حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نتشويّة تشارلي شابلن

بقلم: محمد الفقي

إن الفشل الذي يقع فيه تشارلي مصدره الدائم هو تخليه عن حريته ومحاولته تقليد إنسان -الحداثة بتبني قيمه.

هناك فكرة لا تبرح العودة في كتابات فريدريش نيتشه (1844-1900) منذ أعماله الأولى في مشروعه الفلسفيّ الكبير للنقد الكليّ ونقد القيم، فنراه يطرح في "تأملات في غير زمانها حول التاريخ" 1874، قضيّة إفراط إنسان القرن التاسع عشر - أي إنسان بدايات الحداثة المتأخرة - في الوعي التاريخيّ، على النحو الذي يحاصره ويمنعه من إنتاج تجديد فكريّ وتأمليّ حقيقيّين، فوراثة القيم - بالمعنى التاريخيّ - وحملها على الكتفين يمنع الإنسان من امتلاك أسلوبه الخاص به، وفنه الخاص به، وعمارته الخاصة به، فيستلهم فنونه وعمارته وأفكاره جميعاً من الماضي، الذي تحول بالنسبة له إلى مخزن مفرط الاتساع للملابس المسرحيّة ينتقي منه في كل مرة أقنعة سابقة التفصيل، باحثاً عن ما يعتقد أنه الجدّة والقيمة في الأصول؛ تلك الأصول التي لا تكتسب - في الحقيقة - المعنى إلا من خلال الامتداد التالي لها في الحاضر، وحالما يشعر إنسان ـ الحداثة بأن هذه الأقنعة قد هرمت، يتجاوزها باستبدالها بغيرها، فتحل محلها أقنعة أخرى مستلهَمَة من نفس المخزن، وتظل هذه الحركة الخطيّة التي لا تنضب مستمرة، ويتوهم إنسان ـ الحداثة أن ذلك هو عين التقدم والتطور، ويصف نيتشه عملية التقدم الوهميّ هذه بـ «المرض التاريخيّ».

تظل فكرة «المرض التاريخيّ» تتردد في أعمال نيتشه المختلفة: (تأملات في غير زمانها، 1874)، (إنسانيّ.. إنسانيّ جداً، 1878)، (المسافر وظله، 1879)، (الفجر، 1881)، (العرفان البهيج ، 1882)، (هكذا تكلم زرادشت، 1885)، (ما وراء الخير والشر، 1886)، (أصل الأخلاق، 1887)، (هو ذا الإنسان، 1888)، يطرحها باصطلاحات متنوعة، لكنها جميعاً أصداءٌ لنفس الصرخة؛ إدانة الإنسان الحامل للقيم والانتصار للإنسان الخالق للقيم.

يقول نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت": «ها قد أوضحت لكم تحولات الروح الثلاثة، كيف استحالت الروح جملاً، والجمل أسداً، والأسد أخيراً إلى طفل»، وفي كتابه "نيتشه" يقول چيل دولوز مُفسِّراً: «الجمل هو الحيوان الذي يحمل عبء القيم السائدة، أثقال التربية، والأخلاق والثقافة، يحملها في الصحراء، ويتحول هناك إلى أسد، يحطم الأسد التماثيل، يدوس الأثقال، يتولى نقد كل القيم السائدة، وأخيراً يصبح الأسد طفلاً، أي لاعباً، أي بداية جديدة، خالقاً لقيم جديدة ومبادئ جديدة».

إن طفل زرادشت يمتلك قدرة الإغريق القدامى على «توحيد الفكر والحياة» في وحدة واحدة، وكأنه ديونيزوس (باخوس) الذي احتفى به نيتشه كثيراً في كتاباته، كما احتفى دائماً بالفكر والفلسفة الإغريقيّة ما قبل سقراط، حين كانت أنماط الحياة توحي بطرق تفكير، وتخلق أنماط الفكر طرقاً للحياة، في وحدة ما قبل سقراطيّة، وحدة تفضح التطلعات الزائفة للمعرفة، تفضح الأخلاق المزعومة، وتطلق القوى الفاعلة للحياة، فتفتح وتبدع وتخلق قيماً جديدة، ليست قيم رد الفعل، ولا قيم الضعفاء ولا العبيد الذين يسعون للقوة وتغيير موقع السيد - العبد، ولكنهم، حين ينجحون في تغيير اتجاه العلاقة، يحملون معهم قيم العبيد إلى مواقعهم السياديّة الجديدة، فحينما قال نيتشه عبارته الشهيرة: «ينبغي الدفاع دوماً عن الأقوياء في وجه الضعفاء»، كان في ذهنه الانتصار لقيم الإنسان الخالق على قيم الإنسان الحامل، قيم الإبداع على قيم الإذعان، قيم الرقص واللعب والخفة والضحك (مميزات ديونيزوس، والطفل أيضاً) على قيم الإدانة والحكم على الحياة باسم القيم العليا، قيم إثبات الحياة لا نفيها.

يحتاج إثبات العلاقة بين أفكار نيتشه بخصوص «المرض التاريخيّ» والاستراتيجيّة العامة المستمرة والمُحكَمة التي تتحرك بها شخصيّة المُتسكِّع (تشارلي) التي ابتكرها تشارلز تشابلن (1889-1977) إلى بحث مستفيض يحفر في جوانب عدّة من العلاقة بينهما، لكن ما سأحاول فعله هنا هو ملاحظة بعض السمات العامة المتكررة في جانب واحد، أو أكثر قليلاً، لما أطمح أن أطلق عليه «نتشويّة تشارلي»، وهذا الجانب هو ما يمكن تسميته: «استعمال تشارلي لأدوات المائدة كتعبير عن فكرة "المرض التاريخي"»، سواء الاستعمال الإيجابيّ أو السلبيّ؛ قبولاً أو رفضاً، يُصاب بالمرض التاريخيّ فيصبح في أسوأ حالاته، ويرفض الاستسلام له فيصبح تشارلي في أفضل حالاته التي نحبه فيها.

في كل الأفلام التي ظهر بها المُتسكِّع تشارلي، أي منذ فيلم "سباق سيارات الأطفال في ڤينيسيا" 1914، وحتى فيلم "العصر الحديث" 1936، يمكن القول إن تشارلي استمر في رفض استخدام أدوات المائدة كما نستعملها نحن أبناء المجتمع الذين نخضع لقواعده ونلتزم بما تفرضه علينا من آداب وقيم وأعراف، لم يرفضها كأدوات في حد ذاتها، بل رفض وظيفتها المستقرة متطلعاً دائماً إلى ابتداع وظائف جديدة لها؛ فهو مثلاً يستخدم قميصه كمفرش للمائدة وكفوطة للعنق وكمنشفة للفم والوجه، ويستعمل الشاكوش لكسر البيض (المتشردة، 1916)، أما فوطة العنق نفسها فيستخدمها لتلميع أصابع سيدة برجوازيّة في المطعم، ويستعمل الفرن الساخن في كي بدلته (حلبة التزلج، 1916)، والسكين لغرف حبات الفاصوليا وأكلها بعد أن لا تسعف جوعه فكرته الأولى بالتقاط حبات الفاصوليا حبّة حبّة بالشوكة، ويستعمل ملاحات الطعام كمنظار مُقرِّب (المهاجر، 1917)، وإبريق القهوة كرضَّاعة للطفل، وعلبة سردين قديمة كعلبة سجائر (الطفل، 1921)، ويخرم الخبز بمثقاب للخشب ثم يحشو فيه إصبع الفرانكفورتر ويُحكم حشره بدقِّه بالشاكوكش، ويرشف من كوب الماء رشفات قصيرة متلذذاً كأنه يتذوق نبيذاً مُعتّقاً (يوم استلام الراتب، 1922)، ويصمم واحدة من أروع رقصات البانتومايم بشوكتين مغروستين في قطعتي خبز (حُمى الذهب، 1925)، ويستعمل بضع قطرات من النبيذ كعطر يضعه خلف أذنيه، وقارورة مياه الصودا لإطفاء فستان سيدة مشتعل (أضواء المدينة، 1931) ... إلخ.

إن أدوات المائدة لا تعني لتشارلي نفس المعاني التي تعنيها لنا، ولا هو يستعملها لنفس الأغراض التي نستعملها نحن بها، لأن احتياجاته غير احتياجاتنا، وأكثر المقاطع التي يبدو لنا فيها تشارلي متوافقاً مع نفسه، ومع الحياة، هي تلك التي يُفعِّل فيها فلسفته هذه؛ فيُحوِّل مثلاً قطعتي الخبز إلى قدميّ راقصة ماهرة ويلهو بالرقصة في إبداع حقيقيّ مُدهش (حُمى الذهب)، إن استعمالاته لأدوات المائدة هي استعمالات ناقدة ومتجاوزة للتقليديّ المتعارف عليه في التراث الحداثيّ لعصر التنوير الأوروبيّ، وكأنه يُعيد اكتشاف أسس الحضارة ويمنحها تنويراً جديداً، وكأنه يقول إن الحضارة الغربيّة ليست كونيّة وإنما هي تدعي الكونيّة، وأنها مجرد واحدة من الثقافات المتعددة ويقينها بشأن الطبيعة الإنسانيّة ليس إلا أسطورة متعاليّة من أساطيرها، وهل من رمز أقوى من أدوات المائدة الغربيّة، وآدابها، وأعرافها، وسلوكياتها كمعبر عن التراث الحداثيّ الأوروبيّ بالنسبة لتشارلي كي يعمل على تجاوزه، وهدمه، وإبداعه في شكل جديد منفصل عن جذوره؟

من المهم أيضاً أن نلاحظ أن تشارلي في استخداماته لأدوات المائدة على هذا النحو الجديد والخَلَّاق، كان يفعل ذلك دائماً بتحضر عالٍ - إلى الدرجة التي يمكن وصفه فيها بالتعالي - ولم يعمد مطلقاً إلى انتهاج أساليب مقززة أو مُحرِجة مهما كانت مغريات التصعيد الكوميديّ، أبداً.

لكن هناك أوقاتاً – قليلة، لحسن حظنا - يُصاب فيها تشارلي بـ "المرض التاريخيّ"؛ يحاول فيها أن يتوافق مع المجتمع بالقيام بما يقوم به غيره وفقاً لما هو موروث ومتعارف عليه من قيم، وفي كل مرة يفعل فيها ذلك يلحقه الفشل الذريع، ويسفر الأمر عن فضيحة في النهاية؛ فهو مثلاً يُغرق أكمام سترته في طبق حساء الفاصوليا وهو يأكل، ويلسع نفسه بالقهوة الساخنة (المهاجر)، ويسكب الحساء على سرواله، ويفشل في استعمال الشوكة والسكين حسب أعرافنا الاجتماعيّة، والفضيحة الكبرى تقع عندما يُعهد إليه بالقيام بمهمة الجرسون في مطعم (حلبة التزحلق).

ولنلاحظ أن ذلك يقع دائماً عندما يكون تشارلي في وسط جماعة، أما في فرديّته فهو ناجح على الدوام (لاحظ توافق ذلك مع بلوغ زرادشت - نيتشه للسعادة في العزلة عندما يبتعد عن الناس)، يتكرر ذلك باستمرار في كل أفلام تشارلي، وما مشهد حضور الحفلة الليليّة مع صديقه المليونير ذو الميول الانتحاريّة (أضواء المدينة) إلا مثال واحد على ذلك؛ حيث يبدأ المشهد بدخول تشارلي إلى المطعم الفاخر مرتدياً بدلة توكسيدو برفقة صديقه المليونير، وعبثاً يحاول تشارلي أن يجاريه في استخدامه لأدوات المائدة أو في التصرفات المجتمعيّة اللائقة دون جدوى، بل إن مجرد وجود تشارلي وسط جماعة برجوازيّة في الحفلة التي أُقيمت فيما بعد في منزل المليونير تجعله يرتبك ولا يُحسن التصرف للدرجة التي يبلع فيها الصافرة التي كان يُفترض أن يلهو بها، وفي مثال آخر أقدم (فيلم المهاجر) يُصاب بالفواق لمجرد جلوسه بجوار راكب مصاب بالفواق على الباخرة، رغم أنه الوحيد بين الركاب الذي نجح من قبل - في عزلته عندما كان وحيداً - في الحفاظ على توازنه ولم يُصبه دوّار البحر حين أصيب به باقي ركاب السفينة جميعاً.

يمكن إيجاد أمثلة عديدة على الخيبات التي يلاقيها تشارلي وسط الجماعة، فمثلاً في فيلم (حياة كلب، 1918) وحينما يتواجد في طابور طويل في مكتب تشغيل العاطلين يفشل في اتباع قواعد الوقوف في الطوابير فيفقد دوره مرة إثر الأخرى ولا يحصل في النهاية على عمل، ويفقد سلاسة حركته ويقع على الأرض وسط عدد كبير من زبائن المرقص عندما يراقص المغنية التي تحاول استغلاله بدفعه لشراء شراب لها، ويصاب بعدوى البكاء عندما يبكي الجميع على غناء المغنية الجديدة رغم أنه في الحقيقة لا يشعر بما يشعرون به من حزن.

ويمكن تطوير هذه الفكرة بملاحظة مقاطع أخرى يلجأ فيها تشارلي إلى استخدام الأدوات والسلع الحديثة عموماً، من قبيل مقطع حركته خلف سير ناقل الحركة بالمصنع (فيلم العصر الحديث، 1936)، حيث يبدو ارتكابه للأخطاء المتتاليّة هو نتيجة لقيامه بالحركة الميكانيكيّة التي يتطلبها الإنتاج الكبير في الاقتصاد الحديث، تلك الحركة (حركة تثبيت الصواميل بمفكات في يديه) التي تستمر يداه في تكرارها، حتى في أوقات الراحة بعد أن تتوقف الآلات عن العمل وتزول علّة القيام بالحركة؛ إنه جمل زرادشت حامل عبء القيم وأثقال العادات التي تنغص حياته، وهذه هي الأوقات التي نرى فيها تشارلي بعيداً عن حالته العفويّة الخالقة المُبدعة الراقصة، وهي الأوقات الوحيدة التي يضحك فيها المشاهدون (على) تشارلي لا (مع) تشارلي.

إن الفشل الذي يقع فيه تشارلي مصدره الدائم هو تخليه عن حريته ومحاولته تقليد إنسان -الحداثة بتبني قيمه، وغالباً ما يكون ذلك نتيجة رغبة طارئة في أن يصبح مثله مثل الأشخاص "العاديين" في مجتمعه؛ بسبب حالة حب أو نجاح اجتماعيّ مفاجئ، لكنه يفشل كل مرة ويصاب بالخيبة (مثلاً: فشله في الحفاظ على توازنه في حفلة التزلج على الجليد عندما تقمص شخصيّة برجوازيّة لينال إعجاب حبيبته في فيلم "حلبة التزلج"، أو سوء الحظ الذي يلازمه عندما يرقص مع حبيبته في فيلم "حُمىّ الذهب"، فيسقط سرواله أولاً، ويحاول ربطه بحبل يجده على مائدة، فيتضح أن الحبل هو طوق طويل لكلب كبير نائم تحت المنضدة، ويزيد الطين بلة عندما تدخل قطة إلى حلبة الرقص فيلاحقها الكلب المربوط معه تشارلي).

أما النجاحات التي يصيبها تشارلي فأساسها ممارسته لحريته، وابتداعه لقيم جديدة في استعمالاته لما هو متاح من أدوات على نحو مبتكر لا يخطر على بالنا (مثلاً: الرقصة التي يبتكرها بقطعتيّ خبز مغروس فيهما شوكتين في فيلم "حُمىّ الذهب"، وقيامه وحده برص قوالب الطوب التي يناولها له عاملان بأقصى سرعتهما مستخدماً في ذلك كلتا يديه، وقدميه، وكعبيّ قدميه، وركبتيه، وباطن ركبتيه، وعنقه، ومؤخرته، وظهره بطريقة بهلوانيّة إيقاعيّة راقصة مُبتَكَرة في فيلم "يوم استلام الراتب").

إن تشارلي في أسوأ حالاته هو تشارلي الذي يحاول تقليد الإنسان الحديث؛ فيحمل مثل جمل زرادشت عبء القيم السائدة؛ أثقال التربية، والأخلاق، والثقافة، والأصول، والتاريخ، ليصبح موقفه هو موقف "السلعة" ويمارس "أخلاق المُمتَلَكات"، يمارس أخلاق وقيم العبيد، قيم رد الفعل والاستسلام والإذعان، حتى وإن ارتدى بدلة توكسيدو فاخرة وتناول عشاءه في أرقى المطاعم أو ارتاد أصخب المراقص.

أما تشارلي في أفضل حالاته فهو تشارلي عندما يصبح طفل زرادشت؛ عندما يصبح لاعباً مبدعاً لقيم جديدة في استعمالاته للأدوات والسلع المحيطة؛ وكأنه يُحللها كيميائيّاً ويردها لعناصرها التي تكونت منها، عندما يُطِّوع الأدوات حسب حاجته لا حاجته حسب الأدوات، عندما يصبح نمط تفكيره وأسلوب حياته متحدين في وحدة واحدة، عندما يصبح راقصاً، لاعباً، خفيفاً، ضاحكاً (في نهاية الجزء الأول من فيلم "العصر الحديث"، يتوقف تشارلي عن القيام بالحركة الميكانيكيّة المستمرة التي يستلزمها عمله في المصنع، ويشرع في الرقص داخل وخارج المصنع على النحو الذي يظن فيه الجميع بأنه قد أصيب بلوثة فيستدعون له الإسعاف).

إننا نحب تشارلي عندما يتمسك بالحياة ويواصل السير، عندما لا يستسلم للانهزام ولا الإحباط، عندما لا يُطلق أحكاماً عُليا على الحياة نافياً إياها، عندما يركل الماضي ويواصل السير بحركته الشهيرة في نهاية أفلامه عندما تهزمه الحياة، ككل الأقوياء الذين تهزمهم الحياة، فالحياة كما قال نيتشه: "تحابي الضعفاء - أي من يتبنون قيم العبيد؛ قيم الإذعان - على حساب الأقوياء الأحرار أصحاب قيم الخلق والإبداع والتجديد الحقيقيّ"، ومن المهم أن نلاحظ أن تشارلي لم يقم – مطلقاً - بحركة الركل الشهيرة تلك إلا من وراءٍ دائماً، لم يقم بالركل أبداً من أمامٍ، لأنه كان يركل القيم، والأثقال، والخيبات الماضويّة ليتابع طريقه، طريق الحريّة الذي لا يسلكه إلا الأحرار الأقوياء، من حققوا استقلالهم عن الأصول.

"معرفة الأصل تزيد من تفاهة الأصل"؛ هكذا يقول نيتشه في (الفجر)، والأحرار الأقوياء الممارسون لما يُطلق عليه نيتشه «فلسفة الصباح»؛ لا يتجهون نحو "الأصول" أو "الأسس" بل نحو ما هو قريب من الواقع المباشر بكل ثرائه؛ إنه فكر القُرب لدى نيتشه؛ فكر الانتباه والخلق، فكر الإثبات لا النفي، فكر التجديد لا الحمل، فكر السماح بالخطأ في حياة إيجابيّة تعتبر حتى أخطاءنا ذاتها مصدراً للثراء الذي يُكوِّننا والذي يعطي أهميّة ولوناً للعالم، فكر طفل زرادشت اللاعب الراقص الذي يبحث فيه، وحوله، عن ألوان، وجماليّات، وألغاز، وثروات، ومعانٍ لا يجرؤ إنسان الحضارة الحديثة على الحلم بها.

كان نيتشه يحب استخدام استعارات ذات طابع فيزيولوچيّ، وفي معرض حديثه عن «فلسفة الصباح» في نهاية كتابه "إنسانيّ.. إنسانيّ جداً"، قال: "إن الإنسان القادر على مواجهة فلسفة الصباح هو إنسان ذو مزاج طيّب، لا يحتفظ في نفسه بتلك النّبرة المزمجرة وهذه الفظاظة اللتين تمثلان سمة بشعة لصيقة بالنّاس الذين شاخوا في قيودهم"، وكأنه بهذا يصف المُتسكِّع تشارلي وصفاً شديد الدقة والتوفيق.

محمد الفقي ـ كاتب وسيناريست من مصر

mohamed_elfeki@hotmail.com

ميدل إيست أنلاين في

26/10/2011

 

 

'التحرير 2011' ..

كأن العنوان يوجه الفيلم ويزور الثورة

بقلم: سعد القرش  

كان الشرس لا يزال شرسا يرفض التصوير أو الكلام في الفيلم، ولكن أيتن أمين عثرت على ضباط صغار وكبار، فتكلموا واستبدوا بالمساحة الزمنية.

من عنوانه، يسفر الفيلم التسجيلي "التحرير 2011 ـ الطيب والشرس والسياسي" عن موضوعه. وإذا كان الفيلم يأتي والثورة تتفاعل، ودماء الشهداء طازجة، والمتهمون في مقاعدهم، والفضائيات قد غطت بالتصوير الحي سطح الثورة وظاهرها، فإن عملا سينمائيا وثائقيا يحتاج إلى مجهود آخر للنفاذ تحت سطح الثورة، تحت جلد الضحية والجلاد معا، بحثا في مياه جوفية ثورية عن عوامل القوة التي تحرك الملايين، ومنهم مخرجو هذا الفيلم تامر عزت وآيتن أمين وعمرو سلامة.

في الجزء الأول (الطيب) تخلى تامر عزت عن روح سخرية طبعت فيلمه "مكان اسمه الوطن"، فالأمر هنا يتعلق بثورة وشهداء وجرحى، ولا مكان ولا وقت للسخرية، واستطاع أن يقدم بانوراما إبداع ثوري تجلى في مواجهة غير متكافئة بين جمهور أعزل وآلة الشرطة المتوحشة، ثم تواصل الإبداع مع تحديات أيام الثورة، من خلال عدة مراحل مر بها ميدان التحرير، إلى أن أصبح دولة، إذ شهدت الأيام الأولى مقاومة للموت، من خلال مستشفيات ميدانية أجريت فيها جراحات من دون تخدير، وعولج فيها جرحى رفضوا الذهاب إلى قصر العيني أو غيره من المستشفيات، لأنهم أدركوا أن مصر لم يتحرر منها سوى ميدان التحرير، والخروج منه مخاطرة، حتى إن طبيبة تقول إن سيارات الإسعاف، في الأيام الأولى، كانت تتوجه بالجرحى إلى أمن الدولة، وبدلا من العلاج يتم الإجهاز عليهم، على طريقة مجرمي الأفلام المصرية «ريحوهم!».

في الجزء الأول اتسقت القضية مع الرؤية، وإن كان لمصطلح (الطيب) في السنوات الأخيرة دلالة غير مستحبة، ربما تعني السذاجة أو الاستعداد للتفريط في الحقوق.

أما الجزء الثاني (الشرس) فيبدو أنه أخذ آيتن أمين إلى وجهة أخرى. كان (الشرس) لا يزال شرسا يرفض التصوير أو الكلام في الفيلم، ولكنها عثرت على ضباط صغار وكبار، فتكلموا واستبدوا بالمساحة الزمنية، ولم تحاول المخرجة أن تستعين بصوت آخر، من الضباط السابقين مثلا، حتى إن المشاهد ربما يخرج من الفيلم متعاطفا من (الشرس) الضحية، ولأن «مندسين وبلطجية» كانوا موجودين منذ اليوم الأول بهدف إسقاط الدولة لا النظام الغاشم!

يسخر ملازم أول من فكرة صلاة الناس في جمعة الغضب فوق كوبري قصر النيل أو بالقرب منه. ومن الجائز في مثل هذه الظروف ألا يكون اتجاه القبلة مضبوطا باتجاه البيت الحرام، هناك ميل قليل إلى اليمين، ولكن.. «أينما تكونوا فثم وجه الله». و«سيادته» يسأل المخرجة ويسألنا: هل أصبح ميدان التحرير هو القبلة؟!

أما مقدم الشرطة، لأنه مقدم، فقد قدم بكائية على وطن تعرض إلى مؤامرة منذ 25 يناير، وكانت الشرطة معنية بمطاردة مندسين وبلطجية بدليل حرق أقسام الشرطة في وقت واحد، وتساءل: من حدد لهم ساعة الصفر للهجوم؟

تمهلت الكاميرا في تصوير جوانب من قسم شرطة السيدة زينب، لكي نتعاطف مع الشرطة المساكين المغلوبين على أمرهم، وفي المقابل لم تعنى المخرجة بتوثيق انتهاكات، مثل الاعتداء على سائق السيارة الأجرة عماد الكبير، وهي قضية شهيرة أدين فيها الضابط إسلام نبيه بالسجن، ثم عاد إلى عمله!

في هذا الجزء اختفى الضحايا، ولو أتيح لأحدهم أن يجيب عن أسئلة الضابط لقال إن المساجد والكنائس والمكتبات، ومقاهي وبارات وسط البلد لم يعتد عليها أحد، وهناك واقعة غامضة في اغتيال لواء الشرطة الشهيد محمد البطران. لم ينشغل الفيلم بأسباب انسحاب (الشرس) وترك البلاد لبلطجية اصطفاهم وسمنهم ليوم الفصل لكنهم خذلوه. وقد شاهدتهم بميدان عبدالمنعم رياض، في جمعة الغضب، يرتدون ملابس مدنية، وقد سلحوا بسلاسل وخراطيم وعصي، زودوا بكل أدوات البطش، باستثناء البنادق والمسدسات التي يقتصر استخدامها على قتلة رسميين.

ولكن الضابط يؤكد في الفيلم أن الشرطة لم تكن مسلحة بالرصاص الحي، هكذا جاءتهم تعليمات الوزير الرحيم، ولم تلجأ إلى العنف إلا عصر جمعة الغضب بعد الهجوم على الأقسام، فمن قتل الشهداء إذن؟

كان صعبا على المخرجة أن تجد ضابطا يوافق على الكلام، ولكن بعضهم تكلم، ولم يكن مستحيلا أن تأتي ببلطجي أو ضابط هارب من حماية الشعب في جمعة الغضب، وتعمد إحداث فوضى. ولكن الضابط في الفيلم يحاول استجداء العطف على الشرطة، بالتحسر على زمن كان الشعب يفر فيه من الشرطة، قبل أن تنقلب الآية بعد الثورة، ويصبح الضباط يخافون الناس! ولأنه لا يعرف الشعب المصري استسهل هذا الكلام الذي ترد عليه هذه الواقعة.

صباح يوم السبت 29 يناير، كنت أسير في جنازة شهيد عرفت أنه مصطفى سمير الصاوي، من حي الدقي إلى ميدان التحرير، وقد خلا ميدان الجلاء من مدرعات الشرطة وجيوشها التي آذت أمس الجمعة طه حسين المطل على النيل، وفي الميدان وقف ضابطان كبيران، عميد ولواء شرطة، بالزي الرسمي ينظمان المرور، يساعدهما شباب متطوعون، والناس تحيي شجاعتهما وإحساسهما بالمسؤولية، وثقتهما بأنهما شرفاء، إذ بادرا إلى الشارع منذ الصباح، على مسؤوليتهما الشخصية، ومن دون تعليمات من جهاز الشرطة الذي اختفى منذ مساء أمس (جمعة الغضب).

بعد عشرات السنين لن تبقى كثير من الوثائق والمواد التليفزيونية، وستظل الأفلام الوثائقية لها سحر وقدرة على تجاوز المرحلة التي صنعت فيها، وتخاطب أجيالا أخرى، ومنها هذا الفيلم الذي مال في بعض أجزائه ومشاهده إلى تزوير الثورة، بحسن نية، وكأن الثورة ـ التي يحاول من رفضوا المشاركة فيها قبل أن يتبين لهم خيطها الأبيض من الأسود ـ تتعرض سينمائيا للسرقة، كما تتعرض للتشويه في الجزء الثالث من هذا الفيلم.

في سياق مثل ثورة 25 يناير، ربما تكون السخرية غير مناسبة، فالضحايا/الجرحى مازالوا قادرين على الشهادة، وإن فقد بعضهم القدرة على مشاهدة السينما بسبب طلق ناري أفقدهم البصر، بسبب جهل (السياسي) وهذا عنوان الجزء الثالث والأخير الذي أخرجه عمرو سلامة، وحشد فيه عددا لا بأس به من الفلول، حاول بعضهم إبراء الذمة، معتمدا على أننا الشعب (الطيب)، كما في الجزء الأول من الفيلم. فقد قال الدكتور سامي عبدالعزيز، أول عميد يثور طلبة كلية الإعلام لإخراجه منها، إن الأمن كان متوحشا، وإنه سمع بأذنه في الفترة الأخيرة لمبارك، أن الأيام القادمة ستشهد إغلاقا لمنافذ إعلامية وتضييقا على الإعلام. ولم يقل العميد المخلوع كيف كانت المناصب تذهب إلى مستحقيها أو غير مستحقيها، ولا كيف صمت عن هذه الشهادة، على الأقل في الأيام الأخيرة للثورة، ولا أين كان يوم 25 يناير، هو أو محمد الصاوي صاحب ساقية الصاوي الذي اكتسب، في الفيلم، جرأة متأخرة، وكأننا نسينا أنه جلس في موضع التلميذ، في أغسطس 2010، أمام جمال مبارك لمناقشة مستقبل الثقافة في مصر، بحضور مثقفين منهم جابر عصفور، وفوزي فهمي، والسيد يسين.

في هذا الجزء استأسد الدكتور حسام بدراوي على مبارك، قائلا إنه نصحه بالتنحي وحذره من مصير شاوشيسكو، وهو كلام قاله في كثير من الفضائيات، وبخاصة فضائيات الفلول، بعد أن صرح به لصلاح منتصر. كان بدراوي رئيسا للجنة التعليم والبحث العلمي في أمانة السياسات التي ترأسها جمال مبارك، ثم تولى في الخامس من فبراير أمانة الحزب الوطني، ولم يقل لماذا لم يذهب إلى ميدان التحرير ليعتذر للثوار والشعب، ويعترف بعجزه عن فعل شيء، ولهذا هو معنا.

كما استأسد الدكتور مصطفى الفقي في الفيلم. سخر من المادة 76 قائلا: لو قال لك واحد إن في جيبه حاجتين تستطيع أن تصنع منهما عجة فماذا يكونان؟ أي أن تلك المادة كانت ستأتي بجمال مبارك وحده لا شريك له. ثم استأسد مرة أخرى قائلا بالحرف الواحد إن مبارك "لم يقرأ كتابا.. لم يرب سياسيا".

كلمة حق يقولها الفقي في الوقت الخطأ، فهو أحد تروس النظام، ولم يكن مع ثورة لا يريدها، وهو القائل إن أمانة السياسات "تسهم إلى درجة كبيرة جدا (في وضع الإطار العام للدولة) وتسهم بالأفكار والدراسات شديدة التميز". ("المصري اليوم" 27/3/2008). لم يتردد في الإشادة بدور أمانة السياسات، وتجنب الإشارة إلى أن نسختها الكارثية في العراق تولاها صدام حسين حين كان نائبا للرئيس طامحا للرئاسة، ثم ابنه عدي الصاعد بقوة، تحت جناح أبيه. وبعد يومين اثنين. والفقي هو القائل أيضا: "عندما أحضر اجتماع أمانة السياسات أرى حولي معظم العقول المفكرة من المثقفين والعلماء وأساتذة الجامعات في مصر". بالورقة والقلم حسبها الفقي، ثم فكر وقدر، ثم نظر وفتح جناحيه، إلى الوريث وإلى أبيه معا، وقال في برنامج تلفزيوني نشر ملخصه في ("المصري اليوم" 31/3/ 2008): "الرئيس مبارك وأسرته يعلمون أنني عشت بينهم وولائي لهم".

خلا هذا الجزء من وجوه أخرى مثل عبدالحليم قنديل أو أحمد فؤاد نجم، وفي قراءة العمل الفني يجب أن نناقش ما هو موجود، ما اختاره الفنان، لا ما نتمنى أن نصنعه نحن.

يبدو أن عنوان الفيلم كان قيدا، وإلا هل نصدق أن مبارك كان سياسيا؟

سعد القرش ـ روائي مصري

saadelqersh@hotmail.com

ميدل إيست أنلاين في

27/10/2011

 

'بين السماء والأرض' ..

إعادة اكتشاف صلاح أبوسيف ونجيب محفوظ

بقلم: سعد القرش  

مثل 'باب الحديد' و'بين السماء والأرض' أعمال قادرة على تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادا إلى سحر السينما، لو تحقق لها الصدق الفني.

رجل له عيون صقر، يقف في مدخل عمارة بوسط القاهرة، ويلقي نظرة قاتلة مصحوبة بتعليمات صارمة على أحد مساعديه: "لو باظت عملية النهار ده رحنا في داهية". الرجل هو محمود المليجي، وكان يخفي وجهه بصحيفة "الجمهورية" الصادرة بمانشيت يقول: "كيف ترشح نفسك؟".

مشهد عابر، وليس عابرا، في بداية فيلم "بين السماء والأرض"، كأنه صنع من أجل انتخابات غامضة، يتقدم إليها، بلا وازع من وطنية، من يجب أن يختفوا من المشهد العام حتى ننسى، ولكنهم يدافعون عن رقابهم ومستقبلهم، لأن "العملية لو باظت.. راحوا في داهية".

علق صديق عربي قائلا: "هل يتحدث الفيلم عن كواليس ليلة موقعة الجمل؟".

في مشهد تال بعد أن يعلق 14 شخصا في مصعد "بين السماء والأرض"، يقول أحدهم إنه صاعد مع زوجته لعيادة "الدكتور مبارك"، فهي على وشك الولادة، ويطمئنه سعيد أبوبكر ساخرا: "دكتور كويس قوي"، وقبل أن يسعد الرجل بالبشرى يفاجئه أبوبكر بإكمال جملته التي تدعو للتشاؤم: "هو اللي ولد بنت عمتي الله يرحمها". وظل المصعد معلقا نحو 90 دقيقة، وقد توحدت فيه مصائر ممثلين للطبقة الوسطى، ولص كبير لا يتورع عن القتل، ولص سريح، وهارب من مستشفى الأمراض العقلية، وأرستقراطي متكبر، وصاحب عين جائعة، وفتاة صاعدة إلى السطح لتنتحر مع حبيبها، وخائن صديقه، ونجمة السينما. والجميل عبدالغني النجدي. والمصعد المعطل ينتظر المهندس، ولكن اليوم عطلة، ويذهب البواب الصغير ليبحث عنه في ستاد الترسانة، فتخطفه المباراة من المأساة، ويجلس وسط المصفقين لإحراز أهداف في المعلب فقط، وحين يغيب القادر على الإنقاذ، يصبح المواطنون ضحايا تجربة عشوائية يقوم بها بواب جاهل يدفع المصعد للصعود والهبوط بجنون. ومن الإنقاذ ما قتل!

قصة كاشفة لنجيب محفوظ، واستطاع السيد بدير أن يصوغها سبيكة حوارية مدهشة، والتقطها صلاح أبو سيف لتكون فيلما من الكلاسيكيات، ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية. خلت القاعة التي عرض فيها الفيلم بمهرجان أبوظبي السينمائي من مشاهدين مصريين، وازدحمت بمشاهدين عرب وأجانب أبدوا دهشتهم من الفيلم الذي صنع قبل 52 عاما! وكان الفيلم بعرضه السينمائي مفاجأة لي، كأنني أشاهده للمرة الأولى، وهو من بين تجارب قليلة في مشاهدة تحف سينمائية على شاشتها الأصلية.

السينما، وليس الشاشة الصغيرة، التي تختزل الجمال، وتكفي فقط لتوصيل رسالة الفيلم العامة، على حساب جماليات الصورة.

العام الماضي عرض مهرجان أبوظبي السينمائي فيلم شادي عبدالسلام (المومياء)، وفي يوليو/تموز 2007 شاهدت في الهند فيلم يوسف شاهين "باب الحديد"، على شاشة سينمائية تستوعب نظرات قناوي الجائعة إلى فتاة المحطة، وإلى هنومة، نظرات بعمق الاشتهاء والجرح والحرمان والحاجة إلى تحقق شخصي، وهو ما لا تفلح في إظهاره شاشة التلفزيون المستأنسة.

كان صلاح أبو سيف محقا، لم يكابر حين ذهب إليه عبدالحي أديب بالسيناريو، فقال له: "هذا فيلم مجنون، اذهب به إلى يوسف شاهين". ذهب الرجل، وكتب الحوار محمد أبويوسف، لكن الجمهور فوجئ بأن فريد شوقي يتوارى، يدخل إلى مساحة من الظل، في حين يتقدم قناوي نصف المجنون، نصف العاشق، المنتقم الكامل في النهاية. ثار الجمهور "العاطفي"، وغضب على شاهين وعاقبه سنوات، ثم أعاد اكتشاف الفيلم مع ظهور التلفزيون، وكأنه يرد الاعتبار ويقدم الاعتذار، عن الخطأ في حق الفنان الذي يجب أن يسبق الجمهور والنقاد بخطوات. فاجأني سينمائيون لا أعرف جنسياتهم، حين عرفوا أنني مصري، وهتفوا:

ـ «Oh, Cairo station».

مثل "باب الحديد" و"بين السماء والأرض" أعمال قادرة على تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادا إلى سحر السينما، لو تحقق لها شرط واحد هو الصدق الفني.

ولكن "باب الحديد" في الهند كان أوفر حظا من "بين السماء والأرض" في أبوظبي.

ففي الهند حظي شاهين وفيلمه بتقديم نقدي عن المخرج وعمله، وفي أبوظبي عرض "بين السماء والأرض" يتيما، على الرغم من كونه أول عمل في احتفال المهرجان بمئوية نجيب محفوظ. ويتضمن الاحتفال عرض ثمانية أعمال لمحفوظ هي "بداية ونهاية" لصلاح أبوسيف، و"درب المهابيل" لتوفيق صالح، و"الجوع" لعلي بدرخان، و"اللص والكلاب" لكمال الشيخ، و"بين القصرين" لحسن الإمام، إضافة إلى الفيلمين المكسيكيين "بداية ونهاية" و"حارة المعجزات" وهما مأخوذان عن روايتي محفوظ "بداية ونهاية" و"زقاق المدق".

غاب المصريون المشاركون في احتفالية نجيب محفوظ عن أول أفلامه، كأن أحمد لوكسر، الذي أدى دور المخرج في فيلم "بين السماء والأرض" كان يصرخ في كل منهم: "دي سينما يا بني آدم مش لعبة. افهموها بقى"، كأنه ينبه إلى أن الفيلم غير تقليدي إذ يشارك فيه (محفوظ/السيد بدير/أبو سيف).

عرض الفيلم وحده، في أقسى اختبار لعمل يواجه جمهورا لا يعرف المؤلف ولا المخرج، ولا اللغة العربية، ولكنه معمار فني متين، لا يحتاج إلى من يشرح، أو يثني على مؤلفه أو مخرجه. وإذا كان الفيلم لم ينجح جماهيريا عام 1959، نظرا لأنه متقدم على الوعي الفني والجمالي لجماهير اعتادت أن تشاهد أعمال المصطفين (نيازي وحسام الدين) والحسنين (الصيفي وإمام).

لم يلجأ أبوسيف عام 1959 إلى مداعبة الجمهور، وقد كاد يختنق في المصعد مع 14 مواطنا، أما جمهور المهرجان، وكله من العرب والأجانب الذين لا يفهمون العربية، فلم يجد صعوبة في الفيلم، وأضحكهم الحوار طوال العرض، كأنه فيلم كوميدي، وأدهشتهم قدرة المخرج على التحكم في عمل تدور أحداثه في مصعد، خلال 100 دقيقة هي زمن الفيلم والأزمة، إلا أنه وجد حيلة للخروج إلى الهواء الطلق في ستاد الترسانة، أو الصعود إلى سطح العمارة حيث ينتظر فريق الفيلم النجمة المحبوسة في المصعد، وهو نوع من التمجيد الهامس للسينما، إذا كانت "مش لعبة"!

سعد القرش ـ روائي مصري

saadelqersh@hotmail.com

ميدل إيست أنلاين في

25/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)