حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

صلاح سرميني:

المخرج الغربي ليس دائما هو الأفضل

منصورة عبد الأمير - دبي

الناقد صلاح السرميني من الأسماء اللامعة في سماء النقد السينمائي العربي يقيم في باريس. وهو مستشار مهرجان الخليج السينمائي كما أنه اشتغل مع مهرجانات عربية وأجنبية اخرى. ويتميز هذا الناقد بجرأته النقدية التي تصل أحيانا إلى النقد اللاذع للأفلام والنقاد. صلاح السرميني ينقد في ثلاث اتجاهات على الأقل : الأعمال السينمائية والخطاب النقدي وسير المهرجانات. أما الأعمال السينمائية فهو من المتابعين الجيدين للحركة السينمائية في العالم العربي وخاصة الشبابية منها. وأما الخطاب النقدي فيسعى السرميني مع آخرين إلى تنقية الساحة السينمائية من الكتابات المشبوهة والمسروقة لذلك أحدث مع بعض زملائه النقاد مدونة "سرقات سينمائية" تترصد كل الذين يسطون على المقالات النقدية العربية والأجنبية. وأما سير المهرجانات فيحاول مستشار مهرجان الخليج السينمائي إلى فضح الفاسدين في بعض المهرجانات العربية. في هذا الحوار يتحدث صلاح سرميني عن مهرجان الخليج السينمائي وآفاقه كما يتناول مشاكل المهرجانات العربية ونقائصها.

·     لماذا عمد مهرجان الخليج السينمائي في دبي إلى إضافة مسابقة دولية، أثرت على مشاهدة الأفلام الخليجية، أو حصولها على الجوائز؟

بدأت معظم مهرجانات السينما في العالم بمسابقة محلية، وبعد سنواتٍ أضافت أخرى دولية، أخرجتها من حدودها الجغرافية، في مهرجان الخليج السينمائي كانت الأضواء موجهةً نحو المسابقة الخليجية، ولكن أُضيفت مسابقة دولية موازية بهدف إيجاد تفاعلٍ بين مخرجي الأفلام الأجنبية، والخليجية، وهي فرصة لمُشاهدة أفلام قصيرة قادمة من كلّ أنحاء العالم، واستقطاب صحافة عالمية، وضيوف أجانب انتهزوا الفرصة للتعرّف على ما يحدث في المشهد السينمائي المحليّ، لم تتنافس الأفلام الأجنبية مع الخليجية، كانت كلّ مسابقة منفصلة عن الأخرى، وتمتلك المسابقة الدولية ميزانية خاصة، ومن ثمّ، لماذا نفترض بأنّ المخرجين الأجانب أكثر موهبة، واحترافية من الخليجيين، وإذا دققنا في الأفلام الدولية التي قدمها المهرجان، سوف نجد بأن بعضها امتلك نفس ميزانيات الأفلام الخليجية، وربما أقلّ، وأنجزت بنفس الأدوات،..

·         كيف تُقيّم أداء صناع الأفلام الخليجيين، ومدى تفاعلهم مع المهرجان بكلّ فعالياته.

هناك من يهتمّ فقط بمشاهدة الأفلام، بينما يمتدّ نشاط آخرين للمشاركة في الورش التدريبية، والندوات الليلية، وهي مسألة شخصية، ما يحدث في مهرجان الخليج السينمائي أفضل حالاً من مهرجاناتٍ عربية كثيرة، وحتى دولية، وأنا أعرف مهرجان كليرمون ـ فيران، على سبيل المثال، وهو أهمّ مهرجان للأفلام القصيرة، لا يحضر كثيرون ندوات النقاش مع المخرجين.

·         إلى أيّ مدى يعكس تنظيم هذه الندوات رسالة المهرجان في التأسيس لصناعة سينمائية خليجية في المنطقة ؟

يطمح المهرجان إلى أن يكون مختلفاً، ولهذا، تمّ اختيار منتصف الليل لعقد جلسات النقاش، وأصبح هذا الموعد تقليداً، في الدورة الثالثة، استخلصنا موضوعاتٍ من الضيوف الإعلاميين، والنقاد أنفسهم، جمعنا الأفكار، وكثفناها في خمس ليالٍ، وتمّ اختيار البعض لإدارة الجلسات، في الدورة الرابعة، قررنا مُسبقاً موضوعات تتعلق بطبيعة المهرجان، وتوجهاته، لقد أصبح مدرسة لصناع الأفلام، وفرصة للتواصل بين الجدد، والقدامى.

·         ما هي أهمية تقديم تجربة السينمائي الفرنسي "جيرار كوران" ؟

يسعى المهرجان بأن يفتح نوافذ جديدة سينمائية، ومتعددة، وقد تعوّد بأن يسلط الأضواء على سينما بلد، أو مخرج معين، وهكذا تباعاً، الأفلام السويسرية القصيرة، الأفلام الهندية القصيرة، السينمائي الفرنسي "فرانسوا فوجيل"، وفي الدورة الرابعة قدمنا "جيرار كوران" الذي ينجز أفلاماً لا علاقة لها بالسينما السائدة إطلاقاً، وتقع خارج كلّ الأطر التي تعوّدنا عليها، التقليدية، أو التجريبية، والهدف تكريس فكرة الاختلاف، وتقديم تجربته الزاخرة بطريقةٍ مغايرة، حيث عُرضت مختارات من أعماله على 11 شاشة فيديو منتشرة ما بين الفندق حيث يقيم الضيوف، وصالات العرض.

·         هل يعكس هذا اهتمام المهرجان بالسينما الوثائقية خاصةً مع عرضه لعددٍ لا بأس به من هذه الأفلام؟

أعمال "جيرار كوران" استثنائية، لا علاقة لها بالسائد، وغير قابلة للتصنيف، هي توثق شخصيات، وأماكن، وهو لا ينجز أفلاماً تسجيلية بالمعنى المتعارف عليه، بل أفلاماً شعرية، غنائية، متكررة، مغناطيسية.. سينما خاصة، مثل شخص يكتب يومياته في دفتر ملاحظات، يحمل كاميرا صغيرة، يسافر إلى جميع أنحاء العالم، ويصور أشخاصاً من العاملين في المشهد الثقافي، الأدبي، الفني، والسينمائي، ويجمعهم في سلسلته "سينماتون"، كما يصور الأماكن التي يزورها بأهدافٍ تتخطى التسجيل، إنه سينمائيّ استبدل عينه بعدسة الكاميرا.

·         هل هناك توجه من قبل إدارة المهرجان لتوجيه الشباب نحو صناعة أنواع معينة من الأفلام السينمائية.

الهدف الأول تشجيع من يرغب في إمساك الكاميرا للتعبير عن ذاته وطموحاته، وانفعالاته، وخلق جيل سينمائيّ، وتطوير مواهبه، ومحاولة تأسيس طقوس سينمائية مختلفة عما يُعرض في صالات السينما، قبل عشر سنواتٍ، كان البعض يسخر قائلاً: هل هناك سينما في الخليج كي تنتظم فيها مهرجانات سينمائية ؟ ومن ثمّ أصبح التساؤل: هل يستطيع هؤلاء الخليجيون إنجاز أفلام؟ حالياً، يتمنى أيّ شخص من أولئك الساخرين متابعة مهرجان دبي، والخليج كي يتعرّف على ما يحدث فيهما.

·         ما الذي يميز مهرجان الخليج السينمائي عن باقي المهرجانات العربية ؟

ليست مهمتي المُقارنة مع هذا المهرجان، أو ذاك، ولكن أقول إن الهدف من مهرجانيّ دبي، والخليج سينمائيّ، هو تنشيط صناعة السينما في المنطقة، وتأسيس جيلٍ من السينمائيين الإماراتيين، والخليجيين

·         من أين يأتي عدم جدية المهرجانات العربية التي كثيرا ما تنقدها في مقالاتكً؟

ببساطة، من مديرين وقائمين على إدارتها لا علاقة لهم بالسينما، وإذا كان المدير فاسداً مالياً، سوف يبتزّ الميزانية بأساليب ملتوية، وعادةً يتعاون مع أشخاصٍ لا يمتلكون خبرة، أو همّاً سينمائياً، يبحثون فقط عن العلاقات والأضواء والدعوات، والسفر.. في حالاتٍ كهذه، كيف يمكن أن تعمل هذه المهرجانات بشكلٍ صحيح، ومن المؤسف، بأن الأمثلة كثيرة على هذا الفساد المُتفشي الذي يجعلني أتوقف عن متابعة مهرجاناتٍ عربية كثيرة، لم أعد أطيق الذهاب مثلاً إلى مهرجان، واللقاء مع منظمين مزيفين، وأشاهد نسبة كبيرة من الضيوف لا علاقة لهم بالوسط السينمائي، وعندما تسأل عنهم، يُقال بأنهم أصدقاء المهرجان، أو مشاهدة أفلام معروضة عن طريق دي في دي، أو أتصفح نشرة تحتوي على مقالاتٍ مسروقة، وعندما أنبه إلى هذا الأمر، يُقال لي : حرام، "خللي الناس تسترزق".

·     ولكن، وسط هذه الأجواء، كيف لدبي أن تؤسس لصناعة سينما حقيقية، وتقدم صناع سينما، وجيلا من المهتمين، والمنشغلين بالسينما، كيف يمكن ذلك ؟

لحسن الحظ، فإن القائمين على هذا المهرجان يؤمنون بأنّ ما يحدث من حركة سينمائية في المنطقة لها تأثيرات ايجابية في تحريك المشهد السينمائي العربي على مستوى الإنتاج، والتوزيع، وهذا ما حدث فعلا، فالأمر بدأ بمسابقة بسيطة في أبو ظبي (مسابقة أفلام من الإمارات)، شجعت هذا العدد الكبير من السينمائيين الذين نجدهم اليوم بمستوياتهم المختلفة، وحفّزت على تأسيس عدد من المهرجانات السينمائية، هذه الأسباب الغير متوفرة في بلدان عربية أخرى تجعل من المبادرة الفردية التي بدأها "مسعود أمر الله" جديرةً بالتشجيع

·         لكن كيف يمكن لدبي، والخليج الصمود في وسط هذه التيارات المتلاطمة، ألا يتأثرا بالمحيط الفاسد ؟

على العكس تماماً، ما يحدث حالياً، بأنّ الوسط السينمائي العربي إنتاجاً، وتوزيعا وثقافة سينمائية بدأ يتأُثر، يقلد، ويستوحي من مهرجاني دبي، والخليج، كانت المنطقة صفحة بيضاء سينمائياً، ولكنها ليست كذلك الآن، الصفحات المليئة منذ خمسين، أو ستين سنة بدأت تراجع نفسها، وآليات عملها.

·         نأتي إلى المقالات المسروقة، ومدونة "سرقات سينمائية"، لماذا توقفت ؟

المدونة لم تتوقف، هي في حالة راحة بعد كلّ النتائج الإيجابية التي حققتها، لأنّ المشرف عليها يعمل، والحمد لله، في مهرجاناتٍ عديدة، والأهمّ، منذ بداية العام، الشعوب العربية منشغلة بسرقاتٍ أكبر، وأعتقد بأنّ العاملين في الوسط الصحفي، والنقدي، ومنهم من تصدى بعنفٍ للمُدونة، وصاحبها، غير مهتمين حالياً بهذا الجانب الصغير من الفساد، وربما سوف ينتظرون ثلاثين، أو أربعين عاماً أخرى كي يتنبهوا إلى خطورته.

·     أثارت المدونة جدلاً كبيراً منذ بداياتها، وقيل بأنها تُذكرنا بالحقبة المكارثية، وأصبحت تتهمّ الجميع، وربما أساءت لبعض الكتاب، والنقاد المعروفين.

المدونة لم تتهمّ، بل أكدت بأنّ هذا الشخص، أو ذاك سارق، وذلك من خلال عرض المقال المسروق، وبجانبه الأصلي، وبخصوص الجدل، هل تقصدين بأنه جاء من عموم العاملين في المشهد النقدي، أم فقط من المذعورين من تلك المدونة التي يمكن أن تكشفهم في أيّ لحظة، من يعمل بصدقٍ، ونزاهة لا مبرر لخوفه، ومن ثمّ، الثقافة السينمائية مهنتي، هل أتقاعس على الدفاع عنها، وأغمض عينيّ بحجة أنه لا يصحّ الكشف، والتشهير، وأنتظر سنواتٍ أخرى كي ننسى، وفي لحظةٍ ما نكتشف، بأننا نقرأ ثقافة سينمائية مسروقة، هل تريدين لنفسك استهلاك مواد غذائية فاقدة الصلاحية، فاسدة، أو مسروقة، هذه ثقافة سينمائية تشكل وعيّ الناس، لو سكتنا عن هذا الجانب، فسوف نسكت عن جوانب أخرى من الفساد.

الجزيرة الوثائقية في

01/09/2011

 

"ميلانكوليا": لارس فون ترايير وفكرة نهاية العالم

أمير العمري 

كثير من السينمائيين تناولوا موضوع نهاية العالم، أي دمار الكوكب الأرضي ونهاية الحياة البشرية أو "يوم القيامة"، حينما تصطدم النجوم والكواكب وينتهي الكون.

غير أن هذا الموضوع الذي ظل يثير شهية الروائيين وكتاب الخيال والسينمائيين طويلا، وعادة ما يتم تناوله في السينما من خلال أفلام يغلب عليها الإبهار، وتتسيد فيها المشاهد الهائلة المثيرة التي تمتليء بالفوضى وتثير الرعب، وتلعب المؤثرات البصرية والصوتية دورا رئيسيا في هذا النوع من الأفلام "الخيال المستقبلي" التي تسعى أساسا، لجذب المتفرجين بالإثارة والحركة والمبالغات الخيالية.

والملاحظ أنه خلال الفترة الأخيرة بدأ عدد من السينمائيين "الجادين"، أي أولئك الذين يمتلكون "رؤية" خاصة للعالم، أو أصحاب الفلسفة الخاصة من وراء التعبير السينمائي من خلال ذلك الوسيط السحري المسمى "فيلم سينمائي"، بدأوا يتجهون للتعبير أيضا عن فكرة نهاية العالم، ولكن من خلال أفلام تختلف كلية عن أفلام هوليوود  المألوفة من النوع المبهر المعروف بـ blockbuster من بين هؤلاء المخرج الدنماركي الشهير المثير للجدل لارس فون ترايير الذي قدم لنا مؤخرا فيلمه الجديد "ميلانكوليا" (أو كآبة).

ولعل الملفت للنظر بقوة في هذا الفيلم أنه أولا لا ينطلق من مدخل تقليدي لتناول موضوع نهاية العالم، أي أنه لا يركز على الظواهر الخارقة، لكنه، بدلا من ذلك، يتعامل مع موضوعه من خلال التركيز على "الأسرة"، وعلى العلاقات داخها، وعلى عزلة الفرد في المحيط الاجتماعي الأشمل، وردود فعل الأفراد إزاء كارثة يعرفون أنها باتت قريبة للغاية منهم، وأصبح أمرهم بالتالي محسوما.. أي أنهم يعلمون أن عالمهم بأسره مقضي عليه بالزوال.

يبدأ الفيلم في مكان غير محدد، قد يكون أمريكا أو الدنمارك أو أي مكان في النصف الشمالي من العالم.

هناك حفل زواج واستعدادات تتميز بالبذخ والثراء الواضح لاستقبال العروس التي يتأخر وصولها كثيرا. والعروس هي "جوستين" (كريستين دانسيت) التي تسعى للوصول للحفل مع زوجها مايكل (الكسندر سكارسجارد). أما الحفل الكبير فقد أنفق عليه شقيق زوجها الذي هو في الوقت نفسه، رئيس شركة للدعاية تعمل لحسابها جوستين عارضة (موديل).

وفي الحفل تلتقي كريستين بشقيقتها "كلير" (شارلوت جينسبرج) التي تختلف عنها تماما، سواء في الملامح أو في السلوك. فبينما تبدو كريستين هادئة الملامح، والانفعالات، تبدو كلير مهتاجة شديدة التوتر. وتلتقي جوستين ايضا بوالدتها (شارلوت رامبلنج) ووالدها (جون هيرت) والاثنان منفصلان منذ زمن، وهنا تشيع الأم في المكان جوا من الفوضى كمقدمة للتوتر الكامن تحت السطح والذي سيتصاعد الى أن نصل للنهاية الصادمة.

جوستين لا تشعر بالراحة بل تنعزل داخل دورة المياه تشعر بالغثيان. وهي تردد أنها "تعرف أشياء" فهي تستطيع بحدسها الداخلي أن تدرك أن هناك كارثة محدقة توشك على الوقوع. كما أنها ترى خيالات تتراءى لها، لكنها لا ترىاها مجرد خيالات أو تخيلات وكوابيس بل اشارات صادرة اليها من ذلك الكوكب العملاق "ميلانكوليا". أما شقيقتها كلير فهي لا تريد ان تصدق أن الكارثة قادمة بل وتبدو مشغولة بتصفية حسابات مع شقيقتها. ومدير الشركة الذي دفع كل هذه الأموال من أجل اقامة الحفل يريد من جوستين أن تحافظ على ابتسامتها ورونقها أمام الكاميرات فهو على الأرجح، سيستغل الحفل في فيلم دعائي لشركته. والجو العام بأكمله يمتليء بالنفاق والكذب والتمثيل والادعاءات ولذا تفر العروس وهي في ملابس العرس البيضاء إلى الطبيعة، تحاول أن تتنفس ولو للمرة الأخيرة، هواء نقيا في الغابة المجاورة للقصر.. تتخلى عن زوجها في نفس ليلة زواجها قائلة له بكل سخرية عندما يبدي دهشته من سلوكها: "وماذا كنت تتوقع"؟

إنها مصابة بحالة من الاكتئاب وكأن اقتراب ذلك الكوكب الغريب الذي أطلق عليه فون ترايير "كآبة" يضفي الشعور بالكآبة على الأرض. ولكن على العكس من شقيقتها كلير، تبدو جوستين في النصف الثاني من الفيلم وقد أصبحت أكثر استسلاما للقادم ولا أقول أكثر هدوءا، في حين أصبحت كلير أكثر اهتياجا واحساسا بالخطر الذي كانت تستنكر وجوده.

يبدأ الفيلم بمشهد سيريالي بديع يستغرق ثماني دقائق نرى فيه جوستين وهي ضائعة بفستانها الأبيض الطويل وسط مساحة خضراء تبدو كما لو كانت أحد ملاعب الجولف.. شقيقتها كلير تحمل طفلا رضيعا.. طيور جميلة رقيقة تتداعى وتهبد من السماء ميتة.. الأرض الخضراء تتحول الى مساحة ممتدة من الرمل مليئة بالطيور الميتة، هذا المشهد ينتهي باصطدم كوكب "ميلانكوليا" بكوكبنا الأرضي بينما نسمع صوت الاصطدام المروع وهو ما سنعود لنراه في النهاية.

كعادته، يستخدم فون ترايير هنا الأسلوب الكلاسيكي الرصين في تحريك الكاميرا، وينتقل منه الى الأسلوب المفاجيء الذي يعتمد على تحطيم المنظور أو اهتزازه، أي على الكاميرا المتحركة المحمولة التي ركز على دورها في اشاعة أجواء واقعية، من خلال منهج مدرسته "دوجما 95" Dogma 95 ويعود أيضا الى التركيز على الأداء التمثيلي الذي توجد في بؤرته هنا بالتأكيد، كريستين دانسيت التي تبدو في هذا الفيلم وقد قطعت ألف ميل في رحلة نضجها. إنها تعبر بالنظرات وتعبيرات الوجه والايماءات الخاصة وحركة الجسد في فضاءات المشاهد، وتبدو كما لو كانت تخفي شعورا داخليا بالرغبة في الهرب من مواجهة اللحظة بالانتحار. لكن من ينتحر فعلا هو زوج شقيقتها الذي يجدون جثته في بحيرة قريبة من ذلك القصر أو الفندق الفخم الذي تجري فيه مراسم العرس.

غريبة مشاهد هذا الفيلم الذي يريد أن ينقل الينا أجواء كابوسية ترتبط بفكرة نهاية العالم وتوقف الحياة على كوكبنا الأرضي، ولكن من خلال أجواء مكتومة، وانفعالات تكمن تحت جلد الشخصيات، برقة ظاهرية، ووحشية داخلية تمزق أنفسنا وتنقل الينا حالة الرعب الداخلي الذي يشل المرء فيجعله عاجزا حتى عن الصراخ. وهذا هو سحر الفيلم وجوهره وسر تميزه.

إنه في رأيي، الفيلم الأول الذي يخرجه لارس فون ترايير منذ فيلم "تحطيم الأمواج" (1986) الذي يمتليء بكل هذا الحزن النبيل، والقلق الانساني الذي يشترك فيه المتفرج مع بطلتنا "جوستين" التي تبدو أقرب إلينا بمشاعرها ورقتها، بضعفها وتماسكها الظاهري في آن. وكما يبرع فون ترايير في تحريك الممثلين والنحكم في أدائهم، يبرع أيضا في اختياره الموسيقى وتوزيعها على مدار الفيلم، وهي تعكس ببراعة أجواء التوتر والقلق المكتوم.

"ميلانكوليا" حتى الآن، هو أفضل أفلام الكوارث الكونية رغم أنه لا يصور الكارثة باستثناء تلك اللقطة الوحيدة التي يقترب فيها ذلك الكوكب الغامض العملاق من الأرض ولا نراه، بل نشعر باصطدامه بكوكبنا ونسمع صوت ذلك الارتطام العظيم، ونرى ظلام الشاشة كما لو كنا ونحن جالسون في دار العرض السينمائي، قد أصبحنا جزءا من "العرض" أي أننا نشهد أيضا دمارنا ونهايتنا.

ولاشك أن سحر هذا الفيلم يكمن في تلك القدرة على توليد كل تلك المشاعر والأحاسيس من خلال عمل لا يدعي ولا يتحذلق ولا يستخدم طريقة استعراض العضلات للابهار.

الجزيرة الوثائقية في

01/09/2011

 

"36 ساعة من بنغازي إلى بن جواد"

جدلية السياسي والعائلي في ثورة 17 فبراير

د.العادل خضر - باحث تونسي 

لعلّ ما يلفت الانتباه في شريط "36 ساعة من بنغازي إلى بن جواد" (إخراج صهيب أبو دولة) الذي عرضته الجزيرة الوثائقية الأسبوع الماضي، هو هذا التّداخل بين واقع الحرب الكارثيّ وواقع العائلة (اللّيبيّة) التّراجيدي. فمن خلال رحلة فريق التّصوير من بنغازي إلى بن جواد، صحبة مجموعة من الثّوّار الشّبّان، تتوالى الصّور راسمة مشاهد الخراب الّتي خلّفتها الحرب في المباني والمساكن والمنشآت. ومن حين إلى آخر تتوقّف الرّحلة قليلا للتّزوّد بالوقود والعتاد والأخبار. لا شيء يثير القلق سوى ندرة الأخبار: أخبار الحرب على الميدان، وأخبار العائلة والأقارب. فتوفيق أبو رمضان قائد هذه الرّحلة، هو ببساطة شابّ ثائر هبّ لشيء واحد هو تحرير ليبيا من القذّافي وأبنائه والمرتزقة. وأشباه توفيق أبو رمضان كثيرون من الثّوّار الشّبّان. فالشّابّ مفتاح حسن طالب في الجامعة، سرعان ما ترك مقاعد الدّراسة والتحق بجبهة الثّوّار. صار فجأة مقاتلا، أو فرضت عليه الحرب أن يغيّر من لباسه المدنيّ ليصبح مرتديّا لباس الجنديّ. والحقيقة أنّ الحرب فرضت قوانينها اللاّبشريّة على البلاد والعباد. لم تعد مدن كالبريقة وأجدابيا وراس لانوف والهراوة وبن جواد أو سرت عامرة بالنّاس، تضجّ بالحياة كما كانت من قبل. كلّ شيء قد قلبته الحرب وغيّرت من وظائفه. لم تعد المدن صالحة للسّكن بعد أن فقدت أهمّ وظائفها، وهي حماية الإنسان بالعيش فيها معا. فأثناء هذه الرّحلة تباغتنا من حين لآخر صور السّيّارات محمّلة بالعائلات، وهي تغادر المدينة بعد أن انعدمت أسباب الحياة فيها. فأجدابيا الّتي توقّف عندها فريق التّصوير قد تعرّضت لقصف شديد خلّف خرابا مريعا في المرافق. فالمستشفى غير مجهّز بأبسط الضّروريات: النّور والماء. كلّما مرّ مرتزقة القذّافي خلّفوا الموت والدّمار. كلّ من وجدوه قتلوه. يتوقّف قائد الرّحلة توفيق أبو رمضان أمام منزله. لم تسلم داره من القصف، ولم تسلم عائلته من الشّتات. لقد انقطعت عنه أخبارهم منذ ثلاثة أسابيع. وهو في الحقيقة مثال من آلاف العائلات الّتي تشرّدت، وتشتّت أفرادها، وفُقِدَ الكثير منهم أثناء قصف الطّيران أو في المعارك الّتي كانت تشنّها كتائب القذافي.

حتّى السّيّارات قد تغيّرت وظائفها. لم تعد صالحة للاستعمال الحضريّ، وإنّما أصبحت سيّارات محاربة تحمل المدافع والرّشّاشات والمقاتلين من الثّوّار. تقف سيّارة التّصوير للتّزوّد بالوقود. فنعلم من قائد الرّحلة أنّ محطّات البنزين قد تحوّلت إلى محطّات تزويد مجانيّ لسيّارات الثّوّار.

حتّى الحكايات قد تغيّر موضوعها. في الاستراحات النّادرة حيث يلتقي الثّوّار للسّمر كان كلّ واحد يروي ما حصل له أو لغيره من مآس. تفوح من هذه الحكايات رائحة التّراجيديا. شيء مّا في الرّابط العائلي قد تمزّق بالحرب.

حتّى العواطف ممنوعة أو مكبوتة، أو قد تجمّعت في انفعال واحد طغى على كلّ الأحاسيس، هو الغضب. وليس للغضب الّذي اندلع يوم 17 فبراير سوى اسم واحد هو هذه الثّورة الّتي سجّلها الشّعب اللّيبيّ في التّاريخ بآلاف الضّحايا والكثير من الدّماء. تسمع إلى كلّ من تكلّم من الثّوّار في هذا الشّريط وتشاهده وهو يتكلّم بوضوح وهدوء ويقين، فتفهم أن ليس لهذه الثّورة سوى عدوّ واحد وهدف واحد هو الإطاحة بالطّاغية ومرتزقته وآلته الحربيّة.

حتّى الصّلاة قد تغيّرت روحانيتها. فمشاهد الصّلاة والسّلاح أمام المصلّين من الثّوّار مؤثّرة حقّا. يصلّي الثّائر وكأنّه يقيم كلّ صباح صلاته الأخيرة، صلاة موته. هذه المشاهد الّتي التقطتها عدسة الكاميرا في رحلتها إلى بن جواد هي في الواقع شهادة ثمينة على هذا الانتقال الكارثيّ من وضع الإنسان المدنيّ المسالم إلى وضع الإنسان المحارب. وهو انتقال قد فرضته الحرب بعنف شديد لمّا قلبت الفضاء العموميّ في المدينة إلى ساحة وغى.

تصل الرّحلة إلى نقطتها الأخيرة: بن جواد، في خطّ النّار الأماميّ، حيث يدور قتال بين الكتائب والثّوّار. القصف متبادل من الجانبين. ولكن خسائر الثّوّار كانت ثقيلة. فقد تعرّضوا لكمين نصبه القنّاصة. نسمع أثناء تبادل القصف تهليل الثّوّار وتكبيرهم. أحد الثّوّار قد استشهد وتوفّي برصاص قنّاص. القوى غير متوازنة بين الجهتين. الكتائب جيش نظاميّ منظّم ومجهّز ومدرّب على القتال. أمّا الثّوّار، رغم حماسهم الكبير، فينقصهم الكثير: العتاد والخبرة القتاليّة، وخاصّة التّواصل بين الخطوط المحاربة الأماميّة والخلفيّة. بعض الجرحى يتّجهون إلى سيّارة الإسعاف. لم يتمكّن الثّوّار من اقتحام بن جواد. وأمام تقدّم كتائب القذافي للسيطرة على راس لانوف تقرّر المجموعة العودة إلى بنغازي لدراسة ما حدث.

أثناء العودة كانت تنتظر قائد الرّحلة مفاجأة سارّة في يوم ثقيل هو العثور على عائلته بالبريقة. ينتهي الشّريط نهاية سعيدة، ولكنّها كالبشارة الغامضة: هل ستتمكّن العائلة اللّيبيّة الّتي مزّقتها الحرب من لمّ شملها؟ أم أنّ الحرب ستخلق شكلا سياسيّا جديدا من العلاقات في الفضاء العموميّ اللّيبيّ؟ وأشكالا جديدة من العيش معا في المدينة اللّيبيّة؟

الجزيرة الوثائقية في

01/09/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)