إحدى أبرز اللقطات التي
تظهر سريعاً على شاشة العقل البشري، عند شيوع نبأ رحيل الممثلة إليزابيت
تايلور،
كامنةٌ في صُوَر فوتوغرافية سمحت بنشرها في المجلة الفرنسية
الأسبوعية «باري ماتش»،
قبل أعوام طويلة، التُقطت لها إثر إجرائها عملية جراحية في
الرأس لاستئصال ورم
سرطاني. الصُوَر مخيفة: أجمل النساء وأشهرهنّ حضوراً في الأمكنة كلّها
حليقة الرأس،
والجراح أحالت شيئاً من جمالها إلى خطوط وتقاطعات. لكن تايلور لم تخش
الظهور هكذا.
فهي، بمقارعتها الوحش السرطاني والأمراض كافة التي ضربتها، خصوصاً في
الأعوام
القليلة الفائتة، واجهت محبّيها بصورة مختلفة عن تلك التي جعلتها تحتلّ
ركناً
أساسياً في قلوب أولئك الذين حافظوا على علاقة حبّ حقيقي بها.
وهي، بكشفها صُوَراً
حميمة كهذه، أكّدت أن الجمال داخلي، وأن الجمال الداخلي لا يخبو، وأن
اشتعال الحبّ
فيها للحياة والفرح استكمالٌ لمسارها حتى النهاية من دون خوف أو وجل. وهذه
كلّها
أمورٌ أقوى من أن يغيّبها مرضٌ، أو أن تخفيها عملية جراحية.
ارتباكات
اللقطة الثانية التي تخطر على البال، في مناسبة حزينة كهذه، لا تقلّ
تأكيداً
على التزامها الحياة، وإن بصخب لا يهدأ. فعلاقاتها العاطفية
تكاد لا تُعدّ ولا
تُحصى. وزيجاتها الثمانية تبقى أخفّ شيوعاً ووطأة من علاقتها العنيفة
والصادمة
والبديعة في آن واحد بريتشارد بورتون: زميل مهنة التمثيل. عشيق لا مثيل له.
ارتباط
وانفصال لا يوصفان. ذلك أن الثنائي تايلور ـ بورتون حفرا عميقاً في الذاكرة
الجماعية، ليس فقط بمشاركتهما التمثيلية معاً في «هرّة على سطح
حار» (1958)
لريتشارد بروكس و«فجأة، الصيف الماضي» (1959) لجوزف مانكيافيكس، بل أيضاً
بزواجين
اثنين (الأول بين الخامس عشر من آذار 1964 والسادس والعشرين من
حزيران 1974،
والثاني بين العاشر من تشرين الأول 1975 والتاسع والعشرين من تموز 1976)
فصل بينهما
طلاقٌ ونفور. علماً أن بورتون نفسه أدارها في فيلم «الدكتور فوستوس»
(1967)، الذي
تعاون مع نيفيل كوغهيل على إخراجه.
إلى ذلك، ومع شيوع نبأ رحيلها عن تسعة
وسبعين عاماً يوم أمس الأربعاء، بعد ستة أسابيع على ملازمتها المركز الطبي
«سيدرز ـ
سينا» في لوس أنجلوس بسبب قصور في القلب، عادت إلى الذاكرة حادثة لبنانية
ساذجة،
ذهبت ضحيتها إليزابيت تايلور. ففي العام 1994، اقتطعت الرقابة
اللبنانية المشاهد
كلّها التي مثّلتها تايلور في «عائلة فلينستون» لبراين ليفانت، بسبب ورود
اسمها على
لائحة مقاطعة إسرائيل. يومها، ذُهل محبّو السينما وعاشقو تايلور من تصرّف
كهذا بحقّ
إحدى ألمع النجمات، وأكثرهنّ تفعيلاً لمعنى الأداء التمثيلي في
كلاسيكيات السينما
الهوليوودية. ذُهل هؤلاء من إبقاء اسمها وارداً في تلك اللائحة أصلاً، بعد
سنين
طويلة على قيامها بفعل معنوي تجاه إسرائيل، لم تُكرِّره لاحقاً. ذُهل هؤلاء
من
اقتطاع المشاهد القليلة أصلاً من فيلم مستلّ من سلسلة
تلفزيونية أضحكت الملايين،
وأخذتهم إلى سحر الصُوَر الملوّنة، المنتشر في أروقة القرية الكرتونية
المقيمة في
عصور حجرية قديمة.
لكن إليزابيت تايلور لا تقف عند هذه الحدود. فالمرأة التي
شاركت في نحو خمسين فيلماً، والتي انتزعت تمثالي «أوسكار» عن
دورين يُعتبران من
أجمل أدوارها السينمائية، حفرت عميقاً في وجدان المُشاهدين المهمومين بالفن
السابع
وجمالياته المتنوّعة، سواء أولئك الذين عاصروها في زمن النجومية العاصفة،
أم أولئك
الذين اكتشفوها فيما بعد. وإذا كان الأولون هائمين بها،
تمثيلاً ونمط عيش وقدرة على
استمالة الأضواء وتطويعها لمصلحتها الخاصّة، فإن الآخرين استطاعوا أن
يلحقوا بها في
أوقات مغايرة، من دون أن تفقد وهجها، ومن دون أن يخسروا لذّة التمتّع
ببراعتها في
إثارتهم وجعلهم توّاقون دائماً إليها. ولا شكّ في أن علاقة
الـ«سينيفيليين» الجدد
بالنتاج السينمائي لا تستقيم من دون الرجوع إلى بعض أجمل التُحف التي ساهمت
في
صنعها، فإذا بهذه التُحف تساهم، بدورها، في صنع نجومية برّاقة لا تزال تثير
حشرية
الناس، وتجعل الجميع يقيمون صلواتهم الدائمة في حضن ذاك العصر
العتيق، وعلى مذبح
البلاتوه، وأمام عدسات الكاميرات التي استلّت بريقها من عينيّ الممثلة
وجاذبيتها.
صناعة التاريخ
المسار السينمائي الذي حقّقته إليزابيت تايلور بين العامين
1942 («هناك ولادة واحدة في كل دقيقة» لهارولد يونغ) و2004 (إحدى حلقات
المسلسل
التلفزيوني «الله، الشيطان وبوب» المعنونة بـ«صديقة الله»)، لا يُمكن
التعاطي معه
خارج إطار صناعة المحطّة الأهمّ في تاريخ هوليوود. وجائزتا «أوسكار» اللتان
حصلت
عليهما بفضل دوريها في «باترفيلد 8» (1960) لدانيال مان و«من
يخاف فرجينيا وولف» (1966)
لمايك نيكولس، لم تكونا منفصلتين عن تاريخها الذاتي في تحويل الشخصية
السينمائية إلى ما هو أبعد وأهمّ من مجرّد التمثيل: التماهي المطلق
بالشخصية،
مصقولٌ بحماية الممثلة من الانسحاق داخل الشخصية. ولعلّ البعض
يرى أن براعة تايلور
في التمثيل لا تعدو كونها مجرّد حِرَفية متماسكة في الأداء، اكتسبتها من
التمارين
الدائمة في الوقوف أمام الكاميرا، وفي الاشتغال مع مخرجين كبار، أمثال جوزف
مانكيافيكس الذي أدارها في «فجأة، الصيف الماضي» (1959)
و«كليوباترا» (1963)، وجوزف
لوزي مخرج فيلمين لها في العام 1968، هما «بووم» و«احتفال سرّي»، وفنسنت
مينيلّي،
الذي تعاونت معه في «والد العروس» (1950) و«الحصّة الصغيرة للوالد» (1951)
و«زمّار
الرمل» (1965)، وجون هيوستن («انعكاسات العين الذهبية»، 1967) وجورج كيوكر
(«العصفور الأزرق»، 1976) وغيرهم. بمعنى آخر، هناك من يعتبر الأداء
التمثيلي مهنة
كسائر المهن، يبرع فيها البعض ويفشل آخرون. وهناك من لا يستطيع التغاضي عن
سمات
محدّدة في أداء هذا الممثل أو تلك الممثلة، لأن التمثيل هنا لا يبقى مجرّد
مهنة، بل
تمريناً جسدياً وروحياً على تقمّص شخصية أخرى، والتحوّل معها وبها وبفضلها
إلى كائن
حيّ. قد تكون إليزابيت تايلور من طينة هؤلاء القادرين على
الجمع بين التفسيرين:
المرأة الحاضرة أمام الكاميرا قابلة لأن تكون المرأة المتحوّلة إلى امرأة
أخرى
ابتكرها عقل رجل ما. والصعوبة كامنةٌ في تقديم أمثلة، لأن غالبية أدوارها
تشي بأنها
تعاطت مع التمثيل كمهنة، فبرعت فيه كثيراً. وفي الوقت نفسه تمكّنت من جعله
يغيب
أمام وهج حضورها الرائع، متيحاً لها أن تكون المرأة التي تريد.
أو بالأحرى المرأة
التي يريدها صانعو الفيلم. وهذا، بحدّ ذاته، تحدّ صعب، إن لم يكن مستحيلاً.
العودة
إلى كلاسيكياتها، تتيح فرصة اكتشاف معنى الاختلاء بالذات في البلاتوه، قبل
خروج
الممثلة من ذاتها بتماثلها بنفسها وبالشخصية في وقت واحد.
«ببساطة،
نعرف أن
العالم أفضل، لأن أمّنا عاشت فيه». بهذه الكلمات، نعى مايكل ويلدينغ والدته
إليزابيت تايلور. العالم أفضل، لأن امثال إليزابيت تايلور
جعلوه حضناً دافئاً
باختراعهم أجمل المتع، وأكثرها احتيالاً على القدر والتاريخ والحياة
والدنيا. لكن
العالم لن يبقى أفضل، لأن إليزابيت تايلور وأمثالها نادرو الوجود في زمن
الانكسارات
والخيبة.
السفير اللبنانية في
24/03/2011
إليزابيث تايلور: وداعاً كليوباترا
يزن الأشقر
«كل شيء يجعلني عصبيّة، إلا صناعة الأفلام.» هذا ما ذكرته مرة إليزابيث
تايلور (1932 ـــ2011) التي رحلت أمس في لوس أنجلس عن 79 عاماً، علماً بأنّ
«حسناء هوليوود» السابقة كانت قد أُدخلت منذ أسابيع إلى مستشفى «سيدرز
سيناي» بعد إصابتها بنوبة قلبية، ورحلت أمس محاطةً بأولادها. عاشقة
المجوهرات، المزواجة، والمولودة لعائلة ثرية في لندن، بدأت حياتها ممثلةً
في سنّ التاسعة حين شاركت في فيلم «هناك أحد يولد كل دقيقة» (1942). ورغم
أن رئيس الإنتاج في شركة «يونيفرسال بيكتشرز» كان وراء إلغاء عقدها، بحجة
أنّها «لا تجيد الغناء ولا الرقص ولا الأداء»، إلا أنّ «ميترو غولدن ماير»
تلقّفت هذه الموهبة وأبرزتها في فيلم «لاسي عودي إلى المنزل» (1943) قبل أن
يذيع صيتها بعد تأديتها دور فيلفيت براون في فيلم
National Velvet
عام 1944. لا شك أنّ تايلور تُعدّ إحدى أشهر وأهم الممثلات في القرن
العشرين عبر الأدوار الكثيرة التي جسّدتها على الشاشة الكبيرة، على رأسها
دورها في فيلم «كليوباترا» (1963) الذي جسّدت فيه شخصية الملكة المصرية،
إلى جانب أحد أزواجها ريتشارد بيرتون (قام بدور مارك آنتوني) الذي أصبحت
علاقتها المضطربة معه علامةً فارقةً في مسيرتها، وأفلام مثل «قط على صفيح
يحترق» (1958) الذي أخرجه ريتشارد بروكس وترشحت عنه لأوسكار أفضل ممثلة.
هذا إضافة إلى أفلام
Raintree Country (1957)، و«فجأة في الصيف الماضي» (1959) قبل أن
تنال الجائزة مرتين عن فيلم «باترفيلد 8» (1960). وفي عام 1966، حصدت جائزة
ثانية عن دورها في الفيلم الشهير «مَن يخاف فيرجينيا وولف» الذي أخرجه مايك
نيكولز عن مسرحية إدوارد ألبي.
عاشت إليزابيث تايلور حياة هوليوودية بالفعل. إلى جانب أنها إحدى أهم
الممثلات في عصر هوليوود الكلاسيكي، اشتهرت بعلاقاتها الزوجية المضطربة
والمتعددة ـــــ وخصوصاً مع زوجها الرابع ريتشارد بيرتون ـــــ وبحبّها
للمجوهرات والألماس، وإدمانها على الكحول. متاعبها الصحية المتكررة بدأت
منذ وقوعها عن ظهر حصان في فيلم «ناشيونال فيلفيت»، وصولاً إلى مشاكلها
المتكررة مع القلب التي أدت إلى وفاتها. وعلى الرغم من السمعة السيئة التي
لاحقت فيلم «كليوباترا»، بسبب ضخامة كلفته الإنتاجية ومدته التي تقارب أربع
ساعات وحتى عدم دقته تاريخياً، إلا أنّ نجوميتها بقيت واستمرت في عملها
ممثلةً سينمائية حتى عام 1994 في فيلم
The Flintstones.
بعدها، تابعت التمثيل مسرحياً وتلفزيونياً.
جمال فائق وحياة باذخة ونجوميّة فضائحيّة وتمثيل جيد. تايلور بالتأكيد هي
معادلة هوليوود الناجحة المفضّلة.
الأخبار اللبنانية في
24/03/2011
نهاية أسطورة هوليوودية عاشت "أربع حيوات"
ليز تايلور أغمضت
عينيها الأرجوانيتين
!
هوفيك حبشيان
إنها المرأة الحرّة التي لا تشبه أي امرأة أخرى. جسدت كليوباترا ولعبت
مسرح شكسبير وأحبّت ريتشارد بورتون واعطت الكلمة لمارلون
براندو وركّعت هوليوود
مراراً وتكراراً وأغضبت بابا روما وقاطعها الأمن العام اللبناني. ماذا بعد؟
تزوجت
ثماني مرات ولعبت في عدد كبير من الأفلام، فيها الغث والسمين، تحت ادارة
أهم
الأسماء في هوليوود وخارجها ممّن صنعوا عصورها الذهبية
المجيدة. ايقونة ستينات
القرن الماضي سقطت أمس في احد مستشفيات لوس انجلس بعد اصابتها بداء في
القلب كانت
تعاني منه منذ فترة. لم تضاه تقنيتها الهجينة في التمثيل الاّ رغبتها في
قضم الحياة
بأسنانها. خلناها "بلا قلب" لكن موعدها الأخير مع الموت كشف
لنا سرّها: امرأة
يقتلها قلبها.
بريطانيا مسقطها (1932). لكن والديها أميركيان.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، عادت عائلة تايلور لتقيم في
لوس
أنجلس. في عاصمة السينما شبّت ليز الصغيرة على حبّ الفنّ. علاقة متينة نشأت
بينها
وبين السينما، كونها تلقّت تربية فنية منذ الصغر؛ تعلمت الرقص
والغناء وركوب الخيل.
ساهمت والدتها في دخولها السينما. في عمر السابعة، جرى اختيارها للاضطلاع
بدور، لكن
القائمين على الفيلم لم يقتنعوا بها، ولم يجددوا العقد الذي مثّلت وفقه في
فيلم
واحد فقط.
في سنّ العاشرة بدأت تحلّق بجناحيها. الزمن: سنوات الأربعين من
القرن الماضي. حقبة الأزمات والتحولات الكبرى. النجوم أسماؤهم
كلارك غايبل وجانيت
لي وكاثرين هيبورن. يُنتخب روزفلت رئيساً للجمهورية الأميركية للمرة
الرابعة.
سبعمئة ألف عاطل عن العمل في شوارع القارة
الجديدة. لكن الحرب انتهت وحقبة جديدة
تشرَّع أمام الأميركيين. الأفلام لم تعد تعكس الواقع بل
تحاكيه. تتعرف ليز، ابنة
الأحد عشر ربيعاً، الى كلارنس براون الذي يمنحها دور البطولة الى جانب ميكي
روني في
شريطه الميلودرامي "مخمل وطني". قصة الفتاة وحصانها ستسمح لها بإبرام عقد
طويل
الأمد مع "مترو غولدوين ماير". لا تزال أظفارها ناعمة لكنها استطاعت أن
تبرز الى
جانب العملاق روني. لديها شيء مكتسب بالفطرة. ذكاء وطبع واستعداد لترمي
نفسها في
النار! النجاح الجماهيري الذي سيناله الفيلم لن يفعل الإ
التسريع في وتيرة دخولها
الى قلب الجمهور، وكأن فرض ذاتها على الجمهور لم يكن إلا مسألة أيام
بالنسبة اليها،
أما النجاج والتفوق فليسا أكثر من قنبلة موقوتة في انتظار من يفجرها.
مع مرفين
لوروا حققت حلم الوقوف الى جانب فيفيان لي في كادر واحد. الفيلم، "امرأة
صغيرة"،
يعود بنا الى سنوات الحرب الأهلية الأميركية الدامية. أربع
فتيات ووالدتهن ومربية
منزل يعشن وحدهن بعد ذهاب ربّ العائلة الى الجبهة. هذا فيلم عن الطبقة
الوسطى في
مواجهة أخطار العنف وانعدام السلم الأهلي. وسط هذا كله يظهر جانب تايلور
العفوي
والظريف. من شريط الى آخر ومن فرصة مقتنصة الى أخرى، تقع ليز
في يد المعلم فنسنت
مينيللي الذي يمنحها دور العروس في "والد العروس"، دائماً عن أحوال الطبقة
الوسطى
الأميركية وتجاذباتها، لكن في قالب كوميدي. هذه المرة ستقع على عاتقها مهمة
مواجهة
وحش آخر من وحوش الشاشة: سبانسر ترايسي.
بيد أن اطلالتها الحاسمة ستكون في "مكان
في الشمس" (نصّ لتيودور درايسر سبق أن أفلمه جوزف فون سترنبرغ عام 1931)
لجورج ستيفنز في دور أنجيلا فيكرز حيث
تتقاسم الملصق مع مونتغومري كليفت وشيلي
وينترز. تلعب في هذا الفيلم البورجوازية التي ستدخل الشاب
الفقير الى مملكتها، بعد
أن توقعه في شباكها. ستيفنز تجاوز ذاته في تصويرها، متألقة، غاوية، جميلة،
خطرة.
وفي حين يغرق النصّ ابطاله في تراجيديا
أميركية مؤلمة قاسية قسوة طموحات شخصياته،
يتحمس الناس الى الثنائي الجميل ويتوحدون معه. لكن خيبة أولى:
كليفت لا يحبّ
النساء، فتكتفي بعلاقة صداقة قوية جداً معه.
***
بدءاً من هناك، تنهال عليها العروض، لكن يبدو ان الكوميديات العائلية هي
التي
تناسب قامتها وشكلها الخارجي، في تلك المرحلة، لكن سرعان ما
خضع هذا الشكل لتحولات
جذرية أتاحت لها الصعود الى مرحلة أكثر نضجاً من مسيرتها. برغم ذلك، كان
ينبغي
انتظار الفيلم التالي لستيفنز "عملاق" (1956)، كي تنفجر طاقات تايلور
التمثيلية. في
الفيلم الاسطوري العالي الموازنة الذي جمع بين روك هادسون وجيمس دين (توفي
في حادث
سيارة فور انتهاء التصوير)، صوّر ستيفنز ملحمة أسرية بديعة.
منطقة تكساس، آبار
النفط، التمييز العنصري، عائلة بينيديكت في مواجهة الشاب الفقير (دين) الذي
تحوّل
قطباً من أقطاب النفط... هذا كله فضلاً عن اخراج ستيفنز وأداء الممثلين جعل
"عملاق"
واحداً من كلاسيكيات السينما. دين، ثائر السينما الأميركية، خاض معارك
مهنية خلال
التقاط المشاهد وشاكس الجميع، من ستيفنز الى هادسون، لكن شهود
عيان من تلك الفترة
يحكون أنه كان يتحول طفلاً ما ان يصبح برفقة تايلور. وعلى رغم قرب الواحد
الى
الاخر، ظلاّ صديقين حتى الموت.
الستينات كانت فترة خصبة في حياة تايلور
المهنية. في تلك الفترة صارت "ليز" التي نعرفها ونحبها. هوليوود شرعت
أمامها
أبوابها ومنحتها "كارت بلانش". بالكاد هي في بداية الثلاثينات من عمرها وها
هي تصعد
سلالم المجد؛ الحياة الباذخة والعلاقات الغرامية السعيدة حيناً والمكلومة
حيناً
آخر. ارتباط من هنا وطلاق من هناك، هذا كله سيطاردها، لكن من
دون أن يتحول يوماً
مأساة كما كانت الحال مع بريجيت باردو.
"باترفيلد
8" (دانيال مان، 1960) و"مَن
يخاف فرجينيا وولف" دفعاها الى القمة. نالت جائزتي "أوسكار"
لأفضل ممثلة عن دورها
في هذين الفيلمين. الأول عن عاهرة تغرم بملياردير (لم يعحبها
العمل لكنها أخذت
الأوسكار التي نالته عن دورها فيه) أما الثاني فهو الأفلمة التي نعرفها عن
المسرحية
الشهيرة لإدوارد ألبي. كي تلعب دور مارتا تقدم على زيادة وزنها عشرين
كيلوغراماً
وتخضع الى تبرج يجعلها تبدو امرأة في منتصف الأربعينات من
العمر. مايك نيكولز، مخرج
الفيلم، منحها الدور الذي ظلّ كثيرون يتذكرونها من خلاله طوال عقود. العلة
دائماً
ان الصحافة لا تهتم بها من باب مهنتها فقط، بل من باب مغامراتها الغرامية
التي لا
تكاد واحدة منها تبدأ حتى تنتهي. رجال مثل ريتشارد بروكس
وستانلي دوننّ لا يقاومون
سحرها. أما قصتها العاصفة مع ريتشارد بورتون فشغلت قراء الصحافة الصفراء
طوال سنوات
طويلة.
بعد "عملاق" مرت تايلور في مرحلة صعبة جداً. الفيلم الذي لعبت فيه دوراً
تحت ادارة ادوارد ديميتريك سقط تجارياً وفنياً. من قصة حبّ على
خلفية الحرب الأهلية
الأميركية تريد "مترو غولدوين ماير" أن تكرر تجربة "ذهب مع الريح"، لكن
الفيلم الذي
بلغت تكلفته ستة ملايين دولار واجه مصاعب انتاجية انتهت فصولها الصعبة مع
تعرض بطله
مونتغومري كليفت لحادث سيارة وتوقف التصوير لمدة شهرين. الخيبات المتتالية
على
الصعيد العاطفي وميلها الدائم الى تجديد السرير الزوجي قادا
تايلور الى مغامرة
جديدة، انتهت هذه المرة بظروف مأسوية مع مقتل الحبيب في حادث طائرة
وانجابها طفلة
كادت تتسبب في وفاتها لدى خروجها من رحمها.
مسرحيتان لتينيسي ويليامز أعادتا
تايلور الى الضوء وصالحتاها مع الحياة التي لم تفقد يوماً الرغبة في
مصارعتها. وأي
ضوء؟ ذلك الضوء الذي لن يخفت حتى بعد مرور سنوات طويلة. المسرحية الاولى
"قطّ على
صفيح ساخن" نقلها ريتشارد بروكس الى السينما (مع بول نيومان) أما الثانية،
"فجأة،
الصيف الماضي" (مع مونتغومري كليفت وكاثرين هيبورن)، فلُزِّمت الى جوزف
مانكيفيتش.
في الفيلمين قدمت تايلور أداء مذهلاً لا
يصنَّف في أي من المدارس التمثيلية
المعروفة، لجأت فيهما الى الكثير من الحسية والشبق. بعينيها الأرجوانيتين
صارت تغوي
أميركا وتستدر عواطفها وفي جعبتها صفة "الأرملة الجميلة"، قبل أن تنطلق في
بحث جديد
عمن يملأ قلبها. ترومان كابوتي كتب عنها: "ساقاها قصيرتان نسبة الى مقاسها،
ورأسها
كبير مقارنة مع مجمل جسدها. لكن وجهها الذي تتوسطه عيناها الأرجوانيتين
عبارة عن
حلم كل سجين وهو أيضاً "فانتازم" كل سكرتيرة. ليز تتخطى
الوجود، يستحيل الفوز بها،
وعلى رغم ذلك فهي خجولة ومرهفة الى أقصى درجات الارهاف، مع بريق من الشكّ
يعبر
دائماً عينيها".
كان ذلك عام 1963، في فيلم "كليوباترا"
لمانكيفيتش. واحد من
أكثر الأفلام كلفة في تاريخ السينما، وأيضاً واحد من الأعمال التي شكلت
كارثة
اقتصادية، بدءاً من المشكلات التي واجهت مانكيفيتش خلال عملية التقاط
المشاهد،
وصولاً الى عرضه في نسخات غير نهائية لم يكن راضياً عنها صاحب
الفيلم. في البداية،
تولى روبير ماموليان عملية الإخراج، لكن كوارث جوية قضت على الديكور في
ستديو
باينوود البريطاني، ثم اصيبت تايلور بمرض سمّرها في الفراش لمدة ستة أشهر.
هذه
الكارثة التي حلتّ بالفيلم ارغمت المنتجين على تبديل المخرج
والممثلين الرجال، فحطّ
الدور في يد بورتون الذي لم يكن يعرف بعد انه سيعيش لحظة اسطورية مع واحدة
من اجمل
نساء الأرض، لحظة لا يزال صداها يتردد الى اليوم في الوجدان السينمائي،
لكونها
عدّلت مفهوم العلاقة بين نجمين. الشغف الذي ربط الواحد بالآخر
حظي بتنديد غير
مسبوق. حتى بابا روما تدخل مستنكراً هذه العلاقة "غير الشرعية" بين مارك
أنطونيو
وكليوباترا...
***
كاد "كليوباترا" أن يقضي على ستوديوات "فوكس"، لكن تايلور بذكائها الحاد
خرجت
منه واضعة الملايين في جيبها، وموظفة كل انتكاسات الفيلم لمصلحتها. شغفها
ببورتون
بدأ في الحياة واستمرّ على الشاشة. أفلامها السبعة المقبلة كانت معه.
الأعمال
الكبرى لن تتكرر مطلقاً، لكن "ليز" بعيدة من وقار التكلف ولا
تريد لنفسها الا
الاستقرار. انتقلت من تجسيد شخصيات شكسبيرية الى هيلين طروادة، ومن العمل
تحت ادارة
جون هيوستن وجوزف لوزي الى اعطاء الكلمة لمارلون براندو وأورسون ويلز
وروبرت ميتشوم
وميا فارو وهنري فوندا وبيتر أوتول ووارن بيتي وكيرك دوغلاس
وبرت لانكاستر، قبل
سقوطها المدوّي بدءاً من السبعينات في أفلام كاريكاتورية، وصولاً الى
انسحابها
التدريجي من الحياة الفنية خدمة لقضايا انسانية، مع اطلالات بين حين وآخر
في
التلفزيون وأفلام كان يمكن الاستغناء عنها. لكن في هذه المرحلة
من حياتها، لم تعد
السينما تحتل المقام الأول.
الأفلام من بطولة تايلور لم تكن تُعرض في لبنان
لوجود الممثلة على اللائحة السوداء في مكتب مقاطعة اسرائيل. لكن الجمهور
العريض كان
يعرفها تمام المعرفة، رافقت أجيالاً، وكان صيتها يتخطى البحار ويتجاوز
الانتماءات.
حياتها متاهات اوصلتها الى هذا الصباح القاتل في أول ايام الربيع. لم تمض
حياتها
أمام المرآة أو على السجادة الحمراء، بل عملت كثيراً في خدمة المصابين بداء
السيدا (حملت على عاتقها هذه القضية بعد موت روك
هادسون عام 1985) ورحلت في غفلة على فراش
المستشفى تاركة خلفها "أربع حيوات"، كما كانت تقول دائماً،
عاشتها بحلوها ومرها،
مصرة على أن لا ممثلة يمكن أن تلعب دورها في فيلم سينمائي. ونحن لن ننسى
عينيها
الأرجوانيتين!
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
"حنين
الى الضوء" افتتح مهرجان شاشات الواقع في
"متروبوليس"
باتريسيو غوسمان رأسه في السماء وقدماه في التراب!
عودة باتريسيو غوسمان الى الجذور تتيح فيلماً وثائقياً، "حنين الى الضوء"
(عُرض
أول من أمس في افتتاح مهرجان "شاشات الواقع") أقرب الى القصيدة الشعرية منه
الى
التقرير الصحافي. أين جذورنا، في الأرض أم خلف الضوء؟ المخرج التشيلياني
المتضلع من
موضوعه، يقرّ بأنه لطالما اعتقد ان جذورنا دُفنت تحت التربة أو في قاع
البحار، وهو
الآن صار يؤمن بأن أصل الانسان في مكان ما في الأعالي، ما بعد الضوء. من
أجل مقابلة
له مع أحد علماء الفلك في هذا الفيلم الذي عُرض خارج المسابقة
في مهرجان كانّ، يضع
كاميراه أمام الأخير ليسأله: من أين نأتي؟ سؤال مقلق يأخذه الى رجل علم
فيؤكد له
أنه من خلال الإجابة عن سؤالين علميين يُشهر أربعة أسئلة أخرى. هكذا هو
العلم، لا
حلّ نهائياً له، بل كل يقين يأخذنا الى شكّ. وهذا هو "سلوك"
غوسمان في هذا العمل
البديع، اذ يؤكد انه أضعف من أن يضبط فيلمه أمام كم الاغراءات
التي تتسرب الى عقله
وتجعله يسير على خطى متعرجة وخلاقة: "الى كم دقيقة يحتاج ضوء القمر ليصل
الينا؟ نحو
دقيقة تقريباً. وضوء الشمس؟ يستغرق وصوله الينا ثماني دقائق". هذه الدردشة
بين
غوسمان وعالم الفلك لا يمكن الا ان تختم بنوتة شعرية على لسان الأخير، لأن
مخرجنا
الكبير يصوّر بأحشائه وبعقله وبوجدانه: "لا نرى الأشياء في
اللحظة التي ننظر فيها
اليها. هذا فخّ. الحاضر غير موجود. الحاضر الوحيد الموجود هو في العقل".
هذا بعض من
التصريحات لا نملك أمامها، في لحظة وصولها الى آذاننا، الا ان ندع شعورنا
يغلب على
كل شيء آخر، ونمضي في الرحلة التي يقترحها علينا الفيلم بلا قيد أو شرط.
"تشيلي
لا تزال تعيش في الماضي. الخروج من الانقلاب لم يتم بعد. كم من الأسرار
لا تزال طيّ الكتمان؟ لا نعرف شيئاً البتة عن القرن التاسع عشر"، يقول مفكر
آخر.
لقطة من هنا، جملة من هناك، وها نحن ذاهبون الى ماضي بلاد عانت من العسف
تحت حكم
بينوشيه. يبني غوسمان فيلمه على طبقات عدو: تأملات حول البحث الفلكي في
الصحراء
التشيليانية وعلم الأثار، والمرافعة السياسية المختزلة لحقبة
مهمة من تاريخ تشيلي
لم تكتب صفحته النهائية بعد. لا شكّ أننا أمام ورقة مسوّدة شخصية. فلنتذكر
أن
غوسمان كان أحد ضحايا انقلاب عام 1973. اعتُقل ثم سُجن قبل أن يلجأ الى
باريس.
مذذاك أفلامه مسكونة بذلك الوجع، وبمحاولة فهم ما حصل.
عرفناه من خلال
وثائقيات سياسية كان آخرها "سالفادور أليندي" (2004). هنا ينقب في الصحراء،
صحراء
أتاكاما، وهي أكثر الأمكنة جفافاً على الكرة الأرضية. هي صحراء قاحلة أشبه
بكوكب
المريخ تتحول أمام كاميرا غوسمان أرضاً خصبة للأفكار الثورية. فيها يجد
نقطة اللقاء
بين بحوثه الثلاثة: فهذا المكان يؤوي أكبر مرصد فلكي، وأيضاً جثث المعتقلين
السياسيين من زمن الديكتاتورية العسكرية، وأيضاً آثاراً تركتها
الحضارات التي
انقرضت. هذا كله يتيح لغوسمان أن يقف وقفة المخرج الذي يريد أن يتأمل في
عنصر
تاريخي لكنه أيضاً مهموم بالحاضر والمستقبل. الفيلم عبارة عن عمليات
متتالية من
التنقيب سواء في السماء أو في رحم الأرض أو في الذاكرة. غوسمان
ينحت في جسد الصورة
لعله يجد بعضاً من الطمأنينة والسلام الداخلي من خلال حفنة أجوبة. تماماً
كنساء
المفقودين اللواتي يحفرن في الأرض بحثاً عن اشارة من السماء تحسم ظنونهن.
يمكن
القول عن غوسمان إن رأسه في السماء وقدميه في التراب. بين الموقعين لا ينجح
في
الاختيار، فيتحول الموقع "لاموقع" محبباً وخلاقاً. منه يراقب
الجانب المظلم للطبيعة
البشرية مغلّفاً بضوء سينمائي عاجز عن إنارة العالم. تقنياً، نحن أمام
مدرسة في
كيفية صنع الوثائقي: توليف، معالجة، شخصيات، مساحة فيلمية. لا يطيش سهم
غوسمان في
أيٍّ من خياراته الشكلانية التي تعثر على روابط علمية وروحية
بين الأشياء والكائنات
التي يصوّرها. من هذا الشغل الدقيق يتولد ما لم يكن في الحسبان، فيتأكد ما
كان يمكن
أن يبقى في دائرة الشك والظنّ لولا عبقرية غوسمان: البحث المتواصل عن
الحقيقة هو
الحقيقة. الطريق الى النجوم أجمل من النجوم. والنظر الى بعيد
(النجوم، التاريخ،
الأراضي القاحلة ذات الآفاق المفقودة) يمكن أن يعيد الى المرء الأمل الذي
تلاشى.
هذه الرسالة الانسانية المبهرة ما كانت لتكون ممكنة من دون عنصر العذاب.
غوسمان
كوبريكي النزعة (نسبة الى ستانلي كوبريك) في هذا الفيلم:
الفرحة لا تخرج الا من
الدمعة. يغمس اصابعه في عصور الظلام والليل الحالك للتاريخ ويخرج من رحلته
الى
اقاصي الفجر مغلّفاً بالنور. لا حنين الى شيء اطلاقاً. لا تصدّقوا
العنوان!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(•)
للمزيد عن برنامج
الأفلام المعروضة في "شاشات الواقع" من 22 الى 26 الجاري، ندعوكم الى زيارة
الموقع
الآتي:
www.metropoliscinema.net
"الطوفان"
في "شاشات الواقع" تكريماً لعمر أميرالاي
كيف
تُغسَل الأدمغة؟
في اطار الدورة السابعة لمهرجان "شاشات الواقع"، يُعرَض على سبيل التحية
الى
الراحل عمر أميرالاي (1944 – 2011) فيلمان، هنا نقد أحدهما، "الطوفان"، وهو
الأخير
له، ومن الصعب ألاّ يُقرأ كوصية سياسية وتركة فنية.
حمل أميرالاي الكاميرا
لقضية وهدف. اللحظة التاريخية المهمة التي ولدت في أيار 68 كانت أساسية
لتكوين
شخصية شاب في الرابعة والعشرين، متعدد الهمّ، مولود لأب شركسي
يملك أصولاً متعددة
وأمّ لبنانية. عمل بتأنٍّ، وكان مقلاً (20 فيلماً في 40 عاماً) لكن هذا
القليل عرف
كيف يخربط من خلاله الأشياء، ممسكاً الأمور على الدوام بكفّ من مخمل.
كان من
البديهي في جوّ السبعينات، وفي ذروة حكم حزب البعث، أن يهتم أميرالاي
بتوثيق ما كان
يُعتبر انجازاً سياسياً واجتماعياً مهماً: سدّ الفرات. فخصص له فيلمه
الأول، عام
1970،
(ليعود
ويناقضه بعد 33 عاماً في فيلم آخر) عبّر فيه عن حماسة مهمة حيال
التجربة البعثية، لاقطاً منذ ذلك الحين التفاصيل التي كانت ستتشكل منها
سينماه في
السنوات اللاحقة. كان "حلماً" وثّقه اميرالاي من دون أن يطرح
على نفسه أسئلة كثيرة
في غمرة اهتماماته الشكلانية.
في "الطوفان" الذي اختتم مساره، صوّر عكس ذلك،
متطرقاً الى معادلة الرجل - الآلة. صوّب كاميرته في اتجاه حلم انهار مع
انهيار احد
السدود في سوريا، "والآتي اعظم"، كان يقول المخرج. عندما قدم "الطوفان" في
بيروت
عام 2003، كان اميرالاي يبدو مهزوماً، معتزلاً الحلم السياسي، فاعترف
بالخطأ الجسيم
الذي ارتكبه حين آمن بالرسالة، في الفترة التي كان فيها مناصراً للنهضة في
وطنه
سوريا تحت قبضة الحزب الاوحد. هكذا خلق ثورة، وثار بها على
نفسه.
شريط انيق، ذو
استيتيكية متقنة، نقوم عبره برحلة الى اقاصي حلم غدا كابوساً. يفتتح
اميرالاي فيلمه
بلقطة لبحيرة الاسد، قبل ان يأخذ قرية الماشي عيّنة تساعدنا
على فهم نظرته الى
الايديولوجيا والفكر البعثيين اللذين يحكمان في سوريا منذ أكثر من 45
عاماً. صوت
اميرالاي الدافئ، ومفرداته المختارة بعناية، التي تعكس روحية الفيلم، وحرصه
على عدم
التعرض لصدقية النماذج المنتقاة، يجتاز شريطاً صوتياً تخرقه بين حين وآخر
شهادة احد
الموالين للحزب، هذا الموالي الذي ينهال على المشاهد بخطاب
ايديولوجي ينطوي على شيء
من عقلية القرون الوسطى. فاللغة الخشبية والمفردات التي ينتقيها، لا تظهر
تفوق
هؤلاء في اللغة العربية وحسب، انما في ايمانهم العميق برسالتهم القومية
التي لا
تتزعزع.
بعد تعرفنا الى احد شيوخ العشائر، دياب الماشي، النائب في البرلمان
السوري منذ أكثر من نصف قرن، الوفي الدائم للنظام الذي رفض ان
يشتري سيارة لهذا
الرجل الذي اظهر ولاء منقطع النظير، بحجة ان الشيخ رجل غني بصيته وليس لديه
حاجة
الى سيارة، تقترب كاميرا اميرالاي شيئاً فشيئاً من ميكانيزم النظام البعثي،
من خلال
احد اكثر جوانبه خطراً على العقل، وهو التعليم الذي، كما يقول
اميرالاي، اخطر انواع
غسل الدماغ. من مقعد الدراسة والطفل البريء الذي يسهل اقناعه والتحكم
بخياراته
الانسانية النابعة من الضمير والتربية، الى السلطة واصحابها الذين بدوا
اطفالاً،
يتلون كالببغاء ما سمعت اذانهم يومياً منذ نعومة اظفارهم،
خطوة، يجتازها الفيلم
مثيراً دهشة المشاهد، لما تتضمنه الخطب والشهادات من عقلية بليدة، كأن
الزمن عند
هؤلاء قد توقف.
تتجلى عبقرية الفيلم في امتناع صاحبه عن التدخل الريبورتاجي
المباشر، وترك النماذج تمضي على هواها، من دون ان تشكل عين المخرج المراقب
عقبة
لابداعاتهم الكلامية المستوحاة من المدرسة الماوية. فمن الصعب ان تتمالك
نفسك قبالة
المشهد الذي يمدح فيه احد الاساتذة مزايا 4 كومبيوترات، وصلت حديثاً الى
سوريا،
ووضعت داخل غرفة تحت المراقبة القصوى، في انتظار تأهيل
التلامذة لاستعمال وسيلة
الاتصال الجديدة - القديمة هذه. مسكين ذلك المدرّس الساذج الذي يصرح بكل
فخر
واعتزاز بأن الاساليب التي يستخدمها الحزب استوردت من كوريا الجنوبية...
"الديموقراطية".
واقع "ممسرح" الى اقصى حد، يبرع فيه اميرالاي في اختيار موقع
كاميراه والمسافة التي تفصلها عن الشخوص التي يتم استجوابها،
فيزداد نقده الصامت
لؤماً ومكراً، وهذا لمصلحة الفيلم طبعاً. كذلك، يلزم نفسه تحدياً ليس
ببديهي، وهو
اسقاط النماذج في الفخ الكلامي. فمن فرط ما تعود مفردات الاطراء والتأليه
على
افواههم، تفقد الكلمة معناها الحقيقي لتتحول محض ذبذبات في
مسامع المشاهد. واذا كان
كلام الكاراكتيرات من فضة، فالسكوت المعبّر لاميرالاي من ذهب، وهو يؤكد مرة
أخرى
انه ليس دوماً علامة رضا. فيلم - استعارة يظهر تخلّف الانظمة العربية،
ورسالة
مقهورة من مخرج يكتب فيها ايمانه المزعزع بالعقل المؤدلج،
واعترافاً متأخراً ربما
بأخطاء كانت في مرحلة من المراحل تجسد الحلم العربي.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
24/03/2011 |