عندما ظهر جيل أصحاب اللحى (كوبولا، سكورسيزي
ورفاقهما) خلال النصف الأول من
سبعينات القرن الفائت في هوليوود، ليحقق أصحاب هذا الجيل واحدة من أهم
الثورات في
تاريخ عاصمة السينما عبر أفلام راوحت بين الدنو المباشر من السياسة
وكواليسها،
والغوص المتجدد في لغات سينمائية جديدة، كان القاسم المشترك في
تصريحات
مبدعي ذلك الجيل، انهم لم يطلعوا من العدم، ولم يأتوا جديداً في تاريخ
السينما
الأميركية الحديثة. للوهلة الأولى اعتبر كثر هذا النوع من الكلام تواضعاً
من مخرجين
شبان وجدوا ان نجاحهم المباغت (عبر أعمال مثل «العراب» و «سائق التاكسي» و
«مبارزة»...
الخ) يعطيهم امكانية ان يبدوا كريمي الأخلاق الى ذلك الحد. غير أن
إمعاناً في التأريخ لحركتهم السينمائية، راح يزيد من اليقين انهم، جميعاً،
إضافة
الى انتمائهم المعلن والبيّن الى نوع متقدم من السينما
الأوروبية، بل كذلك الى بعض
سمات السينما الآسيوية، كانوا جيلاً يتابع ما اشتغل عليه جيل أميركي أتى
سابقاً لهم
في شكل مباشر. الجيل الذي يمكننا اليوم ان نقول انه هو «الجيل المؤسس»، حتى
وإن كان
قد ظلم لكونه أتى «مطحوناً» بين جيل العمالقة (من ويلز وفورد ووايلدر، الى
وايز
وهستون...)، وبين جيل أصحاب اللحى. كان جيلاً مطحوناً بالتأكيد، ولكن ليس
في مجال
قدرته على تحقيق أفلامه وإنجاحها واكتساب جمهور عريض يشاهدها
في أميركا والعالم،
ونقاد يواكبونها، بل في مجال تحوّل أفلامهم الى أعمال يؤرخ من خلالها لتطور
أساسي
في السينما الأميركية. ونقول هنا تحديداً في السينما الأميركية، لأن الجيل
التالي،
كان، أكثر منهم، ذا أثر أساسي في السينما العالمية، أكثر مما
في السينما
الأميركية.
في هذه العجالة قد يبدو هذا الكلام معقداً بعض
الشيء، وقد يبدو
تبسيطياً، لأن التيقن منه في حاجة الى تحليل وتأريخ تفصيليين. ومع هذا
نغامر ونقول
ما يمكن قوله حول هذا الأمر، وبالتحديد انطلاقاً من رحيل واحد من أبرز
مبدعي هذا
الجيل «المطحون» منذ أيام، ونعني به سدني لوميت، الهوليوودي
بامتياز، وإنما بالمعنى
العميق للكلمة. أي الهوليوودي الذي بكّر في إدراك الدور الذي يمكن الفن
السابع أن
يفعله بتأثيره العميق في ذهنيات الجمهور، وبقدرته الهائلة - بالتالي - على
أن يكون
ذا دور في التوعية، إنما من دون أن يفارق في الوقت نفسه دوره،
في الترفيه وفي الحكي -
أي في جعل الفيلم في حد ذاته حكاية، توصل، رسالة. وليس رسالة لا تعبأ بأن
توصل
الترفيه أيضاً. وفي هذا الإطار، يمكننا ان نجمع ان سينما لوميت، كما سينما
سدني
بولوك وآرثر بن وجون فرانكنهايمر، وأقل منهم مجايلهم ويليام
فردكين، الذي هو الوحيد
الذي لا يزال على قيد الحياة من بين هؤلاء الخمسة الذين شكلوا العلامات
الأساس
للجيل الذي نتحدث عنه.
هم إنساني... سياسي
لقد حقق هؤلاء، وعلى الأقل
خلال الثلث الأخير من القرن العشرين - وخلال العشرية الأولى من
القرن التالي له -
بالنسبة الى البعض - أفلاماً شعبية بالتأكيد، ولا نقول جماهيرية طالما ان
القسم
الأعظم من أفلامهم لم يأت أعمالاً ضخمة تزحف مئات الملايين لمشاهدتها.
وشعبية هذه
الأفلام، أو معظمها، إنما أتت أولاً من كونها تحمل حكايات آتية
من صلب الواقع
الاجتماعي، وغالباً مع نجوم تمكنت أسماؤهم من اجتذاب المتفرجين وإن
باعتدال، وعبر
لغة سينمائية مفهومة حتى وإن دنت من التجديد بعض الشيء. وكل هذا في إطار
موضوعات
تلامس الهم الإنساني وربما السياسي أيضاً. ولئن كان من الصعب
هنا استعراض نحو مئتي
فيلم مميز - في غالبية الأحيان - حققها أبناء هذا الجيل ولم يتوقف كل منهم
عن
تحقيقها حتى السنوات الأخيرة من حياته، فإن من المفيد في المقابل أن نذكر
بعض أبرز
أفلام أبناء هذا الجيل، وهي في معظمها أفلام عرفت على نطاق واسع في شتى
أنحاء
العالم، إضافة الى ان معظمها إما نال الكثير من جوائز
الأوسكار، خلال العقود
السابقة أو سمّي لنيل تلك الجوائز. من «بوني وكلايد» و«المطاردة» لآرثر بن،
الى «الوصلة الفرنسية» و «الراقي» لفردكين، الى
«7 أيام في مايو» و «القطار» و«المرشح
المنشوري» لفرانكنهايمر، مروراً بـ «أيام الكوندور الثلاثة» و «جيريميا
جونسون» و «خارج أفريقيا» و «انهم يقتلون الجياد أليس
كذلك؟» لسدني بولوك، ومروراً كذلك بعدد
كبير من أفلام سدني لوميت، الذي ربما يصح اعتباره من بينهم،
المبدع الذي واصل العمل
من دون انقطاع على مدى خمسين سنة كاملة، إذ إن فيلمه الروائي الطويل الأول،
والأشهر
بالتأكيد «12 رجلاً غاضباً» يعود الى عام 1957، فيما نراه يحقق فيلمه
الأخير، وربما
الأقوى في مساره، «قبل أن يعرف الشيطان أنك متّ» في عام 2007.
إذاً، خلال
خمسة عقود كاملة من السنين حقق لوميت مساراً سينمائياً يكاد
يكون ثابتاً، في طريقة
دنوه من موضوعاته، كما في لغته السينمائية التي، على رغم خصوصيتها، تبدو
أقرب الى
الكلاسيكية، وكما - كذلك - في اختياراته ممثليه، الذين يحملون الأسماء
الأبرز في
هوليوود على مدى أزمان طويلة، وبشكل محدد يتألف المتن
السينمائي للوميت، من 44
فيلماً تمتد على مدى الخمسين سنة التي نتحدث عنها هنا. وهذا، من دون حسبان
الأعمال
الكثيرة التي حققها للتلفزيون سنوات قبل إقدامه على تحقيق «12 رجلاً
غاضباً» الذي
كان بدوره على أية حال عملاً تلفزيونياً مقتبساً من مسرحية
ناجحة لـ «ريجنالد روز».
وهنا قد يكون مفيداً أن نذكّر بأن معظم المخرجين من أبناء هذا الجيل الذي
نتحدث
عنه، كانوا في الأصل جيلاً آتياً من العمل التلفزيوني، حيث إن سنوات
الخمسين
وبدايات الستين من القرن الفائت كانت شهدت فورة في انتقال
المبدعين من الشاشة
الصغيرة الى الكبيرة، وغالباً من طريق أعمال مسرحية كان في الإمكان تحويلها
الى
أعمال سينمائية. ونعرف ان هذا التوصيف ينطبق، تحديداً على «12 رجلاً
غاضباً» (التي،
ويا للصدفة، سيعيد ويليام فردكين إنتاجها للتلفزيون عام 1997).
والحقيقة أن دنو
لوميت من الحس الاجتماعي بدأ بالتحديد مع هذا الفيلم المبكر، الذي حاول أن
يسبر
أغوار لعبة القضاء والمحاكمة من خلال حكاية 12 محلّفاً، يجتمعون داخل غرفة
جانبية
في المحكمة لإصدار حكمهم الإجماعي على فتى متهم بقتل أبيه.
ويفشلون بدءاً من واحد
منهم لا يرى الأدلة كافية. لقد كان من الممكن لهذا الفيلم أن يفشل ويبدو
مملاً إذ
يستغرق ساعة ونصف الساعة في غرفة مغلقة بين 12 ذكراً، لكن عمق الحوار، وقوة
السيناريو وبراعة الممثلين (وعلى رأسهم هنري نوندا، ولي. جي.
كوب) جعلته عملاً
شيقاً قوياً لا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من أعظم 100 فيلم أميركي حققت
طوال قرن
بأكمله.
مواضيع أساسية مشتركة
ولقد أمّن هذا الفيلم لمخرجه الشاب
آنذاك (33 سنة)، نجاحاً وسمعة كبيرين، هو الآتي من أوساط الفنانين
النيويوركيين
(كان
أبوه ممثلاً) والذي تقلب في مهن عدة ومن بينها التمثيل، ثم الإخراج المسرحي
والتلفزيوني قبل وصوله الى الشاشة الكبيرة. والحقيقة ان هذه العناصر كلها
ستلعب
أدواراً أساسية في مسار لوميت الإبداعي، من ناحية قدرته
المدهشة على إدارة
الممثلين، كما من ناحية قوته التقنية، ناهيك بتميزه بخاصة في أفلامه التي
اقتبسها
من المسرح (ومنها أعمال لأستاذيه آرثر ميلر ويوجين أونيل، اللذين «استعار»
منهما
بعض الثيمات الرئيسة، مثل التفكك العائلي، وحتمية فشل الحلم
الأميركي والصراع بين
الآباء والأبناء، وفكرة التوبة والغفران، والشعور بالذنب... ولعل من اللافت
هنا
حقاً أن يلاحظ من يشاهد آخر أفلام لوميت، «قبل أن يعرف الشيطان أنك متّ»،
كيف ان
الرجل جمع كل هذه «الثيمات» معاً، في فيلم أخير بات يمكن اليوم
اعتباره وصيته
الفنية والفكرية في آن معاً).
بعد «12 رجلاً غاضباً» واصل لوميت طريقه
السينمائي، ولكن في البداية، في تأرجح حقيقي بين المسرح والسينما، وغالباً
عبر لغات
فنية اختزالية، استقاها من تجاربه التلفزيونية. وإذا كان من الصعب للذاكرة
أن تحتفظ
بكل ما حققه لوميت في سنواته الأولى، فإن في الإمكان - في
المقابل - ذكر أعمال لا
تزال حية الى الآن مثل «النوع الذي يهرب» من بطولة مارلون براندو وجوان
وودوورد (من
ينسى يا ترى هنا سترة براندو ودراجته النارية؟). ولوميت بعدما حقق عملين
مسرحيين
(«منظر من الجسر» لميلر، و«رحلة النهار الطويلة الى الليل» لأونيل)، عاد
الى
السينما المباشرة في فيلم يقارب كثر بينه وبين رائعة ستانلي كوبريك «دكتور
سترنيجلاف» وهو «النقطة الفاصلة» (1964) الذي سخر فيه من السلاح النووي في
عز الحرب
الباردة. وهو زار الحرب أيضاً في فيلم تالٍ له هو «التلّ»، غير
انه سرعان ما عاد
الى الواقع الاجتماعي متفرساً في الحلم الأميركي، انما نسائياً في
«المجموعة» الذي
يتميز، في زمنه (1966) بجرأة نادرة من خلال تفحصه مصائر ثماني رفيقات تخرجن
من
واحدة من أفخم المدارس النسائية الأميركية.
اثر «المجموعة» ونجاحه راح لوميت
يحقق فيلماً في العام تقريباً، وراحت أفلامه تحقق نجاحات لا بأس بها، من
دون أن
تفوته ضرورة الإطلال على الواقع السياسي المباشر (حقق في عام
1969، شراكة مع جوزف
مانكفيتش فيلماً بات شهيراً عن مارتن لوثر كنغ). وهو اثر هذا بدأ سلسلة
أفلامه
التشويقية، عبر أعمال مثل «شرائط اندرسن» و «لعبة الشيطان» و «الإهانة» قبل
أن يصل
عام 1973، الى تحقيق واحد من أهم أفلامه «سربيكو»، مع آل
باتشينو، والذي عمّق فيه
إدانته الممارسات البوليسية والفساد في دوائر الشرطة (وهو ما كان بدأه،
انما على
صعيد أكثر فردية، في «الإهانة»، ذلك الفيلم الأسود، والذي كان في الوقت
نفسه إشارة
الى الفشل، كمصير إنساني حتمي). والفشل هو سمة أساسية من سمات «سربيكو»
يتصف
بالتضاد التام مع النهايات الهوليوودية السعيدة. وهو الفشل
نفسه الذي سنجده بعد «سربيكو»
بسنتين في «بعد ظهر يوم كلب» (1975)، المتحدث عن محاولة لسرقة مصرف تنتهي
الى مجزرة... في عملية كانت أصلاً محكومة بالفشل. (الموضوع نفسه الذي سيعود
اليه في
آخر أفلامه). ولسوف يكون لافتاً ان لوميت، الذي عرج في «بعد
ظهر يوم كلب» على الدور
الطفيلي، المفسد للإعلام التلفزيوني في المجتمع سيكرس فيلمه التالي «نتوورك»
كله
لهذا الموضوع. ولسوف يكون هو، في عام 1976 عام تحقيق هذا الفيلم، من أول
الذين
استخدموا الشاشة الكبيرة لإدانة إفراطات أختها الصغيرة، في عمل
لا يزال مرجعاً
أساسياً في هذا المجال حتى اليوم.
آخر الحكواتية
والحقيقة ان
«نتوورك»
أمّن للوميت مكانة كبيرة في السينما الحديثة، مكانة سيعززها الكثير من
أفلامة التالية، والتي عاود يحوّم فيها حول موضوعات وأفكار مشابهة، من
«أمير
المدينة» (1981) الى «فخ الموت» فـ «الحكم» (1982)، وصولاً الى
الدنو من مفهوم
السلطة العليا نفسه، مثلاً في «السلطة» (1986)، علماً بأن تناوله السلطة
مباشرة في
هذا الفيلم تأتي تتويجاً لتناوله لها، مواربة، في أفلام أخرى قد
تكون تشويقية أو حتى كوميدية، أو في شكل رمزي. ذلك ان سدني
لوميت كان، وبقي حتى آخر
أيامه الأخيرة، مخرجاً يتفرس في زمنه وفي تقلبات هذا الزمن سواء اتخذت
أفلامه سمة
مباشرة أو غير مباشرة، فهو، بعد كل شيء، كان مثل الحكواتية المنتمين الى
أزمان
ماضية: يروي، يسلّي ويعلّم في الوقت نفسه. ويعرف ان سينماه لن
تكون فعالة إن لم تصل
الى الجمهور العريض. ترى أولسنا حين نقول هذا، نبدو كمن يصف، ليس فقط سينما
سدني
لوميت، بل أيضاًَ سينما زملائه من أبناء هذا الجيل، الذي - حتى وإن كان
يكرّم في كل
المناسبات، ويذكر عند الرحيل بأطيب الكلمات، ظل - إعلامياًَ -
مهمشاً، لمصلحة أجيال
سابقة - توصف بأجيال العمالقة - وكذلك لمصلحة أجيال لاحقة - توصف بأجيال
التثوير؟
الحياة اللندنية في
15/04/2011
«إذا
مت سأقتلك» ... ومن الحب ما
قتل
باريس - ندى الأزهري
لاقى فيلم المخرج الكردي العراقي هنر سليم «إذا مت سأقتلك»، الذي يعرض
حالياً في
الصالات الفرنسية، استحساناً مدهشاً من قبل الصحافة النقدية
الفرنسية (ما عدا
واحدة)، التي وهبته من النجوم ما يثير الاستغراب وأيضاً التساؤل عن قيمة
النقد
أحياناً حين يتعلق الأمر بأفلام تنتمي إلى ما يصنف هنا بـ «اللائق سياسياً»
أو
«اللائق
اجتماعياً».
بمعنى: هل يجب القول ان هذا الفيلم جيد لمجرد كونه يتناول قضية ما؟ أو يصنف
فيلم
ما بأنه رائع لانتصاره لفكرة سياسية أو لقضية اجتماعية فتكون
الاعتبارات الأخلاقية
والفكرية وأحياناً الدعائية الحافز الأول لتقديره؟
محب السينما الذي تشغله الأعمال التي توازن بين الفكري والأخلاقي والفني
والتي
لا تنسى خلال معالجتها للقضايا الإنسانية الاعتناء بكل ما يصنع
من العمل فيلماً ذا
قيمة فنية، لا بد من أن يراوده شك أنه دخل القاعة الخطأ وهو يتابع أحداث
«إذا مت
سأقتلك» ويظل يتساءل طوال ساعة ونصف: ولكن، لمن كل هذه النجوم (التي يضعها
النقاد
في فرنسا كعلامة على جودة الفيلم)؟!»، ولمن كتبت عبارة
«الكوميديا الأكثر طرافة
والأكثر حيوية والأكثر ذكاء والتي لم نشاهدها منذ زمن طويل»؟
لمحات من الطرافة
في هذا الشريط الساخر الذي أخرجه صاحب «كيلومتر صفر» المقيم في باريس،
لمحات من
الطرافة المميزة إنما غير الكافية في قصة مركبة باهتة الحوار
كل شيء فيها يحدث
بالصدفة. يلتقي صديقان بالصدفة ويموت أحدهما بالصدفة ويقع الثاني في حب
خطيبة الأول
بالصدفة وتلتقي الخطيبة بامرأة (لطيفة، يا للصدفة أيضاً) بالصدفة في
المطار، تنقلها
بسيارتها وتتركها بالصدفة في حي باريسي تكثر فيه الفنادق.
فرنسي (جوناتان زكَاي، لافت) وكردي (بيلي ديمرتاس) يلتقيان في شوارع باريس،
يعرض
الأول على الثاني الإقامة معه بعد معرفته أنه من دون مأوى ثُم
يبحث له، بناء على
طلبه، على «أي عمل مهما كان»، وسيكون هذا العمل بيع جسده للعجائز
الباريسيات. لكن
الكردي القادم من بلجيكا إلى فرنسا بهدف قتل مجرم حرب عراقي كما أخبر
صديقه، يموت
بغتة بأزمة قلبية. يبدأ «فيليب» بالبحث عن طريقة لإخبار خطيبة
«أفضال» في كردستان
العراق بعدم القدوم لملاقاة خطيبها في باريس كما كان مقرراً، فيقرر التوجه
إلى الحي
الذي تكثر فيه الجالية الكردية في باريس لمساعدته للاتصال بـ «صبا»
(الممثلة
الإيرانية كلشفته فراهاني)، لكن هذه كانت قد وصلت، وها هي في
المطار تنتظر من لا
يأتي.
في باريس، تتذوق الفتاة طعم الحرية وتقرر البقاء وعدم العودة إلى بلدها
رافضة
الوصاية عليها، سواء من الجالية أو من عائلة خطيبها السابق،
مصممة على إكمال الطريق
بمفردها، في تحد لكل التقاليد التي فرضت عليها. هذه النظرة النسوية والسلوك
المتحدي
لفتاة شرقية فيهما ما يبهر حقاً العين الغربية.
إنما المشكلة هنا، فهي ان الشخصية لم تجسد دور كردية من عائلة محافظة تهبط
للمرة
الأولى في مدينة غريبة بلغتها وعاداتها وأهلها، بل بدت باريسية
منذ خطواتها الأولى
في المطار الفرنسي، ومتحدية منذ اللقاء الأول مع أفراد جاليتها سواء
بموقفها من
العذرية أو بملابسها الكاشفة، وهي تبنت مواقف تتناقض مع ما هو متوقع من
فتاة شرقية
تعرّف المشاهد على خطيبها وعلى شقيقها قبل أن تظهر هي، وبالتالي توقّع أن
تكون ابنة
بيئتها، متناسبة إن لم يكن مع الأخ فمع الخطيب على الأقل، بخاصة أن الحب،
وليس خطبة
تقليدية، ما جمع بينهما. المفاجأة تأتي منذ المشهد الأول لها
لتستمر خلال بقية
المشاهد.
فصبا تتحدث الفرنسية وتكشف عن نحرها وتتجول بثقة في مدينة لا تعرفها وتدبر
أمرها
بسهولة العارف بالمكان، ولا تكف عن الاتصالات الهاتفية ببلدها
من الفندق، ولا تبدو
معنية بالتقاليد او بقلة المال على الإطلاق. أما الأكثر إدهاشاً فهو
مهارتها
العالية في عزف البيانو ومقارعتها في ذلك لجارتها الفرنسية. شخصية «صبا»
بدت مختلقة
وغير مقنعة كأنها فصلت على مقاس الممثلة الإيرانية الجميلة في
بحثها عن الحرية
والاستقلالية بعيدا عن وطنها.
فكلشفته فراهاني، هي الممثلة الإيرانية التي تركت بلدها لتستقر في باريس
منذ
اكثر من عامين. وكانت فراهاني نشأت في إيران في جو فني فوالدها
كاتب ومخرج وكان
معارضاً للشاه وشقيقتها ممثلة. كما كانت قد برزت في أدوار عدة قبل مغادرتها
وطنها،
وعملت مع مخرجين هامين كدريوش مهرجوي «علي عازف السنتور» وأصغر فرهادي «عن
إيلي»
والناصر الخمير «بابا عزيز»، ولكن بعد ظهورها من دون حجاب في فيلم ريدلي
سكوت «كتلة
من الأكاذيب» عام 2008، بدأت سلطات بلدها بمضايقتها فمنعت فترة من السفر،
لكنها
استطاعت الخروج بتصريح موقت لتقرر بعدها عدم العودة.
ومما تردد في إيران أثناءها انه سمح لها بالعودة فيما بعد، إنما بشروط
ومنها
التوقف عن العمل لمدة سنة ثم معاودته من خلال التمثيل في
مسلسلات تلفزيونية.
الممثلة التي خشيت عدم السماح لها بالخروج إن عادت ثانية إلى إيران، قررت
البقاء في
باريس وكان «إذا مت سأقتلك» أول ظهور سينمائي لها، وقد تكون بعض المشاهد في
الفيلم (مشهد لها تحت الدوش وآخر وهي تقبل الفرنسي)
إعلان قطيعة نهائية لعودة فراهاني إلى
بلدها في الأجل القريب.
أما تعاونها مع مواطنتها مرجان ساترابي في فيلم يحكي قصة حب تدور أحداثها
في
إيران الثلاثينات لكنها صورت في ألمانيا، فقد يكون حدث مهرجان
«كان»
القادم.
الحياة اللندنية في
15/04/2011
«تيتا
ألف مرة»: ألبوم عائلي من الزمن
الجميل
بيروت - فيكي حبيب
هل هي عودة الى القيم العائلية؟ أم هو نوع من غياب ذلك الحاجز «الوهمي» بين
نظرة
ابن العائلة وواقع عائلته؟ أم ان في الامر نوعاً من ممارسة
السبر الاجتماعي، بدءاً
من نظرة الى العائلة أو الى فرد معين منها؟
أياً يكن نوع الإجابة، لا بد من ملاحظة، هو ان بعض السينمائيين اللبنانيين
الطامحين اليوم الى تحقيق ما يمكن اعتباره أفلامهم الأولى،
ينحون الى البدء بالتحدث
عن العائلة، أو عن أفراد معينين منها، وربما احياناً عن فرد واحد. وهذا
الرصد
الجديد من نوعه نسبياً، يبدو متعارضاً مع نوع آخر كان يهيمن في السبعينات
والثمانينات من القرن العشرين على اعمال أولى لسينمائيين
محليين أو في الخارج، كان
الواحد منهم يفضل ان يجعل فيلمه متحدثاً عنه شخصياً. وأحياناً، يصوره وهو
ينظر الى
العالم من حوله، بغضب، انطلاقاً من منظومة الغضب مـن كل شيء وعلى أي شيء.
الاختلاف بين الحالتين ليس بسيطاً. وهو بالتحديد ما يطرح الأسئلة التي طرحت
هنا.
إذ نشهد في لبنان، بين بلدان أخرى، سينمات تبدو - وثائقياً على الأرجح -
وكأنها
ألبومات عائلية. ويمكن على سبيل الإشارة، العودة الى اكثر من عمل مبكر
حققته دانيال
عربيد، مصوّرة خالاتها وعماتها في محيطها العائلي، بحيث كان
هذا التصوير الى حد ما،
نوعاً من التمرين للتعامل مع شخصيات معينة في فيلمها الروائي الطويل الأول
«معارك
حب»، حين استخدمت، حتى، بعض أفراد العائلة كممثلين في الفيلم. كما يمكن
العودة الى
الفيلم المميز للسينمائي الشاب سيمون الهبر «سمعان بالضيعة»
الذي نجح من خلاله
المخرج الى حدّ كبير في رصد يوميات عمه في قريته التي عاد إليها بعد تهجير
أبنائها
المسيحيين قسراً أثناء الحرب اللبنانية، فكان واحداً من أبرز الأفلام
اللبنانية
الوثائقية التي انطلقت من الخاص لتعبّر عن العام بطريقة يتفاعل
معها الجمهور
انطلاقاً من شخصية عمّ المخرج «سمعان» الآسرة بروحها المرحة وصلابتها.
الماضي الجميل
آخر الوافدين في هذا المجال، المخرج الشاب محمود قعبور الذي بعد فيلمه
الأول «ان
تكون أسامة»، اختار في فيلمه الثاني «تيتا ألف مرة» ان ينظر
الى عائلته من خلال
شخصية جدته، فاطمة الرشيدي، مركزاً على هذه السيدة الاستثنائية، التي ستقول
حفيدتها
لاحقاً في الفيلم انها «إن رحلت فستتفكك العائلة كلها». ومن هنا بدت فاطمة
طوال زمن
الشريط (48 دقيقة) أشبه بقاعدة أساسية لحياة عائلية لا يريدها
احد ان تفلت من بين
يديه. وهي هنا، إنما تبدو صلة وصل بين ماضٍ جميل في طريقه الى النسيان،
وحاضر ما
عاد يشبه في شيء ذاك الماضي. فالبيت الذي كان يضج بصراخ الأولاد وشقاواتهم
بات
واسعاً على الجدة وخادمتها الاثيوبية. ومعزوفات الجدّ محمود
قعبور الليلية على آلة
الكمان اشتاقت إليها أرجاء البيت بعد 20 عاماً من الغياب.
وحدها النارجيلة لا تزال رفيقة الجدة وملاذها في هذه الدنيا التي تفصلها
عنها
شرفة تطل بها الى العالم بعدما أرهقها العمر (83 سنة). ومع هذا
تبدو الـ «تيتا»
واعية لكل التفاصيل وأقوى من المرض. فعلبة الأدوية الضخمة التي من شأنها ان
تخيف اي
كان، لا تخشاها الـ «تيتا» فاطمة بل تواجهها بالسخرية. وعدم تعلمها القراءة
والكتابة لا يقف حاجزاً دون معرفتها اسماء الأدوية الكثيرة في
السلة. اما روحها
المرحة فكفيلة بسرقة ضحكات المشاهدين وإنقاذ الفيلم من بعض الهفوات التقنية
مثل
التقاط الكاميرا للجدة وحفيدها وهما يتحاوران في لقطات جالسين الى جانب
بعضهما
البعض في شكل متكرر... او إنقاذه من أسلوب سينمائي قد يرى فيه
بعضهم تركيباً ثقيلاً
للأحداث، بحيث يشعر المشاهد على طول الدقائق بوطأة الكاميرا، ما قد يشكل
عائقاً في
المشاهدة.
يتبدى هذا، في محاولة المخرج الشاب الحامل اسم جده والأغلى على قلب جدته
لشبهه
برفيق دربها، إعادة ألبوم الذكريات امام عينيّ الـ «تيتا»
فاطمة، ولكن من دون أن
يكتفي بسماع ما لديها فحسب، إنما بتدخله المستمر في سياق الأحداث.
فإذا كانت التسجيلات لمعزوفات الجدّ أعادت الجدة والمشاهد معها بعذوبة الى
زمن
ولّى، فإن في المشهد المركب للمخرج وهو يرتدي طربوش جده
وبذلته، متأبطاً ذراع جدته
في الشارع بينما الجارة تنثر عليهما الرز في استعادة ليوم زفافها بمحمود
الجدّ،
كسراً لنوستالجيا عبق نسيمها في أرجاء الفيلم لدقائق.
يقال هذا أيضاً بالنسبة الى مشهد آخر يجمع العائلة كلها حول الجدة الراقدة
على
سرير الموت، وفي العيون حزن عميق قبل ان تفاجئ الـ «تيتا» من هم وراء الكاميرا بأن
كل شيء لعبة حين تستيقظ بعد لحظات من الصمت لتسأل إن أجادت الدور.
تواطؤ
ولا شك في أن اتقان الجدة لعبة التواطؤ مع الكاميرا والتحدث إليها وفي
وجودها،
وكأنها ممثلة من زمن بعيد، يشكل ركيزة الفيلم الأساسية، إذا
اعتبرنا ان المخرج، وفي
تركيزه على صنع فيلم كتحية الى جديه، أضاع في طريقه عناصر أخرى مهمة، كان
من شأنها
ان تثير فضول المشاهد. نقول هذا، وفي البال، الثواني التي مرّت سريعاً في
الفيلم
حول العلاقة التي ربطت الجدّ بأشهر فناني الزمن الجميل مثل
وديع الصافي وسعاد محمد
وصباح... فضلاً عن إهمال عامل مهم آخر، كان من شأنه ان يفتح نافذة على
بيروت
الخمسينات وأحوال المجتمع، ويتمثل بكيفية ارتباط ابنة العائلة البيروتية
المحافظة
بعازف كمان. ويشار أيضاً الى عدم استفادة المخرج كما يجب من ذاكرة الفنان
أحمد
قعبور (ابن الـ «تيتا» فاطمة) وعلاقته بوالديه.
أياً يكن الامر، نجح محمود قعبور في اختيار جدته لتكون محور فيلمه الثاني.
اختيار منحه جائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان «الدوحة – ترايبيكا»،
ومثلها في «أيام سينما الواقع» (Dox Box)
في سورية، علماً انه بدأ عروضه البيروتية
أمس وفي انتظاره عرض خاص في «مهرجان ترايبيكا للأفلام» في نيويورك.
الحياة اللندنية في
15/04/2011 |