"لطالما
كان لي عينٌ على السينما"، يصرح فادي أبي سمرا
في مستهل لقائنا واياه بعدما شاهدناه في نهاية العام الماضي
مجسداً
أدواراً، الواحد
يبتعد من الآخر شكلاً ومضموناً، في ثلاثة أفلام: "كل يوم عيد" لديما الحر
(سائق
شاحنة) و"الجبل" لغسان سلهب (رجل منعزل يقوم عليه الفيلم) وأخيراً "كارلوس"
لأوليفييه أساياس (ميشال مكربل) الذي جعله يتسلق سلالم كانّ الحمراء. ممثل
شاب يأتي
من الخشبة والهمّ المسرحي المهمش حالياً، يعمل مخرجاً في قسم
التحريك في تلفزيون "المستقبل"،
صار له رصيد سينمائي لا بأس به، رافضاً فكرة الانحياز الى السهولة
والاستهلاك في اختيار الأدوار، ومقاوماً فكرة الانتشار من خلال الشاشة
الصغيرة التي
وصل فيها الانحطاط الى نقطة اللاعودة. كيف لممثل مثل هذا، غريزي ومطلع في
آن واحد،
أن يكون له مكان في سينما لبنانية قائمة أساساً على اقتناص
الفرص والمبادرات
الفردية؟ هنا جولة عامة مع ممثل يخرج على الدروب المطروقة.
·
نراك هذه الأيام
في السينما أكثر فأكثر، فقد ظهرتَ أخيراً في ثلاثة أفلام متتالية...
-
منذ سنتين
زاد عملي في السينما، وهذا شيء يسعدني كثيراً. بدأت من المسرح، لكن لطالما
كان لي
عينٌ على السينما، وعشق خاص بهذا الفن. الفيلم الأول اضطلعتُ
فيه بدور، كان مع زياد
دويري في "غرب بيروت". كانت هذه مشاركة حقيقية في اطار فيلم مصور بالـ35
ملم. في
هذا الفيلم، عشت التجربة السينمائية بكل تفاصيلها. عشت عمل الفريق وشاهدت
كيفية
صناعة السينما عن كثب. حينذاك، شعرتُ بذلك الغرام الذي عصف بي
حيال السينما. كنت في
العشرينات آنذاك وكان سجلي السينمائي يقتصر على بضع تجارب طالبية وافلام
تخرّج
فيديو. في المرحلة الأخيرة زادت تجربتي مع السينما. في الدورة الأخيرة
لمهرجان
"ايام بيروت السينمائية" كان من محض المصادفة ان تُعرض دفعة واحدة
ثلاثة افلام كنت
عملت عليها في السنتين الاخيرتين. هذا شيء يفرح قلب الممثل.
·
منذ البدء
كنتَ ممثلاً تحاول ايجاد مكان خاص بك، ولم تُستدرج الى فخّ
المسلسلات
التلفزيونية...
-
صحّ. السينمائيون في لبنان يمكن تعدادهم على اصابع اليد،
وغالباً ما يكون التمويل اجنبياً. معظم هؤلاء مؤلفون وافلامهم
يمكن القول عنها انها
للنخبة. كان لي زملاء ممثلون يقولون لي دائما لماذا لا تمثل في التلفزيون
انطلاقاً
من مفهوم سائد هو ان الشاشة الصغيرة تساهم في شهرة الممثل. لكن، بالنسبة
اليَّ،
العلاقة الاساسية التي تربطني بالمهنة كانت المسرح. من المسرح
دخلت الى السينما.
التلفزيون كان كابوساً بالنسبة اليَّ. كان يقال لي "ما دمتَ تمثل، فلماذا
لا تستغل
هذا في التلفزيون؟". لم اشعر يوماً وانا أمام كاميرا تلفزيون، بأنني الممثل
الذي
احب ان اكونه. هذا شيء غريب، لكن معظم ما قلته في التلفزيون كنت اشعر فيه
انني لست
انا. معظم الشخصيات تراها اولاد اثرياء، يمضون وقتهم وهم
جالسون في صالونات فخمة
يلفّها ورق الجدران، ويعانون من المشكلات عينها، وكأننا في عالم افتراضي
موجود فقط
في عقل التلفزيونات، وهو عالم لا يشبه احداً في اي حال من الأحوال. لا يشبه
لا
الفقير ولا الغني. لا يسمّون الأشياء بمسمياتها. ذات مرة عُرض
عليَّ ان اضطلع بدور
في مسلسل اسمه "المافيا في لبنان". عندما انظر الى نصّ كهذا، اجد نفسي في
زمن ال
كابوني. لماذا هذه الغرابة وهذا الطلاق بين كتّاب النصوص التلفزيونية
والمجتمع الذي
نحن جزء منه؟
·
السينما هي الوجه الآخر...
-
بالضبط. في السينما هناك الاحساس
بأن من نراهم على الشاشة هم كائنات بشرية تعيش في بلد اسمه لبنان وتعاني
ظروفاً
معينة.
·
هل تحب محو نفسك خلف الدور؟
-
نعم. التعبير الذي استخدمته جاء في
مكانه، وخصوصاً عندما أمثل في فيلم سينمائي. انا من المؤمنين بأن الممثل
يبقى
دائماً خلف الدور الذي يضطلع به. لا اؤيد فكرة ان الممثل يلبس الشخصية وقد
يأخذه
التطرف الى الانتحار اذا كان الدور هو المنتصر. كل دور بذاته
ممتع، لكن في المقابل،
احب الذهاب الى امكنة اخرى، وأدوار أخرى، امحو من خلالها ما سبق وانجزت.
وقد يكون
من الممتع ان اشاهد لاحقاً، ضمن الريبرتوار الخاص بي، كل هذه الادوار التي
جسدتها.
·
هل حدث ان رافقتك شخصية ما بعد
التصوير؟
-
لا، لكن ثمة شخصيات تبقى
لأنها لكل زمن ولأنها ليست آنية.
·
ما هي الجرأة بالنسبة اليك في
السينما،
وبالنسبة الى ممثل يعيش في مجتمع متخلف؟ سبق ان لعبت دور كلب في فيلم محمود
حجاح،
والآن تتعرى امام الكاميرا في فيلم غسان سلهب...
-
هناك جرأة اكثر من هذا، وهي
تعرية المرء في السينما. هذا مستوى آخر من الجرأة، بحسب مفاهيمنا ومجتمعنا.
الجرأة
التي تصف بها دوري في فيلم غسان ينبغي وضعها بين مزدوجين. الجرأة هي ان
يتعرى
الممثل من الداخل اكثر من الخارج. انا من الممثلين الذين
يرفضون التعري في حالات
معينة، عندما اجد ان التعري مجاني، ولا يعكس الحالة الحقيقية. قد يكون
العري هدفاً
بذاته، لكني ارفض ان يكون ملحقاً. لا اضع محظوراً على اي دور ولا على اي
حال من
الحالات، الا ما هو "بلا طعمة"، وما لا يأتي في سياق الفيلم.
قد تجد ممثلة ذات اداء
رائع لكن لديها مشكلة عري. افهم هذا الشيء كونك في مجتمع ضيق وعقلية متأتية
من
خلفية تربوية ودينية معينة. لكن هذه ليست مشكلة. اذا كنت متمسكاً بأداء
الممثلة
فيمكنك ايجاد اسلوب تتعامل معه.
·
أنت طريف في التلفزيون لكن أكثر
تعاسة في
السينما!
-
لم ألعب يوماً دوراً كوميدياً طريفاً. في اي حال، إذا قمت بجردة عامة
لما انتج في السينما ما بعد الحرب، فستجد ان الكوميديا غائبة،
ما عدا بعض الحالات
العابرة لأفلام تلفزيونية عُرضت سينمائياً. لم يُعرض عليَّ اي دور من هذا
القبيل،
بل ما حصل معي هو عكس ذلك، اي اني لم اسقط في فخّ تحويل صورتي الى كليشيه
ينبغي
بموجبه ان استجيب للبطل الشرير، وهذا شيء يسعدني. لكن في
المقابل، تم اختياري
لشخصية رجل فلسطيني في ثلاثة افلام، ربما لسحنتي الفلسطينية السمراء. لعبت
بائع
فلافل في "فلافل" لميشال كمون، ومزارعاً في فيلم آخر، ثم سائق شاحنة،
...الخ. أرى
أنني كنت متنوعاً في اختياري للأدوار.
·
ما رأيك في فيلم ديما البحر؟ لم
أجد انه
عمل جيد ومضبوط...
-
قرأت ما كتبتَ عنه. كنتَ "عنيفاً" بعض الشيء. هذا اسلوب.
احترمت ما قلته. لم تتجنَّ على نحو اعتباطي. لكن كانت لي ملاحظة واحدة وهي
أن هذا
أول فيلم روائي لهذه الفتاة. (...). اخرجت ديما البحر فيلم التخرج "الحي"
حين كانت
في اميركا. وهذا فيلم احببته كثيراً ومثلت فيه. تربطني علاقة صداقة معها،
فضلاً عن
انها كتبت هذا الفيلم مع ربيع مروة الذي عملت واياه على مدى 12
عاماً في الشأن
المسرحي. أعجبتني فكرة الـ"رود موفي" وكنت متحمساً لها.
·
ألم تنتبه انه نسوي
بعض الشيء؟
-
أدركت هذا حين شاهدته. في السيناريو لم يبرز هذا الجانب. لكني على
رغم ذلك لم أتخذ موقفاً منه إنطلاقاً من هذا البعد.
·
كونك ممثلاً، الا تجد أنه
عليك تأييد كل الأفكار التي في الفيلم الذي تمثل فيه؟
-
أمثل أحياناً في افلام
تتضمن أفكاراً نقيضة لأفكاري. هذا الشيء لم يكن يوماً حائلاً لاختار
المشاركة في
فيلم. لكن ما لا أحبه هو التزوير. الخديعة لا أحبها. أما من يملك رأياً فلا
مشكلة
في التعاون معه، مهما يكن الرأي مخالفاً لرأيي.
·
"الجبل"
فيلم نخبوي آخر، بعيد
من هموم الناس المباشرة. هناك رأي يقول إنه يجب التخفيف من حدة النخبوية في
السينما
اللبنانية كونها لا تنتج الكثير...
-
أعتقد اننا في حاجة الى مساومة. أنا من
دعاة الذهاب الى سينما تكون على قدر من التوازن. هذا لا يعني إلغاء السينما
النخبوية. يمكن ان تصنع سينما شفافة، على قاعدة "السهل الممتنع"، تكون
قريبة من
الناس. انا مع هذا التيار من دون ان نلغي التيار الآخر. انا مع شعار التنوع.
·
ما الذي أوصلك الى "جيل" غسان
سلهب.
-
تربطني به صداقة. عملت معه من خلال دور
الصياد في "اطلال". لغسان لغة خاصة جداً واحترم كثيراً تماسك شخصيته
السينمائية.
مجرد ان ترى 3 دقائق من فيلمه، تعرف انه هو
الذي صنعه. اجد انه يشبه حاله وافكاره.
كلّمني منذ سنتين وقال لي انه يعمل على فيلم ويفكر فيَّ للشخصية الأساسية.
كنا
نلتقي مرة كل شهرين لنتكلم عن الفيلم. اعجبتني رؤيته المنبثقة من رغبة هذا
الرجل
(الشخصية
التي ألعبها) في الانعزال. وكأن هناك شيئاً ارادياً وشيئاً غير ارادي في
الموضوع.
·
ثمة في الفيلم الكثير من الغموض...
-
صحيح. يطرح المشاهد الكثير
من الأسئلة، ويريد ان يعرف لماذا يتصرف على هذا النحو. صديق يسكن وحده قال
لي: هذا
فيلم يمس بأمثالي.
·
لكن عليك ان تكون على اطلاع مسبق
على عالم غسان سلهب
وافكاره، هي تفهم الفيلم...
-
ممكن. عندما شاهدت الفيلم لاحظت انه يجب ان اراقب
ألف تفصيل في الثانية. لكن هذا الشيء غير مطلوب من المشاهد
الذي جاء ليحضر الفيلم.
بالتأكيد هذا عمل متعب. أحدهم خرج من المشاهدة وقال انه كاد يختنق. لكن
الجماليات
التي توصل اليها غسان في هذا الفيلم عالية جداً.
·
اعتقد انه كان يرغب في إيصال
احساس الاختناق الى المشاهد.
-
نعم. عادة اقول رأيي بصراحة في الافلام التي عملت
عليها. كنت قلقاً على هذا الفيلم. لم يكن عندي ادنى فكرة عما
نفعل. لكني عندما
شاهدته كانت صدمتي ايجابية. كون حضوري كان طاغياً في الفيلم، فهذا حمّلني
ايضاً
مسؤولية كبيرة. هناك ثلاثة عناصر كانت تتطور بشكل مواز في الفيلم: التصوير
الذي
تولاه سرمد لويس، ثم الاخراج، فالتمثيل. شعرت أن هناك انسجاماً
بين العناصر
الثلاثة.
·
لا تنطق في الفيلم، هل هذا أصعب؟
-
أصعب بكثير. أكثر الأمور
سهولة في التمثيل هو التعبير بالكلمة. التمثيل من دون كلام أشغال شاقة.
·
هل
تكلمتما كثيراً عن الدور معاً، قبل البدء في التصوير؟
-
طبعاً، كانت بيننا جلسات
عدة. تشاركنا الأفكار أثناء الكتابة. في بعض الاماكن، لجأت الى ذاتي لتكبير
حركة
ما
أو تعديل مشهد ما. اقترحت أشياء اخذها غسان في الاعتبار، وفي
المقابل هناك أشياء لم
يأخذها. عملنا معاً بمنطق التطوير.
·
لنتكلم عن "كارلوس" ودور ميشال
مكربل الذي
تجسده. كيف وصلت الى العمل على هذا الفيلم؟
-
المنتجة سابين صيداوي حمدان التي
تملك شركة "أرجوان"، قالت لي ان أوليفييه أساياس سيأتي الى لبنان ليختار
ممثلين.
بصراحة، لم أكن شاهدت أفلامه قطّ. عندما
التقيت أوليفييه، قلت له: "اذا كان في ودك
صناعة فيلم بروباغندا ضد كارلوس، فأنا لا تهمّني المشاركة في
فيلم كهذا. بالنسبة
اليَّ، لم تكن المسألة أن أكون مع كارلوس أو ضده، لم اكن اريد فيلماً
ترويجياً.
فقال لي: "أنت لا تعرفني، ولا أعمل على هذا
النحو". وطلب من أحدهم أن يعطيني
أفلامه. تكلمنا واستغرقت جلستنا ساعة. أحببت شخصيته المثقفة
والمرهفة. وزادت رغبتي
في العمل معه عندما تعرفت اليه. وطلبت منه ايضاً ان يعطيني السيناريو كله
لأطالعه،
وليس دوري فقط. بناء عليه، قبلت أن امثل في الفيلم. كان يستهويني العمل مع
مخرج من
هذا النوع، خصوصاً بعدما شاهدت أفلامه. انه سينمائي على قدر من الحساسية
ويملك
رؤية. لم أجد في الفيلم ما يشوّه سيرة كارلوس، بل كان لقائي
بشخصية تعشق وتشعر
وتخطئ وكل ما نعبر به جميعاً. المسألة لا علاقة لها بالمع أو الضدّ. هذه
الأيقونة
المعلقة في البيت، البعض لم يكن يريد أن نلمسها. كارلوس هو كأي واحد منا.
خطأه
انساني. انا من جانبي، أحببته بالنحو الذي يقدمه الفيلم، لا بل
أثار شفقتي أحياناً.
·
هل اجريت ابحاثاً حول شخصية
ميشال مكربل التي تلعبها في الفيلم؟
-
نعم.
ومن المصادفات الغريبة عند عودتي من فرنسا
حيث مكثت شهرين للتصوير، ان أحد الموظفين
استدعاني في المحطة حيث أعمل ليقول لي انه سمع عن مشاركتي في
فيلم أساياس حول سيرة
كارلوس. فقال لي إنه يريد أن يكلمني عن شخصية مكربل. وعندما جلست معه روى
لي أن
مكربل كان صديق عمره وتربيا معاً وعاشا معاً وسكرا معاً. فقلت له يا ليتك
قلت لي
هذا الكلام قبل التصوير. فروى لي بتأثر كيف اختفى مكربل فجأة
من الوجود عام 1973
وعندما سأل عنه كان رده انه يعمل مهندس ديكور في فرنسا، علماً انه لم يكن
يعلم عن
ميوله السياسية الا كونه يساري الهوى. الصدمة الكبرى كانت عندما علم انه
انضم الى
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والصدمة الأكبر عندما تلقى خبر
وفاته. الابحاث التي
أجريتها استندت الى الروايات، لا سيما ان وجوده في الجبهة الشعبية أحدث
انقساماً
كبيراً، وهذا ما تراه في الفيلم على اي حال حين يبهدل وديع حداد كارلوس
قائلاً له
من اعطاك الحق في قتله؟ الى الآن، لا تزال الآراء متضاربة في
شأنه، فبعضهم يعتبره
بطلاً والآخرون يرونه خائناً.
·
هل انت مسيس؟
-
جداً. أهتم بالسياسة كثيراً.
سابقاً كنت في الحزب الشيوعي اللبناني على مدى ست أو سبع سنوات. لكن تطور
الحياة
يأتيك بمفاهيم أخرى وغير متضاربة في الضرورة. انا من الناس
الذين يؤمنون
بإيديولوجيا الحياة. لكن، سياسياً، لم اعد طرفاً، وعندي مأخذ على كل السلوك
السياسي
في البلد، لأننا لم نصل بعد الى الممارسة السياسية الحضارية. نطلق النار
بالكلام،
واذا لم نصل الى هدفنا لا نتوانى عن اطلاق النار بالأسلحة.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
مهرجان
ختام مهرجان الفيلم الوطني بتتويج "أشلاء" لحكيم
بلعباس
الدورة 12: ولادة سينمائي!
طنجة...
انتهت الدورة الثانية عشرة من المهرجان
الوطني للفيلم (طنجة، 21 ــ 29 كانون الثاني)، وصار في امكان الأفلام
المعروضة فيه
أن تسلك الدروب التي ستتيسّر أمامها. معظمها سيذهب الى النسيان، والقليل
منها،
اربعة أو خمسة في ابعد تقدير، ستتفرغ لها الأقلام في الأشهر
المقبلة نقداً وتحليلاً
ومعاينة. المدير العام للمركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل قال في
المؤتمر
الصحافي المخصص للحصيلة السينمائية لعام 2010 الذي عُقد في اليوم الأخير من
المهرجان، إنه اذا كانت الدورة قد اثمرت ثلاثة أو اربعة أعمال
مهمة، فهذا أمر جيد.
ثم جاء على ذكر كلٍّ من السينما الفرنسية والأميركية، باعتبار ان الاولى
تنتج 220
فيلماً سنوياً وليس فيها الا خمسة في المئة من الاعمال الجيدة، وكذلك الأمر
بالنسبة
الى السينما الأميركية التي في رصيدها 560 فيلماً كل عام، ولكن
ما يستحق أن يصمد في
الذاكرة الجمعية لا يتعدى العشرة افلام. "كفانا مازوشية، ما من أمة لا تصنع
الا
الروائع"، صرّح الصايل بشيء من الغضب المضبوط، رامياً الكرة في ملعب الجهة
التي لا
تتوقف عن نقده في قراراته وخياراته، ولا سيما في ما يخص الكيفية التي توزع
بها
الدعائم. الأعمال التي تختارها لجنة مخصصة لتقديم الدعم (66 في
المئة من موازنة
الفيلم) هي موضوع سجالي اليوم في الوسط السينمائي المغربي. بيد أن الصايل
لا يخفي
رضاه النسبي عن الأعمال التي انتجت هذا العام، على رغم التفاوت العظيم في
المستويات. فالمسألة نسبية بالنسبة الى هذا المدير المشاكس
الذي ردّ على أسئلة
الصحافيين في المؤتمر من دون أن ترمش عينه ومن دون أن يكون لديه غيمة من
الشكّ حول
المهام التي أوكلت اليه، قبل أعوام قليلة، أي النهوض بالسينما المغربية،
فوصل عدد
الأفلام المنتجة في عهده الى العشرين، بعدما كانت هذه السينما،
شأنها شأن السينما
في لبنان وفلسطين وتونس وبلدان عربية أخرى، قائمة على المبادرات الفردية
التعسة. "ستة
ملايين أورو، وهي الموازنة السنوية المطروحة في خدمة السينما في المغرب،
ليست
سوى موازنة لفيلم فرنسي متوسط التكلفة. نحن ننتج 20 فيلماً
بهذا المال. هذه ظاهرة
لا رجوع عنها بعد اليوم، سنظل ننتج، وفي الدورة المقبلة ستكون لنا، على
الأقل، 20
فيلماً". هذا ما شدد عليه الصايل في مؤتمره السبت الماضي.
هذا العام جاء في
افتتاحية الكاتالوغ، كلام للفيلسوف الفرنسي ألان باديو منقول من كتابه "فكر
السينما" الصادر عام 2003. "تنطلق السينما والفلسفة مما هو
دنس؛ من الآراء والصور
والممارسات ومن الخصوصيات والتجارب الانسانية، كل منهما تراهن على إمكان
السمو
بالفكر من خلال المادة الموجودة، وعلى ان الفكرة لا تتأتى دائماً من ذاتها،
بل قد
تكون وليدة نقيضها، تستوجدها القطيعة مع الواقع، وأن أصل
الصورة هو ما يعرضه العالم
من مشاهد وما يحويه من قذارة لامتناهية. في الحالتين يعتبر العمل صراعاً
وتقاسماً
في آن واحد. عمل الفلسفة أن تخرج بخلاصات تصويرية ذات صلة بالمفهوم، متى تم
ادراك
مرحلة القطيعة، وعمل السينما ان تدرك الخلاص من صراعات العالم
الأكثر ابتذالاً. ذاك
اذاً وجه الشبه الذي يتقاسمانه. فوق ذلك كله، تعتبر السينما بالنسبة الينا
نحن
الفلاسفة، فرصة تظهر قوة الطهارة وقوة ادراك المحصلة، وامكان وقوع أمر ما،
على رغم
ان الأسوأ يحتل المكان. في العمق، تقدم السينما الى الفلسفة
درساً في الأمل
لاستشراف المستقبل. فمن خلال معالجتها لما هو وضيع كالعنف والخيانة
والفجور، تتوجه
الينا نحن الفلاسفة قائلة لا شيء يمكن أن نخسره، وإن هيمنة هذا الواقع لا
تعني غياب
الفكر، بل قد يسمو هذا الأخير من خلال هذا الوضع. من المؤكد أن سيادته لا
تتحقق
بصفة دائمة ولا تحدث في الضرورة في كل مكان، لكن ثمة انتصارات
بالتأكيد".
هذه
الكلمة المهمة عمّقت الهوة بين السينما كفكر ونظرية، والسينما كمنجز، على
الأقل ذلك
المنجز الذي عُرض في هذه الدورة. فأعمال مثل "أكادير بومباي" لمريم بكير
أو"واك واك
أتايري" لمحمد مرنيش (سيناريو للناقد السينمائي خالد الخضري)، لا لزوم لأن
يكون
لهما وجود أصلاً، لا في مهرجان ولا في خارجه. حتى الكتابة عنهما تصبح شأناً
عبثياً.
هذه ايضاً حال "كلاب الدوار" لمصطفى الخياط الذي يحذو حذو المسلسلات
السورية على
غرار "جناح الهوى" لعبد الحي العراقي، هو الآخر مملّ وأخرق وسيىء الصنعة.
كان
على عيوننا ابتلاع الكثير من الضحالة قبل الاستقرار على ثلاثة أفلام مهمة
صنعت هذه
الدورة وانقذت ماء الوجه: "أشلاء" لحكيم بلعباس و"... فيلم" لمحمد أشاور،
وتحفة
السينما المغربية والعربية "النهاية" لهشام لعسري. فيلم بلعباس وجودي،
انساني،
رقيق، يتطرق الى الوجدان والى أعمق ما في داخل الطبيعة البشرية. استغرق
تصويره
سنوات طويلة في تجربة لافتة، ليس فقط مغربياً، بل عالمياً. حاز
الفيلم الجائزة
الكبرى في المهرجان وأطاح الفيلم ــ الحدث ("النهاية") الذي يمكن اعتباره
واحداً من
اروع ما انتجته السينما العربية على الاطلاق منذ تاريخ وجودها، انطلاقاً من
لغة
سينمائية تبنّاها مخرجه الشاب هشام لعسري في اقتحام مرحلة
رمزية من تاريخ بلاده (قبل
أيام من وفاة الملك الحسن الثاني) بذكاء شديد وبخيال لا ترقى اليه الا
اعمال
فيلليني وتارانتينو وكوبريك. مُنح الفيلم جائزة لجنة التحكيم، لكن حضوره في
المهرجان أثار كلاماً لصحافيين مهتمين بكل شيء الا بالسينما،
وأيضاً للرعيل القديم
من السينمائيين، وهو كلام عشوائي بليد، لا يقدّر أهمية هذا العمل الذي تمرد
به
لعسري على مجمل السينما المغربية والعربية، وطبعاً من دون أن يكون ذلك هدفه
الأول،
وهو هنا ليس الا في تجربته الاخراجية الاولى. أياً يكن، فعلى
زملائه المغاربة بدءاً
من اليوم أن يحسبوا حساب هذا الفيلم قبل الانتقال خلف الكاميرا. الدورة
الـ12 اذاً
شهدت ولادة سينمائي كبير.
الارتباك هو ما أثارته ايضاً باكورة محمد أشاور
"...
فيلم"، الذي فاز بجائزة أول عمل؛ شريط ممعن في واقعية شبابية يسائل من
خلاله أشاور
ذاته والسينما والعلاقة التي تربط الواحد بالآخر أمام انعدام الوحي
واستحالة الخلق
في زمن الاستهلاك. لكن الغريب أن رئيس لجنة تحكيم الأفلام الطويلة أحمد
الغزلي قال
وهو يسلّم الجائزة الى صاحبها إن "... الفيلم تجنب الوقوع في
فخّ مساءلة الذات"،
على أمل أن يكون هذا التقويم مجرد خطأ مطبعي، على رغم مصيبة أن
صحفاً كثيرة تناقلته
حرفياً.
السقف العالي للطموحات الذي جاء به كل من فيلم أشاور ولعسري أغضب
المحافظين. انتقدوا بعض الالفاظ التي يمكن ان نسمعها في شوارع
المدن الشعبية ووجدوا
في مشهد تصوير مؤخرة شخصية نوعاً من التجاوز. "في المغرب، نريد أفلاماً
للعائلة"،
قالت لي فتاة مستغربة اعجابي بواحد من هذين الفيلمين...
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
03/02/2011 |