حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

البحث عن (على)

كمال رمزي

بعد عامين من مجزرة أوليمبياد ميونخ 1972، ومع ارتفاع موجة الكراهية الأوروبية للعرب، حقق المخرج الألمانى راينر فاسبندر فيلما ذائع الصيت، ينتقد فيه، بشجاعة، مشاعر الشك والحنق عند الغرب تجاه العرب. عنوان الفيلم بالألمانية «الخوف يأكل الروح»، وبالفرنسية، الأوسع انتشارا، هو «كل الآخرين اسمهم على». أسند البطولة لممثل أسود، قادم من المغرب، اسمه الهادى بن سالم، الذى أصبح مرموقا، مشاركا بالتمثيل فى أعمال تالية، لكن حياته الشخصية، شأنه فى هذا شأن مخرجه الأثير، اتخذت مسارا عاصفا، انتهت بوفاته فى أحد سجون فرنسا عام 1976، قبل أن يتم الأربعين من عمره، بينما توفى فاسبندر، إثر تعاطى جرعة كبيرة من الكوكايين، عام 1982، وهو فى السادسة والثلاثين من عمره.

فيولا شفيق، الباحثة السينمائية الجادة، المتمتعة بثقافة ألمانية شاملة وعميقة، أخرجت فيلما تسجيليا طويلا، مهما وبديعا، أثار مناقشات خصبة، ليلة عرضه فى «مهرجان الفيلم العربى ببرلين».

عنوان الفيلم بالألمانية «جنة على»، ولكن بالفرنسية «اسمى ليس على». وسواء اعتمدت العنوان الألمانى أو الفرنسى، فإن لكل عنوان دلالته، تعطى للعمل معنى يعمق الآخر.. الفيلم، أقرب للتحقيق الموسع تتابعه فيولا، بدأب ودقة، بهدف معرفة مسار ومصير حياة الهادى بن سالم، الشهير باسم «على»، وهى فى سبيل إنجاز هدفها، تلتقى العديد من الشخصيات ذات الصلة ببطلها، وتترك لهم حرية الكلام، وتجعلنا لاحقا، نتبين عندهم مناطق الصدق والكذب، وتكشف، بهدوء ورصانة، ومن دون انفعال أو افتعال، نزعات الكراهية المقيتة، التى لا تزال كامنة فى بعض القلوب.. أحد الذين عملوا مع فاسبندر، يتحدث بوجه يشوبه الكدر، عن «الهادى»، حين دخل مع مخرجه من باب الحانة، فرآه يمشى بكعب حذاء عالٍ، مشية عجيبة غريبة، وذراعين طويلتين، تماما مثل النسناس، وفى ذلة لسان، يعرب الرجل، بمرارة، عن كون «الهادى» كان سببا فى إبعاده عن العمل مع فاسبندر.. وثمة من يصف «الهادى» بأنه جاهل، وابن الصحراء. لا علاقة له بالحضارة أو الثقافة. وبذكاء، تترك له المخرجة فرصة الاسترسال فى كلامه المشحون بالأكاذيب، خاصة حين يتحدث عن قذارة اثنين من أطفال «الهادى»، تولى المتحدث إحضارهم من بلدتهم، وقام بتحميمهم فى بانيو بحمام حجرة بالفندق، مرة تلو الأخرى، وفى كل مرة، تصبح المياه.. سوداء.

لا تترك المخرجة وسيلة من وسائل الكشف عن حقيقة بطلها إلا واتبعتها، فإلى جانب شهادة من عرفوه، ثمة الصور الفوتوغرافية، ترصد مراحل حياته، ومقاطع من أفلام، تستخدمها استخداما موفقا، فحين يبدو «الهادى» وكأنه يمر بنوبة شعور بالذنب، تطالعنا لقطته، وهو يصفع وجهه عدة صفعات، عقب خسارته فى لعب القمار، فى «الخوف يأكل الروح».. وتنتقل فيولا شفيق، بين ألمانيا وفرنسا وتونس، لتتعقب حياة «الهادى» العاصفة. وفى بلدته الصغيرة، المنسية، فى تونس، تلتقى بزوجته التى غدت عجوزا، دافئة الملامح، تذكرنا بطيبة أمهاتنا، ابتسامتها مشرقة، وأحزانها بلا حدود، لا تغفر لـ«الهادى»، يوم انتزع منها اثنين من أولادها، كى يعيشا معه فى الخارج.. إنها تتحدث، بصدق وحرارة، وكان ما حدث منذ سنوات طويلة، قد حدث حالا، وها هى تجهش بالبكاء وتقول ثلاث كلمات «لقد حرق قلبى».

«اسمى ليس على»، أو «جنة على»، لا يأخذ جانب التعاطف المطلق مع «الهادى»، ولا يدينه إدانة مطلقة، فالفيلم أقرب لبهو المرايا، نرى انعكاس صورة شاب ذهب للغرب، عاش سنوات بدت كالجنة التى تحجب جحيما من نوع ما. وأصبح اسمه على ولكنه ليس «على»، والفيلم فى شموله، لا يتوقف عند «الهادى» وحسب، بل تمتد رؤيته وتنفذ إلى فاسبندر، الغائب الحاضر، وإلى ملابسات سنوات، يهيمن عليها ظلال التعصب، ويصل إلى أغوار نفوس، لا تزال جرثومة الفاشية، تعتمل بداخلها. إنه فيلم كبير.

الشروق المصرية في

23/11/2011

 

أمل.. (ممنوع)

كمال رمزي  

عقب عرض فيلمها «ممنوع»، جاءت مخرجته المصرية أمل رمسيس لتجلس معنا فى مقهى بجوار سينما «بابليون» بالقرب من ميدان روزا لكسمبرج. فتاة منتبهة، ذات عيون مسحوبة من الجانبين، يلتمع فيها بريق الذكاء ممتزجا بالطيبة. أحسست أنى رأيتها من قبل، وما أن بدأت تتحدث، بنبرة هادئة حتى تأكدت أنى عرفتها من قبل. أين ومتى؟ لا أذكر، فكثيرا.. تخوننى ذاكرتى. سألتها: ألم أقابلك سابقا؟ أخبرتنى أنه لم يحدث. تكلمنا جميعا عن فيلمها. طريقتها فى الإصغاء بعمق من يريد الاستيعاب، ودماثة تقبلها للملاحظات، جعلتها تبدو لى، يقينا، أعرفها.. انكشف السر حين ذكرت اسمها كاملا: أمل رمسيس لبيب. ياه، رمسيس لبيب، ذلك الصديق الجميل، رحمه الله، الذى سهرنا معا عدة مرات، مع صديقنا المشترك، الناقد أحمد يوسف. رمسيس لبيب، الإنسان النبيل، الذى عاش حياته مناضلا يساريا صلبا، يقف بقوة مع العدل، إلى جانب المظلومين، كتب العديد من الروايات والقصص، الكثير منها لايزال حاضرا فى ذاكرتى، ومنها قصة ذات رموز شفافة، عنوانها «مدينة المدن والحارس العجوز»، كأنها مكتوبة عن واقعنا، الآن، تدور حول مدينة ممنوع دخولها على كل من له عيون واسعة ترى وأفواه لا تتوقف عن الكلام. وبرغم الحريق الهائل الذى اندلع فى المدينة، فإن السلطات المستبدة تمنع من يريد إطفاءها من الدخول.

أدركت أن «أمل» ورثت الكثير من ملامح وجه والدها، وطريقة استماعه، وأسلوب كلامه، والأهم روحه المشبوبة، ذات الطابع النقدى الشجاع، وبدا لى أن فيلمها هو امتداد لكتابات والدها، بل يمكن اعتباره بمثابة التسلل إلى «مدينة المدن» برغم سطوة «الحارس العجوز»، الذى فرض عشرات الممنوعات على أهاليها.

«ممنوع»، فيلم تسجيلى طويل، تنزل فيه الكاميرا إلى الشوارع، لترصد، أوجه الممنوعات المتعددة، التى يرد ذكر بعضها فى أغنية الشيخ إمام، الواردة فى فيلم «ممنوع من السفر. ممنوع من الغناء. ممنوع من الكلام. ممنوع من الاشتياق. ممنوع من الاستياء. ممنوع من الابتسام..».. الفيلم، ينهض على ثلاثة محاور: لقاءات مع الناس، عاديين ومثقفين. كلاهما يقول وجهات نظر جديرة بالاحترام، مؤادها، كما تسأل المخرجة التسجيلية عرب لطفى علينا أن نعرف ما هو المسموح به فى مصر؟.. ويستكمل إبراهيم داود ونوارة نجم، وآخرين، مجالات المنع، سواء التصوير فى الشوارع، أو إقامة مسرح أطفال، والأهم «ممنوع رفض إهانة الشرطة للمواطن».

أما المحور الثانى فى الفيلم، فإنه يستند إلى مقاطع من مشاهد غنائية، من أفلام روائية مثل «أميرة حبى أنا»، حيث تغنى سعاد حسنى «الدنيا ربيع» وتتبادل القبلات مع تحسين فهمى، و«عودة الابن الضال» ليوسف شاهين، وبالتحديد أغنية «الشارع لنا».. وهذا المحور أضعف محاور الفيلم، يأتى بلا ضرورة زائدة عن الحاجة، بالإضافة إلى كونه من أعمال روائية، تشرخ الإحساس بصدق الفيلم التسجيلى.

لعل المحور الثالث هو الأهم، ذلك أنه يعتمد على عين الكاميرا مباشرة، وهى فى «ممنوع» على قدر كبير من نفاذ البصيرة، فمنذ المشاهد الأولى تنتبه إلى كثافة قضبان وكتل الحديد المنتشرة فى شوارع المدينة. الميادين محاطة بسلاسل من فولاذ، ويرتفع، على الرصيف الأوسط فى شارع الأزهر سياج من أسياخ مدببة الحواف، وثمة، على الجوانب، فى معظم الطرق المهمة، تقف عربات الأمن المركزى بضخامتها، ولونها الأسود الداكن، الكئيب، وكأنها تستكمل الإيحاء أن المدينة، أقرب للسجن الكبير وتؤكد أن خيال السلطة، قاصر على استيحاء روح المعتقلات.. ويصل إلى ذروته، حين ننتأمل الكاميرا على نحو يجمع بين الدهشة والانزعاج، تلك البوابة الفظيعة، فى شارع رمسيس عند الميدان، حين يفتحها اثنان من العساكر، فيندفع منها المشاة، كأنهم يهربون من زنزانة.

لو أن «ممنوع» اقتصر على هذا المحور، وتخفف من ترهل الزيارة التى لم تستكمل إلى «غزة»، ولو كانت أمل، مع مونتيرها الإسبانى، حذفت، بلا تردد، تلك الحوارات الطويلة، التى تذكرنا ببرامج «التوك شو»، لجاء عملها الجميل، أكثر اكتمالا، وأعمق تأثيرا.. وأخيرا، سمعت أن ثمة متاعب رقابية على عرض الفيلم، فقلت: إذا صح هذا القول، فإنه سيجعل «ممنوع».. أوسع انتشارا.

الشروق المصرية في

19/11/2011

 

برلين تحتفل بالفكاهة فى السينما العربية

كمال رمزي  

مهرجان الفيلم العربى فى برلين، حقق خطوة واسعة للأمام، فى دورته الثالثة. المهرجان ينهض به مجموعة جميلة من الشباب، عرب وألمان، يتطلع لمعرفة بلادنا العربية من خلال السينما، ذلك الفن الجماهيرى الذى يتسلل للنفوس، برقة وعمق، ويقدم خطابا أعمق تأثيرا، من البيانات المكتوبة والبرامج الدعائية. أعضاء الجمعية من الجيل الثانى للمهاجرين العرب، جذوة الوطن تعتمل فى قلبه، فضلا عن شباب ألمان يؤمن بأن معرفة الآخر، خاصة البعيد نسبيا، من الأمور المهمة والمجدية. كانت الدورتان السابقتان أقرب للبروفات النهائية، حيث تأتى هذه الدورة متضمنة العديد من البرامج، تقام فى خمس صالات عرض، يمتلئ معظمها عن آخرها، ولعل الملاحظة الجديرة بالالتفات، والاحترام، تتمثل فى بقاء الجمهور، لحضور مناقشة الأفلام، عقب عرضها. مناقشات جادة، مثمرة، مع إلقاء اسئلة، غالبا تنتهى بفاصل عما جرى فى ثورة يناير 2011، وأسباب تسميتها بالثورة الضاحكة، وتثمين الشعارات الساخرة التى رفعت فى ميدان التحرير، وعلاقة كل هذا بالسينما المصرية، خاصةفى جانبها الكوميدى، ففيما يبدو أن صورة العربى المتجهم، القاسى، الكاره للغرب، الأميل للعنف، هى المسيطرة على خيال الألمان، لذا كانت الأفلام الفكاهية التى عرضت ــ وهى من الكلاسيكيات ذات الشأن ــ مفاجئة، مبهرة، تصحح إن لم تبدل الصورة التقليدية للعربى، المنتشرة فى وسائل الإعلام عموما، وفى قلبها الأفلام الأمريكية.

مشاهدة.. المتفرج

عادة، يتابع المرء أفلام المهرجانات، لكن هذه المرة، يرصد المرء ردود أفعال المتفرجين. أى مشاهدة طريقة تلقى المشاهدين لما يدور على الشاشة. الأفلام، نحفظها عن ظهر قلب، والجديد، الطريف، أن تعرف وقع نجيب الريحانى وإسماعيل ياسين وعادل إمام ومحمود عبدالعزيز على جمهور مثقف، اطلع على عشرات الأفلام العالمية، الحديثة.

كانت البداية مع «غزل البنات» لأنور وجدى 1949، ومنذ الوهلة الأولى يمكنك تقسيم الجمهور إلى قسمين. أحدهما، من العرب، كبار السن، جلسوا فى الصف الأول كى يتمكنوا من رؤية الصورة وسماع الصوت، والواضح، من خلال تعليقاتهم طوال العرض، أنهم يعرفون الفيلم، بممثليه، وأحداثه وأن ابتهاجهم بالمشاهدة الجديدة، أعادت لهم ذكريات جميلة دافئة، فما أن يظهر «الباشا» سليمان نجيب، معلقا على أعلى شجرة، حتى يذكروا اسمه مصحوبا بالضحكات.. كذلك الحال بالنسبة لبقية الممثلين.

أما القسم الآخر من المشاهدين، فمعظمهم من الألمان، تابعوا الفيلم بقدر كبير من الدهشة الممتزجة بالغبطة، ولأن الجمهور الألمانى يتسم بالتحفظ، ولا يكاد يعرف القهقهة بصوت عال، على طريقتنا أبدى مدير المهرجان الشاب، فادى عبدالنور، سعادته إزاء ضحكات الجمهور المتوالية.. عقب العرض نبهت إحدى المشاهدات إلى ذكاء المعالجة القائمة على المفارقة بين رجل فى الخريف، فقير، سيئ الحظ، مهلهل الثياب، يخفق قلبه بحب كل ما يفتقده، ويتمثل فى الشابة الصغيرة، الثرية، ابنة الباشا المحظوظة «ليلى»، ليلى مراد. أحد الشباب تحدث عن وجه نجيب الريحانى المعبر عن أدق الانفعالات خاصة حين يسمع أغنية «عاشق الروح» أو «ليه ليه يا عين» لمحمد عبدالوهاب، فيبكى ثلاث مرات. كل مرة بطريقة تعبر عن إحساس مختلف. المرة الأولى عندما تلمس الألحان أوتار قلبه، والثانية، حين يدرك اتساع الهوة بينه ومن يحب، فيجهش بالبكاء.. والثالثة يبدو كما لو أنه يتطهر من أوهامه فيبكى على نحو يوحى أنه شفى تماما من أوهامه.. وكان لليلى مراد نصيب كبير من الإعجاب، ليس بسبب قوة أدائها ولكن بسبب صفاء وجهها الذى بدا مصدرا للضياء، وطبعا هذا بفضل المصور الموهوب، عبدالحليم نصر، أستاذ الأبيض والأسود.. وعبرت إحدى المشاهدات عن إعجابها بأناقة ليلى مراد، وجمال فستانيها وقمصان نومها وسألت عن مدى تمسك البنت المصرية ــ الآن ــ بذلك الألق القديم، ولماذا لا يظهرن، فى الصور ــ هذه الأيام، بمثل ذلك الرونق؟

إلى جانب «غزل البنات»، عرض «سلامة فى خير» لنيازى مصطفى 1937، وتقبله الجمهور تقبلا حسنا، ووصلت الضحكات إلى قمتها فى موقف الخطبة التى يلقيها، عن طريق الخطأ،  الريحانى، وهو يوجه كلامه إلى علية القوم، قائلا «أيها البؤساء التعساء»، فقد كان من المفروض أن تلقى هذه الخطبة فى أطفال أحد ملاجئ الأيتام.. وبينما توالى الثناء على عفوية وصدق أداء نجيب الريحانى، أشاد أحد الحاضرين بالممثل العجوز الذى أدى دور جاره الداهية ــ يقصد «شرفنطح»، أو محمد كمال المصرى  وقال إنه يقول كل شىء بعينيه، وأنه من أجمل الممثلين، وأقدرهم، وتمنى أن يرى له المزيد من الأفلام.

نحو المخرج

مع فيلمى «الكيت كات» لداود عبدالسيد 1991، و«الأفوكاتو» لرأفت الميهى 1984، انتقل مركز الاهتمام من النجم إلى المخرج، وهذا لا يعنى عدم الالتفات إلى محمود عبدالعزيز وعادل إمام، ولكن يعنى أن البصمة الخاصة لكل من المخرجين أوضح مما كانت عليه بصمتا نيازى مصطفى وأنور وجدى، صحيح، أشاد أكثر من متحدث برصانة ورسوخ محمود عبدالعزيز، ونشاط وحيوته وطلاقة عادل إمام، لكن الحديث عن أسلوب الإخراج، فى الفيلمين، كان الأطول، والأعمق.. علق أحدهم عن إدراك داود عبدالسيد لمدى تأثير المواقف التراجيدية حين تأتى من الممثل الكوميدى، فتهز أوتار القلوب، على نحو أشد تأثيرا مما لو جاءت من الممثل الدرامى.. وهنا ــ والكلام له ــ إذا كنا نضحك مع البطل الضرير وهو يقود «الفسبا» مقتحما السوق، ودكان الفراخ، فإننا نتعاطف معه، ونأسى له، حين يتحدث عن نفسه، مدافعا عن رعونته، وظروف بيعه لبيته. ويتجلى إبداع المخرج، وهو كاتب السيناريو أيضا، عندما يجعل بطله يتحدث إلى بائع الفول الجالس فى دكانه، وقد فارق الحياة. إنه موقف مبلل بالدموع، ينهيه المخرج نهاية بارعة: الضرير، يضع الجثة فى عربة الفول. يسحبها، ترتفع الكاميرا فى ضوء الفجر الضنين فنرى ساقى المتوفى وقد تدليتا من ظهر العربة.

أثناء وعقب عرض «الأفوكاتو» فوجئت عدة مفاجآت، فأولا، لم أتوقع أن تنطلق الضحكات كلما ظهر «عبدالجبار»، الذى قام بدوره على الشريف. إنه أحد حراس السجن، يقدم خدماته لكل من يجزل له العطاء صوته غليظ وملامح وجهه أقرب للكاريكاتور، ينتقل من سيد إلى سيد بلا تردد، وشعاره «أنا أعمل فى أى مكان به أكل عيش».. فى مشهد إقامة حسن سبانخ ــ عادل إمام ــ فى زنزانة رجل الأعمال المشبوه ــ حسين الشربينى» ــ حيث يتحول أحد الحوائط إلى بانوراما لشاطئ بحر، مع مؤثرات صوتية، نابعة من تسجيل، لأصوات الأمواج ولعب الأطفال، يظهر عبدالجبار، حاملا معه صندوق مرطبات، ويصيح «آيس كريم.. كلو كلو». هنا تنطلق ضحكات الجمهور. وقال أحدهم إنه مشهد ينتمى للمخرج المتمتع بحس ساخر ومبتكر.. لاحقا، يطالعنا عبدالجبار، وهو يعمل عند رجل الأعمال الفاسد، ثم عند أحد وحوش مراكز القوى، صلاح نظمى.. وفى النهاية، يساعد، بلا تردد، فى هروب حسن سبانخ ورجل مراكز القوى.

المفاجأة الثانية، أن فتاة ألمانية رقيقة المظهر، تحدثت عن بطل الفيلم، ونطقت اسمه على طريقة حسين الشربينى «حسن صبانخ»، ولما حاولت تنبيهها إلى أن الاسم هو «سبانخ»، أضافت حرف الياء بعد النون وقالت «صبانيخ».. قلت فى سرى: لا بأس، صبانيخ صبانيخ.

أما المفاجأة الأخيرة، فإنها جاءت محرجة، مربكة، فقد سألت إحدى الحاضرات، السؤال التالى: لاحظت أن بطل الفيلم، كلما التقى زوجته، حتى فى السجن، أثناء الزيارة العامة، وفى المستشفى، يريد الاختلاء بها ليمارس حياته الطبيعية. هل صحيح أن كل الرجال عندكم هكذا؟.. باغتنى السؤال، خاصة فيما يتعلق بمسألة «الرجال عندكم»، قمت بالضحك، فالضحك خير منجى، وشرحت لها أن الزوجين، فى «الأفوكاتو»، يسكنان شقة ضيقة، وتسكن معهما شقيقة الزوجة المخطوبة، وثمة ابن على مشارف المراهقة، وبالتالى فإن فرص انفراد الزوج بزوجته قليلة، ينتهزها الزوجان كلما تأتت. أما مسألة «الرجال» عندنا، فإنهم، فى ظنى، مثل كل رجال الدنيا والله أعلم.

فاكهة.. الفكاهة

أحدثت هذه الأفلام صدى طيبا عند الجمهور، لكن الفيلم الذى فتن به الجميع، هو، بلا منازع «الآنسة حنفى» لفطين عبدالوهاب 1954، فبرغم مرور أكثر من نصف قرن على إبداعه، فإنه بدا فى عيون الألمان جديدا، نضرا، متقدما فى أفكاره، ناضجا فى رؤيته، موفقا فى معالجته، متضمنا طاقة كوميدية متدفقة تعتمد على المفارقات الاجتماعية، ونقد السلوك، والفارس، و«البارودى» أو المحاكاة الساخرة لأعمال عالمية. ومنذ المشاهد الأولى تبدأ ضحكات الجمهور: حنفى، بأداء إسماعيل ياسين، رجل مستبد رجعى الأفكار، يغلق الشباك ويدق المسامير فى حواجز خشبية منعا لزوجة والده وابنتها من فتحه لكنه يقع من فوق السلم، ينهض ويكشر عن أنيابه، على طريقة إسماعيل ياسين.

أجواء الفيلم، بالحارة الشعبية، ودكان جزارة المعلم كتكوت ــ عبدالفتاح القصرى وصبيه الضخم الجثة أبوسريع ــ رياض القصبجى المطارد من قبل مطلقته، وداد حمدى، التى تأتى له بصحبة عسكرى كى تحصل منه على النفقة، والمشاحنات المتوالية، سواء فى الحارة أو داخل شقة المعلم كتكوت، الحائر بين أوامر ونواهى ابنه حنفى، واحتجاجات زوجته، زينات صدقى، وابنتها ماجدة.. كلها، أحدثت ألفة مع المشاهدين.. وعقب زفاف ماجدة إلى إسماعيل ياسين يصاب الأخير بمغص حاد، ينقل إلى المستشفى وتجرى له جراحة تحوله إلى أنثى، يصبح اسمها «فيفى».. عندئذ، تتوالى المواقف الكوميدية التى أطلقت ضحكات ألمانية صاخبة، على غير العادة، ذلك أن طباع «فيفى» ــ حنفى سابقا، تتسم بالرعونة، وتبدو كما لو أنها متمردة، ضد النواهى والممنوعات.. تفتح الشباك عنوة، وتتسلل ليلا لتطل منه، مناجية أبوسريع، فى مشهد يحاكى، ساخرا، مشهد الشرفة الشهير، فى «روميو وجولييت» وليم شكسبير. والواضح أن الترجمة الموحية التى قام بها الشاب المصرى المشرف، أحمد فاروق، وزميلته ميريام، أوصلت المعانى والتلميحات إلى المتلقين الألمان.. فحين تعاتب «نواعم»، ماجدة، زميلتها فى الشقة «فيفى»، قائلة «فاكرة لما كنتى راجل»، يجن جنون «فيفى»، وتجيب مستنكرا «أنا كنت راجل يا كدابة»، وتندلع معركة شد شعر بينهما. هنا، تنطلق عاصفة من الضحك، لا توازيها إلا عودة «فيفى»، منتفخة البطن، بعد هربها من أبوسريع. لكن هذا الضحك يتضاءل إلى جانب الانتشاء بمشهد صرخات إسماعيل ياسين أثناء الولادة، حيث تلد عدة توائم.

وجوه الألمان اختلفت عقب الفيلم عما كانت عليه قبل العرض. اختفت الجدية التى تبلغ حد الصرامة، انفرجت الأسارير، وتألقت العيون بنوع فريد من الفرح الممتزج بالبشر.. وفى المناقشة، بعيدا عن إبداء الإعجاب بلا تحفظ، قالت واحدة: إنه فيلمنا، يعبر عنا على نحو ما، فهو ضد المجتمع الذكورى الذى لا يزال يهيمن على العالم.

نحن فى ألمانيا، وعلى العكس مما يروج له، لا يزال الإجحاف بحق المرأة مستمرا، وآية ذلك أن المرتب الذى تحصل عليه المرأة أقل من الذى يحصل عليه الرجل، برغم تماثل الوظيفة.. تشككت فى كلامها، لكن الآخرين والأخريات أكدوا لى صدقها.. فى جملة أخيرة: قدمت أفلامنا الكوميدية وجها مشرفا للثقافة المصرية، ومنحت، بسخاء، قدرا لا يستهان به من البهجة.. للألمان.

الشروق المصرية في

16/11/2011

 

قطعة أدبية ثمينة

كمال رمزي  

الصفحات المشرقة التى كتبتها باث دييجو، النابعة من عقل مرهف وقلب يقظ، والتى جمع فيها بين الحكمة والحماس، فسرت لى ذلك السحر المتوفر فى الفيلم المكسيكى «بداية ونهاية» الذى حققه أرتورو ريبيستين 1993، ونجح نجاحا هائلا فى كل مكان عرض فيه، وفاز بالجائزة الأولى فى مهرجان سان سباستيان بإسبانيا.. بعد سبع سنوات من صنع الفيلم، وفى إطار احتفال مهرجان أبوظبى بمئوية كاتبنا الكبير، تستحضر باث دييجو، التى أعدت «بداية ونهاية» للسينما تجربتها مع الرواية، ومع نجيب محفوظ، ومع مدينة القاهرة.

كيف ترى الكاتبة حكائها الذى هامت به. تجيب دييجو أنها تحس بأن الروائى يكتب لها شخصيا وبكلماتها «حين أفكر بمحفوظ، انما أفكر به بحميمية قلبية. حميمية الجار العجوز، العم، الشاهد على سيرتى، سيرتى وسيرة الكثير من الناس».. تعرفت كاتبة السيناريو على أدب محفوظ خلال قراءتها لـ«زقاق المدق»، وهى العمل الوحيد الذى كان متوفرا فى المكسيك. سافرت إلى أمريكا وعادت حاملة معها معظم رواياته. رتبتها بجوار مقعد القراءة، وأخذت فى التهامها، واحدة تلو  أخرى، حتى وصلت إلى «بداية ونهاية» حيث شعرت أن «عنوانها مريع»، وتواصل «كانت رواية طويلة، وطويلة جدا. تبدأ، مثل الأفلام السينمائية المكسيكية القديمة الجيدة، بموت الأب، ومن هذه اللحظة سوف تجرى وتتواقع حيول الإخوة الأربعة ــ ثلاثة إخوة وأخت ــ مع حظهم السيىء وقدرهم المحتوم». وتعترف «حين انتهيت من قراءتها خرجت خائفة ومنومة وهائمة.. خائفة لأننى منذ سنوات لم أبك وأنا اقرأ.. ومع ذلك ــ فى هذه المرة ــ تورمت عيناى من البكاء». فورا، اتخذت قرارا بتحويلها إلى سيناريو. وفى عدة فقرات طريفة دقيقة، تحكى عن قلقها من حقوق المؤلف، خاصة فى هذه الحالة، حيث أصبح محفوظ شعبيا، عالميا، عقب حصوله على جائزة نوبل.. لكن فوجئت أن عمها نجيب رجل محب وكريم وبسيط ومتواضع، وأنه ضعيف نحو المكسيك التى «يشعر بها بلدا شقيقا لبلده، موازيا له فيما وراء الأطلسى، كلاهما جافان، كلاهما يملكان أهرامات، ولأن محفوظ يحب السينما، وعمل فى مجالها طويلا، كان متسامحا، وبالتالى جاءت حقوقه بمبلغ ليس باهظا.

بصدق جميل، تقول باث دييجو، أنها لم تجد صعوبة فى مكسكة الرواية، فمدينة القاهرة، تتطابق فى الكثير من ملامحها مع المكسيك، حيث أزقة وسطهما، وأحيائهما الملهمة، وصخبهما المسائى، وحبهما للشرفات، بل تمتد لتشمل أنماط ساكنيها، خاصة عائلات الطبقة الوسطى، المهددة بالفقر.. وهنا، تتحدث عن نزعة التوحش  التى من الممكن أن تنتاب العائلة التى يداهمها الفقر فيأكل بعضها بعضا «وتصير العائلة أكلة لحوم بعض أفراخها. إنها البداية والنهاية».

لا تفاضل دييجو بين «بداية ونهاية» الذى أخرجه زوجها أرتوروريبستين، و«بداية ونهاية» الذى حققه صلاح أبوسيف «1960»، ولكنها، باسلوبها الأدبى الشفاف، تعبر عن تفهمها لتفاصيله، برغم أنه من دون ترجمة.. فحين تعيد حكاية محلية للعم محفوظ، فإن أغوارها تلامس البشر فى كل مكان، حتى لو حكيتها خلال وسيط غير الكتابة.. هكذا تحدثت ابنة نجيب.. المكسيكية.

الشروق المصرية في

09/11/2011

 

سينما.. تصنع الحياة

كمال رمزي  

أكاد أقول إنه الفيلم الوحيد، فى مهرجان أبوظبى، الذى لم يختلف عليه اثنان، ذلك أنه نجح بجدارة، فى لمس أوتار القلوب، ولفت الأنظار إلى مناطق، فى التاريخ والفن والنفوس البشرية، تستحق التأمل والإحياء، والبقاء، قبل أن تغمرها ظلال النسيان. والفيلم، فى ذات الوقت، يحقق مفهوما جديدا فى السينما التسجيلية، يتجاوز دورها البناء، فى التعبير عن قضايا المجتمع والناس، والوقوف إلى جانب المظلومين وهجاء الطغاة.. إنه، بفضل دأب وقوة وعزيمة مخرجته الشابة، صافيناز بوصبايا، المتمتعة بحس إنسانى رفيع، قدم ما يمكن أن تسميه، من دون مغالاة، مساهمة فى صنع الحياة.

عنوان الفيلم قد يكون غريبا، «الجوستو»، وهى كلمة تطلق على نوع من الموسيقى الشعبية الجزائرية، تمزج بين الموسيقى الأندلسية والبربرية والفلامنكو والمدائح النبوية، تصهرها جميعا فى بوتقة واحدة لتتبلور فى أنغام «الجوستو»، المعزوفة على آلات شرقية، بإيقاعاتها المعتمدة على الطبلة والرق، تصدح معها أصوات بشرية مترعة بمشاعر المحبة والبهجة والحنين والألم.. وصلت «الجوستو» إلى قمة ازدهارها فى الأربعينيات والخمسينيات، بفضل الفرقة التى كونها «الحاج محمد العنقاء» ثم، للعديد من العوامل، بدأ تدهور الفرقة، عقب وفاة «العنقاء»، وتشتت أفرادها، ومع العقود الأخيرة الدامية، فى الجزائر، أفلت موسيقى «الجوستو» نفسها.

صافيناز بوصبايا، المولودة فى الجزائر، درست فى سويسرا وإنجلترا، وتخصصت فى هندسة المعمار، حققت من قبل فيلمها التسجيلى «الأولاد المجهولون»، و«الجوستو» هو عملها الثانى، جاءتها فكرته إبان زيارتها لمسقط رأسها عام «2003»، فأثناء شراء مرآة قديمة، تعرفت إلى صاحب الدكان العجوز، الذى حدثها حديثا خلابا عن «الجوستو»، والفرقة ذات الصيت الواسع التى كان أحد أعضائها.. وبدأت صافيناز مشوارها الطويل، المضنى، الممتع، فى البحث عن بقايا أعضاء الفرقة الذين لم يغيّبهم الموت، ولكن فرّقتهم الأيام، بعضهم تاه داخل البلاد، وبعضهم ــ من اليهود ــ رفضوا الذهاب لإسرائيل وأقاموا فى فرنسا.

يعتمد الفيلم فى بنائه على مرتكزات راسخة: مادة أرشيفية ثرية، صور فوتوغرافية لأعضاء الفرقة أيام الشباب. مشاهد لمواجهات دامية بين الثوار وقوات الاحتلال، لقطات لحى القصبة العتيد، وتأتى هذه الشذرات مع الذكريات الحميمة لهؤلاء الذين أحبتهم المخرجة، فبدت وجوههم، بما تحمله من آثار الزمن، ساحرة على الشاشة. هنا يمتزج الخاص بالعام، والماضى بالحاضر.. لكن الفيلم يتجه بثقة وثبات، نحو المستقبل، فالتدريبات لا تتوقف طوال سبع سنوات، وها هى السفينة تحمل قدامى العازفين والمغنيين من الجزائر إلى فرنسا كى ينضم لهم زملاء الأيام الخوالى. تتواصل البروفات، وتدب روح الشباب فيمن تجاوزوا السبعين، وتتلألأ العيون المنهكة بالأمل والإشراق، فآفاق المستقبل مفتوحة.. وأخيرا، تأتى لحظة الميلاد الجديد: الفرقة كاملة، مكتملة تقدم «الجوستو» على أكبر مسارح مارسيليا وباريس. ومع تحية حارة من جمهور مفتون بما شاهده، يحتضن أعضاء الفريق، ابنتهم، صافيناز، التى منحتهم.. قبلة الحياة.

الشروق المصرية في

02/11/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)