حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

بين سندانس ودبي: السينما الجديدة تسود

محمد رُضا

ما بين مهرجاني دبي وسندانس شهر وأسبوع فصلهما. مهرجان دبي انطلق من السابع إلى الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر، ومهرجان سندانس من التاسع وحتى التاسع والعشرين من كانون الثاني/ يناير. واحد في نهاية المطاف للعام بأسره والثاني في مطلعه. سندانس يبدأ مهرجانات السنة الكبرى، ودبي ينهيها. لكن لكل مرتعه واهتماماته التي في نهاية الأمر تلتقي في واحد من جوانبها.

فبينما يشجّع مهرجان دبي السينما العربية الجديدة ويعمل على درايتها يشجع مهرجان سندانس السينما الأميركية والعالمية المستقلة ويعمد على تشجيعها. الفارق المهم هو وضع السينما في كل من المنطقتين العربية والعالمية. نحن هنا، ودبي ليس المهرجان الوحيد الذي يهتم بالسينما العربية الجديدة، نتابع جديد هذه السينما وما تنبئ به من تحوّلات وتبثّه من مضامين وتطرحه من مشاكل وهناك يفعلون الشيء ذاته. وفي كل الحالات هناك همّ التأكد من أن الصياغة الإجمالية لمثل هذه الطروحات هي فنية.

لكن هل قلت "السينما العربية الجديدة"؟

أعتقد أني فعلت لأنتبه إلى حقيقة أنه ليست هناك من سينما عربية غير جديدة. معظم ما هو مُنتج عربياً الآن ينتمي لجهود سينمائيين جدد في الساحة السينمائية. لجهود جيلين على الأكثر واحد انطلق مع مطلع التسعينات من القرن الماضي والآخر انطلق خلال السنوات العشر الأخيرة، وكلاهما ضمن الفترة الزمنية الشاملة واحد.

هناك "فلول" لسينما عربية "غير جديدة" ينفّذها أعضاء نادي السينما التقليدية ضمن الصناعة المصرية غالباً،  لكن حتى هؤلاء الأعضاء جدد في الغالب. التغيير الذي قام به المنتجون والموزّعون ومحطّات التلفزيون العربية المشترية على خارطة الفيلم الجماهيري، انضوى على استبعاد المخرجين الجيّدين الذين لهم رأي ثابت في الكيفية والنوعية واستبدالهم بعناصر شابّة أكثر قبولاً ورغبة في تنفيذ ما يرتئيه المنتج الذي يعتقد أنه يعمل بما ترتئيه السوق.

لكن هذا موضوع له شأن آخر عويص ربما عدنا إليه. ما هو مؤكد الآن هو أن مراجعة الأفلام العربية في مهرجان دبي وتلك الأجنبية في مهرجان سندانس سيكشف عن الكم الكبير من السينمائيين الجدد العاملين في الحقل التعبيري المصوّر والمتحرّك الذي نسمّيه سينما.

هادي الباجوري «واحد صحيح»، نجوم الغانم «أمل»، طلال محمود «عبير»، حمد الحمادي «آخر ديسمبر»، مريم السنكال «لندن بعيون محجّبة، دانيال جوزف «تاكسي البلد»، عبد الحي العراقي «جناح الهوى» عمّار البيك «إسبرين ورصاصة» وهذا نذر يسير من مخرجين إما بدؤوا في العشر الأولى من هذا القرن، كنجوم الغانم وعمّار البيك وإما ينطلقون هنا للمرّة الأولى.

في سندانس الصورة مختلفة من حيث أن المهرجان أقيم فعلاً للاحتفاء بالسينمائيين الجدد في أول أو ثاني أعمالهم، لكن المهرجان منذ سنوات وسّع من دائرة استقباله ليحتوي، في عروض موازية للمسابقات الرئيسية في الروائي والتسجيلي، لهذا، هناك ثلاثة عشر فيلماً روائياً وثماني أفلام تسجيلية من تحقيق مخرجين سبق لهم وأن أمّوا هذين المجالين من قبل. من أبرزهم سبايك لي، المخرج الأفرو-أميركي الذي أنجز لنفسه مكانة مشهودة في مطلع التسعينات حين حقق «أفعل الشيء الصحيح» Do The Right Thing والذي يعود الآن بفيلم جديد عنوانه Red Hook Summer صيف الخطّاف الأحمر.

البريطاني ستيفن فريرز يعرض جديده تحت عنوان «أعرض المفضّل» او Lay The Favorite والمخرج التسجيلي جو برلينجر ينجز فيلماً عن المغني بول سايمون بعنوان Graceland طبعاً، المسابقتان الروائية والتسجيلية هما بيتا القصد في مهرجان سندانس وما توفّره هاتان السينمائيتان متعدد بطبيعة الحال، لكن ما يزيده ثراء الاتجاهات المتعددة لطرح جديد لما تعايشه الشخصيات وتمارسه في ظل بيئة زمنية تبدو بالغة الغموض في الوقت الراهن، كما الحال في «نهاية الحب» للمخرج مارك وَبر الذي يلعب أيضاً دور أب شاب تتهاوى حياته أمام عينيه بعدما خسر زوجته. وإذا كانت الغاية هنا هي مزج الخاص كون المخرج عايش هذا الوضع بنفسه بالعام، فإن »الكوميديا» الذي يؤكد مخرجه ريك ألفرسون أنه ليس فيلماً كوميدياً. في واقعه، وقد شاهد هذا الناقد نسخة مبكرة في عرض خاص، هو فيلم ساخر وأحياناً مؤلم حول رجل يرث قطعة عقار كبيرة لكن هذا لا يسعده أو يحل أزمته الفردية مع المجتمع والحياة حولها.

وهناك حيرة حيال المستقبل العائلي القريب في «اتصل إذا أردت وقتاً ممتعاً» For A Good Time?,? Call الذي يدور حول زوجين شابّين يتعرّضان لأزمة مهمّة حين تكتشف الزوجة حقيقة عمل زوجها، هذا قبل أن تقرر ردم آثار المفاجأة بالانضمام إليه في عمله.

وهناك كلام مكثـّف عن فيلم لمخرج مكسيكي اسمه يوسف داليرا وأميركي اسمه مايكل أولموس ابن الممثل إدوارد جيمس أولموس بعنوان «فيلي براون» يتحدّث عن فتاة مكسيكية فقيرة تعاني من كل ما يعنيه الفقر في مجتمعها وبيئتها لكن ظروفها الخاصّة لا تمنعها من السعي لتحقيق طموحاتها الموسيقية.

أما في مسابقة الفيلم التسجيلي فنجد تسعة أفلام متسابقة وما يبدو بالغ الأهمية من بينها »غرب المسيسيبي» حول جريمة حقيقية ارتكبها ثلاثة مراهقين قتلوا ثلاثة أولاد صغار في الثامنة من العمر وذلك قبل تسعة عشر سنة. الآن، يقترح الفيلم الذي أخرجته آمي بيرغ، بشدّة أن المحكمة لم تنظر في كافّة الأدلّة ولا القضاء كان نزيهاً عن الفساد.

وثمن الشهرة والنجاح قاس ومكلف في فيلم تيموثي ساندرز «حول الوجه» الذي يتناول سوق التجميل وكيف يعرّف المجتمع الجمال ويبث أفكاراً قائمة على ضرورة تفضيل المظهر على المحتوى كشرط للقبول. لكن في مجال أكثر خصوصية هناك «إيثل» الذي يدور حول سيرة حياة إيثل كندي حيث يدلف المخرج روري كندي من الخاص إلى العام ليتحدّث عن اشتغال عائلة كندي في السياسة جيلاً بعد جيل.

وفي حين أن هذا ليس كل ما سيختاره المهرجان الأميركي الكامن في أعالي ولاية يوتا من أفلام، بل لا يزال هناك وقت لإضافة أفلام أخرى خارج المسابقة على الأقل، فإن الواضح أن مهرجان سندانس بات أساساً للعديد من حياة الفيلم على شاشات السينما وفي أكثر من مجال. فرئيسه روبرت ردفورد نجح في تحويله من مجرد تجمّع لأفلام شبابية إلى مهرجان حقيقي يجذب إليه المنتجون والموزّعون ما يعني أنها فرص عمل وإشهار لكل هذه الأفلام التي تتسابق في الوصول إلى شاشات المهرجان. وكدليل على أهميّته، فإن هوليوود، بكل آلاتها التوزيعية وستديوهاتها تنتقل إلى ذلك العرين البارد في مثل هذا الوقت لكي تشاهد وتشتري ما تراه قابلاً للرواج.

ربما نحن، في هذه البلاد العربية، لا زلنا بحاجة إلى مهرجان يشبه سندانس وذلك رغم تعدد المهرجانات. لكن نجاح سندانس لا يمكن أن يتكرر بسهولة، فليس من عادات منتجينا وموزّعينا تشجيع السينما الشابة أو الجديدة أو حتى المخضرمة إذا ما خرجت عن التقليد. كل ما يقوم هؤلاء عليه هو ذبح السينما بأعمالهم واهتماماتهم السقيمة.

الجزيرة الوثائقية في

21/12/2011

 

أفلام قصيرة من الجهة المقابلة

«وهران السينمائي».. تجارب شبابية ترسم مستقبل السينما العربية

زياد عبدالله - وهران 

يأتي ذلك من الجهة المقابلة! عبارة قد تدفع إلى السؤال عن الجهة التي نتكلم منها، وتحديد المكان الجغرافي وما إلى هنالك من دواعي تبديد مظاهر الغموض التي تعتري من يقرأ عبارة كهذه. التوضيح بداية سيكون كالتالي: أنا أتكلم هنا عن الدورة الخامسة من مهرجان وهران للفيلم العربي، وبالتالي تم تحديد المكان جغرافياً بوهران الباهية التوصيف الجزائري المرتبط بهذه المدينة الساحلية، ويقصد بالجهة المقابلة «مسابقة الفيلم القصير» في هذه الدورة، فعادة ما نتكلم من جهة واحدة هي الأفلام الطويلة، التي تشكل في دورة هذا العام كما في أعوام سابقة مختارات من أهم الانتاجات العربية لهذا العام أو العام السابق، والتي أدعي أنني مررت عليها نقدياً، ولأقدم هنا للأفلام القصيرة التي حملها هذا العام الوهراني بحيث تمنح مسابقة القصيرة فرصة للتعرف إلى تجارب شبابية لها أن ترسم لنا خطوطاً لما ينتظر مستقبل السينما العربية إن صح الوصف، ولها أن تكون ايضاً مجرد مشروعات تخرج لكنها تعد بالكثير.

استوقفني كثيراً فيلم للمخرج الجزائري أمين سيدي بومدين «غداً الجزائر»، وله أن يقدم لنا ما يود قوله في سياق وفي تماماً لبينة الفيلم القصير، قبل وصف مدى أهمية ما يقوله، إذ إن السؤال الذي يفرض نفسه على الدوام يرتبط بالكيفية التي يقول بها الفيلم ما يود قوله.

«غداً الجزائر»

فيلم بومدين يضعنا مباشرة أمام شاب مستغرق في التدخين، وهو على موعد مع شيء مصيري، كل ما يطالعنا في الكوادر يقول لنا ذلك،ثم سينضم إلى صديقين، يسعى إلى إقناعهما بالمضي معه. طبعاً نحن لا نعرف إلى اين سيمضون، واول ما يتبادر إلى الذهن مثلاً أنه يريد أن يسافر وهو يقنع صديقيه بأن يرافقاه، لكن وفي مسار مواز ستدخل شخصية على مسار الأحداث، نقع عليها جالسة إلى طاولة المطبخ، بينما أمه تمضي في نصحه وما إلى هنالك من دواعي السفر، ثم سيخرج من البيت ويمضي في سيارة تاكسي، ولنعرف أنه مسافر.

سيكون الأصدقاء الثلاثة شهوداً على رحيل ذلك الشاب، كما أن هذا الأخير لن يذهب لتوديعهم كما يقول له سائق التاكسي، وحينها فقط سيوافقا على الانضمام إلى صديقهما، ولنكتشف أنه كان يدعوهم إلى المشاركة في التظاهرات التي عمت أرجاء الجزائر عام 1988 للمطالبة بالحرية والديمقراطية التي أدت إلى تشكيل الأحزاب وإجراء انتخابات حرة، أفضت في ما بعد إلى الأحداث الدامية التي تفجرت في تسعينات القرن الماضي، بعد إلغاء نتائج الانتخابات.

هذه النهاية ستفسر كل ما شاهدناه طوال الفيلم، يكفي أن يورد الفيلم تاريخ 1988 ليقول لنا الكثير ويعيد كل ما شاهدناه في سياق هذه الخاتمة.

في سياق متصل مع الفيلم القصير أمضي إلى فيلم المخرج المصري محمد رمضان «حواس»، الذي ليس إلا مشروع تخرج هذا المخرج الشاب، الذي يهديه في النهاية إلى جميع المرحومين والمحرومين، ولعل استخدام كلمة «المحرومين» جعل الفيلم يمضي في سياق لن يكون على اتصال بفيلم «كلّمها» لألمو دوفار، فنحن حيال امرأة أو ممرضة تكرس حياتها لرجل يعيش غيبوبة، فهي تعمل على تنظيفه والعناية به، لكن وسط ذلك فهي أيضاً واقعة في غرام ذلك الرجل الاشبه بالجثة، الذي لن يكون إلا مساحة لتفريغ شهواتها في جانب من جوانب تلك العلاقة، كونها تنتمي إلى «المحرومين».

«ألفيس من الناصرة»

فيلم الفلسطيني راني مصالحة «ألفيس من الناصرة» يضعنا حيال التقاط جميل لشخصيات جميلة، وذلك بتعرفنا إلى ألفيس برسلي من جديد، حيث يتمركز الفيلم حول أطفال شوارع الناصرة الذين يعيشون على التسول، ولتنشأ علاقة بين أحد أولئك الأطفال ورجل مهوس بألفيس برسلي بدءا من الشكل ونمط الملابس وصولاً إلى غنائه أغانيه، ونحن نتجول في بيته حيث تهيمن على الجدران صور «ألفيس برسلي» مع العديد من الأزياء التي تنتمي إلى الستينات والتي تتمحور حول ما كان يلبسه برسلي، ولينسج ألفيس الناصرة الذي نقع عليه يمضي من مكان إلى آخر في ليل الناصرة ليغني هنا وهناك، لينسج قصة ملفقة يرويها على ذلك الطفل، مفادها أنه التقى ألفيس حين جاء الناصرة وغنى فيها، والعود الذي بحوزته ليس إلا هدية من ألفيس برسلي، وليقوم الطفل بسرقة العود والسعي إلى بيعه، وليكتشف بعد ذلك أن ما قاله له ألفيس الناصرة ليس إلا من نسج الخيال.

«حنين»

في تعقب الأفلام القصيرة التي شاهدتها في «وهران الفيلم العربي» أمضي خلف فيلم فلسطيني آخر لأسامة بواردي بعنوان «حنين» له أن يكون مبنيا وفق كل ما يشير إليه عنوانه، ونحن حيال امرأة خمسينية تمضي أيامها في مزاولة الحنين، ولا شيء إلاه، فهي تستيقظ على صوت مثقب، وليكون ذلك بسبب وضع رقم على بيتها، الأمر الذي تسارع إلى إزالته، كما لو أنها لا تقبل بأية اضافة على ما هي عليه، أو اي تغيير بسيط قد يطرأ على بيتها الجميل ولو كان ذلك رقماً، وبين صندوق البريد واعداد القهوة تمضي يومها، وصولاً إلى شربها كأساً في الليل وواضعة كأساً أخرى لرجل غائب كما علينا أن نستنتج، لكن قبل كل ذلك هنا فتى صغير يأتي ليقطف البرتقال من أشجار بيتها، ولتقول له تلك السيدة «خذ ما تشاء من البرتقال وتعال كل يوم»، هذا هو الاتصال الخارجي الوحيد الذي تجريه السيدة في الفيلم، والذي سرعان ما يجري استثماره في الفيلم، ففي الليل سنقع على ضجة وصخب ومجيء سيارات الشرطة التي لن تكون إلا سيارات اسرائيلية ولنعرف أنهم أخذوا والد ذاك الصبي الذي يقطف البرتقال، ولتخرج السيدة من بيتها وتضم ذلك الصبي.

«صباح، ظهر»

ختاماً أمضي مع فيلم المخرجة السورية غايا جيجي «صباح، ظهر، مساء،..صباح» الذي له أن يكون تنويعاً سردياً يمضي في تعقب أربعة أزمنة متجاورة ومتشابكة، ولها أن تكون في النهاية تمركزاً حول حدث بعينه، متعلق بهجران أم لابنها وزوجها، فنحن سنكون أثناء حدوث ذلك وملابساته، وقبل ذلك أيضاً وبعده، وصولاً إلى ذلك الابن الذي نشاهده كبيراً وهو يسعى لأن يعقد لقاء بين امه وأبيه المطلقين.

فيلم غايا جيجي مدعاة لتتبع الكيفية التي تسرد بها فيلمها، ولعل الرهان سيكون على «كيف» أكثر من ما يسرده الفيلم من دون أن يكون من الوارد الفصل بينهما، خصوصاً مع حرص المخرجة على احكام قبضتها على خيوطها بالاستعانة بالإضاءة وتنويعاتها، أو الأخبار المتلفزة للإشارة إلى الفترة الزمنية التي نشاهدها، وهكذا فإن الفيلم سيجعل في النهاية من هذه القصة، أي قصة هجران الزوجة لزوجه، سرداً مكثفاً يحيط بجميع ما يفضي إليه فعل كهذا، وتحديدا لدى الابن، إذ ينتهي الفيلم وهذا الابن صغير برفقة والده ووالدته، الاب يقول له سأذهب لاشتري سجائر، بينما تقول الأم لدي ما أفعله وأعود إليك، وليبقى وحيداً يجلس إلى جانب الطريق بانتظار من لن يعودوا.

الإمارات اليوم في

22/12/2011

 

'البرئ' .. معالجة قضايا مصيرية في زمن الثورات العربية

بقلم: رضاب فيصل  

الفيلم المصري يتناول قصة حقيقية حدثت مع مؤلفه وحيد حامد شخصياً خلال انتفاضة 17 و18 يناير 1977 التي قامت لرفض الفساد السلطوي آنذاك.

عبّرت السينما منذ وجودها وإلى اليوم عن التفاصيل والأحلام الإنسانية، فعالجت قضايا وطرحت أخرى ضمن قوالبها الدرامية. وكم في السينما من أفلامٍ لامست الجراح لدرجة أنها أبكت مشاهديها.

وكم من أفلامٍ خالدة لا تموت، بمعنى أنها صالحة لأكثر من زمان وأكثر من مكان. وها هو فيلم "البريء" لمؤلفه وحيد حامد ومخرجه عاطف الطيب ينهض أمامنا وكأن أحداثه تجري اليوم في زمن الثورات العربية، في زمن تكسير المفاهيم الجامدة التي حفظناها عن الوطن وأعدائه، لنكتشف وطناً جديداً بأعداءٍ جدد يتطلبون منا وسائل دفاع مختلفة تماماً عن تلك التي عرفناها في السنين الماضية.

فالفيلم "البريء" يتناول قصة حقيقية حدثت مع مؤلفه وحيد حامد شخصياً خلال انتفاضة 17 و18 يناير عام 1977 التي قامت لرفض الفساد السلطوي آنذاك. وتحكي عن إنسان بسيط اسمه أحمد سبع الليل قام بدوره الفنان أحمد زكي، وهو يعيش في الريف المصري الفقير مع أمه وأخيه المختل عقلياً. وكل ما لديه عن مفهوم الوطن والمواطنة هو قطعة الأرض التي يزرعها ويرويها كل يوم. والناس في تحليلاته الساذجة ينقسمون إلى أشرار أو أخيار ولا مجال لأي لون وسطي بينهما. وأما أعداء الوطن فهم أولئك المدججين بالسلاح مطلقين النار باتجاه أرض الوطن وأبنائه. وغير هذه المفاهيم البسيطة جداً جداً لا يمكن أن يستوعب شيئاً.

فهو بسيط لدرجة أنه ذهب إلى صديقه الشاب الطيب "حسين وهدان" عند استدعائه إلى الخدمة الإجبارية، ليشرح له مفهوم التجنيد والجندية كونه المثقف الوحيد في القرية. ولما شرح له حسين بأن التجنيد هو وسيلة للدفاع عن أرض الوطن، ردّ ببراءة مستفزة للمشاعر "بس بلدنا ما لهاش أعداء" وعلى هذه الجملة بالتحديد يقوم الفيلم درامياً وفكرياً.. فهل فكرة العدو موجودة حقاً، أم أنهم اخترعوها لإبقائنا تحت السيطرة؟ وإن وجدت فمن هو العدو الحقيقي؟

ولا نعرف هل نقول من سوء الحظ أم من حسن الحظ، انتهاء المطاف بأحمد للخدمة كحارس في أحد المعتقلات. وهذا طبعاً بعد خضوعه للفحص الطبي والثقافي وبعد اتضاح أنه أمّي وجاهل حيث هو المطلوب. وهناك في المعتقل يتعلم أسلوب "نفّذ ثم اعترض" وحتى هذه الثانية لا مجال لوجودها، فالاعتراض في المعتقل مساو للانتحار، مما يكرس أفكاره البسيطة والجامدة أكثر. ويظل على هذه الحال إلى أن تأتي إحدى سيارات المعتقل القميئة بعدد جديد من المعتقلين، المتعود على ضربهم وإهانتهم هو وبقية رفاقه كوسيلة ترحيب أولية بهم. ليتفاجأ بأن حسين وهدان الصديق الطيب والوفي من بينهم. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من الصراع العاطفي والعقلي عند بطل الفيلم أحمد سبع الليل. فكيف يمكن لحسين وهدان أن يكون من أعداء الوطن؟ وهل خدمة الوطن أو "الجندية" تعني أن نقتل أبناءه؟

نفس السؤال تقريباً واجهه أشخاصٌ كثيرون هذا العام، وهو المأزق نفسه الذي وضِع فيه الكثير من حراس المعتقلات أو "العناصر الأمنية" ضمن موجة الاعتقالات التعسفية التي واجهت بلدانا عربية كثيرة ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.

عدا عن ذلك فإن الفيلم بشخصياته المطروحة اقترب من الحقيقة الخطيرة المحصورة بين جدران أو أسوار كل معتقل. فالضابط توفيق شركس الذي أدى دوره الفنان محمود عبدالعزيز هو نمط متكرر موجود خلف معظم المكاتب الأمنية العربية، فهو إنسان يعاني من انفصام بالشخصية، لأنه يجمع شخصيتين متناقضتين تماماً. ففي بيته ومع عائلته نراه الأب الرحيم والزوج الجيد، وأما في المعتقل فهو المريض السادي الذي يلقي على مسجونيه أبشع أنواع التعذيب وأكثرها شناعةً. وإلى جانب نموذج السلطة طرح الفيلم نماذج للمعتقلين الموجودين في السجون. فنرى الكاتب المثقف وأستاذ الجيولوجيا وغيرهم من العقول المتفتحة في بلداننا العربية، والتي كل ذنبها أنها حاولت رفض الفساد والتطلع إلى حرية أكثر بريقاً.

وعبر الشخصيات والأحداث المتتالية في الفيلم، عولجت أكثر من قضية كان أهمها فكرة الحرية بكل معانيها. ففكرة معتقَل ومعتقِل إلى جانب بعضهما البعض مع إظهار الفرق بينهما هي مقاربة كافية للحرية المنشودة والمسلوبة في الوقت ذاته. هذه الحرية التي تدعمها فكرة حقوق الإنسان من خلال رصد المعاملة السيئة للمعتقلين في الفيلم، وكأن الأرواح البشرية هي ملك لزعماء النظام يحيوها متى يشاؤون ويقتلوها متى يشاؤون. وما يعزز تناول الفيلم لفكرة حقوق الإنسان، هو الإجراءات التي قامت بها إدارة السجن من إنشاء مكتبة وملعب كرة قدم فور انتشار خبر قدوم لجنة تفتيش إلى السجن.

كذلك تطرق كل من المؤلف والمخرج إلى فكرة الجهل الخادم للسلطة، فما من شيء ينفع الديكتاتوريات أكثر من المواطن الجاهل الذي لا يفقه شيئا عن تاريخه وحاضره وعن حقوقه وواجباته. فالمواطن من هذا النوع شبيه بالآلة بيد النظام يتحكم به كيفما يشاء. فلما حاول أحمد زكي في الفيلم أن يحكّم عقله، انتهى به الأمر في زنزانة واحدة مع صديقه حسين وهدان الذي مات في المعتقل.

وأما نهاية الفيلم فصوّرت الحالة التكرارية الطبيعية للمعتقلات، فالسيارة المخصصة لجلب المعتقلين تمارس عملها دورياً دون كلل أو ملل. لكن المختلف هنا الصرخة الرائعة لأحمد سبع الليل من موقعه في برج الحراسة، حاملاً الناي بيده. فالإنسانية في النهاية ستنتصر على الجلاد وستقضي عليه. وهذا بالذات ما يحدث اليوم، فالجهل انكسر وانقلب السحر على الساحر، ولا من سبيل أمام الأنظمة العربية إلا أن تخضع لمطالب الشعب بالحرية والكرامة.

ميدل إيست أنلاين في

22/12/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)