لعل المفاجأة الرئيسة التي تمخضت عنها حفلة الأكاديمية السينمائية
الأميركية
لتوزيع أوسكاراتها لهذا العام، انه لم تكن ثمة أية مفاجأة على
الإطلاق، اللهم إلا
إذا اعتبرنا خروج الأخوين جويل وإيتان كون من الاحتفال خاليي الوفاض بعدما
كان ثمة
رهان جدي على فيلمهما الجديد «عزم حقيقي» (ترو غريت) وإمكانية فوزه بغير
جائزة، أو
إذا اعتبرنا اضطرار «البجعة السوداء» الى الاكتفاء بجائزة
التمثيل النسائي...
مفاجأة. والحقيقة ان هاتين الخيبتين لم تشكلا مفاجأة حقيقية، إذ كان ثمة في
الأصل
انقسام حولهما يوحي - مسبقاً - بأن عودة أفلام الغرب الأميركي الى الواجهة
المهرجانية لا تزال مستبعدة، وبأن في «البجعة السوداء» من
العنف الداخلي والمشاهد
«الساخنة»،
ما يحول دون تمييزه بشكل خاص.
مهما يكن من أمر، يمكن منذ البداية ملاحظة أن الشكل الذي وزعت به أوسكارات
هذا
العام، بشيء من العدل والإنصاف بعامة، يكاد يقول الكثير عما
يمكن أن نسميه «هوليوود
الجديدة». وآية ذلك الأفلام الخمسة أو الستة الرئيسية التي كانت قد سميت
منذ شهور
لتتنافس على الجوائز الأوسكارية، هي أفلام تنتمي الى إنجازات الجيل
السينمائي الذي
ما برح يفرض وجوده وتفوقه في هوليوود، منذ نهايات القرن الفائت، وريثاً
شرعياً لجيل
السبعينات الذي حتى وإن لم يقل بعد كل ما عنده، صار من القوة والتماسك في
مساره،
الى درجة بات يبدو معها وكأنه يكرر نجاحات قديمة، ويحقق
أفلاماً أقل ما يمكن أن
يقال عنها إنها فقدت - على رغم تميز معظمها - حس الجرأة والتجديد. نقول هذا
ونفكر،
طبعاً، بسكورسيزي الذي لا تبدو أفلامه الجديدة سوى نسخ متطورة - ولكن هادئة
ونكاد
نقول تقليدية - من ابداعاته القديمة، وبسبيلبرغ (الباحث عن
أصول موثوق بها يكرر
عبرها نجاحات انديانا جونز - كما في سلسلة «تان تان» -) وكوبولا الأب، الذي
اذ بدا
تجديدياً وربما ثورياً في «تيترو» لم يتمكن أكثر من أن يجعل هذا الفيلم
نوعاً من
«أغنية
البجعة»، أو صرخة النفس الأخير في مسار سينمائي رائع. ولن نواصل هنا هذه
اللائحة، وانما نعود الى جيل التسعينات الذي يمكن اعتبار الأخوين كون
ودايفيد فينشر
ودارين آرونوفسكي ودايفيد أوراسل وحتى الانكليزي داني بويل، من
آخر تجلياته.
هوليوود الحديثة وأخواتها
ولئن كان من الواضح ان ثمة علامات سينمائية تميز هذا الجيل... فإن الوقت لا
يزال
أبكر من تحري هذه العلامات، من دون أن يعني هذا عدم الوقوف عند
بعض أساساتها. ومنها
ان أفلامهم تنتمي الى نوع مما بعد الحداثة، وتعيد الاعتبار الى مفهوم
الحكاية انما
في اطار استقاء المواضيع مما له وجود سابق: واقع اجتماعي - تاريخي ما،
انتساب الى
أعمال فنية أو أدبية سابقة الوجود، في محاولة لإعادة تفسيرها
أو الانطلاق منها،
العودة، انما بنظرات جديدة، الى أنواع سينمائية قديمة خيّل لكثر انها صارت
من
الماضي. ترى، حين نتوقف عند هذه النقاط، أولسنا نبدو كمن في خلفية تفكيره،
وبالتحديد تلك الأفلام الخمسة أو الستة الأساسية التي نالت
أبرز أوسكارات هذا
العام؟ ينطبق هذا الكلام - في يقيننا - على «البجعة السوداء» (جائزة أفضل
ممثلة
لناتالي بورتمان) كما على «استباق» (3 جوائز تقنية أساسية)، وعلى «المقاتل»
(جائزتان
أساسيتان على الأقل) وعلى «الشبكة الاجتماعية» (كذلك جوائز تقنية). ونحن
إذا كنا قد تعمدنا وضع الفيلم صاحب الفوز الأكبر «خطاب الملك» في هذه
اللائحة،
فإنما يأتي هذا تعسفاً بعض الشيء، انطلاقاً من ان السمات
الخارجية للفيلم (من جنسية
وتاريخية أحداثه، الى هويته الوطنية) تجعله انكليزياً خالصاً. أما في
الجوهر فإنه
فيلم ينتمي مباشرة الى ما كان يمكن هوليوود الجديد ان تقدمه في هذا السياق:
فيلم
تاريخي، يغوص في هوية أخلاقية شديدة الحداثة ويصنع بلغة باتت
كلاسيكية معتمداً على
أداء وحوارات مميزة (راجع في مكان آخر من هذه الصفحة عن هذا الفيلم، ثم عن
أداء
بطله كما عن أداء بطلة «البجعة السوداء»). غير ان ما يجمع كل هذه الأفلام
وكذلك
-
على سبيل المثال - فيلم «عزم حقيقي»، انما هو المكانة التي تعطى فيها
للإنسان نفسه،
بصفته فاعلاً في الأحداث، لا مجرد متلق لها.
ولعلنا في هذا التأكيد نحاول أن نتلمس - من دون امكانية شرح طويل ومفصل
نتركه
لمناسبات أخرى - جوهر ما نعنيه حين نتحدث عن هوليوود الجديدة.
فمن موضوعة استباق
أحلام الآخرين عبر التسلل الى عقولهم (كما في «استباق» لكريستوفر نولان)
الى موضوعة
الطموح عبر استخدام التكنولوجيا والألم الذي يسببه هذا الطموح، حتى في عز
لحظات
الانتصار (كما في «الشبكة الاجتماعية» لدايفيد فينشر)، مروراً
بتصوير الذات الجريحة
في خضم لحظات النجاح وكلفة ذلك الباهظة (كما في «البجعة السوداء»)، يبدو
الفرد
ومجابهته العالم (سواء في لعبة الحلم والواقع، أو لعبة الطموح الفني، أو
التغلب على
الذات وضعفها، أو لعبة المنافسة القاتلة بين الأفراد...)
موضوعاً أساسياً في معظم
هذه الأفلام وغيرها.
ولعل في مقدورنا هنا، أن نخرج من هذا الى تصور لا يزال في حاجة الى الكثير
من
التعمق، يقول ان موقع الفرد في مجتمع اليوم، وموقف هذا الفرد
من مجتمع اليوم، سواء
أكان هذا الفرد فناناً أم ملكاً، أم شاباً موهوباً، أم ممارساً أحدث أنواع
التقنيات
أم باحثاً عن الجوائز أو عن الانتقام في الغرب الأميركي الموحش، هذا الموقع
وذلك
الموقف هما أساس اللعبة كلها.
الواقع الجديد - القديم
من هنا تبدو لنا هذه السينما - ويبدو لنا نجاحها الجماهيري والنقدي المتوج
بنجاحات أوسكارية باتت من تحصيل الحاصل - شديدة الحداثة...
وبالتالي أكثر التصاقاً
بهموم الفرد، واستجابة لما بات يطلبه من الفنون، وفي شكل أكثر تحديداً هنا:
من فن
السينما. فهنا، سواء أكان الفيلم تاريخياً مستقى من حادث معروف (كما في
«خطاب
الملك») مع بعض التنويع عليه، أم كان فيلم رعب، أو غرب أميركي،
أو خيال علمي، أو
اجتماعي تحديثي (على التوالي كما في «البجعة السوداء» و «عزم حقيقي» و
«استباق» و «الشبكة الاجتماعية» وحتى «المقاتل»)،
ويمكننا أن نطيل اللائحة أكثر بكثير، يبدو
واضحاً ان الفن السابع، بدأ يلتقط الجوهر في عالم اليوم: الفرد
وقد استعاد محاولته
تحديد مكانه، اجتماعياً وأخلاقياً وربما مادياً وفي التراتبية الاجتماعية.
الفرد من دون ان تقوده رومانسية ما، الى الاختباء في زاوية، أو الى الشكوى
الوجودية، أو الى الغرق في حكايات غرام من النوع الذي اعتاد أن
ينتهي بواحدة من تلك
النهايات الهوليوودية الشهيرة. ولا شك في ان هذا يجب أن يعني بالنسبة الينا،
ان هذه
السينما انما تعود الى الواقع، أي الى الحياة، من دون أي توصيف للواقع
يعطيه سمات
دخيلة عليه. فهو، كما تقوله لنا السينما اليوم: واقع ما بعد
أكاذيب الصيغ الجماعية
والأحلام الإيديولوجية الكبرى. واقع ان الفرد كخلية أساسية مكونة لـ
«المجتمع» هو
القضية وهو الأساس.
الحياة اللندنية في
04/03/2011
قطيعة أم استمرار موارب لمشروع سينمائي
أصيل؟
رندة الرهونجي
هل أتى فيلم «نسخة طبق الأصل» مفاجئاً لعشاق سينما
عباس كياروستامي؟ وهل سيجد
المشاهد صعوبة في التعرّف إلى الهوية السينمائية والرؤية الأسلوبية التي
صنعت
التقدير العالمي لهذه «الأيقونة» السينمائية الإيرانية؟
يكتسب هذا السؤال مشروعيته لـدى مشــاهـــدة
أحــدث أفـــلام كياروستامي «نسخة
طبق الأصل» الذي استمرت عروضه التجارية لأسابيع عدة في الصالات اللبنانية
بعد
مشاركته في مهرجان «كان» السينمائي الدولي الأخير وحصول نجمته الفرنسية
جولييت
بينوش على جائزة أفضل ممثلة عن دورها فيه.
لا شك في أن «نسخة طبق الأصل» شكّل منعطفاً في
المسيرة السينمائية لشاعر السينما
الإيرانية، ذلك أن أهم العناصر السينمائية التي رسمت ملامح عباس كياروستامي
منذ
فيلمه القصير الأول «خبز وزقاق» 1970، والشروط التي حسمت خياراته الإبداعية
لاحقاً
على امتداد أربعة عقود، نراها قد غابت عن فيلمه الأخير هذا
الذي سجّل فيه انزياحاً
عن مقاربته السينمائية الأولى التي تفرّد فيها منذ أن اختار السينما أحد
المنابر
الإبداعية له، إضافة إلى الشعر والرسم والتصوير الفوتوغرافي.
«إيران» هي أول الخيارات الثابتة لدى كياروستامي
كهوية ومكان وزمان وحكاية
وشخصيات ولغة، وهو انحياز سنراه يتخلى عنه في فيلمه الأخير هذا لينتقل
بالحدث
والحكاية إلى حيّز جغرافي آخر (هو إيطاليا) جاعلاً منه الإطار المكاني
الكوني
لمغامرة فنية ستكتسب كل معانيها في تلك المعاينة القريبة
لهواجسه الإنسانية. ثم
يأتي «الممثل» والإيراني تحديداً كثاني ركيزة أساسية في خيارات كياروستامي
الإبداعية والتي تقوم على جعل هذا الممثل يدير نفسه ليصبح وفق قناعته
«قادراً على
التعبير عن مكامن قوته الفردية والحقيقية» بعيداً من سطوة
المخرج، وهو ما يموضع
أفلام كياروستامي داخل مساحة خاصة تمتزج فيها النبرة التسجيلية بالروائية
ضمن اطار
قائم على «الالتباس»، أحد المكونات الأساسية لهويته السينمائية الفريدة.
هذا المنهج في التعامل مع الممثل قد يصبح مهدداً
بفقدان الكثير من خصوصيته
وتجريبيته عندما يقتحم هذه المعادلة الارتجالية اللحظية نجمٌ مكرّسٌ كحال
النجمة
الفرنسية العالمية جولييت بينوش، فنشعر وكأن الفيلم قد مال نحوها بالكامل
ليطغى
حضور النجومية على غموض الشخصية وطزاجتها، ما سيفرض علاقة
مختلفة عن سابقاتها بين
الفيلم والمشاهد الذي سيركن بدوره إلى إملاءات هذا النجم وينتظر منه أن
يلقي بكل
حمولة العمل الإبداعي في عملية تفاعلية أحادية الجانب لا يشارك فيها
بفاعلية عالية
كما اعتاد أن يفعل في أفلام كياروستامي التي تقوم على نصف
العملية الإبداعية من
خلال منهج الحذف وليس الإضافة، أي على سينما غير منتهية تكتمل من خلال
الروح
الإبداعية لدى المشاهد.
استكمال للجوهر
لكن إذا تجاوزنا عنصر المفاجأة الأولى وهذا
الانطباع الأولي الذي يحيلنا إلى تلك
الغربة عن عالم كياروستامي السينمائي، عندها قد نرى أننا لسنا
إلا ّ أمام استكمال
لجوهر ما قدّمه هذا السينمائي التجريبي في جلّ أعماله السابقة، وأمام تفصيل
آخر لم
يفعل سوى إلباسه شكلاً جديداً يتابع فيه بحثه وتأملاته الهادئة حول طبيعة
العلاقات
الإنسانية وأزمة التواصل مع الآخر. فنراه يقدّم تلوينة جديدة
أعاد فيها رسم صورة
شعرية مرهفة لفكرته الأثيرة المتمثلة في «سوء الفهم الأزلي» الذي تقوم عليه
الحياة
برمّتها والذي تبرع السينما في تصويره.
يعلن «نسخة طبق الأصل» منذ البداية انشقاقه عن
افلام كياروستامي السابقة، فنحن
عند هذه البداية أمام ملصق تحتله بالكامل وبلقطة قريبة جولييت بينوش، وهو
أمر قد
يخلق تشويشاً على مقاربة كياروستامي للسينما والتي تبدأ عادة خفيضة النبرة
تسويقياً
ومرتفعة الصوت إبداعياً.
ثم يأتي الفيلم نفسه ليأخذنا خارج إيران التي كرّس
لها كياروستامي جلّ بحثه
التأملي الهادئ داخل تفاصيل العيش فيها ونوع العلاقات التي تربط أفرادها
ببعضهم
وبمجتمعهم ولم يغادرها إلا في عملين له، الأول تسجيلي «ألف باء أفريقيا»
(2001)،
والثاني قصير مشترك «تذاكر» (2005). نراه هنا في «نسخة طبق
الأصل» يدخل مغامرة
سينمائية يضع فيها الرجل والمرأة كطرفي نزاع انساني عاطفي أبدي في محاولة
لفك
الالتباس الذي حاصر دائماً علاقتهما.
يقدّم الفيلم جولييت بينوش في شخصية إمرأة فرنسية
تعيش في بلدة في توسكانا
الإيطالية حيث تملك صالة عرض فنية. تلتقي هناك بكاتب بريطاني (ويليم شيميل)
جاء
ليلقي محاضرة عن الفن بمناسبة التوقيع على كتابه النقدي الأخير الذي يحمل
عنوان
«نسخة
طبق الأصل». ولتبدأ رحلة هذا الثنائي في توسكانا وصولاً إلى بلدة
لوتشينيانو
أثناء حوار مستمر داخل السيارة وفي أزقة هذه البلدة الإيطالية ومقاهيها
ومطاعمها
ومتاحفها ومعالمها الفنية.
يبدأ هذا اللقاء مرتبكاً ضبابياً كما يفترض ان
يكون عليه بين غريبين يلتقيان
للمرة الأولى، وتبدأ بعد ذلك رحلة تكشّف ومواجهة وبوح بين شخصين كلما أمعن
الفيلم
في تسريبه معطيات تشير إلى نوع العلاقة التي تربطهما، زاد الغموض والالتباس
حول
حقيقة الصلة بينهما.
لم يتخل كياروستامي عن وحدة الزمان والمكان التي
بنى عليها معظم افلامه السابقة،
فجعل هذا الثنائي يعيش يوماً كاملاً داخل السيارة - إحدى مفرداته الدائمة -
وداخل
البلدة الإيطالية التي لعبت دور الإطار المكاني المحتضن لحوار مستمر يبدأ
فنياً
خالصاً حول ماهية الفن ومعنى الابتكار وأهمية المنظور الذي
يحدد قيمة أي صنيع فني،
وحجم الالتباس في تحديد أهمية الأصل وعلاقته بالنسخة المستنسخة، لنرى كل
هذه
التساؤلات تنسحب شيئاً فشيئاً على العلاقات الإنسانية فتبدأ البؤرة
الدرامية تضيق
أكثر فأكثر داخل الحيّز النفسي للثنائي في شكل سعى لأن يكون
تأملاً عميقاً، هادئاً،
ورحباً في الحب والارتباط وعلاقته بالزمن، قبل أن ينحو الحوار باتجاه
مواجهة مباشرة
ستنتهي على شكل مشادّة بين زوجين يواجهان فشل زواجهما المتعثر منذ خمسة عشر
عاماً.
وإذا كان بناء الخطاب والحوار سمح بترك المساحة مفتوحة أمام كل الالتباسات
والتأويلات في شأن نوع العلاقة التي تربط هذا الرجل بتلك المرأة، فقد
أغلقها أمام
اقتراحات أكثر اتساعاً ظلّت حاضرة بقوة في أعماله السابقة.
نفور أسلوبي
«لا يمكن أن نقترب من الحقيقة إلا من خلال الكذب»،
جملة قالها كياروستامي قبل
سنوات عدة ليقول بها ربما أنه يرى في السينما لعبة انعكاسات من خلال تقديم
الحقيقة
كخيال والخيال كحقيقة. لكنه في فيلمه الأخير «نسخة طبق الأصل» بدا وكأنه قد
وصل في
لعبة الكذب الإبداعي هذه الى مساحة أصبح فيها الحوار المتواصل
بين الشخصيتين ليس
وسيلة للكشف عن حقيقة الأزمة التي تعيشها العلاقة بقدر ما هو محاولة مستمرة
لإخفائها من دون ترك أي مساحة تتسع لأي خيال، اللّهم التشويقي منه لمعرفة
حقيقة
الصلة بين قطبي هذه العلاقة الغامضة. فقد بدأ «نسخة طبق الأصل»
بداية تعد بالكثير
في زاوية البحث في حزن المرأة العميق وخيبتها في علاقتها بالرجل الذي سعت
معه إلى
تحقيق ارتباط يكون نسخة طبق الأصل لأحلامها قبل أن يأتي الزمن ليضعها في
مواجهة مع
نسخة مزيفة منها. ثم انساق بناء الفيلم إلى منعطفات ضاقت
كثيراً لتقزّم مساحة
التأمل تلك وتحصرها في هذه المكاشفات الزوجية التي أتت غريبة عن نوع
الاشتغال
الكياروستاميّ إلا في بعض مفرداته التي حرص على ادخالها داخل نسيج العمل
للإشارة
إلى انه حاضر ولو في إيطاليا وموجود ولو في تداخل ثلاث لغات:
الفرنسية والإنكليزية
والإيطالية.
بدت هذه المحطة نافرة اسلوبياً داخل الهوية
السينمائية للمخرج الإيراني الأشهر،
وإن كانت قد اتت متوافقة مع بعض مفردات سينماه المتوزعة بين أفلامه
السابقة، إلا
انها لا تشبه تمسك كياروستامي بالتجريبية كمساحة تضعه داخل الحدود بين
الواقعي
والمتخيل والتي جعلته مبتكراً لنوع فريد من الواقعية الإنسانية
الجديدة بدأها منذ
فيلمه الروائي الطويل الأول «المسافر» (1974).
وإذا كان فيلم «لقطة قريبة» (1990) هو الأقرب إلى
نفسه في حيث الاشتغال من داخل
فيلم تسجيلي لكن من أجل كشف وجهة نظر ذاتية حول حقيقة مصورة وحول التشابك
بين
الفيلم والواقع، فنراه يعود هنا في «نسخة طبق الأصل» ليلعب لعبة نفس
الالتباس تلك
ونفس ادعاء ادوار مزيفة، لكن داخل فضاء درامي بدأ متماسكاً
وانتهى مترهلاً.
وكياروستامي الذي اشتغل على توسيع الحدود بين التسجيلي والروائي كما فعل في
ثلاثية
«كوكر»
أو «ثلاثية
الزلزال»: «أين منزل صديقي» - 1987 - و «الحياة تستمر» - 1992
-،
و «من خلال أشجار الزيتون» (1994)، والتي كرّسته واحداً من أساتذة
السينما المعاصرة
الأحياء، نراه هنا يحاول تقديم جولييت بينوش كامرأة تقدم نفسها أولاً
لتختصر في
شخصها أزمة المرأة، قبل أن تفلت من هذا المسعى الذي بدأ متفرداً وانتهى
عادياً.
لم يكن «نسخة طبق الأصل»، في كل الأحوال، اللقاء
الأول بين عباس كياروستامي
وجولييت بينوش، فقد ظهرت في فيلمه «شيرين» (2008) الذي ذهب فيه في بحثه
التجريبي
داخل إمكانات الصورة إلى مستوى من الجرأة جعله يفرض منطقاً جديداً للسرد
السينمائي،
وهو ما حاول من قبله الاشتغال عليه بتناول مختلف في فيلم
«عشرة» (2002).
عباس كياروستامي حامل السعفة الذهبية لمهرجان
«كان» السينمائي عن فيلمه البديع
«طعم
الكرز» (1997) والذي أمعن في تأملاته الاجتماعية والفلسفية في علاقة المثقف
بمجتمعه في «ستحملنا الريح» (1999)، نراه اليوم «في نسخة طبق الأصل» (2010)
يقدّم
اقتراحاً فنياً جديداً سعى الى أن يكون نسخة أصلية تعكس مرحلته
الإبداعية الراهنة،
لكنه ترك السؤال مشروعاً حول مدى أصالتها من زيفها داخل مشروعه السينمائي
العريض.
الحياة اللندنية في
04/03/2011
«اكتوبر»
ايزنشتاين: انقلاب عسكري خلف
قناع الثورة الشعبية
ابراهيم العريس
هل كانت الفكرة من سيرغاي ايزنشتاين، أم ان مفوضية الدولة لشؤون الدعاية هي
من
كلّفه بتنفيذها؟ مهما يكن من أمر الإجابة عن هذا السؤال، فإن
النتيجة كانت واحداً
من اهم الأفلام السياسية في تاريخ الفن السابع. وهذه النتيجة هي فيلم «اكتوبر»
الذي
حين عرض في الغرب جرى ذلك أول الأمر تحت عنوان «عشرة أيام هزت العالم»،
وذلك ببساطة
لأن جزءاً من أحداثه «اقتبس» من بعض فصول الكتاب الشهير بالاسم
نفسه للثوري
الأميركي جون ريد، الذي عاصر الثورة الروسية (ثورة «اكتوبر») وساهم فيها
ودفن حين
مات الى جوار لينين عند أسوار الكرملين. وأيزنشتاين حقق فيلمه، أساساً،
احتفالاً
بالذكرى العاشرة لانتصار الثورة البولشفية. وعرض الفيلم يومها
- عروضاً رسمية خاصة -
يوم ذكرى الثورة تماماً، لكنه لم يعرض على الملأ إلا بعد ذلك بخمسة اشهر...
إذ
اضطر لانتظار مناقشات الرقابة السياسية من حوله.
>
حينما كتب ايزنشتاين السيناريو الذي سيتحول ليصبح هذا الفيلم، كان يعرف
طبعاً ان كل الإمكانات ستوضع في تصرفه: أموال، قوى بشرية،
معدّات، وثائق تاريخية،
فنّيون. بل سيفاجأ عند التصوير، حين احتاج الى إنارة أضواء ساطعة فوق «قصر
الشتاء»
في لينينغراد (بطرسبورغ سابقاً ولاحقاً)،
بأن أهل المدينة استغنوا عن الإضاءة في
بيوتهم لكي يوفروا لتصوير الفيلم ما يحتاج اليه من طاقة. اذاً،
كل شيء وضع في تصرف
ايزنشتاين. ولكن ليس الشيء الأساسي. والشيء الأساسي كان ألوف الأمتار من
شرائط كانت
بالفعل صوّرت الهجوم على قصر الشتاء يوم الثورة وجرى الاحتفاظ بها أو
بالأحرى
التحفظ عليها. فالسلطات الستالينية رفضت وضع الشرائط في تصرف
الفيلم، ما اجبر
ايزنشتاين على إعادة خلق مشاهد الهجوم. صحيح ان هذا لم يكن صعباً طالما ان
سكان
لينينغراد وعمالها ومثقفيها، كانوا اعتادوا تمثيل مشهد الهجوم كل مرة تحل
فيها
ذكراه، كنوع من الاحتفال والاستذكار، ومع هذا يبقى السؤال
قائماً: لماذا رفضت
السلطات استخدام الشرائط الحقيقية؟ لقد ظل هذا السؤال مطروحاً، حتى جاء
مؤرخ وباحث
في تاريخ السينما فرنسي، هو مارك فيرو ليؤكد في محاضرة له خلال سنوات
السبعين ان
السبب بسيط وخطير في الوقت نفسه: ذلك ان الشرائط تثبت، بما لا
يدع اي مجال للشك،
ومن خلال دراستها بدقة، ان الجموع التي هاجمت قصر الشتاء في خريف عام 1917،
لم تكن «جموع العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين»
كما اعتادت الدعاية والأدبيات الشيوعية
ان تقول، بل قوات عسكرية. ما يعني ان ما حدث كان انقلاباً
عسكرياً على كيرنسكي
وحكومته، وليس ثورة شعبية. والحال ان دراسات تاريخية لاحقة وكثيرة نحت الى
تأكيد
هذا، فيما ظل كثر ينفونه. ولربما يكون «أكتوبر» في هذا الإطار شاهداً
تاريخياً
-
سلبياً - على هذه «الحقيقة». بل كذلك شاهداً على نموذج حيّ وفعّال من
نماذج التلاعب
بالصورة، علماً أن هذا التلاعب الذي شغل مؤلفات ودراسات عدة طوال الربع
الأخير من
القرن العشرين صوّر دائماً على انه ممارسة محض ستالينية قبل ان يرى الجميع
انه انما
كان ولا يزال ممارسة عامة، ما افقد الصورة في شكل إجمالي جزءاً كبيراً مما
كانت
تتمتع به من صدقية، بيد ان هذا موضوع ليس هو بيت قصيدنا هنا.
بيت القصيد هنا هو
فيلم «اكتوبر» نفسه بصرف النظر عمّا اذا كان قد جرى التلاعب بصورته ام لا.
>
ذلك ان حكاية التلاعب هذه لا يمكن ان تنقص من قيمة الفيلم شيئاً. بل ان
مشهد الهجوم على القصر، والذي «مثّله» ألوف العمال والمواطنين
والجنود السوفيات،
يظل واحداً من اجمل وأروع مشاهد الفيلم. وقد أتى من الواقعية بحيث ان قلة
من الناس
يمكنها ان تخمّن انه «تمثيل في تمثيل». بل إن أفلاماً عدة حققت لاحقاً،
استعانت
بتلك المشاهد، لعدم تمكنها - هي الأخرى - من الحصول على
الشرائط الحقيقية.
>
لكن تلك المشاهد ليست كل ما في «اكتوبر». فالفيلم، يروي الكثير من الأحداث.
وهو لئن كان يروي معظم تلك الأحداث في
أسلوب يبدو تسجيلياً وثائقياً - وهو ليس كذلك
بالطبع - فإنه في الوقت نفسه يبدو مستجيباً تماما نظريات مخرجه
ايزنشتاين حول
التوليف الذي يجعل الصورة قادرة على اتخاذ دلالة أخرى غير دلالتها
المباشرة، إن هي
مزجت بصورة اخرى. والمثال الأبسط على هذا، في «اكتوبر» بالذات، صورة
لكيرنسكي تليها
صورة لطاووس. في بادئ الأمر تبدو العلاقة بين الصورتين غير مفهومة، ولكن
اذا تذكرنا
هنا كيف كان لينين، زعيم الثورة
البولشفية، يصف كيرنسكي بأنه «طاووس مذهّب»
فسيمكننا ان نفهم دلالة الربط بين الصورتين. ومهما يكن من الأمر، فإن
الإكثار من
مثل هذه المقاربات جعل الكثير من طروحات الفيلم عصيّة على الفهم بالنسبة
الى كثر قد
لا يعرفون شيئاً عن خلفيات الأحداث والشخصيات والمواقف، غير ان
هذا لم يكن مهماً
حقاً في ذلك الحين. ما كان مهما هو قدرة ايزنشتاين وعدد كبير من المساعدين
والفنيين
الذين عملوا معه، على تقديم صورة مفعمة بالحيوية والحياة، لتلك الأيام
الحاسمة من
التاريخ الروسي. ومن الواضح ان غاية ايزنشتاين منذ البداية
كانت التعبير، في شكل
ضخم واحتفالي، عن كل السمات التي طبعت ايام الثورة البروليتارية تلك، من
تحضيرات
ومسار وصولاً حتى النصر النهائي، غير ان الظروف لم تسمح بذلك كله، ومن هنا
اكتفى
الفيلم بأن يصوّر الأحداث التي جرت في بيتروغراد (وهو الاسم
الذي دعيت به المدينة
في ذلك الحين) خلال الفترة بين شباط (فبراير) - الثورة البورجوازية التي
قادها
كيرنسكي - وتشرين الأول (أكتوبر) - الثورة البولشفية - من عام 1917.
>
والفيلم الذي سعى الى وصف تلك الأحداث كلها من دون أي حوارات، إذ لم تكن
السينما الناطقة اخترعت بعد، استخدم عدداً من لوحات العناوين
لتحديد الأحداث ومواقع
الشخصيات. أما المشاهد الأشهر، والتي ظلت في أذهان ملايين المتفرجين حتى
بعدما نسي
الفيلم على مر الزمن، كأحداث تفصيلية، فأبرزها على سبيل المثال مشهد إطلاق
النار
على التظاهرات العمالية في تموز (يوليو) من قوات الحكومة
الموقتة، ومشهد لينين فوق
عربة مدرعة وهو يخطب في اجتماع المحطة، ثم الاجتماع بالقرب من سمولني،
وخصوصاً
طلقات التحذير التي أطلقتها السفينة «اورورا»، إضافة الى المشهد الأشهر،
مشهد
الاستيلاء على قصر الشتاء، وأخيراً خطاب لينين أمام المؤتمر
الثاني للسوفيات.
>
ولنذكر أخيراً، هنا، ان ايزنشتاين أصر منذ البداية على عدم استخدام اي
ممثلين محترفين في الفيلم، وهكذا، مثلاً، جيء بعامل ليلعب دور لينين، وساهم
آخرون
في أدوار أخرى، بل إن مصور الفيلم ادوارد تيسيه لعب دوراً في الفيلم أيضاً.
أما
ايزنشتاين فإنه استخدم إنجازه لهذا الفيلم، لكي يختبر فيه كل
تجاربه الفنية
والشكلية في مجال الكادر والتوليف، ومعظم تلك التجارب كان ناجحاً. وعلى رغم
هذا كله -
وربما بسببه كذلك - احدث الفيلم خيبة أمل
في الكثير من الأوساط الثقافية
والسياسية في الاتحاد السوفياتي، وهذا ما يفسر تأجيل عرضه العام، اشهراً
عدة. و «أكتوبر» هو واحد من أفلام قليلة حققها
سيرغاي ايزنشتاين (1898-1948) احد كبار
فناني السينما في تاريخ هذا الفن، ومبتكر الكثير من الأساليب
الفنية والذي أضفى على
فن المونتاج (التوليف) أبعاداً لم تكن متوقعة في زمنه. ومن افلام ايزنشتاين
الأخرى: «الدارعة بوتومكين» و «الإضراب» و «الكسندر
نيفسكي» و«ايفان الرهيب».
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
04/03/2011
سينما البارون الأحمر في مرآة الذات
والأدب والانهيار الطبقي
بيروت - «الحياة»
بدءاً
من اليوم، وحتى الثالث عشر من آذار (مارس) الجاري، تقام في بيروت، مشاركة
بين جمعية وصالة «متروبوليس»، والمركز الثقافي الإيطالي، تظاهرة تضم عدداً
لا بأس
به من أفلام المخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي (1906 - 1976). وهذه التظاهرة
هي،
أكبر وأشمل مناسبة تقام في لبنان، وربما في الشرق الأوسط
لأعمال هذا السينمائي الذي
-
حتى وإن كان يبدو في أيامنا هذه منسياً بعض الشيء - كان واحداً من قلة من
مبدعين
حققوا للفن السابع، طوال القرن العشرين، بعض أفلامه العلامات. علماً بأن
فيسكونتي
الذي كانت بدايات اهتمامه بالسينما في فرنسا، تحت رعاية
كوكوشانيل، مساعداً لجان
رينوار، كان مخرجاً أوبرالياً ومسرحياً أيضاً. تقدم التظاهرة بدءاً من فيلم
الافتتاح «الفهد» وصولاً إلى فيلم الختام «البريء» (كان آخر ما حققه
فيسكونتي قبل
رحيله)، نحو 10 أفلام هي من أبرز أعمال الرجل (مثل «الموت في
البندقية» و «لودفيغ»
و «روكو وإخوته إلخ). وإذ تصادف إقامة هذه التظاهرة
قرب صدور كتاب شامل عن سينما
فيسكونتي، ضمن إطار سلسلة «الفن السابع» عن مؤسسة السينما - وزارة الثقافة
في
سورية، من تأليف الزميل ابراهيم العريس، ننشر هنا بعض فقرات من الكتاب،
تضيء على
بعض ملامح سينما فيسكونتي في ارتباط مع حياته.
<
يلعب
المكان في الأعمال الفيسكونتية، دوراً كبيراً. لكنه يلعب هذا الدور
فقط بنسبة تموضعه في لحظة زمانية محددة. من هنا لا يصح الحديث
عن مكان أو زمان لدى
فيسكونتي إلا عبر ثنائية المكان – الزمان. وهذه الثنائية تجد التعبير
الأسلم عنها
في لحظة الوعي نفسها، أي في لحظة الإبداع الثقافي. من هنا نجد أن قصر أمير
سالينا
(في
«الفهد..»)، والغرف المغلقة في «الملعونون» وفندق الحمامات وبلاج الليدو في «الموت في البندقية» وقصور ملك بافاريا
الباروكية، هي كلها لحظات وعي، وعلاقات
ذاكرة عملها يقف خارج السياق الحدثي، لتصبح هي لحظة الانعطاف.
في كل تلك الأماكن أمامنا بطل يعيش وحدته وسط
ديكور يعبّر عنه ويحدد له
ملامحه.
أو لسنا هنا إزاء فيسكونتي نفسه في علاقته مع
العالم
أرستقراطي (أي يمتلك لحظة الوعي الخلاقة لطبقة
خلقت أكثر لحظات الإبداع الفني
والحضاري تجلياً)، وماركسي (أي يمتلك حس تحليل التاريخ الذي يؤكد له حتمية
الانهيار
الطبقي على مذبح صعود العلاقات الاقتصادية)، مولع بالجمال (ويكاد في هذا
المجال
ينتمي إلى عهود مضت) وواقعي في الآن نفسه: ذلكم هو فيسكونتي.
فهل أفلامه (اكثر من إخراجاته المسرحية
والأوبرالية على أي حال) سوى صورة
لإحساسه بمسيرة العالم: مسيرة قد لا يكون راضياً عنها لكنه يدرك أن ما من
شيء قادر
على إيقافها حتى ولو أدركنا تفاهتها؟
إن تصوير الصراعات الطبقية (أعني الانهيارات
الاجتماعية لطبقات معينة كانت تمتلك
العالم، والصعود الاجتماعي لطبقات أخرى تتطلع لامتلاكه) يتخذ لدى فيسكونتي
صورة
الدوخان الداخلي.. ولا سيما لدى شخصيات لا يفوتنا أن نتعاطف معها.
نتعاطف معها أم نشفق عليها يا ترى؟ هنا لا بد من
الإشارة إلى أن فيسكونتي،
تماماً كما كان يؤمن أن الإبداع لحظة ذاتية (وهو إيمان عبرت عنه كل أفلامه
على أي
حال)، كان يؤمن كذلك أن التلقي أيضاً لحظة ذاتية بدوره، بمعنى أن الجمهور
كقيمة
مطلقة، غير موجود بالنسبة إليه.
فهل يا ترى كان هذا هو السبب الذي يجعله يختار
لمواضيع أفلامه أحداثاً تاريخية
ولحظات انعطاف تتمخض عن صراع بين رؤيتين تنتميان معاً إلى التاريخ لا إلى
الراهن؟
إذا كان هذا صحيحاً، وهو في اعتقادنا صحيح، يكون
فيسكونتي قد حدد أطراف صراعه
تحديداً دقيقاً أو لنقل طرفي الصراع. فالصراع عنده صراع بين وعيين: وعي
بجمال يذهب
ووعي بحتمية تجيء. ودون أن يزعم انه يقف بين الوعيين على حياد، عرف
فيسكونتي كيف
يجعل من أعماله السينمائية الأساسية أعمالاً تحكي التاريخ
ومشكلة التاريخ، وتحكي
الفن ومشكلة الفن في آن معاً. وهو أمر سيتجلى بكل وضوح في الثلاثية المؤلفة
من «الملعونون» و «الموت في البندقية» و «لودفيغ» والتي لن يكون من غير المنطقي اعتبار
الفيلم التالي لها «عنف وعاطفة» محاولة لتفسيرها، وتوليفها.
حرية ما
...
لقد قيل دائماً إن تاريخ السينما لم يعرف خارج
إطار فيسكونتي وقبضة أخرى من
المخرجين الكبار، مبدعين أعطيت لهم على الدوام حرية كاملة، سواء في اختيار
الموضوعات التي يعالجونها في أفلامهم أم في تفاصيل تلك المعالجة. بمعنى أن
اختيارات
فيسكونتي كانت على الدوام اختيارات حرة.. وبالتالي ينبغي التعامل معها على
هذا
النحو، ومن دون أخذ عناصر «الضغط الإنتاجي» في الاعتبار، لدى
معالجة أي فيلم من
الأفلام، أي بكلمات أخرى، يمكن التعاطي مع فيسكونتي وأفلامه انطلاقاً من
كونه يحمل
المسؤولية التامة عن هذه الأفلام واختياراته بصددها.
عندما حقق فيسكونتي «الأرض تهتز» كان يريد لذلك
الفيلم أن يكون ، كما أشرنا غير
مرة ، حلقة أولى في ثلاثية هدفها الأبعد تصوير جوانب عدة في الواقع
الاجتماعي
الإيطالي. وإذ فشل المشروع، صار من الطبيعي أن ينظر بعض النقاد إلى «روكو « نظرتهم
إلى المشروع نفسه: كفيلم عن الواقع الاجتماعي يتخلى فيه المخرج
عن مناخاته «الشاعرية»
و «الأوبرالية»
و «المسرحية»
غير أن هذا الاعتبار فيه ظلم لهذا الفيلم
فادح، صحيح أن «روكو وأخوته» في شكله الحدثي، وفي مناخه العام، يرسم صورة
قاسية بل
ميلودرامية لوضع اجتماعي إيطالي ما. (فهو عبر حكاية عائلة روزاريا التي
تتجه إلى
ميلانو تبدأ الحياة بالانتظام شيئاً فشيئاً.. غير أنها حياة
تنتظم على أنقاض
التماسك العائلي).. فإننا هنا، عبر الأحداث، وعبر العلاقات المتشعبة (بما
فيها
علاقات زنى مع المحارم)، نجد أن الفيلم يتحول من فيلم يريد أن يتحدث عن
الواقع
الاجتماعي، ليصبح مرة أخرى فيلماً عن السقوط. فإذا استثنينا
الأخ تشيرو الذي يضحى
عاملاً لدى ألفا – روميو، ويكتسب وعياً سياسياً واضحاً، نلاحظ أن الشخصيات
الأخرى
جميعها تسقط. فهل نحن هنا أمام أمثولة أخلاقية؟ لو كان نفس هذا الفيلم يحمل
توقيع
لاتوادا أو كومنشيني، أو دي سيتا، لكان من الممكن لنا أن نقول:
نعم، إننا أمام
أمثولة أخلافية أو لكان من الطبيعي للفيلم أن يحمل عنواناً آخر هو «تشيرو
وأخوته».
لكن فيسكونتي جعل من روكو شخصيته المحورية:
روكو الهادئ اللامتمرد، والذي يعتقد بأن
الطيبة وحدها قادرة على تغيير العالم. انه يعاني بألم ويحن إلى
لوكانيا. مسقط رأسه
«ارض
الزيتون وقوس قزح» – كما يقول – وروكو هو الخاسر، على رغم كل نواياه الطيبة.
الخاسر بالمعنى الذي تحمله كلمة «سقوط»
نفسها. من هنا، وتجاوزاً للواقع الاجتماعي
الذي يصوره فيسكونتي بدقة وبالتفصيل، نتساءل: أو ليس روكو هو
مركيزة «الحس» وغوستاف
فون ايشنباخ، بل لودفيغ في «سقوط الآلهة»، وبيرت لانكاستر في «عنف وعاطفة»؟
مرة أخرى نجد أنفسنا أمام حكاية السقوط، أمام ذلك
الميل، الذي صوره فيسكونتي
دائماً، الميل القائم في استهلاك الكائن لذاته.
أبطال فيسكونتي يستهلكون ذواتهم وروكو لا يشذ عن
هذه القاعدة. بل هو يرسم الخطوط
الأولى والأكثر وضوحاً لترسخ مسيرة الصراعات في الداخل، على شكل دوخان
وهذيان
داخليين، وعلى شكل مسيرة محتمة، يتلقاها الخائفون منها دون قدرة على ردها.
وكأننا
هنا نصف أمير فيلم «الفهد» وصفاً دقيقاً.
حزن الأمير
منذ أفلامه الأولى كانت علاقة فيسكونتي مع الأدب
علاقة مثمرة، ففيلمه الأول
«وسواس»
اقتبس من الأميركي جيمس كين و «الأرض تهتز» اقتبس من فارغا و «الليالي
البيضاء» من دوستويفسكي و «الحس» من كاميلو بويتو، و «روكو «
عن رواية «جسر
غيسولفا» لجيوفاني تيستوري. والآن مع «الفهد» (1962) آن الأوان لـ
«فيسكونتي
للتعامل مع رواية كبيرة ثمة بينه وبين كاتبها روابط كثيرة. فـ
«الفهد» مقتبس عن
رواية كتبها الأمير جيوزيبي دي لامبدوزا عند نهاية حياته، لكنها لم تشتهر
إلا في
أواسط الخمسينات. وكما فعل فيسكونتي وسيفعل كثيراً من الآن وصاعداً، من
الواضح أن
لامبدوزا قد وضع في روايته الكثير من ذاته. وبهذا المعنى يمكن
اعتبار فيلم «الفهد»
الذي يدوم نحواً من ثلاث ساعات، أشبه بلوحة شخصية للأمير (ولسوف نكتشف
لاحقاً انه
يكاد أن يكون أيضاً لوحة شخصية لـ فيسكونتي نفسه.. ولكن مهلاً بعض الشيء
الآن).
بالنسبة إلى الكثر، ربما يكون جيوزيبي دي
لامبيدوزا، أشهر كاتب إيطالي على
الإطلاق. ومع هذا جرب أن تعثر على أعماله الكاملة وعلى روايات أخرى تتصورها
له، عدا
روايته التي صنعت شهرته «الفهد» فلن تجد. وجرب أن تبحث عن مقالة عنه في
الموسوعات
العالمية فلن تجد. وإذا كان يخيل إلى الكثر أن هذا الكاتب
الأرستقراطي هو من أبناء
القرن التاسع عشر، من المستحيل أن تجد كلمة عنه في كل أدبيات وتواريخ
ودراسات ذلك
القرن. وذلك لأن دي لامبيدوزا: أولاً، لم يكتب أية رواية أخرى عدا «الفهد»
حيث أن
هذه، إلى ثلاثة أو أربعة نصوص معتبرة أخرى معظمها «مسودة» أولى لـ «الفهد»
هي التي
تشكل «أعماله الكاملة». ثانياً، بالكاد ينظر إليه مؤرخو الأدب
العالمي على انه كاتب
حقيقي، يستحق أن يذكر في الموسوعات. وثالثاً وأخيراً، ليس دي لامبيدوزا من
أبناء
القرن التاسع عشر، على رغم أن أحداث «الفهد» تدور في ذلك القرن، بل تؤرخ
ذهنيته في
شكل لم يتمكن أي عمل آخر من فعله، دي لامبيدوزا هو من أبناء
القرن العشرين. فهو مات
في العام 1957. وهو لم يكتب رائعته «الفهد» إلا قبل شهور قليلة من رحيله،
ويبدو
لأسباب تتعلق بذلك الرحيل.
ومن هنا القول إن العلاقة بين القارئ، وهذا الكاتب
تنطلق أصلاً من ضروب عدة من
سوء التفاهم. غير أن هذا كله ليس صدفة. ذلك أن جيوزيبي دي لامبيدوزا، لم
يكن أديباً
بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. كان بالأحرى ثرياً مثقفاً يرصد بغضب ومرارة
أحوال
بلاده، ويعتبر أن لحظات التقدم التي صنعت هذه البلاد، معبراً
عنها بما يسمى في
إيطاليا «ريزورجيمنتو «
(البعث)، وما رافقه من توحيد وتنحية للكنيسة - ولو جزئياً
-
وللأرستقراطية التي راحت تحل محلها بورجوازية «مركانتيلية مبتذلة»
بحسب اعتقاده، كل
هذا نسف روح بلاده وأعطاها طابعاً عادياً لا يتلاءم مع عظمة تاريخها. هل
يعني هذا
أن دي لامبيدوزا كان رجعياً؟ إلى حد ما، أجل. ولكن ليس بمعنى أنه كان يود
أن تعود
عقارب الساعة إلى الوراء، بل بمعنى انه كان يحن إلى عصور كانت
الروح تطغى على
المادة، وكان فيها للثقافة دور في حياة الشعب، وكان الإشعاع الفكري من صنع
طبقات
نبيلة. غير أن هذا كله لم يمنعه من أن يقر أن أحداً لا يمكنه أن يوقف
التقدم. فهو،
المعجب ببروبسبيار (الثورة الفرنسية) أكثر من إعجابه بلويس
السادس عشر. كان يرى أن
إيماننا بالتقدم، لا يجب أن يمنعنا من الحنين إلى العصور التي سبقته.
ومن أجل التعبير عن هذا، بالتحديد، كتب دي
لامبيدوزا، في آخر أيامه وهو على شفا
الموت، تلك الرواية الوحيدة في مساره. ومن الأمور ذات الدلالة
أن تكون فكرة كتابة «الفهد»
قد واتت هذا الرجل النبيل منذ العام 1943، حين اغضبه وأدهشه أن يرى
الطائرات العسكرية الأميركية، تهاجم قصره وقصر أهله الأرستقراطيين وتدمره
بقذائفها.
لقد وقف دي لامبيدوزا يومها يتساءل: هل
تدمير مثل هذا القصر هو الثمن الذي يجب أن
يدفع من اجل الوصول إلى التقدم؟ طبعاً، مثل هذا السؤال قد يبدو
لنا هنا تبسيطياً،
لكن في إطاره يومذاك، بالنسبة إلى صاحب ذهنية حضارية مرهفة مثل ابن نبلاء
آل
لامبيدوزا، كان سؤالاً أساسياً، محيراً. وهذه الحيرة هي بالتحديد، ما يجعل
الرجل
وروايته ينتميان إلى القرن التاسع عشر. لا إلى النصف الثاني من
القرن العشرين. ففي
القرن التاسع عشر حين راجت الحضارة الآتية بثورتها الصناعية والطبقة الوسطى
الصانعة
لها وأخلاقيات الشارع وتراجع الفكر الجمالي، وقف الكثير من المفكرين
والفلاسفة،
والفنانين والأدباء حائرين: نعم انهم مع التقدم ومع عدالة في
توزيع الإنتاج، ومع
حصول الناس على فرص متكافئة، ولكن هل ينبغي حقاً أن ندمر في سبيل ذلك كل ما
هو
جميل؟
والحال إن هذا السؤال، مطروحاً في رواية أخاذة مثل
«الفهد»، كان هو ما جعل
مخرجاً سينمائياً كبيراً، مثل لوكينو فيسكونتي ، يقبل على هذه الرواية
ليحولها إلى
فيلم، هو الأفضل بين أفلامه، ولعله الأجمل بين كل ما أنتجته السينما
الإيطالية في
تاريخها. فأسئلة دي لامبيدوزا كانت هي هي أسئلة فيسكونتي
الحائر بين التقدم
والجمود، بين صعود الطبقة البورجوازية وأفول الأرستقراطية. ذلك أن اللحظة
التي
تصفها رواية «الفهد» هي بالتحديد اللحظة المفصلية بين أفول هذه وصعود تلك.
*
مقاطع من «سينما البارون الأحمر» لإبراهيم العريس
الحياة اللندنية في
04/03/2011 |