حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"أياد خشنة":

بساطة آسرة وبلاغة تمس القلوب

أمير العمري

لعل الرد البليغ على أفلام "القضايا الكبرى" التي يغرم بها الكثير من المخرجين السينمائيين في العالم العربي، أي تلك الافلام التي يعتقدون انها تتناول قضايا الواقع التي تمس الجماهير العريضة مسا مباشرا، أو التي توجه نقدا سياسيا أو هجاءا عنيفا للطبقات الحاكمة، جاء ممثلا في الفيلم المغربي البديع "أياد خشنة" للمخرج محمد العسلي.

من بين الأفلام المغربية الخمسة التي شاهدتها أخيرا، يبرز هذا الفيلم بوجه خاص، لأنه يبتعد ابتعادا كليا عن استعراض العضلات، في الأسلوب والحكي ومنهج المونتاج، وهو ما يقع فيه فوزي بن سعيدي في "موت للبيع" مثلا مما يفقده هويته ولا يشبع المتفرج اكتفاء بالتوقف فقط امام مشاهد منفصلة مقصودة في تصميمها وبناء الحركة والصورة فيها في حد ذاتها.

يبتعد فيلم العسلي ايضا عن تلك "الواقعية الجافة" شبه التسجيلية التي اعتدنا عليها وشاهدناها كثيرا والتي عادت إلينا في فيلم المخرجة ليلى كيلاني "على الحافة"، والتي أصبحت سمة مميزة لـ"السينما الفقيرة"، بحيث أصبحت تقصد أيضا في حد ذاتها، للتأكيد على الانتماء لـ"العالم الثالث" كما لو كان الشكل الروائي الاحترافي المتماسك الأكثر طموحا والمتشبع بالخيال الخاص للمخرج، يجب أن يكون قاصرا على سينما البلدان الغنية، تلك النظرية أصبحت في حاجة كبيرة إلى المراجعة اليوم، وهي من المخلفات الفكرية القديمة، من الستينيات، للناقد الفرنسي جي انيبيل الذي ترك تأثيرا لاشك فيه على سينمائيي المغرب العربي ربما لايزال قائما حتى اليوم.

ولا صلة بالطبع لفيلم "أياد خشنة" بالفيلم المغربي "النهاية" لهشام لعسري، في طابعه التجريدي الذي يرضي النزعة التجريبية لدى مخرجه الشاب، لكنه يطرح أيضا سؤالا يتعلق بهوية اللغة السينمائية المستخدمة فيه، وبالتأثرات الشكلانية الكثيرة التي يمكن أن نلمحها بين ثناياه.

البساطة الظاهرية

إن فيلم "أياد خشنة" يبدو من الناحية الظاهرية أو على المستوى الأولي، فيلما بسيطا، يصف أكثر مما يحلل، ويتأمل بدلا من أن ينتقد بشدة، لكنه على المستوى الأكثر عمقا في الرؤية، نكتشف أنه عمل شديد التعقيد، سواء من ناحية دراسته الممتعة للشخصيات التي يقدمها والتي تنبض بالحياة ولا تٌختصر في مجموعة من الرموز الساذجة مثلا (لا توجد هنا إشارات إلى صراع أجيال، أو السلطة والناس، والعسكر والحرامية، تلك الثنائيات المبسطة التي كانت  ولاتزال تغوي الكثير من السينمائيين).

إنه فيلم متميز في تصويره الموحي الجميل، ونسيجه الفني الذي يستخدم تقنيات المونتاج التي يطوعها المخرج لكي يعبر من خلالها عن رؤيته الساخرة، وعن موقف من الواقع نفسه، مع وجود الكثير من الإشارات الكامنة- الظاهرة، التي تشير إلى التناقضات الطبقية، وإلى فساد السلطة، وإلى الوضع الاجتماعي البائس لسكان المدن الكبيرة في المغرب (الدار البيضاء هي النموذج هنا)، وإلى العلاقة بين الرجل والمراة من منظور جديد مختلف يبتعد عن الفولكولور والنمطية، كما يقترب من موضوع الطرد الاجتماعي الذي يؤدي الى التكالب على الهجرة الى الغرب فرارا من واقع بائس (إلى إسبانيا تحديدا هنا)، بالاضافة إلى ما يشير إليه عنوان الفيلم نفسه "أياد خشنة" إلى ذلك الاستغلال البشع من جانب الغريب الآخر، للقادم من الخارج لانتقاء النساء اللاتي يصلحن لمزاولة العمل في مزارع الريف الاسباني شريطة أن يكن متزوجات ولديهن أطفال أيضا ضمانا لعدم تزوجهن من اسبان أو مقيمين من العرب المهاجرين بحيث يتمتعن بعد ذلك، أو يطالبن بحق الإقامة وربما أيضا الجنسية فيما بعد.

تحايل على الواقع

هناك مثلا حكاية تلك المعلمة "آمال" التي تعمل في إحدى المدارس الخاصة في المدينة والتي ترتبط بالخطوبة مع شاب تركها وهاجر للعمل في اسبانيا تحاول هي بشتى الطرق اللحاق به، فتلجأ إلى "مصطفى" لكي يجد لها حلا عن طريق تزويدها بشهادة زواج مصادق عليها.

ومصطفى هو ذلك الشاب الذي يعمل حلاقا، يطوف مع مساعده بصحبة عازف مسن على آلة القانون من جيل انقضى عهده، يحلق لكبار المسؤولين السابقين والوزراء الذين تقاعدوا، ومنهم ذلك الوزير الذي فقد القدرة على النطق وعلى التحكم في جسده وأصبح مشلولا يجلس على مقعد متحرك، تتحكم فيه زوجته القوية المسيطرة ذات النفوذ، التي تستخدم شبكة علاقاتها مع المسؤولين في الدولة من أجل الحصول على مكسب شخصي مباشر اي أنها ضالعة في آلة الفساد الكبيرة.

مصطفى يمدها بالكثير من الملفات التي يحتاج اصحابها الى خدمات من هذا النوع الذي تطلبه "آمال" المعلمة الشابة الباحثة عن الآمان الشخصي ولو خارج البلاد، عن طريق شهادات مزورة لكن "هكذا تسير الأمور"(شعار الواقعية الجديدة الايطالية بالمناسبة)، طبقا لمنطق العرض والطلب، فصعوبة التحقق تخلق الاحتياج للحلول، وهناك من هم جاهزون لاستغلال تعقيدات الواقع للإثراء بطرق غير مشروعة.

لكن المطلوب من "آمال" ليس فقط ما يثبت أنها متزوجة وتعول أطفالا بل لابد أن تصمد أمام لجنة الفحص المباشر التي تفحص أيادي النساء المتقدمات حتى تتأكد أنها من تلك "الأيادي الخشنة" للفلاحات اللاتي يستخدمن أيديهن في العمل في الحقول.

تبذل آمال كل جهدها من أجل اتلاف بشرة يديها حتى تثبت أنها فلاحة أصيلة، لكنها تفشل في ذلك أمام اللجنة الاسبانية التي تتشكك في حقيقة يديها فتلجأ إلى فحص قدميها أيضا في مشهد شديد الدلالة على تلك المهانة التي يتعرض لها الانسان من اجل مغادرة وطنه للعمل في مهن اقرب إلى السخرة بعد ان عجزت الدولة عن توفير العدالة الاجتماعية.

بعيدا عن الأيديولوجية

لكن هذه الأفكار جميعها لا تأتي إلينا من خلال خطاب أيديولوجي عالي النبرة، يوظف الحالة السياسية والتدهور الاجتماعي لكي يصنع منه قطعة سينمائية هجائية، بل من خلال أسلوب رقيق، وطابع إنساني متفائل ناعم، ونسيج يتدفق في هدوء ونعومة من خلال ما ينشأ من علاقة عاطفية بين مصطفى وآمال.

مصطفى هنا ليس نموذجا شريرا، رغم استفادته الشخصية من مآس الناس ومشاكلهم، فهو يقدم لهم بطريقته الخاصة، خدمة جليلة عن طريق التوسط لحل مشاكلهم، كما أنه يتحايل من أجل البقاء في مجتمع ضار، ويؤكد الفيلم من خلال التكوينات أو الميزانسين في مشاهد اللقاء بينه وبين تلك السيدة المسيطرة زوجة الوزير السابق، على هامشيته وضعفه وكونه مجرد ترس صغير جدا في عجلة الفساد.

لا يوجد في هذا الفيلم من الشخصيات الشعبية البسيطة من هو مدان، أما الشخصيات التي تمثل الطبقة الأخرى الأعلى، فيتم تقديمها بروح كاريكاتورية فيها الكثير من السخرية أكثر مما فيها من إدانة أو تجريح، بل وحتى ذلك الوزير المشلول الذي يشير على نحو ما، إلى عجز السلطة العتيقة، يبدو في احد المشاهد وكأنه يتعاطف مع مصطفى وآمال عندما يشير لهما بالتحية أثناء توقف سيارتهما أمام قصره في يوم العرس.

وكما تسير القصة في خطوط بسيطة رغم عمقها الكبير، ينتهي الفيلم نهاية متفائلة عندما تدرك آمال أن بوسعها تحقيق أحلامها البسيطة في الزواج من رجل يحبها ويحترمها، بل ويحقق لها حلمها الشخصي المباشر المتمثل في ركوب سيارة مكشوفة حمراء (يتحايل مصطفى لكي يحصل عليها) يزفونها معه فيها وهي تجلس بجواره مثل أميرة.

شخصيات مدروسة

يعتمد محمد العسلي أولا على سيناريو جيد، لا مجال فيه لأي استطرادات أو تنميط، بل يحتوي أساسا، على شخصيات محدودة العدد، مدروسة بعناية ودقة، وانتقال بين الأحداث والأماكن والشخصيات، في تناسق بديع مثير للإعجاب، وانسيابية في السرد، واستخدام فني للمونتاج خاصة في مشهد الحلاقة الأول في الفيلم الذي نرى فيه انتقالات سريعة في لقطات قريبة على خلفية موسيقى القانون، من يدي الحلاق إلى وجهه، إلى رأس الزبون المسن الصامت، إلى أوتار القانون، إلى مقص الحلاق.. في تراتب بديع مع الايقاعات الموسيقية المتتالية، وهو مشهد ساخر لا يحتاج إلى شرح أو تعليق.

ويجعل العسلي بطلي فيلمه، آمال ومصطفى، من الشخصيات العادية البسيطة التي نراها يوميا في الشارع، فيختار ممثلا وممثلة (محمد بسطاوي وهدى الريحاني) لا يتمتعان بوسامة خاصة أو جمال ما، ولكن بقدرة هائلة على الأداء السهل السلس البسيط المقنع الذي يرتدي الشخصية تماما ويذوب في داخلها. ولعل تلك البساطة في الأداء هي ما أضفى سحرا على هذا الفيلم الجميل.

جدير بالذكر هنا الاشارة الى أن العمليات الفنية الأساسية في هذا الفيلم من تنفيذ فرنسيين مثل التصوير والمونتاج والموسيقى والصوت. والأمر نفسه بالضبط ينطبق على الأفلام المغربية الأخرى التي تطرقنا إليها وهي "على الحافة" و"النهاية" و"موت للبيع".. وهذه إحدى المشاكل الكبيرة التي تواجهها السينما في المغرب أي ندرة التقنيين السينمائيين المؤهلين القادرين حتى الآن.

الجزيرة الوثائقية في

01/12/2011

 

كن راسل: السينما للتثقيف، للعلم وللترفيه

محمّد رُضــا 

في الستينات كان هناك برنامج تلفزيوني على محطة البي بي سي لم يعد له وجود لا في بريطانيا ولا حول العالم. برنامج نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى في زمن الجهل الضارب أطنابه. عنوانه «مونيتور» وهدفه كان تعريف الفن والأدب وتنشيطهما بين المشاهدين. منتجه كان هوو ولدون، شخصية تلفزيونية مثابرة وهو الذي اكتشف شابّاً يهوي التصوير الفوتوغرافي ولديه طموح أن يشتغل في الصورة. هوو جلبه إلى برنامجه وأعطاه الفرصة. بعد سنوات قليلة وقف هذا الشاب، وأسمه كن راسل، على مطلع طريقه لإبهار هواة الفن والأدب والسينما.

ذلك الفيلم الأول له كان عن الموسيقار البريطاني إدوارد إلغار Elgar(1934-1857) وقد أراده المنتج صامتاً، وراسل احترم الرغبة لكنه أضاف صوت معلّق ما جعل السيرة الموسيقية التي أريد للصورة وحدها أن تكون سبيل التعليق عليها، تتمتّع بحسنة المصاحبة التعليقية من دون أن يؤثر ذلك على جماليات المشاهد التي التقطها المخرج بأحجام طويلة.

ذلك حدث سنة 1962 ومن يستطع مشاهدة ذلك الفيلم التلفزيوني الآن وشاهد أفلام راسل السينمائية التي بدأ تحقيقها سنة 1969 يستطيع أن يوصل النقاط لتشكيل الخط الواحد لاهتمامات راسل: البحث في شخصيات فنيّة او أدبية او شخصيات روائية ودفعها للجمهور لكي، وعلي حد قوله: يتثقّف، يعلم ويترفّه0

كن راسل الذي رحل يوم الأحد الماضي عن 84 كان أحد أقرب المخرجين في التاريخ إلى ما يمكن تسميته بجنون العبقرية. والمشاهدة المقترحة لأعماله تضيف شيئاً سريعاً على تلك الأولى: أفلامه لم تكن بسيطة لا في تكوينها ولا في تشكيلها الفني، بل هي صرائح مجنونة وأحياناً هاذية من الصور والمواقف التي ترتكب كل تطرّف خيالي ممكن في الوقت الذي تبقى فيه مثيرة للخيال وللجدل. أفلام كن راسل، التي سنأتي على ذكر بعضها هنا، كانت جنوحاً في التقديم وكسر المتوقّعات لكنه جنوح مرغوب. صادم الصورة وغير متنازل.  وفي حين أن منواله ذلك جلب له الكثير من المعجبين وكوّن أسمه فناناً عالمياً، جلب عليه الكثير من الإحتجاجات وردات الفعل الغاضبة. لاحقاً، أخذ الفتور حيال ما يحققه يتعالى خصوصاً وأن السينما البريطانية في الثمانينات كانت خسرت هويّتها السابقة، مثله كمثل ليندساي أندرسن وتوني رتشاردسون (على اختلاف سينماهما) خرج من «الموضة» وأصبحت أفلامه، التي ارتفعت وتيرتها الصوتية وضوضائها الصوري، أقل لفتا للنظر وإثارة للإهتمام.

ما يتذكّره العديدون من فيلم »نساء عاشقات» (1969) هو مشهد المصارعة الحرّة التي تحدث بين بطليه أوليفر ريد وألان بايتس عاريين تماماً، لكن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية ديفيد هربرت لورنس (المعروف بـ د.هـ.لورنس) الموضوعة سنة 1920 كتكملة لرواية سابقة (1915) بعنوان «قوس القزح« فيه أكثر بكثير من مجرّد ذلك المشهد. لجانب أنه اقتباس أمين للأصل، هو عاصفة عاطفية تقع داخل كل من شخصياته الأربعة الأساسية: من حكاية الشقيقتين اللتين تتعرّفان على رجلين من البلدة ذاتها والأربعة الذين يعيشون بعد ذلك هوس تلك العاطفة ونزاعاتها، إلى نقد الطبقة الميسورة (ولورنس كان من منتقديها كما من المعادين للحداثة الصناعية قلقاً على مصير الإنسان من جراء إنتشارها) مروراً بمشاهد يبلغ فيها تجسيد كل ذلك من القوّة قدراً كبيراً من الأهمية. ذلك يحتوي على مشهد اشتباك ودّي على هيئة مصارعة حرّة تقع في داخل شقّة روبرت (ألان بايتس) بينه وبين صديقه جيرالد (أوليفر ريد) وهما عاريين. ذلك العري والبرد الشتوي في المحيط المكاني للحدث (شقّة في جبال الألب) والنيران المشتعلة في الخلفية كلّها أججت مشاعر مُثلية بين الرجلين لم تنتقل إلى التنفيذ، لكنها تركت المشاهد في ذلك الحين متعجّباً من جرأة الجميع (المخرج وممثليه على الأقل) تقديم مثل ذلك المشهد.

لكن راسل (الذي لم يكن مثلياً) لم يكن ليخشى تقديم الموضوع مرّة أخرى متمثّلاً بفيلمه التالي «عشاق الموسيقا» (1970) الذي كان يدور حول الموسيقار تشايكوفسكي كما أدّاه رتشارد شامبرلاين والمرأة التي أحبّته أنطونينا ميلوكوفا (غليندا جاكسون التي لعبت تحت إدارة راسل في فيلمه السابق). ضمن تلك السيرة المقتبسة بدورها عن كتاب (»الصديق المحبب« تطرّق المخرج لرغبة تشايكوفسكي مقاومة نزعاته المثلية (وهي مفترضة غالباً).

في هذين الفلمين ترجم المخرج إعجابه بطريقة أيزنشتاين المونتاجية ولو بتطبيقها على نحو يخدم نصّّه هو. كل تلك اللحظات الحرجة في حياة تشايكوفسكي كما يبديها الفيلم معبّر عنها بتوليف حاد وسريع. لكن حتى من قبلهما، في فيلم جاسوسي أخرجه سنة 1968 بعنوان «مخ البليون دولار« نجده يقدم على انتزاع ملامح ايزنشتانية ثابتة من فيلم «ألكسندر نفسكي« (1938) ويمنحها حياة جديدة تبعاً للمضمون المختلف.

لكن ما أن حل العام 1971 وقدّم راسل فيلمه «الشياطين» حتى بدا أن هذا المخرج يريد كسر كل التقاليد والتوقّعات بأسلوب بصري لم يسبقه إليه غيره في السينما الأوروبية على الأقل. «الشياطين» مأخوذ عن مسرحية لألدوس هكسلي عنوانها «شياطين لودون» وتقع أحداثها، كما في الفيلم أيضاً، في القرن السابع عشر في بلدة فرنسية كانت إمارة يحكمها راهب محبوب إنما له علاقة آثمة بامرأة. يكشف الفيلم أن هذه العلاقة ليست وحيدة بل أن المجتمع الكنسي في تلك الإمارة كله كان مليئاً بالانتهاكات المحرّمة التي تؤدي ببعض الشخصيات (كتلك التي تؤديها فانيسا ردغراف) إلى الجنون حال اكتشافها أن من تحب تزوّج من غيرها. المادّة كانت مثالية بالنسبة لراسل الذي نفذ من خلالها لنقد الكنيسة ولو عبر تصوير انحلالها من ناحية، وعبر تصوير الهجمة المضادّة عليها، من قبل رجال الكنيسة الإنكليز التي جنحت في ملاحقة "مذنبي" الأولى. أوليفر ريد في دور الأمير الراهب يتم حرقه.

أتبع راسل هذه الأفلام بأخرى لا تقل صدماً: «الصديق« الموسيقي، و»المسيح المتوحّش» الدرامي الديني و»مولر» البيوغرافي ثم »تومي« الموسيقي« حتى حطّ في هوليوود ليصنع فيلماً جيّداً عن رواية لبادي شايفسكي بعنوان Altered Stateاو «حالة متبدّلة» حيث يقدم بطل الفيلم (وليام هيرت) على تحويل نفسه إلى مختبر حاقناً شرايين يده بعقار قد يحوّله إلى مخلوق مختلف.

لكن هذا الفيلم على جودته، كان بداية مرحلة جديدة فهو إذا ما كان سعى للبقاء على قمّة حرفته باختيار المواضيع الكبيرة المثيرة والغائصة في روح الحضارة والثقافة الأوروبية (و»حالة متبدّلة« لم يكن من هذا النوع) الا أنه سريعاً ما وجد نفسه يواجه انحسار الاهتمام به. هذا ليس محدداً بسبب واحد، لكننا نتحدّث في الثمانينات عن بداية تغيير كامل أصاب البنية التي حشدت لأفلام انطونيوني وبرغمان وفرانشسكو روزي ولندساي أندرسن وتوني رتشاردسون وميغويل ليتين وسواهم العديدين من أساتذة السينما ومن بينهم راسل نفسه. تبعاً لذلك، وخوفاً من جنوحه الخيالي تراجع اهتمام المنتجين والمموّلين به من منتصف الثمانينات وتأكد ذلك مع نهاية ذلك العقد.

أفلامه جميعاً كانت مشغولة ببصريات مذهلة واستعارات من أفلام وسينمات ماضية مُشكّلة من جديد ضمن  رؤيته الخاصّة. أفلامه كانت سينما كما كانت أدباً. كانت معالجات فوق العادة وحبّاً واضحاً بالفنون جميعاً.

سنوات المخرج العشرين الأخيرة شملت بضعة أفلام لم تنجح جماهيرياً (بينها الفيلم الجيّد «عاهرة» سنة 1991) لكنها حوت عدداً من الأفلام القصيرة التي موّلها بنفسه رافضاً التوقّف عن العمل. قبل سنوات قليلة، وعلى شاشة التلفزيون البريطاني، تمّت استضافة المخرج لسؤاله عن سبب "توقّفه عن العمل"، لكن الرجل لم يكن قد توقّف بل أوقف! وهو حكى طرفة تستحق التندّر: "بعثت ذات مرّة بسيناريو لمحطة تشانل فور لمعاينته وبعد ستة أشهر استلمت رسالة من شخص لا أعرفه مطلقاً. إمرأة تقول: "سيناريو فيلمك ليس سينمائياً بما فيه الكفاية". أمام الكاميرا يصمت المخرج قليلاً ثم يصيح: "أنا أفلامي ليست سينمائية كفاية؟".

الجزيرة الوثائقية في

01/12/2011

 

السينما الروحية : من باريس إلى فاس

أحمد بوغابة 

يشهد العالم طفرة في التظاهرات السينمائية بحيث تشمل جميع الأجناس والمواضيع إلى حد يعتقد المُتتبع أن منظمي المهرجانات واللقاءات قد استنفذوا كل ما يمكن مقاربته سينمائيا إلا أن الإنسان لا حدود لفكره وإبداعه فهو قادر على الابتكار. وبما أن السينما من الفنون الجماهيرية وأكثرها قربا إلى وجدان الناس (إضافة إلى الموسيقى والغناء) فهي قادرة على تمرير رسائل فكرية وتربوية وسياسية. كما أنها أصبحت في العصر الحديث من أسهل وسائل الوصول بسرعة إلى مختلف بقاع العالم مقارنة مع ما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة.

من المهرجانات الجديدة التي ظهرت حديثا في العاصمة الفرنسية باريس مهرجان السينما الروحية الذي نظم إلى حد الآن أربع دورات فيما ستُعقد الدورة الخامسة في مطلع الربيع المقبل.

وهذا المهرجان الذي يحمل إسم المهرجان الأوروبي للسينما الروحية إلا أنه غير أوروبي محض بل مهرجان دولي بمعنى يُعنى بجميع الأفلام المُنتجة في العالم تمس موضوعه الروحي سواء كانت روائية أو وثائقية، طويلة أو قصيرة، بما فيها الأفلام المُنجزة بالرسوم المتحركة.  فهو مفتوح في وجه كل من يرغب في المشاركة. ويتميز المهرجان ببث الأفلام التي يتوصل بها على موقعه في الإنترنيت لمشاهدتها دون أن يتمكن أحد من تحميلها بسبب رمز خاص يمنع من ذلك. ويمتد ذلك طيلة شهر (في هذه السنة ستمتد مدة المشاهدة من 15 فبراير إلى غاية يوم 15 مارس 2012.

والأفلام المبثوثة على الموقع تدخل ضمن إطار المسابقة لكون المهرجان خصص جائزة للجمهور يشارك فيها جميع الأشخاص، من جميع الأقطار، بدون استثناء وبالتالي فهذه الجائزة ليست متوقفة على الجمهور الفرنسي أو الأوروبي فقط بل يمكن لسكان العالم التصويت على الأفلام التي يفضلها.

ولجنة التحكيم الرسمية نفسها تشاهد الأفلام في نفس الفترة المُشار إليها قبل قليل على موقع المهرجان أيضا وتناقشها في ما بينها بالمراسلة ثم بلقاءمباشر بينها لتختار الفائزة منها والإعلان عنها في حفل رسمي جماهيري بباريس وبحضور اللجنة والفائزين (هذه السنة سيتم الحفل خلال يومي 31  مارس و1 أبريل  2012.

يحصل المهرجان على دعم مؤسسات ثقافية وفنية وإعلامية من فرنسا وخارجها من بينها المعهد الثقافي الفرنسي بمدينة فاس المغربية (وسط المغرب). ومدينة فاس من أعرق المدن المغربية حيث كان يُطلق عليها سابقا العاصمة العلمية للمغرب.

واكب المعهد الفرنسي بفاس هذه التظاهرة ماديا ومعنويا وأدبيا وفنيا منذ دورتها الثانية، يمكن القول منذ بدايتها، حيث خلق معها جسورا مثينة بتنظيمه لقاء سنوي بالمدينة المغربية طيلة يومين باكتفائه بعرض الأفلام الفائزة فقط وبالتالي فالجمهور المغربي محظوظا بمشاهدة الأفلام المُتوجة ليُناقشها مع رئيس المهرجان السينمائي "ماركو لوفو" في الدورتين السابقتين فيما حضر هذه السنة مديره الفني السينمائي المخرج باسكال كويسو.

 الأفلام الفائزة بباريس تنتقل إلى فاس فخلال يومين، الجمعة 25 والسبت 26 نوفمبر 2011، تم بفاس عرض مجموعة من الأفلام الفائزة في الدورة الأخيرة من المهرجان الأوروبي للسينما الروحية وهي:

• فيلم "مي لينغ" من إخراج فرنسوا لوروي  وستيفاني لانساك الحاصل على جائزة أفضل فيلم بالرسوم المتحركة

• فيلم "طفلة الياك" (الياك هو البقر  البري في المنطقة الأسيوية) من إخراج كريسطوف بولا والحاصل على جائزة أفضل فيلم قصير

• فيلم "معبر زانسكار" من إخراج فريديريك ماركس الحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي

• فيلم "المشي على الصوت" من إخراج جاك ديبس الحاصل على جائزة أفضل فيلم أوروبي

• فيلم "روح الصبي" من إخراج هاوا لإيسومان الحاصل على جائزة أفضل فيلم روائي وكذا جائزة الإخراج التقني (الفيلم من جنسية إفريقية)

• فيلم "مشكلة" من إخراج رالف شرينبيرغ الحاصل على تنويه خاص من "بلانيت"

• فيلم "لولبي" من إخراج تايشي كيمورا الحاصل على جائزة الجمهور

قد تبدو للمشاهد/القارئ بأن بعض الأفلام تحمل بشكل واضح البعد الروحاني خاصة إذا ارتبط ذلك بالديانات المُنتشرة في كوكبنا.  لكن نفس المُشاهد قد لا يرى ذلك في أفلام أخرى المُبرمجة في التظاهرة فيتساءل عن المفهوم في ذاته وأين يتمثل؟ وهذه الأسئلة والتساؤلات والإشكاليات الفكرية والمنهجية المطروحة خلال المشاهدة هي التي تغني النقاش في علاقته بالسينما كفن شامل بكل حيثياته البصرية والسمعية.

عادة ما يكون البحث عن "الموضوع" في الفيلم بعزله عن محتواه الفني ما يطرح "مشاكل" استيعابية فيكون الحكم على المنتوج من خارج مكوناته الفيلمية.

إن مهرجان السينما الروحية الأوروبية ليس تظاهرة دينية كما قد يعتق البعض، أو يسعى إليها، بل هو مهرجان فكري ببعد فلسفي في علاقة الإنسان بمحيطه البيئي والإجتماعي والطبيعي والثقافي وطبعا معتقداته كجزء من الإنسان وإرثه التاريخي والوجداني.

طغت في هذه الدورة الثالثة المنعقدة في فاس، التي حملت الأفلام الفائزة في الدورة الرابعة بالنسبة للمهرجان الأم بباريس، جل الأفلام الفائزة من أقصى آسيا آ(تية من الصين - التيبيت – اليابان) دون أن يكون مخرجيها من تلك الأقطار نفسها وإنما من أقطار أوروبية وغيرها. تناولت جل الأفلام علاقة الإنسان بذاته أو بالعنف الذي يسكن جسده أو في علاقته مع الطبيعة ومع الأرض خاصة. وكذا العلاقة العائلية والروابط الدموية وكيف يمكن أن تمر هذه العلاقات المتعددة مع المعتقدات الدينية والروحية المختلفة بدورها من مجتمع إلى آخر وتتقاطع معها.

وعليه، فالأفلام التي يعتمد عليها المهرجان الأوروبي للسينما الروحية ليست بالضرورة لها علاقة بالدين أساسا أو مباشرة وهو بذلك يُغْني المُشاهدة والاستمتاع البصري والسمعي والوجداني.

دعوة سينمائية لمناقشة الإنسانية

أفلام تسافر بنا الكون وتعبره من الشمال إلى الجنوب ثم شرقا وغربا في لقاءات إنسانية حيث نجد من يرتبط بالأرض إرتباطا وثيقا إلى حد الموت إذا فرض عليه مغادرتها. وهو نفس الشيء الذي قد يحصل مع الحيوانات. كما هو في الفيلم الجميل جدا "طفلة اليارك" التي كانت تعيش في وئاموانسجام مع محيطها الطبيعي حيث تلعب مع جزئيات الأرض ومائه وحيوانته خاصة البقر البري الذي اتخدت واحدا منها صديقا وترضع الحليب مباشرة من ثدي بقرةتماما كما تفعل الحيوانات. فرضت السلطة على هذه الطفلة الذهاب إلى المدرسة في المدينة البعيدة عن فضائها فعاشت الاغتراب بين أطفالها إذ تحولت إلى موضوع للتهكم. ولا تستوعب ما يقولون ويفعلون. يبرز لنا الفيلم أيضا المنهج الديكتاتوري في التربية والتعليم في "الصين الشعبية" فلم تصمد الطفلة لهذا النظام لتطلب من والدها العودة إلى فضائها الحر. إلا أنها ستفاجأ بكون السلطة المحلية فرضت على والديها مغادرة الأرض لإنجاز مشروع طريق جديد يعبر الأرض التي هي في الواقع ليست ملكهم لأنهم بدو رحل. إضطر الأب لبيع القطيع الذي يملكه من بينها "الياك" صديق الطفلة فلم تتحمل الصدمة التي تسببت لها في المرض فتوفيت بعد هذيان تتساءل فيه عن الظلم الذي حل بهم دون أن تنبس بكلمة واحدة مكتفية بتعابير جسدية وإيماءات. فيلم"طفلة الياك" قصير في مدته لكنه غني بجماليته ومضمونه وأداء ممثليه خاصة الطفلة التي كانت جوهر الفيلم.

وفي نفس السياق يعرض فيلم "مَعْبر زانسكار" واقع العائلات الفقيرة المُهملة في أعالي جبال "إمالايا" التي لا تجد ما تقتات به إذ تعيش على الكفاف فيتصل بها بعض الرهبان البوديين لاقتراح عليهم تسليمهم أطفالهم الصغار (بعضهم لا يتجاوز أربع سنوات) لكي يتكفلوا بتعليمهم وتربيتهم ومعيشتهم وتلقينهم البودية. يمرون طبعا عبر معابر وعرة وصعبة خلال مدة طويلة تعترضهم جميع أنواع المشاكل كامتحان أولي لمن سيصمد وهي عملية تصفية غير معلنة من طرف الرهبان.

فهذا الفيلم قد يبدو سينمائيا مُتقن في الإخراج الوثائقي لكنه يتضمن مشاهد درامية خطيرة بسبب نزع الأطفال الصغار جدا من أحضان أمهاتهم حيث استغل الرهبان فقر وضعف وتخلف الأسر وأميتهم ليقنعوهم بمستقبل أفضل لأبنائهم وبناتهم حتى يصبحوا هم أيضا رهبانا محترمين. لكن في الحقيقة هو استغال فض وبشع من لدن الرهبان للحفاظ على ثقافتهم بزرعها في أطفال فقراء إذ لم نشاهد ذلك في مشاهد لأبناء الأغنياء بالمدن. إن الفيلم يخرق قوانين الطبيعة وحقوق الإنسان بنزع الأطفال من ذويهم بسبب الفقر. تساءلت في النقاش مع بعض الحاضرين، خاصة الأجانب منهم، قائلا "ماذا لو مارس المسلمون هذا الفعل؟ ما ذا سيكون ردهم؟"  فلا شك سيصرخون عاليا معتبرين ذلك جريمة إلا أنهم صفقوا للرهبان بعملهم هذا الذي اعتبروه إنسانيا والتفكير في مستقبل الأطفال !؟.

فيلم "مشكلة" هو في الواقع ندوة عالمية جمعت مجموعة  من الأسماء المعروفة والمشهورة في العالم من جميع القارات (كتاب، فنانون ، رياضيون ، موسيقيون، سينمائيون إلى آخره، إذ أجاب الحضور على مائة أسئلة طرحها سكان الأرض تناولت مختلف الإشكاليات والمشاكل التي تشغل بال الناس كالبيئة والحروب والسلام والحدود والهجرة ومصير الأقليات والتربية واللغات وغيرها من المواضيع. بعض الأسئلة والأجوبة كانت قيمة وبعضها لم تف بالمُنتظر وقد يكون كل سؤال موضوع لفيلم مستقل.

أفضل الأفلام التي عرضها المعهد الثقافي الفرنسي في تظاهرته هاته، خلال اليومين المذكورين أعلاه، هو فيلم "المشي على الأصوات" فهو جمع بين البحث في فن الموسيقى والأداء الموسيقي والأصوات أيضا في علاقتها بمكونات الطبيعة (الحجر - الرياح - أصوات الحيوانات - إلى آخره) وذلك في انسجام فني جعل منه تحفة حقيقية تستحق تحليلا نقديا مستقلا وهو ما سنقوم به مستقبلا بالتأكيد لأن غنى الفيلم التقني والفني والروحي يدفعنا لكي نشرك في رأينا عنه الفعاليات السينمائية.

إنطلاقا مما سبق ومن المُشاهدة لبرنامج مهرجان السينما الروحية يتبن بالوضوح أن الفكر وعلاقة الإنسان بمحيطه ومستقبله وبحوثه في مكونات الحياة تشكل كلها روح المهرجان وخلق نقاش حولها لكون التعامل مع البيئة والمعتقد وتشكلات الطبيعة والأفكار والتربية والتعليم  والفنون هي الأرضية التي تنبني عليها الروح ببعدها الفلسفي خاصة عند تناولها الفني .    

الجزيرة الوثائقية في

01/12/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)