حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

المسافر

كمال رمزي

مثل الزمن، ينسال الفيلم ناعما بلا توقف. كل مشهد من مشاهده الطويلة، يوحى أن ثمة لحظات فى الحياة، من الممكن الإمساك بها، وتثبيتها، لكن إن عاجلا أو آجلا، تنطوى صفحتها لتظهر صفحة جديدة. فى افتتاحية الفيلم، مع ما نراه من حركة على طريق زراعى، خلال نافذة قطار، يتهادى صوت الراوى ــ عمر الشريف ــ الدافئ، المتهدج بفعل الشيخوخة، ليعرب بصدق، عن ذاكرته التى علاها ضباب، وحياته التى لا يكاد يتذكر منها سوى ثلاثة أيام. منها، أحد أيام العام 1948، حيث سفره إلى بورسعيد، ليتسلم عمله فى مكتب التليغراف. وها هو، بأداء خالد النبوى الذى يجسد عمر الشريف شابا، يجد نفسه، بدافع من رعونة السن، أو بسبب أقدار غير مفهومة، طرفا فعالا فى مغامرة غريبة: يتسلل إلى السفينة الفاخرة، المتلألئة، ليلتقى بالشابة الفاتنة، نورا ــ سيرين عبدالنور ــ زاعما أنه «فؤاد»، الذى جاءت للزواج منه، والذى لم تره منذ غادرت بورسعيد وهى طفلة.. السفينة هنا، تعطى معنى أكبر من كونها مجرد وسيلة سفر، وربما تعنى الحياة، بمباهجها ومفارقاتها وغربائها، ويتحول بطلنا «حسن» ــ خالد النبوى ــ من متسلل إلى مقتحم، حين ينبهر بجمال نورا، فلا يملك إلا مواقعتها عنوة، وتستسلم له، وقد تكون تجاوبت. ويتعمد كاتب السيناريو، المخرج، أحمد ماهر، أن يغلق المشهد كله، بأغنية «حسن.. يا خولى الجنينة»، بما تفيض بها كلماتها من عواطف العشق واللوعة والراحة والألم.. ويأتى «فؤاد» ــ عمرو واكد ــ وعقب مشادة بينه وحسن، يتزوج من «نورا»، مما يغضب حسن، الذى يحاول إحراق السفينة.

«المسافر»، فيلم متمرد، يتحرر من تقاليد السينما المصرية، يبتعد عن الواقعية بمعالمها المعهودة، ولا يعتمد على قصة ذات بداية ووسط ونهاية لذلك فإنه يعد فيلم «حالة»، لا يفصح عن أفكاره على نحو مباشر، بجملة أو حكاية أو علاقة، ولكن يعبر عن رؤيته بعشرات التفاصيل التى تجرى فى شرايينه، من دون تعسف، فعلى سبيل المثال، لا يمكن إغفال الإيحاء بأحلام الرحيل والعودة، الرغبة فى الانطلاق والتواصل، فأسراب الطيور المحلقة فى الأفق تطالعنا فى البداية والنهاية، ومنذ المشاهد الأولى، تتوالى معظم سوائل السفر: عساكر يمتطون صهوات الجياد، الدراجات، عربات الكارو، السفن، السيارات، الأتوبيس النهرى.

أما اليوم الثانى فيدور فى عقب حرب 1973، فأغنيات تلك الفترة تنطلق من الراديوهات. ابنة «فؤاد»، «نادية»، بأداء سيرين عبدالنور أيضا، تعود من الخارج، تعامل «حسن» كما لو أنه والدها، حسب تأكيدات والدتها. يرتبك «حسن» ــ بأداء خالد النبوى ــ الذى أصبح مترددا، بحكم السن غالبا، ولكن بعد لحظات من الشك، يقتنع أنها ابنته. تخطره أن شقيقها التوءم مات غريقا، وعليهما التعرف على جثته ودفنها وتنفيذ وصيته بزواج «نادية» من صديقه «جابر»، المعوق ذهنيا، ويؤدى دوره محمد شومان على نحو شديد الإقناع، فهو لا يجنح للمغالاة، أو الكاريكاتير، ولكن يجسد ما يمكن أن ينطوى عليه «المعوق ذهنيا» من الإخلاص والبساطة والتواضع ونقاء الروح.. هنا، يبدو الفيلم كما لو أنه يتأمل مفارقات الحياة، فاللحاد العجوز، لا يتذكر، بيقين، مقبرة «نورا» كى يدفن ابنها بجوارها، ففى النهاية، كلها مقابر، والكل موتى. وصوان العزاء، يتحول إلى صوان فرح، وبدلامن نهنهة الحزن، ثمة بهجة أغنيات الزفاف. والواضح أن «نادية»، الجميلة مثل والدتها، وجدت فى عريسها الطيب، مرفأ أمان.

أسلوب أحمد ماهر يتسم بالمشهدية الطويلة، العامرة بالحركة، مع الاقتصاد فى حركة الكاميرا، والاستغناء عن اللقطات السريعة، والقريبة، والكبيرة، وهو فى هذا تمشى مع روح الفيلم القائمة على التأمل الهادئ للأمور، أيا كانت درجة سخونتها، مع الأخذ فى الاعتبار، تلك النزعة الجمالية التى تتوافر فى الفيلم، وهى ليست جمالية شكلية مصطنعة، ولكنها نابعة من قلب الأماكن، بالديكورات المدعومة بالصدق التاريخى التى حققها أنسى أبوسيف، والملابس المتوافقة مع الزمن، والشخصيات، التى صممتها دينا نديم، فضلا عن تدفق الحيوية وتعدد مستويات النظر، داخل المشهد الواحد، سواء طوليا أو عرضيا، فمثلا، داخل السفينة، يضع المصور الراسخ، ماركو أونوراتو، آلة التصوير، بحيث ترصد راقصات الطابق العلوى، والحوار الذى يدور بين «حسن» و«نورا»، فى النصف الأيمن من الطابق الأسفل، بينما على اليسار، نرى الطهاة، فى المطبخ، يعدون الطعام.. لكن هذا الأسلوب أدى إلى الاستغناء عن اللقطات القريبة، الكبيرة، وبالتالى عدم إبراز دقائق الانفعالات على وجوه الأبطال، فها هو خالد النبوى، يقف بلا انفعال واضح، أمام سيرين عبدالنور، التى خلبت لبه، فى اليوم الأول، قبل أن يهم بها.. ثم، فى «اليوم الثانى»، يجلس «حسن»، على السرير، بجانب ابنته «نادية»، وهو فى قبضة الحيرة، قبل اقتناعه بأبوته، من دون أن يظهر أى انفعال على وجهيهما، ذلك أنهما يعطيان ظهرهما.. للكاميرا.

فى «اليوم الثالث» عام 2011، يزداد الفيلم ألقا، بفضل عمر الشريف، أو «حسن»، بعد أن أصبح شيخا، يلتقى حفيده «على» ــ شريف رمزى ــ ابن «نادية».. الجد، يتمسك بحفيده، وكأنه يتمسك بالمستقبل، يريد أن يكون له امتدادات. وبرغم ضعفه، لم يفقد روح المغامرة، ولأنه يدرك عدم قدرته على الفعل والمواجهة، يدفع حفيده إلى الشجار مع بلطجى، ينتهى بتحطيم أنف «على»، عمر الشريف، فى نظرته، ومشيته، وطريقة كلامه، يعطى إحساسا بأنه «المسافر»، فى نهاية الرحلة، وفى حجرته، أمام التليفزيون، تحاول حمامات بيضاء أن تنطلق داخل الجدران. ألا توحى هذه المحاولة برغبة «حسن» العجوز، فى التحرر والفعل؟.. وألا يعنى إنهاء الفيلم بالأم التى تلقم ثديها لرضيع، داخل أتوبيس نهرى، بأن رحلة الحياة مستمرة، برغم أفول جيل وراء جيل، وقدوم مواليد جدد؟.. «المسافر»، فيلم جرىء فنيا، متفرد، لا يشبه، فى السينما المصرية، إلا نفسه.

الشروق المصرية في

28/09/2011

 

خبر ينبئ بخير

كمال رمزي

وسط عواصف رعدية وأجواء منذرة بشتى الاحتمالات، فى مسرحية «ماكبث»، تظهر العرافات بغموضهن، ويعلن، لمن يتحرق شوقا لمعرفة مسار الأمور، أن ثمة «خبرا ينبئ بخير»، و«خبرا ينبئ بشر»، وبالتالى يزداد المرء حيرة بين التفاؤل والتشاؤم.. هذا هو حالنا، خاصة إذا تابعنا تحليلات عرافينا، على الشاشة الصغيرة، فتارة يرتفعون بنا إلى ذروة الآمال، وتارة يهبطون بنا إلى مهاوى اليأس..

ومع تدفق الأخبار المبهمة، والتصريحات المتناقضة، والأحداث المتضاربة، تبدو المتاهة معقدة، ولكن الخروج منها ليس مستحيلا.. إليك المثال التالى الذى أبدأه بخبر ينبئ بشرٍّ، كى أنهيه بخبر ينبئ بخير. منذ عدة أسابيع، ظهر مع هالة سرحان، رجل شديد البأس، يقرر بصرامة أن التمثيل «فن وثنى». وبرغم تجاهل المذيعة لهذا الحكم المفجع، فإنه جعل قلبى منقبضا، خاصة حين تراءى لى، مبدعونا الكبار، حسين رياض، وزكى رستم وأمينة رزق، وغيرهم، ممن منحونا الكثير، وجاء من يصف عطاياهم بأنها «فن وثنى»..

وبعد عدة أيام، وقع قلبى المقبوض فى رجلىّ، حين استمعت، فى برنامج مع وائل الإبراشى، إلى «المتحدث الرسمى باسم الجماعة السلفية بالإسكندرية»، وهو يقترح، بلا تردد، طمس معالم التماثيل المصرية، بالشمع، ويستحسن أن يكون الشمع مستوردا، من النوع الذى لا يذوب من أشعة الشمس الساخنة.

لم أستطع الاسترسال فى تخيل تماثيل سعد زغلول وعمر مكرم وعبدالمنعم رياض ملفوفة فى أكفان من الشمع. سريعا، جاء خبر ينبئ بالخير: مجموعة من شباب سلفيى الإسكندرية تصنع الأفلام. حققت فيلمين «أين ودنى»، و«أين دكانى».. شاهدتهما، وجدت فيهما، برحابة أفقهما، ولمساتهما العذبة، المرحة، ما يعد ردا عمليا رقيقا، على التصريحات المجحفة سالفة الذكر. الممثلون فى الفيلمين من الهواة. أولهما «أين ودنى» أخرجه «وليد وعزت ومحمد»، ويدور حول علاقة بين شاب ليبرالى وآخر سلفى، جمعهما ميدان التحرير، لكن التوجس ظل باقيا بينهما، فالسلفى حين يزور الليبرالى، نستمع لهواجس كل منهما، فالليبرالى يرى فى السلفى متزمتا مزعجا وعنيفا، والسلفى يرى فى الليبرالى متسيبا، من الممكن أن يكون متعاونا مع أمن الدولة التى اضطهدت السلفيين كثيرا، حتى إنه يقول، فى عبارة فكاهية جميلة «لما جورج إسحاق يعمل مظاهرة، أمن الدولة يمسكنا إحنا»..

ومع استمرار الحوار بينهما، يدركان، وندرك معهما، أهمية الاستماع للآخر، فالمساحة المشتركة، جد واسعة. أما الفيلم الثانى «أين دكانى»،  الذى أخرجه عمرو أمين طلبة، والذى لا يتجاوز الربع ساعة، فإنه، شأن الفيلم الأول، يتمتع بطاقة كوميدية ساخرة، يبدأ بلوحة مكتوب عليها «تكلفة إنتاج هذا العمل 148 جنيها مصريا، تم التمويل من السعودية والموساد وفريدم هاوس بأمريكا وسفارة ماسونيا العليا ببحيرة البجع»، وتأتى الحكاية بصوت الراوى وليد مصطفى الذى يتحدث عن رجل وابنه، استولا على دكان طوال 30 سنة، وبعد قضايا ومناكفات يعود الدكان لصاحبه، لكن المشكلة أن ملكيته ليست لشخص واحد، فثمة الملتحى، والقبطى، والليبرالى، يندمجون فى الإصلاح، وينتهى الفيلم بأغنية سيد درويش «أهو ده اللى صار».. الفيلمان، أيا كانت المآخذ التى قد تؤخذ عليهما فنيا، فإن طموح مبدعيهما، وتوجههم الصحيح، ينبئان بخير يبدِّد شيئا من ظلام الشر.

الشروق المصرية في

24/09/2011

 

مواطن عشوائى

كمال رمزي

بصرف النظر عن الهجاء العنيف، نقديا، الذى لاقاه «اللمبى»، حقق الفيلم أرباحا لم تخطر على بال.

البعض وصف ذلك النجاح بأنه مجرد مصادفة، والمصادفة كلمة تقال حين لا تدرك قانون الظاهرة، أو الأسباب التى أدت لها. والآن، بعد ما يقرب من مرور عقد على ظهور «اللمبى»، وتوابعه، يمكن تلمس عوامل النجاح فى ثلاثة أمور: «اللمبى»، مواطن لا يملك هوية، غير معترف به أمام السلطة، مهمش، يتخبط فى حاضر بلا مستقبل. وضعه هذا يتماثل، جوهريا، مع قطاعات واسعة من مواطنين أغلقت أمامهم نوافذ الأمل. يطالعنا، فى المشهد الأول مترنحا، يحاول، عبثا، أن يتذكر الشطر الثانى من مطلع أغنية أم كلثوم «وقف الخلق ينظرون جميعا...» وطبعا لا يتذكر، أو لا يريد أن يستكمل، فالخلق جميعا، سيشهدون، طوال الفيلم، انتقاله من فشل لفشل، ومن خيبة لخيبة، فالقوانين المتعسفة تتيح للبلدية الاستيلاء على عربة الكبدة التى وضع فيها كل أحلامه. هنا يتجسد السبب الثانى فى رواج فيلم ينسف أكذوبة الوصول إلى بر الأمان، خلال المشروعات الصغيرة. إنه أصدق من أفلام، على شاكلة «همام فى أمستردام» التى تتغنى بمشوار «العصامى» الذى يغدو، بذكائه، من رجال الأعمال المرموقين.. أما السبب الثالث فيكمن فى محمد سعد نفسه، بأسلوبه الذى يبدو وكأنه خارج توا من أفلام الكارتون. وجه أقرب للكاريكاتور، يحرك ملامحه كما يشاء، وجسم لين، يمكنه من الجرى والقفز والرقص، فضلا عن قدرات لا يستهان بها فى الأداء التمثيلى تجلى لاحقا حين أدى دور الضابط الشرس «رياض المنفلوطى» فى «اللى بالى بالك»، ويقمص شخصية جدته السليطة فى «عوكل»، وظلت معالم الشخصيتين، بطرافيتهما، باقية فى الذاكرة، حتى الآن.

«العشوائى» فى أحدث أفلامه «تك تك بوم»، يتعرض، كالعادة، لوابل من الأوصاف الجارحة، تتصور معها أن العمل يقبع فى الحضيض. لكن حين تشاهده، لن تجده بهذا القدر من السوء. صحيح أن السيناريو الذى كتبه محمد سعد، يحتاج لإعادة الكتابة عدة مرات، كى يهتم بشخصياته الثانوية الشاحبة، التى بدت أقرب لسنيدة البطل المطلق، وأن يخفف من غلواء الأفعال وردود الأفعال التى تتوالى بلا مبرر، فالقصة، مهما كانت بسيطة، من الممكن أن تحمل وجهة نظر جديرة بالتأمل، خاصة أنها هنا تتضمن خطوطا من الممكن أن ينهض عليها فيلم مهم: رجل فاشل، يصنع بمبا فاسدا، يشرع فى الاختلاء بعروسه، لكن الثورة تندلع، ويجد نفسه طرفا فى الصراع، يزج به فى السجن، ويلتقى ثانية بالضابط «رياض المنفلوطى»، الذى أصبح أعرج، وأكبر سنا ورتبة، وأشد إيغالا فى الشراسة. محمد سعد يؤدى دوره بمهارة، لكن السيناريو لم يهتم برصد ما طرأ عليه من فساد على نحو شجاع، بل يبدو أنه خاف من مد الخطوط إلى مناطق يظن أنها خطرة، وبالتالى عقد صلحا بين العشوائى والجلاد، وذهب بعيدا، فى الطريق الخاطئ، حين زعم أن اللجان الشعبية، فى الحارة، ظنت أن عناصر من البلطجية، تخفوا فى ملابس الشرطة، وبالتالى تصدت إلى رجال الشرطة الذين وصلوا لحماية الأهالى، وهو الأمر الذى لم يحدث أبدا.. لكن ثمة موقفا أحسب أنه بالغ الصدق والجرأة، حتى لو كان قد جاء من باب العشوائية.. فوهة ماسورة مدفع إحدى مصفحات الجيش، تخترق الشاشة من اليمين لليسار، تقترب من وجه العشوائى المتردد، المدرك لعواقب الأمور، فلا يسعه إلا أن يضع سلاحه داخل الفوهة ويهتف، عن خوف يخلو من اقتناع «الجيش والشعب إيد واحدة».

الشروق المصرية في

21/09/2011

 

عبدالوارث عسر

كمال رمزي

أجمل الآباء.. على شاشة السينما المصرية يسطع بالضياء.. وسط ظلال الأفلام   سبعة عقود.. من الإبداع المتواصلحتى فى أكثر الأفلام تواضعا، كان عبدالوارث عسر، بأدائه الطبيعى، يضفى عليها شيئا من المنطق. أو على الأقل، يجعل من دوره، باقتدار، وحدة خاصة، مستقلة ومؤثرة، تشع بضياء ما، وسط ركام هذا الفيلم أو ذاك.. لم يكن عبدالوارث عسر، وهو فى شرخ الشباب نجما. ولم يطلع ببطولة، ولكن حضوره أقوى وضوحا من النجوم الذين عمل فى ظلهم.. استطاع أن يغدو، بجدارة، نسيجا فريد أو خيطا من ذهب، فى تاريخ التمثيل المصرى. وهو فى هذا لم يعتمد على مجرد الموهبة التى تمتع بها، ولكنه، بجلد ودأب سار فى الطريق الجاد، الصعب، فصقل موهبته وأطلقها، وعلّم نفسه بنفسه، وأغدق علمه وخبرته على طابور طويل من الفنانين، ومنح المكتبة العربية كتابا فريدا فى «فن الإلقاء».. لا يزال هو الكتاب العمدة فى هذا المجال، الذى يليق بالممثل أن يستوعبه ويتفهمه.

الخطوات الأولى

عبدالوارث عسر «17/9/1884 ــ 22/4/1982» ولد فى بيت كبير بحى الجمالية العريق. كان والده الثرى، صاحب أراض زراعية فى البحيرة. يعمل «محاميا» فى القاهرة، ومثل معظم أثرياء ذلك العصر، تعوّد على التردد، بانتظام، على فرقة «سلامة حجازى»، ذائعة الصيت، مصطحبا معه ابنه ــ عبدالوارث، الذى بدأ قلبه يخفق بحب عالم الأصوات والأصواء والانفعالات والحكايات.. ومن جهة أخرى، أخذ الفتى يطالع بعض الكتب فى مكتبة والده. قرأ فيما قرأ العديد من الدرر العربية: «الأغانى»، «مجمع الأمثال»، «ألف ليلة وليلة»، «الحيوان»، «الأمالى»، فضلا عن تاريخ الطبرى وابن حلكان.. وبقيت هذه الثقافة العربية الرصينة. حية مزدهرة فى روح عبدالوارث عسر، وانعكست على كتاباته لعشرات المسرحيات والسيناريوهات، واستفاد منها فى كتابه الفريد عن «فن الإلقاء».

تفتحت آفاق عبدالوارث عسر عندما تابع عروض جورج أبيض الذى عاد من باريس فى العشرينيات ليقدم تراجيديات سوفكليس وشكسبير وكورناى وراسين، وازداد تعلقه بفن التمثيل، وأدرك أن هذا «الفن له تاريخ موغل فى القدم، وأنه «علم» يتطلب دراسة لا تقل جدية عن دراسة أى فرع آخر من فروع العلم.

فى العام 1914، أثناء استعداده للالتحاق بمدرسة الحقوق العليا ليصبح محاميا مثل أبيه، توفى والده. واكتشف الشاب أن أسرته فى مأزق مالى صعب، فالديون تحاصر الأسرة التى وجد نفسه مسئولا عنها، وعليه إنقاذ الأرض المرهونة للبنك العقارى. انتقل بالأسرة إلى «البحيرة»، وباشر الزراعة بنفسه، واستطاع بحكمة أن يسدد الديون، وأن يعيد التوازن إلى عائلته المهددة. وربما كان لقيامه المبكر دور الأب، فى الحياة، أثر فى ذلك الدور الذى سينبغ فيه على الشاشة، لأكثر من نصف قرن.

الحلم بأن يصبح ممثلا لم يفارقه.. فعن تلك الأيام وذلك الحلم يقول فى مذكراته الممتعة التى كتبها الناقد النزيه فؤاد دوارة، ونشرها بمجلة الكواكب عام 1982، ولم تجمع فى كتاب!.. «كنت ألاحظ أن وجهى معبر، وكثيرا ما تأملت نفسى فى المرآة فأرى وجهى مستطيلا، وأستطيع بقدرة من الله أن أشكله كيفما أشاء ليعبر عما أحسه فيظهر بوضوح فى عينى وتقاطيعى.. هذه أهم مميزات الممثل، فلماذا إذن لا أعمل ممثلا».. ويستكمل «قررت أن يكون التمثيل مهنتى، ولكن كيف أبدأ وإلى أين أذهب».

اتجه عبدالوارث عسر إلى جورج أبيض فطلب منه الفنان الكبير أن يؤدى أمامه مشهدا.. كان عبدالوارث قد أعد العدة للاختبار، فهو يحفظ خطبة الحجاج بن يوسف الثقفى عندما دخل الكوفة بعد تعيينه واليا على العراق من قبل الخليفة عبدالملك بن مروان، ومطلعها «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوننى».. طبعا، درس عبدالوارث الخطبة، وظروفها، وتدرب على إلقائها بلغة عربية سليمة، ويبين بصوته، وتعبيرات وجهه، معانى القوة والكبرياء والجبروت، ممتزجة مع نغمة نذير وتهديد ووعيد.. والواضح أن الأداء البديع لعبدالوارث عسر أرضى جورج أبيض الذى سحب «تلميذه» الجديد من أعلى «التياترو» حيث كان يجلس، ليذهب به إلى خشبة المسرح أثناء إجراء الفرقة بروفة قراءة، ويقدمه لهم كعضو سيكون له شأن فى عالم التمثيل.

نحو الاحتراف

عبدالوارث عسر، من القلة التى تفكر طويلا فى التفاصيل كافة، يدرس، يتعمق، فى أبعاد وزوايا ودلالات العمل الذى سيشارك فيه، ويستوعب دقائق الدور الذى يقوم به، وكيفية التعبير عنه، ولعل الواقعة التالية تبين بجلاء طريقته الجادة فى عمله، وتعطينا درسا ثمينا فى كيفية إتقان الدور، والوصول به إلى أعلى المستويات اكتمالا: أسند له جورج أبيض دور الراعى فى مسرحية «أوديب» لسوفكليس. رجل عجوز يعرف تماما سر الوباء الذى حل بالمدينة، ولأن الراعى يعرف أن الملك هو السبب فإنه يتردد أمامه فى الكشف عن السر. الملك الغاضب يدفع الراعى فى صدره فيقع أرضا.

كان عزيز عيد هو الذى يؤدى هذا الدور. لكن عزيز، بعد عدة ليال، تمرد، ورفض المواصلة، لأن الجمهور يملأ الصالة بالضحك، خاصة حين يقع الراعى. وبينما فسر الجميع هذا الضحك على أنه غلظة ذوق من جمهور يريد أن يضحك من كل شىء، أدرك عبدالوارث عسر أنه لابد من أن يكون ثمة دوافع أخرى، تكمن فى طريقة الأداء، وأن عليه اكتشاف هذه الأسباب وتلافيها.

ذهب عبدالوارث عسر إلى أحد الأطباء وسأله إذا كان من الممكن ألا يرتعش شيخا هرما جاوز المائة عام. وأجابه الطبيب بأنه من الممكن إذا كان العجوز مصابا بالتصلب. وفى هذه الحالة تكون حركته صعبة. وشرع عبدالوارث يعيد صوغ «الراعى» بناء على هذه المعلومة الجوهرية، وبدلا من اللحية الطويلة، المشعثة التى يظهر بها عزيز عيد، جعلها قصيرة، عريضة، فأكسبته جلالا. وبدلا من أن يرتعش وقف ساكنا، وعندما يدفعه «أوديب» ــ جورج أبيض ــ لا يسقط على الأرض، ولكن يميل على أحد الجنديين الممسكين به. وجاء رد فعل الجمهور أبعد ما يكون عن الضحك، فقد اقتنع بتلك التفاصيل الجديدة، والتى أحدثت فى وجدانه أثرا شديدا.

ملامح خاصة

فى مجال المسرح، عمل عبدالوارث عسر مع نجوم عصره: عبدالرحمن رشدى، زكى طليمات، سيد درويش، عبدالعزيز خليل، أحمد علام، حسين رياض، نجيب الريحانى، يوسف وهبى، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.. وفى مجال السينما، ظهر على شاشتها، منذ بداياتها، فعمل مع أجيال متوالية من المخرجين، ابتداء من محمد كريم، حتى على بدرخان، وضمت قائمة أفلامه ما يقرب من المائة فيلم.. واستطاع أن يكوِّن لنفسه شخصية فنية لا تنتمى إلا لعبدالوارث عسر.. تلمس ملامحها فى الصوت المعبر عن أدق معانى الكلمات، تنطلق بها ملامح وجهه اللينة قبل أن تخرج من فمه، فضلا عن عنق لا مثيل له عند كل ممثلينا. عنق طويل، معرورق، يستطيل فى حب للاستطلاع، ويقصر فى مواقف القلق والخوف، وتكاد ترى ريقه، من وراء الجلد، وهو يبلعه بصعوبة، حين تنتابه لحظات الحرج. إنه يجسد الانفعالات، مهما كانت عاصفة أو معقدة، ببساطة خلابة. ومرجع هذا أنه يتفهم مشاعر الشخصية التى يؤديها، ويتشبع بها روحيا، ويدرسها دراسة علمية، ويؤديها محققا نوعا من التوازن الفريد بينها وبين شخصيته، فهو لا يستسلم ولا يذوب فيها، وأيضا لا يخضعها له تماما، ولكنه يعبر عنها بعمق وإدراك. وقد ساعدته ثقافته الواسعة فى فهم الأجواء التاريخية أو الاجتماعية التى تتحرك فيها هذه الشخصية أو تلك.

أدوار.. فى القمة

مع يوسف شاهين، قدم ثلاثة أدوار لامعة: «صراع فى الوادى» 1954 «الأرض» 1970، و«إسكندرية ليه» 1979.. جسد فيها شخصيات شديدة التباين.

فى «صراع فى الوادى» ــ الفيلم المصرى الوحيد الذى يعدم فيه أحد المواطنين ظلما ــ تلفق جريمة قتل للرجل الورع الطيب، عبدالوارث عسر.. وفى قاعة المحكمة تشير كل الدلائل على أنه هو الجانى، ويحاول الرجل، بكل قواه الخائرة، التى يستجمعها للحظات، أن يقنع القضاة بأنه غير مذنب، بصوت متهدج وعيون تتسول تصديق الآخرين.. وتتجلى قدرات عبدالوارث عسر فى الثوانى المريعة التى سبقت الحكم بإعدامه، فهنا، تكشف نظراته الزائغة عن رعب يكاد يتغلب على إحساسه كرجل مؤمن بقضاء الله وقدره.. وتستطيل رقبة عبدالوارث عسر أثناء نطق الحكم كما لو أنه يريد أن يستمع له بكل كيانه وليس بأذنيه فقط. وما أن يصدر الحكم حتى يتهالك داخل ذاته، مذهولا فى البداية، مستسلما فى النهاية.. إنه من أقوى المواقف فى السينما المصرية.

وعلى نحو مغاير للكثير من أفلامه، يقوم فى «الأرض» بدور العمدة المكروه من سكان القرية، الخانع للسلطة، الضعيف، الخائف من الفلاحين، الكاره لهم جميعا، خاصة بعد تعرضه للإهانة من النساء. ويعبر عبدالوارث عسر عن تشفيه وهو يشهد ضرب أحد الفلاحين بالسياط، فالغبطة تتجلى وراء وجهه الصارم، وتكاد تفلت منه ابتسامة رضا وهو يقول بصوت يمتزج فيه الحقد مع الارتياح: «آه.. يا فراعنة».

وفى مشهد صغير، وحيد، فى «إسكندرية ليه»، يجسد عبدالوارث عسر، بمهارة، حنكة زعيم أحد الجماعات الدينية، يريد «الضباط الأحرار» أن يجذبوه مع رجاله، إلى تنظيمهم. ولكنه، بنعومة تعكس خبرة سياسية واسعة، وقدرة على المراوغة، يقول كلاما جميلا، مرضيا لمستمعيه، فيبهرهم. وسرعان ما يكتشفون، ونكتشف معهم، أن العجوز المدرب، يريد أن ينضموا هم إليه وليس العكس.

وإذا كان عبدالوارث عسر مثّل فى العديد من أفلام صلاح أبوسيف، فإن دوره فى «شباب امرأة» 1956، المكتوب ببراعة، يعد من أدواره البالغة القوة.. فالعجوز هنا، الذى يعمل فى خدمة المرأة الشرهة ــ شفاعات ــ بأداء تحية كاريوكا، كان فى الماضى، رجلا محترما له زوجة وأبناء. هجر بيته واختلس من محل عمله. دخل السجن، وعندما خرج، مهدّما ضائعا، لم يجد أمامه إلا المرأة التى كانت سببا فى نكبته، وها هو يعمل عندها، مجرد موظف صغير فى المعصرة التى تملكها.

موقفان نموذجيان فى «شباب امرأة» يستحقان التأمل.. الأول، عندما ينتعش قلب الرجل بالنشوة، ربما بفعل الخمر، فيطلب من المرأة، فى نوبة من نوبات رعونة الرغبة العاصفة، أن يعيد الماضى الجميل، وهو يقنعنا تماما، بقوة تلك الطاقة الشهوانية التى تطل من عينيه، وأن قلبه لا يزال شابا، وأنه على الرغم من كهولته، يريد، ويستطيع أن يفعل.

أما الموقف الثانى، فيأتى فى مشهد النهاية، حيث يثأر العجوز من المرأة التى تجسد، فى لحظة من لحظات الجنون، كل الفشل والضياع والمهانة التى لاقاها فى حياته.. إن المرأة تسقط بين دوائر المعصرة الحجرية.. فيندفع العجوز ضاربا الدابة التى تدير المعصرة. وبينما جسد المرأة يعصر، ترتسم على وجه عبدالوارث عسر علامات نشوة وحشية، ويأتى صوته من أغوار بعيدة، وهو يحض الدابة على مواصلة الدوران.

إلى جانب الأدوار المغايرة، قدم عبدالوارث عسر، كثيرا، ذلك النموذج، الذى سيظل باقيا فى ذاكراتنا، والذى يعد من أجمل وأرق الصور الإنسانية: الأب الذى يخفق قلبه بحب أبنائه. يصلى لله طالبا الخير لهم.. يفرح لنجاحهم وسعادتهم أكثر منهم. يقف وراء الباب منتظرا بشغف عودة ابنه الضال. يبحث بلا كلل عن ابنته التى تضيع فى المدينة.. أبوة شفافة، تمشى على قدمين، تتجلى فى النظرة واللمسة والخلجة، وتعبر عن أسمى العلاقات الإنسانية.. عبدالوارث عسر.. أحد أجمل آباء السينما المصرية.

الشروق المصرية في

17/09/2011

 

سمارة.. فك وتركيب

كمال رمزي

كمال رمزىاستغرق مسلسل «سمارة»، إذاعيا، سبع ساعات ونصف الساعة، بمعدل خمس عشرة دقيقة على مدى ثلاثين يوما. وبينما لم يتجاوز فيلم «سمارة» الساعتين، كان على كاتب المسلسل، تليفزيونيا، مصطفى محرم، أن يملأ عشرين ساعة، الأمر الذى يعد اختبارا عسيرا، خاصة أن القماشة أصلا، قصيرة وقديمة، تكاد تكون مهلهلة.

ولكن مصطفى محرم، بخبرته كأسطى متمكن، استطاع تقديم عمل مسل، بلا ادعاءات، لا مجال فيه للبحث عن أفكار أو قضايا أو حقائق، ذلك أنه أقرب إلى قزقزة اللب وأكل الفشار ومضغ اللبان، لجأ إلى حيل فنية لا تخلو من طرافة، كى تبدو البضاعة التى عفا عليها الزمن، جديدة، سخية، جذابة، فقام أولا بفك شخصية «سلطان» العاتية ــ بأداء محمود إسماعيل ــ إلى شخصيتين: «سلطان»، يمثله حسن حسنى، و«فتوح»، يجسده سامى العدل.

كلاهما يتاجر فى المخدرات، ويتحدث بطريقة المعلمين النمطية فى الأفلام المصرية، حيث يخرج الكلام من الفم ممطوطا، متضمنا قدرا غير قليل من الاعجاب بالذات. كل منهما ينافس نصفه الآخر على حب «سمارة» التى يفوز بها صاحب الاسم المعتمد «سلطان».. وفى المقارنة بين «سلطان» الأصلى، فى الفيلم، محمود إسماعيل، والمفكوكين، حسنى والعدل، تجد أن كفة «سلطان» الفيلم هى الأرجح. محمود إسماعيل متوافق تماما مع دوره، يتسم أداؤه بالصدق والعفوية، بينما يظهر الافتعال والتصنع جليا عند الآخرين.

كذلك قام مصطفى محرم بفك ضابط الشرطة المتخفى «سيد أبوشفة» ــ محسن سرحان ــ الذى أحبته سمارة، إلى شخصين، أحدهما شاب ثرى ووسيم، اب عائلة كبيرة، يؤدى دوره أحمد وفيق، يركب «أوتومبيل» فاخر، مكشوف السقف، طراز الأربعينيات، ويتعمد المهزار، مصطفى محرم، الإيحاء بأن هذا الشاب هو الضابط المنتظر، لكن الشاب يقتل فى الحارة، ثم يظهر الضابط المتخفى ــ ياسر جلال ــ الذى يلقى مصير سلفه، فيموت قتيلا برصاصات سمارة أثناء حفل زواجه من إحدى قريباته. وعند المقارنة بين محسن سرحان، والشابين الخفيفين، تدرك أن «سيد أبوشفة» الأصلى، هو الأقوى والأعمق حضورا.

وجد مصطفى محرم فى الأحلام مرتعا خصبا لإطالة زمن الحلقات فجعل بطلته تراقص حبيبها الأول، وتبث لواعج غرامها لحبيبها الثانى، وتبلغ عن زوجها الذى لا تحبه، ويتراءى لها والدها السكير وهو يقتل والدتها سيئة السير والسلوك، ويتعمد المخرج، محمد النقلى، تنفيذ هذه المشاهد بأسلوب واقعى لا تكتشف معه أن ما يجرى على الشاشة مجرد أحلام إلا حين تستيقظ سمارة.. وهى تقوم من النوم بشعرها المفرود الناعم ومكياجها الكامل، كما لو أنها ذاهبة إلى حفل شديد الأهمية.

تدور أحداث المسلسل فى الأربعينيات، داخل حارة شعبية. الأربعينيات تعنى رجالا يضعون الطرابيش على رءوسهم، ونساء بملاءات سوداء، بعضهن يضعن البرقع على وجوههن، وطبعا بينهن غادة عبدالرازق، التى تجبرها والدتها ــ لوسى ــ على الرقص فى المقهى المستوحاة من بارات أفلام الغرب الأمريكى، والتى لم يكن لها شبيه فى مصر.. ومن المقهى إلى الشقق إلى المدافن إلى فيللات البكوات، تندلع المكائد والمؤامرات وقصص الترقب والخداع، فى دوائر مغلقة، لا تنفتح على دفء الحياة الحقيقية، وإن كانت تحقق الهدف منها، وهو التسلية.

الشروق المصرية في

14/09/2011

 

رحلة.. سمارة

كمال رمزي

«سمارة»، أصلا، من أنجح المسلسلات الإذاعية، خلال الخمسينيات، فى العصر الذهبى للراديو، حين كانت الشوارع تكاد تخلو من المارة، أثناء إذاعة المسلسل المبهر، بمقدمته الموسيقية التى تعتمد على مقطع «رقصة السيوف» من موسيقى باليه «حيانيه» التى وضعها الروسى الموهوب، الأرمنى الأصل آرام ختشادوريان، المتمتع بروح شرقية لا تخطئها الأذن. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المقطع الذى يوحى بالمطاردة والمواجهة والصراع، منتشرا فى التمثيليات والأفلام.. فى «سمارة» يأتى صوت الراوى، العميق، المتوتر ــ بأداء ديمترى لوقا إذا لم تخن الذاكرة ــ الوقور، الهادئ فى البداية، المتصاعد، المنذر بالخطر، ليلخص بعبارات موجزة ما جرى فى الحلقات السابقة. ومع التكرار اليومى، أصبحت عبارات الراوى، جزءا من ذاكرة المستمعين، أذكر منها «سمارة، ذهرة برية، نشأت وترعرعت فى جو أسود رهيب..» ويستكمل متحدثا عن الضابط الذى تخفى باسم «سيد أبوشفة»، وغدا من ضمن أفراد عصابة «سلطان»، واستولى على قلب سمارة و... أدت دورها سميحة أيوب، بصوتها ذى الرنين الذهبى، المشبع بالقوة والثقة والدلال.

فى عام 1956، انتقلت «سمارة» من الإذاعة إلى الشاشة، لتغدو تحية كاريوكا، المتوائمة تماما مع شخصية المرأة التى جعلها جمالها الفاتن محط أنظار الجميع، لا يستولى عليها إلا المعلم «سلطان»، تاجر المخدرات الشديد البأس بأداء متمكن من محمود إسماعيل، مؤلف المسلسل وكاتب سيناريو الفيلم، الذى يطالعنا فى المشاهد الأولى بمظهر يعتبر آية فى الأناقة الشعبية: معطف أسود من الصوف الغالى، كوفية من الحرير ناصع البياض، مسدلة على جانبى المعطف، لاسة ملفوفة بإحكام على أعلى الرأس، حذاء أسود لامع.. إنه الزى الذى صرح نور الشريف بأنه حاكاه عندما تحول فى «لن أعيش فى جلباب أبى» من عامل فقير، مهلهل الجلباب، إلى واحد من كبار تجار الخردة فى وكالة البلح.

فرضت سمارة ظلها على عشرات الأفلام، وتقمصتها، بأسماء أخرى، العديد من النجمات، مما يعنى أن شخصية المرأة الطموح، الواقفة برسوخ على أرض نفسية صلبة، القادرة على المناورة والمراوغة، الذكية، تلبى حاجة عند جمهور يرضيه متابعة صراعات المرأة التى لا تستسلم ولا تتراجع. قدمت سامية جمال طرفا من سمارة فى «زنوبة» لحسن الصيفى 1956 و«الرجل الثانى» لعزالدين ذو الفقار 1959، وورثت نادية الجندى الكثير من مواصفات سمارة، حذفت منها وأضافت لها، واقتربت منها فى «الباطنية» لحسام الدين مصطفى 1980.. جدير بالذكر أن أفلام العصابات، وتجارة المخدرات، تواجدت بقوة فى السينما المصرية، سواء قبل «سمارة» لحسن الصيفى، أو بعده، ولكن أثر بصمة «سمارة»، أو بالأحرى، محمود إسماعيل، تبدو شديدة الوضوح، خاصة فيما يتعلق بتسلسل مستويات تجار المخدرات، ابتداء من تاجر القطاعى إلى المهرب الكبير، الغامض المجهول، الذى لا يعرفه أحد.. وفى موقف طريف، فى «أبوالدهب» لكريم ضياء الدين 1996، يذهب أحمد زكى لقصر المهرب الكبير، الغامض المجهول، ويتلفت حوله ويقول «كأننا فى فيلم سمارة»! جملة عفوية طريفة من أحمد زكى لم يحذفها المخرج.. وأخيرا، آلت سمارة لغادة عبدالرازق، ومصطفى محرم، ومحمد النقلى، فماذا فعلوا.. إنه حديث آخر.

الشروق المصرية في

10/09/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)