بدا الديكور غريبا، له طابع غير مألوف، أقرب إلى السيريالية، فالمكان خرب،
موحش، مدمر، يوحى أن حريقا اندلع بداخله وأتى على جدرانه والتهم الطلاء
فاكتسى كل شىء باللون الرمادى. لاحقا. نكتشف أن هذه البناية المتداعية،
أصلا، هى قصر العزيزية الذى دمرته طائرات الجيش الأمريكى فى نوبة من نوبات
الوحشية المقيتة..
من وراء نافذة منزوعة الأخشاب والزجاج، يطل «الأخ القائد»، بطلعة كئيبة
معتمة، ليلقى خطابه التاريخى. اختار العقيد هذا الموقع ليذكِّر الآخرين
بأنه كان هدفا للإمبريالية الغاشمة، لكنه نسى أن الناس تتذكر كيف قدم
معداته النووية، كاملة، لأمريكا، قربانا، كى ترضى عنه.
وما إن بدأ الزعيم كلامه، المتمشى تماما مع المكان الكابوسى، حتى أدرك كل
من يتابعه أن ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب قد مسه جنون واضح، لا
يتجلى فى انفجاراته الانفعالية المتقلبة وحسب، بل فى تلك الجحافل،
المتضاربة التوجهات، التى لا وجود لها إلا فى خياله المضطرب، والتى يؤنبها
تارة، ويهادنها تارة، يهددها مرة، ويأمرها مرة.
فى ذلك الخطاب، قدم القذافى أداء خلابا، فاتنا، عفويا وصادقا، لحالة هذيان
فريدة، تعتبر درسا ثمينا فى مهارة وقوة الأداء، بالنسبة لعشاق التمثيل،
خاصة أن الخطاب جاء مرتجلا، وبالتالى انفتحت أبواب الهستيريا عند رجل اتسعت
وتعمقت المسافة بين فكرته عن نفسه من ناحية، وواقعه الحقيقى من ناحية أخرى،
فالطاغية، الذى قبع على دست الحكم أكثر من أربعة عقود، وجد نفسه، على حين
غرة، فى مركز إعصار سيطيح به بعيدا. لم يكن يسمع إلا صيحات الولاء وتهليل
التبجيل، والآن يرى جماهير ثائرة تهتف بسقوطه.
طوال الخطاب، ضم القذافى أصابع يده اليمنى، ولم يتوقف عن التلويح بقبضته
والضرب بها على منضدة أمامه، بما يعنى الإعلان عن مزيج من القوة والغضب
والتمسك بالسلطة. وعلى الرغم من ملامح وجه «الزعيم» الجامدة أصلا، فإن نظرة
عينيه تزوغ للحظة، وفيما يبدو يتراءى له مشهد المجاميع المتدفقة فى الشوارع
والميادين فيجأر مخاطبا «من أنتم.. من أين جئتم». وحين يتذكر المناطق التى
خرجت عن سيطرته يوجه كلماته لسكانها قائلا «هذه آخرتها.. هذه آخرتها يا بنى
غازى»..
وفجأة، تنتابه موجة من جنون العظمة فيعلن، ببساطة مدهشة «أنا مجد لا تفرط
فيه ليبيا»، ويمتد التورم الذاتى ليشمل ليبيا التى يقول عنها إنها «تقود
أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية». وبعيدا عن القاموس اللغوى المتدنى الذى
يصف فيه الثوار بالقطط والفئران، وكل من يستمع أو يتابع الإذاعات والقنوات
الفضائية بالكلاب.
يتسم الخطاب، إجمالا، بتفكك الأفكار، والعجز عن إدراك الواقع، وانعدام
القدرة على ضبط الانفعالات، وها هو، فى النهاية، يرى فى خياله طوابير جيوشه
فيخاطبهم، كما لو أنه أحد القياصرة «إلى الأمام.. ثورة.. ثورة». ويدق
بقبضته دقة أخيرة على المنضدة ويغادر.
الشروق المصرية في
26/02/2011
فيلم مكرر
بقلم: كمال رمزي
عام «2011» هو عام الأفلام المكررة، لا يتم صنعها فى الاستوديوهات ولا تعرض
على الشاشة الكبيرة، ولكن يأتى تصويرها فى الشوارع والميادين، لتعرض على
الشاشات الصغيرة.. الأفلام، جوهريا، تتطابق، وإن اختلفت فى بعض التفاصيل
الصغيرة. كلها تدور حول شعب مظلوم، مسروق، قرر فى لحظة، رفض الطغيان
ومحاسبة اللصوص.. على الجانب الآخر، حاكم مزمن، تمكن منه عشق الكرسى، ولم
يعد يطيق فراقه، حوله مجموعة من المنتفعين، لم يزينوا له البقاء فى السلطة
وحسب، بل بتوريثها إلى أحد أبنائه أو محاسيبه.. السيناريو فى كل الأفلام،
يسير بوتيرة واحدة، مثيرة وممتعة، تتضمن صراعا متوثبا، صاعدا، بين إرادتين
قويتين، يتخللهما مواقف فيها من المناورة، والمخاتلة، والتضليل، الشىء
الكثير. فيلمان تم إنجازهما، فى تونس ومصر، والثالث يجرى تشطيبه، فى ليبيا،
والرابع تجرى بروفاته، فى اليمن، وخامس وسادس فى بلدان عربية أخرى. مراحل
السيناريو تتوالى، متدفقة بالسخونة كالتالى:
ــ شباب فى العشرينيات، بوجوه تفيض بالأمل والغضب، يرتدون البناطيل الجينز
والقمصان أو الفانلات، يلفون حول أعناقهم كوفيات، يتحركون فى مجموعات
كبيرة، يحملون ذات الشعارات الموحدة، الشعب يريد تغيير النظام، والمطالبة
برحيل الحاكم المستبد.
ــ قوات الشرطة تهاجم المتظاهرين. عساكرها تمسك بدروع وعصيان وتضع خوذات
فوق رءوسهم.
ــ عربة شرطة مصفحة، من ذات النوع، متعددة القدرات، تتعمد، بكل خسة، دهس
الشباب، فى تونس ومصر وليبيا.
ــ شرطة سرية، بملابس مدنية، تخطف هذا الشاب أو ذاك، تشبعه ضربا، تزج به فى
ميكروباص، يتماثل فى شكله مع بقية ميكروباصات شرطة البلدان الثائرة.. صوت
إطلاق رصاص، يطلقه قناصة سفلة، يختبئون فوق بنايات.. وثمة صرخات أمهات
وأخوات، نابعة من قلوبهن، يولولن على شاب يسقط مضرجا بالدماء.. ولاحقا،
تطالعنا صور والشباب الجميل، فى ثلاجات المستشفيات، بعد أن استشهدوا، وثقوب
الرصاص بادية على أعناقهم. إنهم الثمن الغالى للحرية، وأيضا يزيدون من
عزيمة الثوار.
ــ أخيرا، يظهر الطاغية أو من ينوب عنه، يلقى بيانا لئيما متهافتا متعفنا،
يردد فيه أكاذيب عن مندسين ومجرمين وبلطجية، يهدد بالفوضى الآنية إذا ترك
الحكم، ويقدم وعدا بالاستجابة فورا لمطالب الجماهير، وإصلاح ما تم إفساده
خلال عشرين عاما وثلاثين وأربعين عاما. هكذا فعل زين العابدين وحسنى مبارك
ثم سيف الإسلام، نجل معمر القذافى، المختلف شكليا عن سابقيه، فوجهه بدا
متربا، ربما بسبب صلعته ذات الشعر الخفيف، بلون الجلد، وشاربه العجيب،
المتعرج، الذى من الصعب أن تحدد معالمه. وطوال بيانه الطويل، الممل، حاول
أن يبدو واثقا، لكن مخاوفه تجلت فى نظرته الزائغة بين الحين والحين،
وارتباكه ظهر واضحا وهو يلملم أطراف جاكتته، كما لو أنها واسعة عليه.. إنه
الإيذان بأفول نظام، ونهاية فيلم عظيم، وإن كان مكررا.
الشروق المصرية في
23/02/2011
الهدهد.. شريف
بقلم: كمال رمزي
تماما شكل الهدهد: جسم نحيل، متسق وأنيق، يعلوه رأس صغير، دقيق الملامح،
أوضح ما فيه تلك العينين اللتين تنطقان بالذكاء، فضلا عن ذلك الشعر
الكستنائى الأقرب للتاج. لكن الأهم، بالنسبة للمذيع المتمكن، الهادئ، شريف
عامر، صاحب برنامج «الحياة اليوم»، أن جوهره، يتطابق مع خصائص الهدهد. غير
جارح، لا يثير المخاوف، قليل الصخب والضوضاء، رصين، كلاسيكى النزعة، يتمتع
بحيوية داخلية، يتحمل الظروف الصعبة، قوى الملاحظة، يعرف اتجاهه ولا يحيد
عنه.
بهذه المواصفات، تمكن من تغطية أحداث ووقائع الثورة، على نحو بالغ الرهافة،
فبينما انخرط غيره من المذيعين، برعونة، فى تشويه الثوار وتوبيخ
المتظاهرين، احتفظ هو بدور ناقل الأخبار الأمين، وتعمد أن يكون صادقا
ومحايدا وواضحا، لا يبعث برسائل ولاء لسلطة ذلك الزمان، سواء بالصوت أو
بالإيماءة أو بحركة اليدين. لذا، أصبح شريف بمثابة جزيرة مطمئنة، موثوق
فيها، وسط زلزال هز معظم زملائه.
فى لقاءاته مع ضيوفه، تتجلى إحدى صفات الهدهد فيما يعرف بقدرته على تحديد
طريقه للوصول، بنعومة، إلى هدفه، فمذيعنا النابه، بابتسامته العذبة، لا
يقتحم محاوره، ولا يصطدم معه، ولا يدفعه لقول ما لا يريد، ولكن، بدمائه،
يسبر غوره، فإذا كان الهدهد، بطبيعته، يعرف مكان الماء تحت قشرة الأرض،
وينقرها بدأب، حتى يصل إليها، فإن «شريف»، بشفافيته، وثقافته، يدرك خبيئة
الأسرار عند ضيفه، ويحاول، برقة، أن ينظر فيها، ويتلمسها.. وهذا ما حدث،
على نحو ممتع، مع أحد كبار البنائين، فى أواخر عهد السادات وبداية عهد
مبارك. حسب الله الكفراوى، الرجل الذى ارتبطت صورته فى الأذهان وهو فى
مواقع العمل، بين صفوف الطوب وتلال الرمال وأكوام الزلط. غلالة عرق فى سمك
الزيت تغطى وجهه، يلتقط أنفاسه بصعوبة وحشرجة كما لو أنه صعد وهبط صقالة
عالية عدة مرات، حاملا على كتفه قصعة الأسمنت.. مضت سنوات على هذه الصورة
الخلابة.. وبدا الرجل، الآن، شيخا طيبا، صوفيا حكيما، ولكن المشاهد لا
يحتاج لجهد كى يدرك أنه إزاء صقر شديد اليقظة، مرهف الحواس، صعب المراس،
وبالتالى جاء الحوار كما لو أنه بين هدهد وصقر.
عش الصقر ملىء بالوقائع الثمينة، أثارت لعاب الهدهد، دفعته لأن يرنو بعينين
شغوفتين فأخذ يلف ويدور حول الصقر، يبتسم له بمودة ورجاء. والواضح أن الصقر
فهم اللعبة، وأحبها، فاستجاب لها بشروطه: يظهر للهدهد جزءا من المقتنيات
ولا يسلمها كاملة.. وفى لمسة إنسانية أشرق وجه الكفراوى بنوع من المحبة
الصافية، لا تتأتى إلا من كبار السن، قال لشريف مشاغبا «أنا جدو..»، ومثل
أى «جدو»، كان الصقر كريما مع حفيده الهدهد، فمنحه، ومنحنا، قطعة ثمينة من
عندياته، تمثلت فى واقعة ابن أكبر مسئول فى الوطن، ذهب للكفراوى طالبا منه
«ألف فدان».. وطبعا، كانت إجابة الصقر قاطعة «فليحدثنى والدك فى هذا
الشأن».. فهم الهدهد، وفهمنا معه، كيف ولماذا تم الاستغناء عن أحد كبار
البنائين.
الشروق المصرية في
19/02/2011
عمر سليمان.. ثلاث صور
بقلم: كمال رمزي
اعتملت فى وجهه دراما كاملة، تدرك أبعادها حين تتذكر صورته، مبتسما نادرا،
جادا غالبا، منذ سنوات، عندما درج على القيام برحلاته المكوكية بين مصر
وفلسطين، لحل مشكلات بين فتح وحماس، أو بحث مسائل بين القاهرة وتل أبيب.
صامت دائما، لا يدلى بأية تصريحات. ملامحه الجامدة منحته مزيدا من غموض
منصبه على رأس جهاز المخابرات الذى يحظى بقدر لا يستهان به من التوقير،
يرجع لأنه المؤسسة المنوط بها الكشف عن جواسيس إسرائيل، وهى فى هذا تختلف
عن جهاز الشرطة، بجحافل أمنه المركزى الغلبان، المكلف بضرب المتظاهرين
وتفريق الجماهير.
عمر سليمان، بدا عند الكثيرين، فى الأيام الخوالى، قويا وراسخا، ومحلا
للثقة، وبسبب النفور العام من النظام القائم، الفاسد المستبد، تمنى البعض
أن يغدو، رئيسا للجمهورية، ولكن الأيام جاءت به نائبا لرئيس مهزوز، حكمه
على كف شباب ثائر، وأصبح على الرجل الغامض، الصامت، أن يفصح عن نفسه،
ويتكلم، عندئذ، بدأت الصورة تنجلى.. فى أحد بياناته، ترددت ثلاث كلمات
بإلحاح شديد، ينطقها الرجل بوضوح لا لبس فيه، هى «كلفنى السيد الرئيس»،
وكأنه يعلن، بشىء من الغبطة المستترة، أنه صدى لصوت الرئيس. لا ولاء عنده
إلا لمن عينه، وهو فى ذات الوقت، مرءوس مخلص فخور بالثقة التى وضعت فيه،
يؤدى عمله بدقة متناهية، ملتزم بتنفيذ التعليمات التزاما تاما. لا مجال
للخيال أو الإبداع أو الابتكار أو المبادرة. إنه موظف. نعم هو موظف كبير،
لكن أخلاقيات الموظفين واحدة، تشمل الكبير والصغير. لذا، فإن صوته المتهدج
بمزيج من الفخر والامتنان وهو يقول «كلفنى السيد الرئيس»، يتحول إلى صوت
تنبض نبراته بالصرامة حين يسرد التوجيهات، وكأنه يصدر أوامر واجبة التنفيذ،
يوجهها لمجموعة من مرءوسيه وليس لثورة مندلعة فى الشوارع والميادين.. هنا
تظهر مشكلة الرجل النزيه الذى عاش حياته ملتصقا بمكتبه، يتلقى ويصدر
الأوامر. لا ينتبه إلى كونه ليس بين موظفيه، ولكن إزاء جماهير غاضبة لن
تقبل نواهى أو إملاءات.
لقد بدا الرجل المخلص وكأنه يعيش فى زمن آخر، ومكان آخر.. وهذا ما يفسر
الفشل الذريع فى الحوار الذى دار بينه من ناحية، وبعض فصائل المعارضة من
ناحية أخرى، فطرح مسألة تنحى أو خروج رئيسه، بالنسبة له، كبيرة الكبائر، أو
نوع من التجديف.
فى بيانه الأخير، بدت المسافة واسعة بين صورته الأولى، المحاطة بهالة من
الأوهام، وصورته الثانية كموظف كبير، ذلك أنه، فى هذه المرة، عليه أن يعلن
تخلى الرئيس عن الكرسى.. ظهر عمر سليمان بوجه متجهم، مغضن، بتجاعيد حفرت
خطوطها فى أيام قليلة. جفون منتفخة تحت عيون مليئة بغضب مكتوم.
يقف وراءه حارس متحفز، وفيما يبدو أن تصويره جاء على عجل، فالإضاءة المبهرة
ركزت على نصف وجهه العلوى فلسعته ببياض شاحب كئيب.. وبينما الموظف الكبير،
يقول بصوت ينضح بالحزن والألم «فى هذه الظروف العصيبة».. يقصد الظروف
الثورية حسب رؤية الشباب. وفيما يبدو أنه لم يدرك وقع كلماته المترعة
بالأسى على الشعب المصرى الذى سرت فى عروقه دماء البهجة والأمل.
الشروق المصرية في
16/02/2011
الوصايا العشر.. الخائبة
بقلم: كمال رمزي
لم يسقط الإعلام الحكومى، الفاشل أصلا، ولكن النظام هو الذى سقط، انهار،
أخلاقيا وعقليا، مات موتا سريريا وإن كان لا يزال يأتى بحركات تشنجية.
وأصبح على إعلامه ألا يخفى وفاته وحسب، بل عليه الإيحاء بقوة ومتانة النظام
من ناحية، وتشويه الثورة من ناحية أخرى..
هذه المسئولية الوعرة، أسندت إلى العديد من إعلام النظم التى تلفظ أنفاسها
الأخيرة، فى محاولة فاشلة للإنقاذ.. وهذا ما فعله الإعلام الحكومى الذى نفذ
التعليمات التالية:
ــ تحاشى استخدام كلمتى الثورة أو الثوار، واستبدالهما بكلمات من نوع
احتجاج، أو مظاهرة، وعليك بالتقليل من حجمها، فإذا كان المشاركون فيها
مليونا، قل بضعة آلاف، وإذا كان التجمع يضم مئات الآلاف، قل عدة مئات.
ــ لابد أن تختلق أعداء من داخل وخارج البلاد، كأن تزعم وجود مؤامرة كبرى،
خبيثة، لا تريد الاستقرار للوطن، ولا بأس أن تتحدث عن «مندسين» لهم أجندة
خاصة، وفى ذات الوقت تشير إلى أصابع خارجية، حتى على نحو عشوائى متنافر،
وتضع إسرائيل وإيران وأمريكا وحزب الله وحماس فى سلة واحدة.
ــ اعتمد فى اللقاءات التليفزيونية، فى البداية، على حملة مباخر النظام..
ثم، إذا استمرت الثورة، قدم الوجوه المستعدة لمسك العصا من المنتصف، فتكيل
المديح للثائرين، متحدثا عن نقائهم وطهارتهم، مؤكدا أن ثمة استجابة للكثير
من مطالبهم، مع الإشارة إلى أن السياسة هى فن الممكن.
ــ تخويف الناس من الفوضى، ومن المجرمين، وإفساح المجال لمكالمات تليفونية
متفق عليها سلفا، تتحدث بذعر عن اقتحامات وهمية لبيوت وشقق.
ــ احذر المناقشات السياسية، العقلية، والجأ إلى الخطاب العاطفى، فلا تتحدث
عن مهنة ودور رئيس الدولة، من الممكن محاسبته، ولكن تحدث عنه كأب، من واجبك
أن تحبه وتحترمه.
ــ الجأ إلى فكرة الرئيس النزيه والبطانة الفاسدة.. وإذا سقط شهداء برصاص
الشرطة أو بلطجية النظام، فلتنسبها إلى عناصر شريرة ستتم محاسبتها.
ــ حين يضحى النظام ببعض رموزه، عليك بالهليل للأمر، واعتباره هدف الثورة
الذى تحقق.
ــ حاول مؤازرة النظام خلال تقديم فنانين متمتعين بقبول شعبى.
ــ روج لفكرة الحوار والمصالحة والاستجابة للتغيير، بهدوء، وعلى مراحل.
ــ احذر التعرض لقضايا شائكة غير مأمونة العواقب، كأن تناقش مسألة دور
النظام فى تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، أو ثروات البلاد المنهوبة،
المهربة للخارج، خاصة فيما يتعلق بثروة عائلة الرئيس، والتى أعلنت منظمات
الشفافية العالمية أنها تصل إلى سبعين مليار دولار.
التزم الإعلام الحكومى بهذه التوجيهات والنواهى.. ولكن بلا جدوى، فالنظام
أصلا.. انتهى
الشروق المصرية في
12/02/2011
أولاد عرفة
بقلم: كمال رمزي
تمنيت أن يكون بيننا، فى هذه الأيام المتلألئة بالأنوار والأمل، كى يرى،
بعينيه، كيف تحولت توقعاته، إلى حقائق ملموسة، ذلك أنه هو القائل، بعد مئات
الصفحات من الثورات المجهضة بفعل الوعود الكاذبة: إذا كانت آفة حارتنا
النسيان فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وأنها ستبرأ منها إلى الأبد.
هكذا تحدث نجيب محفوظ، وهذا ما يؤكده، الآن، شباب مصر العظيم، بعد أن
استوعب درس التاريخ الذى يدفعك دفعا إلى عدم الثقة فى الوعود، خاصة إذا كان
من قطعها فى مأزق، ذلك أنه من المؤكد، بعد انتهاء غمته، واسترداده لأدوات
بطشه، سيثأر لنفسه بلا رحمة. لقد كان أمامه، طوال ثلاثة عقود، أن يحقق شيئا
من العدل، وأن يحافظ على شىء من كرامة المواطنين، وأن ينأى عن السلطة بعد
دورة أو دورتين، وأن يدافع عن خيرات البلاد، بمصانعها وأرضها وبترولها
وغازها، وهذا ما أقسم على تنفيذه، عدة مرات، من دون أن يتحقق منها شىء.
نعم، ثمة إعلان أنه لن يبقى على سدة الحكم فترة جديدة، ولكن الشباب يتخوف
من سيناريو متوقع ينص على عودة الشبيحة وشذاذ الآفاق والمغلوبين على أمرهم،
كى يهتفوا «بالروح والدم نفديك يا...»، مطالبين ببقائه لاستكمال المشوار.
حينها سيلقى بخطاب عاطفى مؤثر، يعلن فيه أنه، برغم متاعبه وعنائه، ينحنى
لإرادة الشعب، ويقبل المسئولية الجسيمة، مكررا، ذات الوعود.
لكن، من أين جاء هذا الشباب، الذى باغت الجميع بوعيه وشجاعته؟.. إنه أحدث
أجيال «أولاد حارتنا»، تلاميذ «عرفة»، صاحب سحر «المعرفة».. تلك المعرفة
التى كان لابد منها لمواجهة «الناظر الجشع وفتواته المجانين».. إن المعركة
الآن، بين الشباب والنظام المزمن، تبدو فى بعد من أبعادها، بين المستقبل
والماضى، بين العلم والجهل، بين أبناء القرن الواحد والعشرين وآخرين يعيشون
فى القرن الثامن عشر، بين من يعرفون أسرار التواصل ويجيدون استخدام «النت»
و«الفيس بوك»، ومتخلفين لا يعرفون سوى خطف البشر واستخدام الهراوات وركوب
الجمال، ويحاولون، عبثا، امتطاء صهوات الخيول.. بين مشارف عهد جديد،
ومستنقع واقع قديم.
حين صدرت «أولاد حارتنا»، منذ ما يقرب من النصف قرن، لم تكن منجزات التواصل
الحديثة عرفت بعد، لكن نجيب محفوظ، الملهم، صاحب البصيرة النافذة، المستوعب
لقانون التحدى والاستجابة، المؤمن بقدرة الشعب المصرى وقوته، أدرك أن النصر
سيكون لمن يعرف، ويعلم، أيا كانت نوعية المعرفة والعلم، وأن الخوف سيستحوذ
على «الناظر ورجاله»، وبالتالى سينهالوا «بالعصى للنظرة أو النكتة أو
الضحكة».. وبرغم ذلك البغى، وبفضل شبابنا أبناء «عرفة»، يكشف لنا عن
طالعنا، بكلماته الدقيقة، الحكيمة، منهيا روايته الملحمية العظيمة قائلا:
«لابد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان، ومشرق
النور والعجائب».
الشروق المصرية في
11/02/2011 |