يعرض مهرجان برلين السينمائي، والذي سيعلن عن
جوائزه الرئيسة مساء غد السبت،
فيلمين يتشابهان كثيراً في مقاربتهما
الكوميدية لموضوعة المهاجرين المسلمين في
أوروبا. وأيضاً في سخريتهما اللاذعة من
الصور النمطية التي يحملها المهاجرون عن
الأوطان الجديدة وأهلها،
أو تلك التي يحملها أبناء البلدان الأصلية
عن
القادمين الجدد. أول هذين الفيلمين يعرض خارج المسابقة الرسمية
وبإقبال شعبي لافت، وهو فيلم «أهلاً في ألمانيا» للألمانية من
أصل تركي ياسمين
سمدرالي. هذه الكوميديا العائلية الصاخبة
هي إحدى مفاجآت المهرجان
المتميزة، ويتوقع ان تحرز نجاحاً تجارياً
عند عرضها في الصالات الأوروبية قريباً،
بخاصة ان بعض الإشارات والمفارقات في الفيلم شديدة القرب من الحياة اليومية
الأوروبية، وأيضاً بسبب ما تثيره موضوعة المهاجرين من اهتمام إعلامي أوروبي
مركز
للسنوات العشر الأخيرة.
وعلى رغم جدية الموضوع المتناول، الا ان الفيلم لن
يتوقف ولمعظم دقائقه من السخرية من كل شيء، من الأتراك،
الألمان، الإنكليز، ومن
البناء السردي للفيلم نفسه. فالنفق الذي
يدخله البطل التركي اليافع في حلمه في
بدايات الفيلم، ستكون بدايته قريته الصغيرة
في شمال تركيا، ونهايته، والتي يخرج
منها عجوزاً مع زوجته التي شاخت هي أيضاً، مدخل أحد فروع «سوبر ماركت»
ألماني شهير
بأسعاره الرخيصة وزبائنه من الفقراء والمهاجرين. وجواز السفر الألماني الذي
يحصل
عليه الجد والجدة بعد خمسين سنةً من العيش في ألمانيا، يحمل ايضاً «رعب»
نسيان
البلد الاول. والذي يتحول الى كوابيس ليلية، عن وليمة «إجبارية» من لحم
الخنزير
مقدمة من الحكومة الألمانية كشرط الحصول على الجنسية.
المهاجرون
المسلمون
والعودة الى «فوبيا» أكل لحم الخنزير، المعروفة
بين المهاجرين
المسلمين، ستتكرر في الفيلم. وعندما يقتـرح الجد أن تقوم
عائلته الكبيرة التي تتوزع
على ثلاثة أجيال تعيش معظم حياتها في
المانيا، بالقيام برحلة عائلية الى القـريـة
الصغيـرة في تـركيـا، تـتكشف المشاكل التي تواجهها اجيال هذه العائلة،
والمعضلات
التي ما زالت تعرقل حياتـها في البلد الأول والبلد الثاني.
عائلة مهاجرة
مسلمة أخرى هي بطلة فيلم «الطابق الأعلى، الجناح الأيسر» للفرنسي انجلو
كيانسي،
وعرض في تظاهرة «بانوراما». فالفيلم يقدم عائلة جزائرية تعيش في إحدى ضواحي
العاصمة
الفرنسية باريس، تشبه تلك التي انطلقت منها اعمال عنف شهيرة قبل ثلاث سنوات.
وكالفيلم الألماني السابق، يمر الفيلم الفرنسي على اكثر القضايا حساسية في
حياة
المهاجرين المسلمين في فرنسا هذه المرة، بكوميديا اشد سوداوية. فالزيارة
العادية
للبوليس الفرنسي مع موظف تحصيل الإيجارات المتأخرة لشقة الجزائري «مهند»
تنقلب الى
خطف رهينة، ذلك ان ابن العائلة المراهق والذي يتاجر بالمخدرات يعتقد أن
الشرطة أتت
من أجله، فيقوم باحتجاز والده مع الموظف الفرنسي لساعات طويلة. ويثير
الفيلم قضية
التصادم المستمر بين أجيال المهاجرين الأولى وأبنائهم او احفادهم. فالمراهق
يعيب
على والده بطالته وسلبيته، وينتقد الأب انحراف ابنه وغياب المثال الأخلاقي
في
حياته.
ومع الأفلام التي اهتمت بموضوع المهاجرين في
أوروبا، حضر ابناء
المهاجرين انفسهم في مهرجان برلين، حيث عرض
وضمن البرنامج الألماني للأفلام، فيلم
المخرج الألماني التركي الكردي الشاب ميراز بيزار «أطفال ديار بكر» الذي
كان قد عرض
في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي. ويقدم الفيلم بعاطفية مبالغ
بها «تشرد»
أخ وأخته الكردية في مدينة ديار بكر التركية، وبعد قتل والديهما لنشاطهما
السياسي.
كذلك عرض في البرنامج نفسه فيلم «الموجة الخضراء» للإيراني المقيم في
المانيا علي
سامدي اهادي، والذي يستعيد من طريق الرسوم الكارتونية، والأفلام التي سجلها
ايرانيون عاديون، تظاهرات صيف 2009، والتي سبقت الانتخابات الإيرانية
الأخيرة
وأعقبتها، وبدء ما يعرف بالثورة الخضراء. هنا تعيد الرسوم الكارتونية تجسيد
حوادث
حقيقية سجلها مدونون إلكترونيون كانوا يعيشون في ايران وقته. كذلك يسجل
الفيلم
شهادات ايرانيين كانوا من المحركين للأحداث، وتركوا ايران بعد الأحداث
ليتفرقوا على
دول مختلفة. وأهمل الفيلم (وسط حماسته المبررة) في استعادته الثورة
الإيرانية
الأخيرة، الإشارة الى التظاهرات التي انطلقت في تلك الفترة أيضاً، مؤيدة
لرئيس
ايران الحالي احمدي نجاد.
تشرنوبيل والأزمة المالية
وللعام الثاني،
تقوم الصحف الألمانية بانتقاد برمجة المسابقة الرسمية في المهرجان، والتي
تتضمن هذا
العام أفلاماً بعضها شديد التواضع، بخاصة الأفلام الأميركية الثلاثة
«المستقبل»
للأميركية ميرندا جولي، و «الصراخ
الى السماء» للممثلة فيكتوريا ماهوني في عملها
السينمائي الاول، و «اتصال
ميرجين» للأميركي جي. سي. شاندور في عمله الأول أيضاً.
والأخير كوميديا سوداء عن يوم طويل في حياة إحدى الشركات العالمية الكبرى،
وانكشاف
إفلاس الشركة. الفيلم الذي بدأ بفريق «تسريح» الموظفين الخاص وهو يصل الى
الشركة من
اجل فصل مجموعة كبيرة من الموظفين، تحول بعد ذلك في معظمه الى حوارات مملة
طويلة،
بخاصة أن غياب الإيقاع بدا واضحاً والأداء سيئاً، وعلى رغم مجموعة الممثلين
الموهبين في الفيلم، ويتصدرهم كيفين سبيسي وجيرمي آيرن.
وعرض أيضاً ضمن
المسابقة الرسمية في المهرجان فيلم «سبت بريء» للروسي الكسندر ميندادزه.
والفيلم
القاتم يتحدث عن اليوم الأول الذي أعقب انفجار تشرنوبل في أوكرانيا عام
1986، قبل
ان تقوم السلطات الروسية بالإعلان عن الكارثة. وإذا كانت هذه القصة ستبقى
في
الخلفية للفيلم، الا ان التركيز سيتجه الى البطل الشيوعي الشاب المتحمس
والذي سيلقى
مجدداً الفرقة الموسيقية التي كان ينتمي اليها وتركها بسبب خوفه على
مستقبله مع
الحزب. يبقى الفيلم مع البطل وصديقته والفرقة الموسيقية وحفل الزفاف التي
كانت تغني
فيه الأخيرة، لتبدأ المكاشفات، الانهيارات، في القاعة الصغيرة، قريباً جداً
من
مفاعل الموت!
مسرح راقص
وطبعاً لن يتسنى لمخرجة المسرح
الراقص الألمانية المعروفة بينا باوش مشاهدة فيلم «بينا» للمخرج فيم ويندرز
والذي
صور بنظام الأبعاد الثلاثة وعرض خارج المسابقة، فالمخرجة رحلت في شكل مفاجئ
في عام 2009
وعندما كان المخرج وفريق عمله في مراحل ما بعد الإنتاج. المخرج الذي أضاف
بعد
وفاة المخرجة مجموعة من الرقصات الخاصة لأعضاء فرقتها، كتحية منهم للراحلة،
كان
يعرف وكما تحدث في المؤتمر الصحافي بأن مهمته صعبة كثيراً، فالمخرجة كانت
ترفض
تماماً الحديث عن عملها وتفضل أن يقوم العمل نفسه بالتعريف بها. من هذا
سيكون من
الصعب جداً التكهن برضى المخرجة أو عدمه من فيلم فيم ويندرز الرائع والذي
يمكن أن
يكون بداية لكسر هيمنة السينما التجارية على نظام الأبعاد الثلاثة. وإذا
كان بعض
مشاهد الفيلم والذي يتضمن مقاطع من أعمال المخرجة صوراً من مقاعد جلوس
المتفرجين
متوجهاً الى منصات المسارح، الا ان التجربة تذهب أبعد كثيراً من محاولة
تقليد
الوجود الجسدي في المسرح، لتكون هي نفسها إحدى محرضات نفسه، وما يمكن أن
يلهم هذا
من تغييرات في شكل العمل الفني وتركيبته.
تراجع السياسة
الى هذا خصصت
ادارة مهرجان برلين السينمائي لهذا العام، جائزة خاصة من الجمهور لأفضل
فيلم تسجيلي
من أفلام تظاهرة «بانوراما» لتضاف الى جائزة الجمهور للفيلم الطويل للأفلام
التي
تعرض في التظاهرة نفسها. هذا الاهتمام يعكس الإقبال الشعبي الألماني على
عروض القسم
التسجيلي في برنامج «بانوراما» الذي يعد الأكبر في المهرجان، وكان القسم
الذي يعرض 20
فيلماً تسجيلياً هذا العام قد بدأ قبل 15 سنة، ليتحول الآن الى قسم ثابت في «بانوراما»
مع أقسام «الأفلام الطويلة»، «الأفلام القصيرة»، «بانوراما
خاص».
واللافت هو هيمنة المواضيع
الاجتماعية، الثقافية، والفنية على موضوعات هذا النوع من الأفلام لهذا
العام، مع
تراجع الأفلام التي تتعاطى مع السياسية وآثارها المختلفة. فكان مرض
«الإيدز» موضوع
فيلمين في المجموعة هما: «معاً» للمخرج الصيني زهو لانغ والذي يتناول فيه
الحياة
الصعبة لمرض الإيدز من أبناء بلده. وفيلم «كنا هناك» للمخرج الأميركي ديفيد
وايسمان
والذي يرجع فيه الى بدايات ظهور مرض الإيدز في أميركا، وضحاياه الذين كانوا
في
معظمهم من المثليين الجنسين. ومن الأفلام التي اهتمت بقضايا القمع السياسي
فيلم «بارزاكا»،
والذي وجه الانتباه الى قضية المخطوفين في الشيشان على أيدي الحكومة
المحلية القريبة من الحكومة الروسية. ورافق الفيلم سيدات من هناك يبحثن منذ
سنوات
عن أقربائهن المخطوفين، والذين ومع الاهتمام الدولي بإرهاب بعض المنظمات
الشيشانية
فقدوا التعاطف الدولي أو الانتباه الذي يستحقونه.
الحياة اللندنية في
18/02/2011
عذابات الجحيم في «فردوس ديزني»
عبدالواحد الأنصاري
يتقاطع فيلم «ترنيمة العيد» (إن كانت الترجمة
دقيقة) في عنوانه مع اسم رواية
شهيرة لتشارلز ديكنز. غير أنه ما إن تبدأ عقدة القصة في التشكل حتى تعاودك
أطياف
الإسراء والمعراج، أو الفردوس المفقود والفردوس العائد، أو جحيم ومطهر
دانتي!
تتركز رائعة ديزني التي مثل دورها البطولي الرئيسي
جيم كيري، في فكرة الوعظ
البرزخيّ، وهي تغذي الجوانب الأخلاقية والقيمية في الطفل، بمعنى أن العمل
الخيّر
يفضي للسعادة الأبدية، والشرير يفضي إلى العذاب الدائم، بناء على نظرية
الثواب
والعقاب، والفردوس والجحيم.
ففي اللحظة التنويرية من الفيلم، يسقط البطل «سكروج»
بدفعة «شبح المستقبل»
أو «ملك
الموت» في قبره ليجد نار الجحيم تنتظره متأججة، وهو يهوي في أعماقها واصلاً
إلى قعرها البعيد، ليستيقظ بعدها وينطلق في حياة جديدة قائمة
على فكرة «التوبة»
و «التعويض»
عما سلف. فيبدأ في الإحسان إلى الفقراء ومشاركتهم في الحياة بمساعدتهم،
مقابل التكفير عما سبق، ولكيلا ينتهي إلى الحفرة الجحيمية التي آل إليها
كما رآه في
رحلته البرزخية الأليمة.
هي رحلة طويلة، تبدأ منذ يقفل سكروج عائداً إلى
منزله متذمراً من العيد، متصرفاً
بقسوة مع ابن أخيه ومدير أعماله، ويردّ ساعيين خيريين إلى مساعدة الفقراء
في العيد
بصلافة وبخل ظاهرين، ثم يرجع إلى بيته مبتئساً كئيباً، ويجلس في مقعده،
ليبدأ
البرزخ المريع.
يزوره في البداية طيف صديقه القديم، فيجده مكبلاً
بالسلاسل وهو يحمل على عاتقه
كل صناديق ثرواته التي كنزها في حياته، وبعد اللقاء المريع يخبره الطيف
الميت الحي
بأنه جاء لينقذه، وأن ثلاثة أرواح ستزوره. يطلّ «سكروج» من نافذته فيجد
الأرواح
المعذبة تعيش في نكال ولوعة، مسلسلة، تصك رؤوسها بصناديقها
الذهبية، وتلقي بنفسها
عند أقدام البؤساء الأحياء متمنية أن تنقذهم من بؤسهم، في رحلة عجيبة
تذكرنا بمطهر
دانتي أليجيري. وتبدأ الزيارات الثلاث، فيزوره شبح الماضي ويخيل له معاهد
صباه
وسعادته التي انحرفت عندما اختار سبيل المال والثراء وتخلى عن
حبه. ثم بعد ذلك
يزوره شبح يوم العيد ليصور له ما يحدث في العالم المعاصر له في غيابه،
ويدرك كم هو
سعيد مدير مكتبه الفقير، وكم يحبه ابن أخيه الذي رفض أن يحضر دعوته للعشاء
في يوم
العيد، وفي مشهد إبداعي مثير يفقد شبح العيد العظيم روحه وتخرج
من تحت ردائه
شخصيتان سيئتان ترمزان إلى التجاهل والرغبة التي يتميز بها الغني البخيل،
ويفقد
الشبح روحه ويتحول إلى رماد وسط قهقهاته المريعة لننتقل إلى لحظة اللقاء مع
الروح
الثالثة، وهي روح المستقبل/شبح الموت. وهنا ينقله الشبح مباشرة
إلى لحظة وفاته ملقى
على قارعة الطريق، ليمر به بعض أهل المدينة ساخرين به وبموته، ثم ينقله إلى
منزل
مدير مكتبه الذي يبكي عليه ويحزن له أشد الحزن، وكذلك ينقله إلى خادميه
اللذين
يجردانه من بعض هدايا موته ليستأثرا بها. وكذا يظهر له إلى أي
درجة هم سعداء أقاربه
الذين يرثونه في موته. وأثناء ذلك تطارده خيول الموت مطارَدة مرعبة ويتحول
إلى كائن
صغير أصغر من الفأر أثناء المطاردة وخلال تعرضه لتلك المشاهدات. وأخيراً
ينتهي به
شبح الموت إلى قبره ليرمي به في الجحيم عقوبة له في مساء يوم العيد نفسه.
إلى هنا تصطدم القصة بحلّ بسيط جداً، وهو أن
العجوز سكروج يفيق من رحلته
البرزخية ليجد أن التاريخ عاد إلى الوراء يوماً كاملاً، ما يعني أنه مُنح
فرصة
ليبدأ يوم العيد من جديد، فيبدأ بمنح أحد الفقراء ديكاً رومياً ضخماً
لعائلته، ثم
بمداعبة خادمته التي تظنه أصيب بالجنون، ثم يلبي دعوة ابنة
أخيه للطعام، ثم يرفع
مرتب مدير مكتبه، ويتزلج مع الأطفال في ثلوج الكريسمس، وهكذا يستمر في
أعمال الخير،
ويدعو بعض أصدقائه إلى العشاء عنده، منتظراً نهاية موته نهاية سعيدة، غير
أن الراوي
يفاجئنا، كما في قصص الأطفال السعيدة ذات المغزى المتفائل، بأن
«سكروج» يكافأ على
صنيع الخير بطول عمره أكثر مما يمكن توقعه، وبأن حياته أصبحت أفضل.
بالمقارنة بين جحيم ومطهر وفردوس دانتي في
«الكوميديا الإلهية» وبين الفيلم، نجد
أن الاتجاه في الفيلم عكسي، فلدى دانتي نجد أن الانتقال يتم من
الجحيم إلى المطهر
إلى الفردوس، أما في فيلم «الكوميديا الإنسانية»، فيتجه البطل من الفردوس
«الغنى
والثراء» إلى «المطهر» إلى الجحيم، ليعود إلى «الفردوس»، حيث يصبح الفردوس
في
الفيلم متمخضاً في الحياة بطيبة وسعادة، فيما لا تنقل لنا أي
صورة عن السعداء في
الفردوس «الأخروي».
بهذا الفيلم «ترنيمة العيد»، ندرك أن الجانب
الوعظي عنصر يمكن توظيفه جمالياً
لخدمة عمل فني وتقديمه بصورة رائعة، وأن الموضوع ما يزال خاضعاً للفن اليوم
في أيام «ديزني»، تماماً كما كان خاضعاً له في أيام
«دانتي»!
الحياة اللندنية في
18/02/2011
حسني مبارك ممثلاً: «ودّيتو الشعب فين يا
حسن؟»
أوشن طارق
في أحد مشاهد الشريط السينمائي «طباخ الريس»
للمخرج سعيد حامد، يقرر رئيس
الجمهورية (إحالة على الرئيس في ذلك الحين محمد حسني مبارك) الخروج إلى
الشارع
المصري لملاقاة «شعبه» والاطلاع مباشرة على المشاكل التي يعيشها بعد سنوات
من الحجب
الذي طاله بتواطؤ من أقرب مستشاريه. تجتمع الحكومة وكل أقطاب
الحكم للالتفاف حول
هذا المسعى، فتتفتق عبقرية أحدهم في إذاعة خبر كُسوف الشمس مصادفاً ليوم
خروج
الرئيس، مع التقرير على أن يكون يوم عطلة، مشفوعاً بالتأكيد على المواطنين
بضرورة
ملازمة بيوتهم خوفاً على صحتهم وسلامة أبنائهم. يخرج الرئيس
ولا يصادف في طريقه «مواطناً»
واحداً في بلد تعداد سكانه 80 مليوناً. وفي ذروة استغرابه يهاتف مدير
مكتبه مستنكراً مناورات حاشيته: «ودّيتو الشعب فين يا حسن؟».
في 25 يناير الماضي، خرجت الملايين من أبناء الشعب
المصري وهي تهتف بضرورة
الإسراع في إقرار إصلاحات سياسية واجتماعية جذرية تقطع مع سنوات القهر
الثلاثين
التي استأثر فيها الرئيس مبارك بالحكم، مطالِبة الأخير بالرحيل... الرئيس
هو من غاب
فعلياً في هذا المشهد الواقعي عن الاستجابة، وفضَّل البقاء
وراء أسوار القصر
الجمهوري. إنه تجسيد فعلي صارخ للهوة الكامنة بين واقع الحال والمتخيل
السينمائي.
وقبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر تقريباً، التقى
«طباخ الريس» (الممثل طلعت زكريا)
برئيس الجمهورية الفعلي، حيث قدم إليه فكرة جزء ثان كان يعتزم البدء في
تصويره، وهو
ما باركه مبارك بعد أن أثنى كثيراً على الجزء الأول وأبدى إعجابه به. جزء
ثان قد
يبدو الآن في خبر كان، إذ إن الجزء الأخير والمتبقي من حياة
الرئيس حسني مبارك يكتب
بعيداً عن أوراق السيناريست يوسف معاطي في مكان آخر تحول إلى أشهر ساحة
عامة في
العالم: إنه ميدان التحرير، المكان الذي هاتف منه الرئيس-السينمائي مدير
مكتبه
متسائلاً: ودّيتو الشعب فين يا حسن؟
على الخطى الأميركية
ربما كانت السينما الأميركية أكثر من اتخذ من حياة
الرؤساء مجالاً للتشخيص موزعة
بين الأفلام الجدية المبنية على الحقائق التاريخية، وكذا الأفلام الكوميدية
التي لا
يعنيها التاريخ في شيء بقدر استثمارها لمنصب الرئاسة كذريعة لأحداثها.
ولعلنا نذكر
أفلام «ج. أف. كي» و «نيكسون» و «بوش» للمخرج أوليفر ستون، و «اليوم
الأخير»لريتشارد بيرس»، و «ألينور
وفرانكلين» للمخرج دانيال بيتري، و «رجال الرئيس»
لألان باكولا... إلخ. ولم تسع هوليود في تناولها لحياة هؤلاء الزعماء
وغيرهم إلى
إضفاء أي نوع من القداسة أو التأليه عليهم، بل كانت شرسة في انتقاد مراحل
بعينها من
فترات حكمهم دون أدنى اعتبار لما يحاول البعض ترسيخه في بلدان
العالم الثالث من
ضرورة احترام القائد والبحث له عن المخرج الآمن الذي يحفظ له في التاريخ
ذكراً
حميداً.
ولأن السينما المصرية كانت ولا تزال (ولو بحدة
أقل) رائدة على المستوى العربي،
فقد كان لها السبق أيضاً في التعاطي مع شخصية رئيس الدولة سينمائياً ولو
باحتشام
ومعاناة كبيرين، إذ لم يكن مسموحاً أبداً الاقتراب من حياة الزعيم ما دام
حياً وكل
الإشارات التي حفل بها عدد من الأفلام المصرية لنظامي السادات
وعبد الناصر مثلاً
كانت تدخل في إطار نوع من تصفية الحساب مع النظام السابق ورموزه. تم كل هذا
دون
بلوغ مرحلة تشخيص الرئيس حيث اكتفى العديد من الأفلام بالإشارة إليه، إما
ببث خطبه
أو استعمال صوره الرسمية كممثل للدولة أو غيرها من الطرق التي
حاول الكثيرون
استغلالها (في انتظار الفرصة المواتية للمرور إلى المرحلة القادمة)، كما هو
الشأن
مثلاً في أفلام «العصفور»، و «أبناء
وقتلة»، و «ملف
سامية شعراوي»، و «أحلام
صغيرة»، و «زيارة
السيد الرئيس»، و «الجاسوسة
حكمت فهمي»، و «امرأة
هزت عرش مصر»...
إلخ.
وفي السنوات الأخيرة، تطور الأمر إلى حد تخصيص
أفلام كاملة للرئيسين جمال عبد
الناصر وأنور السادات، ممثلة في «ناصر 56» لمحمد فاضل، و «جمال عبد الناصر» لأنور
القوادري، و «أيام السادات» لمحمد خان، وكلها أفلام لم تقم إلا بتكريس صورة الزعيم
البطل الذي لا يخطئ والراعي لمصالح البلد العليا في مواجهة الأطماع
الخارجية. ولم
يتمكن القائمون وراء إنتاج هذه الأفلام من الاقتراب من سلبيات عهدي ناصر
والسادات،
باعتبار امتداد شرعيتهما إلى حسني مبارك الناهل هو أيضا من شرعية ثورة
الضباط
الأحرار ومن خلالها المؤسسة العسكرية القابضة على الحكم. وأي
إساءة إلى الرئيسين
السابقين تمتد طبيعياً إلى الرئيس الحالي، رمز النظام المستمرة شرعيته منذ
1952 إلى
الخامس والعشرين من يناير الماضي. وهذا كان حال السينما والدراما المصرية
عموماً في
تعاطيها وحياة المشاهير من أبناء البلد في كل إنتاجاتها التي تعاطت مع يمكن
اعتباره
«رموزاً»
للبلد.
خدع سينمائية
أما الرئيس مبارك، فقد جرب حظه في السينما مبكراً،
حين شارك ككومبارس صامت في
شريط «وداع في الفجر» للمخرج حسن الإمام وبطولة شادية وكمال الشناوي ويحيى
شاهين
سنة 1956، حيث لعب دوره الحقيقي كقائد لسرب الطيران في الجيش المصري،
لتتوقف مسيرته
التمثيلية بعدها لعقود، قبل أن يعود مجدداً في عدة أفلام، من
خلال استعمال الخدع
السينمائية مصافحاً إلهام شاهين في فيلم «موعد مع الرئيس»، أو متصلاً
بالتلفون
للاطلاع على سير الأحداث في «النوم في العسل» و «الإرهاب والكباب» و « كراكون في
الشارع»، أو مَلجَأً للتظلم من خلال صورته المعلقة بالمحكمة في شريط «الحقونا»،
من
خلال شكوى مواطن بسيط سرقت منه كِلْيَتُه أثناء إجرائه عملية جراحية، أو
مستطلعاً
الأمور من وزير في حكومته عبر الهاتف في شريط «معالي الوزير»،
أو مستلماً لمطالب
الناس في «زواج بقرار جمهوري»، قبل أن يصبح شخصية سينمائية قائمة الذات في
شريط «طباخ الريس»، باعتبار أن الأحداث والأماكن
وملامح الممثل خالد زكي توحي بأن الرئيس
المقصود في الشريط هو حسني مبارك. ولعلنا سنركز أكثر على
الشريطين الأخيرين «زواج
بقرار جمهوري» لخالد يوسف و «طباخ
الريس» لسعيد حامد، باعتبارهما الأكثر أهمية في
تناول شخصية مبارك والأحدث إنتاجاً أيضاً، كما أن أهميتهما
تكمن في أن المخرجين
القائمين وراءهما يعدّان من أبرز المخرجين السينمائيين في مصر حالياً،
بالإضافة إلى
حملهما لمشروع ثقافي وسياسي ظهر جلياً في عدد من أفلامهما ولو بتفاوت يجعل
من خالد
يوسف الأكثر التزاماً على هذا المستوى.
الخاصية المشتركة بين الشريطين هي تقديمهما رئيس
الجمهورية بمظهر الرئيس القريب
وجدانياً من الشعب والساعي إلى إرضائه وتحقيق أمنياته مهما عظمت، ففي «زواج
بقرار
جمهوري» قَبِلَ الرئيس، رغم ما له من هالة وهيبة، حضورَ حفل زفاف شابين من
عامة
الناس، وفي «طباخ الريس» خرج شخصياً إلى الشوارع لاستطلاع
والأحوال المعيشية
للمواطنين البسطاء. كما أن الشريطين يُجمِعان على أن الرئيس محاط ببطانة
فاسدة، فهي
إما تستغل تحركاته لتلميع صورتها أمام الآخرين من خلال الاستجابة الفورية
لمطالب
السكان، التي تعني في الحقيقة تخوفاً من غضبة الرئيس في حال معرفته
بالأحوال
الحقيقية للمواطنين، أو من خلال محاولاتها المستميتة في تزوير
الوقائع أو حجبها
عنه. وهكذا يصبح الرئيس بريئاً من مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلد، فإذا
كان
الرئيس مقبلاً على شعبه ورجلاً بسيطاً يأكل من أكل عموم المواطنين، فإن
حاشيته تصر
على التحكم في علاقته المباشرة مع هذا الشعب وتضلله عن الحقائق
راسمة له صورة وردية
عن واقع الحال. لكن تقديم الأمر بهذا الشكل لا يعفي في الحقيقة الرئيس من
المسؤولية، باعتباره من يختار معاونيه ومستشاريه ووزرائه، وهو ما يشكِّل
الوجه
الآخر للعملة التي يحاول البعض تداولها.
يقدَّم الرئيس في هذين الفيلمين أيضاً على أنه
الملجأ الأخير للشعب، باعتبار
تمتعه بالمصداقية والنزاهة، إذ تتوالى عليه الشكاوى والتظلمات. لكن الغريب
في
الأمر، أن مثل هذا الطرح قد يشكل أيضاً إدانة له، ما دام لا يحرك ساكناً
لتلبية تلك
الرغبات وتغيير الوجوه الفاسدة التي بقيت مستمرة في مناصبها في
شريط «طباخ الريس»
مثلاً، بعد أن استبعد الطباخ من القصر إلى غير رجعة، رغم علمه بكل
المؤامرات التي
حيكت لتزوير الوقائع وتضليله عن الحقيقة المرة للبلاد والعباد، إضافة الى
إظهار
الرئيس مجرد دمية ضعيفة تتلاعب بها أيدي الحاشية، ما يسيء إلى
رمزية الرئاسة ومن
يعتليها، بل إن تحول الرئيس إلى الملجأ الأوحد يؤكد حقيقة كيف تحول نظام
الحكم إلى
الفردانية المسيطرة لرأس السلطة في تغييب كامل لمبدأَيْ فصل السلطات
والمحاسبة،
الكفيلين ببناء وتكريس دولة المؤسسات، لا دولة الفرد المؤلَّه.
معاناة وقصف يومي
لكن أغرب ما يمكن مصادفته خلال تتبع أحداث «طباخ
الريس»، هو حقيقة أن أفراد
الشعب يعانون كثيراً قبل التعرف على شخص الرئيس، رغم القصف اليومي الذي
يتعرضون له
على شاشات التلفزيون الرسمي المتتبع لأتفه تحركات الرئيس واجتماعاته.
ولعلنا نستشف
من ذلك أن القول بوجود رابط وجداني بين الرئيس وشعبه يبقى ضرباً من الخيال
العاطفي،
خصوصاً أن كل من يتعرف عليه يهرب بعيداً، تأكيداً لحقيقة
الترهيب والتخويف اللذين
يحكمان الذاكرة الجماعية للمواطن البسيط في علاقته مع السلطة بكل تجلياتها.
الخلاصة أن المحاولات المتكررة لتقديم الرئيس
المصري حسني مبارك بمظهر المستجيب
لتطلعات شعبه، تفشل مع أول قراءة نقدية موازية وأول امتحان واقعي للعلاقة
بين
الطرفين، ممثلة في ثورة شبابية مصرية خالصة نادت برحيل «أبو الأمة»، بعيداً
عن
الفضاءات الرحبة للفايسبوك وتويتر وغيرهما، حيث تربى جيل جديد
خلع عنه جلباب الآباء
الخانعين. ولعل محاولة مواجهة المواقع الاجتماعية الافتراضية بواقع البغال
والجمال
أكبر تمثل لتردي الفعل السياسي ببلد الكنانة وانفراط عقد العلاقة بين
الحاكم
والمحكوم فيها.
بعد كل ما سبق، نعود إلى ميدان التحرير، المكان
الذي هاتف منه الرئيس- السينمائي
مدير مكتبه متسائلاً: ودّيتو الشعب فين يا حسن؟ فهناك تقرر مصير الرئيس
فعلياً
وربما سينمائياً أيضاً، إذ حضر الشعب، ومعه عدد من السينمائيين، وغاب
الرئيس فأسدل
الستار على الفصل الأول من الحكاية.
الحياة اللندنية في
18/02/2011 |