تكمن في الفاجعة. ولئن يعي بطل مورناو وهو في قمة هلعه ان إغواءه زوجته التي لا يعرف انها تحمل جنينها الى قارب والجدف بهما الى عمق الهور الراكد، ضمن خطة لوثته في تصفيتها هي جِنَايَة فاحِشَة، فإن بصيرة نظيره مات كينغ تتفتح على خراب طال أخلاق ابنتيه الصغيرتين ألكسندرا(17 عاما) وسكوتي (عشر سنوات) وكيانيهما الفتيين. ولولا الحادث الفاجع الذي تتعرض له زوجته وهي في عرض البحر ودخولها في غيبوبة تقتلها في نهاية الشريط، لظل مات غافلاً عن جريمة تحدث من وراء ظهره متمثلة بخيانة تلك الزوجة والأم مع سمسار عقارات يعيش في المدينة ذاتها، وسقوط الإبنتين في براثن فسادهن السهل والوازع الأخلاقي الناقص.

تفشي الابنة الكسندرا السر في وجه والدها كشتيمة وتنديد حارق ينمّ عن أساها الذاتي بإغفال الوالد لهن على نحو أناني لا غفران لخطاياه. يُصدم الأب مات (كلوني) ويسعى الى ردم الهوة قبل فوات الأوان، ويستقوي بفتاتيه من أجل أخذ الثأر! لكن المخرج باين الذي اقتبس عمله عن رواية الكاتبة كاوي هارت هيمينغز لن يتعجل الحساب، وسيعمل على غزل درامي لحكاية إعادة بناء عائلة، بدءاً من تفاهماتها اليومية، وانتهاء بردّ الإعتبار للمرأة النائمة على سرير الموت، مروراً بإمساك مات بقرار العائلة الكبيرة بشأن بيع الأرض التي توارثتها والمهددة باستملاك الآخرين لصكوك ملكيتها التي لن يحوزوا عليها ما لم يوقعها البطل نفسه.

مشكلة بطل باين ان رجولته لا تسمح بالغفران لرجل خطف شرفه، فيذهب الى انتقامه الناقص، اذ يكتشف ان العشيق اب لعائلة تشبه عائلته، وحينما يواجهه ينهار الرجل المخادع رعباً من اختراق تطامنه الأسري الذي لم يفكر به جدياً قبل ارتكابه زلّته. يفشل العشيق في تحقيق وعده بزيارة الزوجة الميتة، ونفاجأ بالزوجة الأخرى وهي تُعزي وتُعلن ان فاجعتها تتمثل بالخيانة التي تمت بين جدران بيتها. هنا يصل مات الى حقيقة مرّة في ان سعيه إلى الإنتقام، إنما عليه ان يخرب كياناً جماعياً آخر، ويعبث بقيمه ومتانته العائلية.

في نهاية فيلم مورناو، نرى الشمس وهي تبزغ على الزوجين الحبيبين إيذاناً بأن الحياة قادرة على محق شياطينها ووحوشها، وأن الحصانة المثلى متوافرة بين جدران البيت الآمن، وهو بالذات ما يختم به المخرج باين عمله الميلودرامي محكم البناء، حيث نرى الأب مات يتوسط ابنتيه على كنبة الدار ويجمع الدثار (اي الدفء) عليهما الثلاثة، وهم يتفرجون على تمثيلية تلفزيونية ساخرة. إن الآصرة الخلاقة لن يُعبث بها إلى الأبد. وكما يرفض بطل مورناو الخنوع للإغراء، يستبعد مات بدوره الإنصياع إلى رغبات أقربائه ببيع الأرض الغنية، بما هي آخر "كيان جغرافي" يجمع الأحفاد الذين وُلدوا من زيجات قديمة بين البيض الوافدين والسكان الأصليين لتاهيتي الإستوائية. إن الترهيب الذي يطلقه أحد الأقرباء النافذين في وجه مات لن يهزّ قناعاته بأن الحفيدتين أحق بوراثة تاريخ العائلة، في انتظار دورة أجيال مقبلة لا محالة.

شخصية كلوني الأبوية، تتعرض في العمل الفذّ لصاحب "النفّور"(1956) و"الحيّ الصيني"(1974)، المخرج البولندي الأصل الفرنسي الجنسية والاقامة رومان بولانسكي، "مجزرة"(2011) إلى استنساخ رباعي عبر عائلتي لونغستريت وكوان اللتين تتقابلان لحل مأزق أبناء تخاصموا في حديقة خلفية، فيما نرى في الواجهة لاحقاً انقلاباً أخلاقياً يطال الجميع ويكشف عن هشاشة النفوس ووضاعتها وخراب ضمائرها. تأتي الفاجعة لبطل "الأحفاد" من الخارج العائلي عبر متطفل وجد اختراقه الجنسي لزوجة مات سهلاً بسبب المغامرة قبل كل شيء، فيؤدي من جهة "غرض" اللقاء العابر، ويقلّب من جهة اخرى حيوات "الرباعي المقابل" لآل كينغ ويكشف عوراتهم الشخصية. هذه الثورة هي ما يحدث لأبطال النص المسرحي المفعم بقوة حواراته الذي أبدعته الكاتبة الإيرانية الأصل ياسمين رضا. إن الحدث الخارجي يفد إلى غرفة معيشة الزوجين لونغستريت، ويفرض ثقله على علاقتهما ويقوّيها. إنهما مهددان بتآصرهما بعد أن تعرّض الإبن إلى الضرب والمهانة. تتحول القيمة الأخلاقية إلى صراع حاد يدور حول مفاهيم الإعتذار وأسلوبه وكلماته، الجيرة واشتراطات مودتها أو استلابها الإجتماعي في وجهها الآخر، وأخيراً الدافع الطبقي الذي يحدد علاقات أفراد ويرسم أسلوب تعاطيهم مع مشاكلاتهم أو مقدار تحضّرهم وعلوّ تأدبهم الإنساني.

نقابل في المعركة العائلية، التي تبدأ بأكبر قدر من آداب الضيافة لفضّ مشكلة قبل أن تتحول إلى "مجزرة أعراف"، كل من آل كوان نانسي (كيت وينسلت) وألن (النمسوي كريستوف فالتس الذي اشتهر عبر نص الاميركي كوينتن تارانتينو "أوغاد شائنون"2009) اللذين هم أرفع مقاماً، من حيث ان الأخير قانوني نافذ، تنعكس أنفته المبالغ فيها على الوالدين الآخرين بينلوبي (جودي فوستر) ومايكل (جون سي. ريللي) العصامي الذي بنى مؤسسة تجارية صغيرة نقلته وزوجته الى مراتب الطبقة المتوسطة الاميركية التي تتحصن في منطقة بروكلين. ما كان يحسبه الرباعي النيويوركي في حسم اعتداء ابن آل كوان وتحطيمه لاثنين من أسنان نجل آل لونغستريت، انها ليست أكثر من قضية جنائية يجب الإحتكام بها إلى القانون وتعويضاته، إضافة الى ضمان عزّة نفس الطرفين ومكابرتهم بين جيران الحيّ على أساس ان الأبناء يرتكبون الحماقات دائماً. بيد ان ذلك الحسبان يأخذ مساراً آخر لعنف بالغين لن يخلف دماء وأضراراً فزيولوجية بل يعرّي إراداتهم التي تفشل في التحكم بأفعال همجية، فظّة، ولا تتورّع عن شتم بعضها والسخرية من أصولها والطرق التي استمالتها للوصول إلى ما هي عليه الآن.

يسعى آل كوان إلى ورقة تُحصّن الإبن العنيف من فقدان دراسته، بينما تريد الزوجة الأخرى بينلوبي تحقيق مبدأ "العين بالعين"، أي أن يرّد ابنها الصاعيّن. وكلما أوغل الثنائي بولانسكي ـ رضا في السجال الذي يأخذ منحىً عدائياً صرفاً بسبب إسراف الجميع بشرب الكحول واكل فطائر الفاكهة الشهيرة، يرتفع معدل المناكفة بين نانسي وألن لتتضح صورة زواج فاشل وعائلة أنانية، متشوفّة، ومخادعة. تتقيأ الأولى بعد عدد من الكؤوس، لتتشكل كوحدة درامية ناقصة الكيان. انها الزوجة الخنوعة التي تكتشف ان زمناً طويلاً من القهر الزوجي كان منصبّاً على كتفيها من دون أن تعي حجم عبوديتها، وان اصرارها على ارتداء الفاخر من الملابس والاكسسوارات (التي تنتهي في النهاية على ارض الغرفة) ما هي سوى حيلة تافهة لإضفاء لمسات طبقية فارغة. بالمقابل، يكتشف مُشاهد "مجزرة" ان السيدة بينلوبي واختيارها لكلماتها وردود افعالها، تخفي، تحت مسوح كاتبة الرحلات وشرح البلدان، كائناً عصيّاً على المراوغة او التراجع. تفرض إرادتها بعنف كلامي يبين حجم شكوكها بالآخرين. انها السيدة التي ترى ان خط العائلة منزّه عن الخطأ وريبة الجار، وما كرمها في مبتدأ الشريط سوى جلد المجاملة الذي يغطي عضلات مفتولة من البأس الشخصي في ردّ الكيد مرات ومن دون تردد. وحده، مايكل سيكون مهرج الجلسة، يبدو وكأنه يسعى الى فك أوار الحرب الكلامية تارة بالنكتة واخرى بكؤوس الويسكي، فلا بَد من التوصل الى حل وان كان طريق الإهانة طويل على قدر تلك الامسية التعسة الحظ.

ينهي بولانسكي عمله "البيتي" ان جاز التعبير والذي يعّد واحداً من أفضل أفلام 2011 كشتيمة سينمائية لقطاع اجتماعي يسعى بأي شكل إلى إعلان انتمائه البرجوازي من دون أن يلتفت إلى دوافعه ومُثُله وفضائله. تنفضّ المعركة بعد أن تعرّى الرباعي تماماً، لكننا نرى أهل المشكلة (الاولاد) وقد عادوا الى ألفتهم في الحديقة الخلفية ضاحكين ومنهمكين بحيوياتهم التي ستصبح ذات يوم ذكريات تدعو الى الشفقة. فآصرتهم أكثر شفافية، ذلك ان دواخلهم لم تلوّث بعد.

مهرجان أبوظبي السينمائي في

12/12/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)