يكتسب فيلم «دمشق مع حبي» للمخرج السوري محمد عبد العزيز أهمية إضافية
إلى جانب اللغة السينمائية التي «تغّل» من يشاهدها وهو قابع في مكانه،
مشدوداً إلى صورة مختلفة لم تألفها السينما السورية من قبل، وهي صورة
المغامرة الإنتاجية المزدوجة: أولاً لطبيعة الحكاية المقترحة علينا،
وثانياً كونها تجيء من القطاع الخاص، فهي من إنتاج السوري نبيل طعمة. من
المؤكد أنه ليس في هذا الكلام مبالغة من أي نوع، فالمخرج عبد العزيز في
ثاني أفلامه الروائية الطويلة، يقدم على مغامرة إنتاجية وسردية في آن. لا
يتورع عن دقّ أبواب دمشق، لا بل يذكر بعضها بالاسم، ويترك للبعض الآخر فرصة
للصورة كي تقترب من حجارتها الصلبة بذرائع روائية ستتكون منها حكاية هذه
الأبواب.
في «دمشق مع حبي» ثمة أبواب جديدة للمدينة، هي أبواب لا ترى بالعين
المجردة،
وإنما تعاش وتُحس. يعيشها المواطن السوري من دون إيلاء أهمية
لاكتشافها وهو يعيش
خلفها، لأن ما يتردد هنا هو التعايش
والتسامح والانفتاح الذي كان ربما سبباً
إضافياً في بقاء هذه المدينة «متكومة» خلف أبواب إضافية تدفع بالتاجر
اليهودي ألبرت
مزراحي (خالد تاجا)، لدقها برأسه، وكأنها حائط مبكى لا يحتمل خديعة أو
مواربة من أي
نوع، فالرجل مغرم بالمدينة التي لم يعرف سواها، وهو عاش فيها وتاجر
بشرقياتها من
دون أن يخالجه أدنى شك، بأنه ينتمي إليها بجسده وروحه. حتى عندما يدخل في
مغامرته
الحياتية الأخيرة ويجرب الهجرة إلى إيطاليا للالتحاق ببني جلدته ممن سبقوه
إلى
هناك، وهو على كرسي مقعد وقد تقدم به السن، نراه يأخذ معه شيئاً من «رائحة»
المدينة
التي أحبّ في عبوة زجاجية فيها تراب دمشق. يدرك مزراحي بجلاء بصيرته
كدمشقي، وهو
على كرسي الهبوط النهائي – إن جاز التعبير – إن الرائحة التي تستفيق عندما
يغسلها
المطر هي رائحة الذاكرة الأولى التي تتوضح كلما اقترب الإنسان من مغامرته
الحياتية
الأخيرة، وهو عندما يثرثر مطولاً مع زوجة أخيه ديفيد (جهاد سعد) عن المكان
والذاكرة، يرسم الإطار الأخير للمدينة التي عاش فيها وفارقها متحسراً بنوع
من
المغامرة تتطلب في لحظة حاسمة الانحناء على ضمير إضافي متفلت منه عندما
يوصي سلفاً
بدفنه في المكان الذي يصنع الروائح التي تتشكل منها بوصلة الإنسان، أي
إنسان، وهذا
ما يحدث عندما يعيش صدمة الانتقال إلى مكان مختلف يواسي فيه أهله أنفسهم
باجترار
ذكريات عن مدينة دمشق يعيشها مزراحي بطريقة مختلفة، فيها حس مغامرة وتجريب
يشبه ما
يقوم به عبد العزيز وهو يقدم مدينته من خلال هذه العائلة اليهودية الدمشقية.
خرق في اللغة
للمرة الأولى يحدث هذا الخرق في اللغة، فدمشق كانت معبراً لسينمائيين
سوريين
أرادها البعض منهم نسخة عن سير ذاتية ناقصة وقسرية، ليس فيها
أبواب للأسرار ينبغي
على المشاهد أن يدق عليها كي تفتح متتالية
لتحمّل هذا المشاهد مسؤولية كشفها
وهتكها. بعض هذه السيّر تخلت عن الاهتمام
بهذه الأسرار من باب السرد المتعالي عن
ذاكرة مسماة بأسماء مختلفة، لا يمكن
توكيدها من باب حفظ هذه الأسرار، وإشهارها في
لغة بصرية تقوم على السرد المريح. ما يقوم به عبد العزيز مختلف، ليس بسبب
إعطاء
مهمة اكتشاف أسرار هذه المدينة لهالا ألبرت مزراحي (مرح جبر) وهي تتخلى عن
السفر مع
أبيها إلى إيطاليا عندما يخبرها في مطار دمشق، بأن حب حياتها نبيل بشارة
(بيير
داغر) حي، ولم يلق مصرعه في الحرب الأهلية اللبنانية عندما كان يؤدي خدمته
الإلزامية في لبنان. بل بسبب ميل هالا للخروج – رمزياً – من أبواب عدة
لتسرد
حكايتها عن نبيل، وليس معه، لأن ذكرياتها هي من تحدد إطاراً سيفتح أبواب
المدينة
على مصاريعها. تبحث عن كميل (فارس الحلو) مواطنه وزميله في الخدمة
الإلزامية، وقد
فقد ساقه في الحرب، ويقوم هو بمساعدتها للوصول إليه (في دور سينمائي جميل
خاص به
وقصير نسبياً)، ويقودها إلى صديق قديم يقوم بالبحث والمساعدة في أديرة
سورية مختلفة
مستعرضين في رحلتهما الرمزية شرائح شتى من المجتمع السوري، في الوقت الذي
يموت فيه
ألبرت مزراحي في إيطاليا كمداً، منهياً سيرته بيده، وهو يقبض على تراب
دمشق، وفي
مشهد مؤثر يتوجب فيه على العائلة اليهودية المستقرة في إيطاليا توضيب صورة
فوتوغرافية تذكارية معه، وهم بهيئات مبتسمة وهو ميت للتدليل على سعادة
مفقودة يبحث
عنها اليهود السوريون في منفى مضطرب هناك، على الأقل كما يبدو لنا من خلال
طرائق
عيشهم هناك.
تراب المدينة
يدرك من يشاهد الفيلم أن عبد العزيز لا يقدم رؤيا مبالغة، من باب
تلميع حياة
أقلية سورية غادر معظم أفرادها في تسعينات القرن الماضي باتجاه
مناف مختلفة، وتركوا
بيوتهم وراءهم في حارة اليهود في دمشق، ومن
يطرقها الآن، يكتشف أنها لا تزال فارغة
إلا من ذكرياتهم وظلالهم غير المنسية، وهذا ما يصر عليه ألبرت مزراحي
التاجر
اليهودي الدمشقي الكبير في حواره مع زوجة أخيه في طريقهما من المطار إلى
البيت، وهي
التي لا تريد أن تفهمه أو تتفهمه، في ما هو يتشبث بتراب المدينة التي أحب
وعاش وعمل
فيها، وصنع لنفسه فيها حائطاً خاصاً به يدقه برأسه ساعة الفراق الأخير لا
يحتمل
الخديعة والتزوير، بل صدق المعايشة لذكريات قادمة عن أبواب أخرى، تتكيف
وتتكثف في
حالة ابنته هالا، التي تقدم لنا في رحلة بحثها عن عشق حياتها صورة أخرى
تصدم
أحياناً وتربك أحياناً أخرى، إذ سيرافقنا نبيل بشارة عبر تسجيلات صوتية يبث
فيها
حبه وأشواقه لها، وستتشابك ذكرياتها عنه مثل هذه التسجيلات، كي تتشكل في
النهاية
صورته التي حفظتها لنا في ثياب الرهبنة، وإن بدا لنا مقعداً في آخر صورة
تحت الباب
الشرقي، ليحييها بالطريقة التي عودتنا هالا عليها من قبل أن نراه، ومن قبل
أن يجيء
في مشهد نهائي وهو من على كرسيه المتحرك، تماماً مثل الأب الراحل مزراحي.
«دمشق مع حبي» سيسعد مشاهديه السوريين بالتأكيد وهم يكتشفون الأبواب
الجديدة
التي يضيفها محمد عبد العزيز إلى مدينتهم القديمة والمأهولة
بطوائف وشرائح متسامحة
في العيش، وحتى في اقتسام الهواء وأطنان من
الذكريات التي لا تنضب، وهو علامة جديدة
في السينما السورية، يغامر فيها القطاع الخاص بعيداً عن صورته التي ارتضاها
لنفسه
في المرحلة السابقة. هنا يحتمل المغامرة ويورط المشاهد في سينما مختلفة،
ويتسابق
إلى توريط منتجها، وهو هنا صاحب شركة الشرق للإنتاج الفني في سابقة تحسب له
على هذا
الصعيد، وما يفعله هذا الفيلم هنا، هو انتشال الذاكرة الدمشقية من حالة
الارتباك في
السرد التي سادت أفلاماً حاكتها قسراً أو نيابة عنها، هذه المرة من وجهة
نظر مختلفة
تماماً.
الحياة اللندنية في
14/01/2011
يوميات قرية تونسية نائية بلا شجون ولا
مبالغات
القاهرة - فريال كامل
رداً على سؤال للمخرج المؤلف معز كمون عن دلالة العنوان «آخر ديسمبر»
(في ندوة
أعقبت العرض في مهرجان القاهرة حيث شارك الفيلم في مسابقة الأفلام العربية
فلاقى
إقبالاً من الجمهور، وتقديراً من النقـاد، وفـازت بـطلتـه هند الفاهم
بشهادة تقدير
لأدائها التلقائي والمتميز لشخصية عائشة القروية الجميلة)، قال كمون إن
«آخر
ديسمبر» لحظة فاصلة مشحونة بالدراما، يودع المرء فيها عاماً من
المتاعب، تبشر بعام
جديد مليء بالتفاؤل والأمل.
«آخر ديسمبر» فيلم ينبض بالجمال، بداية من اختيار الموقع وسط طبيعة
خلابة، إلى
العناية بتنسيق الكادر وتوزيع درجات الإضاءة وتوظيف العتمة تعبيرياً، فضلاً
عن حسن
اختيار ممثلين أدوا أدوارهم بعفوية ورهافة. كل هذا إضافة إلى إيقاع محسوب
وموسيقى
رقيقة ساهمت في رسم الجو ودعم الإحساس من دون افتعال.
«آخر ديسمبر» هو ثاني أفلام المخرج معز كمون بعد أول أفلامه «كلمة
رجال». ويفصح
الفيلم من المشهد الأول عن حساسية المخرج، وأيضاً الفريق الفني وتمكنهم من
لغة
السينما فالمخرج خبرها دراسة وتدريباً، فقد تخرج في مدرسة الإخراج والتمثيل
في
باريس، وساعد في إخراج نحو عشرين فيلماً مع كبار المخرجين من
تونس، مثل نوري أبو
زيد وفريد بوغدير، إضافة إلى مخرجين عالميين كالراحل انتوني مينجيلا في
«المريض
الإنكليزي»، وجورج لوكاس في «حرب النجوم»، وغيرهم.
إحساس مرهف
منذ المشهد الافتتاحي ومن دون كلمة نتعرف على الشخصية الأساسية في
الفيلم: آدم (ظافر
عابدين) طبيب شاب يعاني من أزمة حياتية تفقده أعز أحبابه. في لقطة قريبة
يصحو
من نومه وقد بدا عليه الإجهاد. وذلك في حجرة طابعها الفوضى حيث
تتناثر الأشياء من
حوله، بينما تطالعنا صورة عائلية وجمجمة على طاولة مجاورة.
حول حلم الهجرة إلى الداخل والخارج وما يرتبط به من الاشتياق للأهل
وآلام الفراق
ومن دون تصعيد لنغمة الشجن أو إغراق في الميلودراما، يدور المحور الأساسي
في مستهل
الفيلم. وأثناء مرور الطبيب على المرضى، ترجوه مريضة مسنة أن يقرأ لها
رسالة ابنتها
المقيمة في جنيف، وتلح في الرجاء لتكون كلمات ابنها هي آخر ما يصل لأسماعها
قبل أن
ترحل عن الدنيا. ينهي «آدم» عمله في ساعة متأخرة يخرج إلى
الشارع وقد سكنت حركته.
ويتجسد إحساسه بالوحدة حين يجلس وحيداً في عربة المترو، بينما يعزله زجاج
العربة عن
أضواء المدينة التي تتلألأ على بعد.
من البداية يعنى المخرج المؤلف بتعريف المُشاهد بالشخصيات التي تتقاطع
مصائرها
في سياق سلس على مدار الأحداث. تنتقل الكاميرا إلى ورشة لتصنيع الملابس حيث
تعمل
الشابة الجميلة عائشة (هند الفاهم) وتصد صاحب العمل حين يحاول التحرش بها،
ما ينبئ
بطردها. وتبرز أزمتها في ظل ظروف شاعت فيها البطالة وندرت فيها
فرص العمل فيقضي شلة
من الشاب – بينهم مراد (حلمي الدرديري) - الليلة في لعب الورق بزاوية مهملة
ويحلمون
بالهجرة إلى باريس.
على مدار الفيلم يتعامل المونتير (عربي بن علي) مع السياق بإحساس
مرهف، فلا
تتلكأ الكاميرا ولا يتهدل الإيقاع، يعبر المونتير الزمان والمكان بصحبة
«آدم» الذي
يتخير الاتجاه المعاكس لتصل به عربة متهالكة إلى قرية نائية؛ لعله يجد فيها
سكينة
روحه. وهناك يقوده مصباح بدائي في يد العمدة للتعرف – بالكاد –
على مسكنه في حجرة
متقشفة فينصحه العمدة بالمحافظة على المصباح؛ لأن الوقود شحيح في الناحية.
ويأتي الاحتكاك بتناقضات الأهالي سريعاً، حين يصحو «آدم» في منتصف
الليل ليصحبه
العمدة للكشف على ولادة متعثرة. وفي لمحة ساخرة يناوله نظارة سوداء ليضعها
على
عينيه أثناء الكشف حسب تعليمات الزوج.
من الغريب أن تطيب الحياة للطبيب المستنير في تلك القرية الجدباء
والتي يعيش
أهلها على رعي الأغنام، فيجد متعة في التريض على شاطئ البحر واعتلاء التلال
الصخرية، ويتلاءم مع الظروف وتدني الخدمات فيحصل على احتياجاته من بئر في
فناء
الدار ويقوم بنفسه بإزالة التراب المتراكم وتنظيف المكان
وإعداد العيادة لاستقبال
المرضى من أهالي القرية.
أجيال من النساء
يحمل الطبيب القادم من العاصمة الاستنارة والثقافة وعدم الجمود. فماذا
يحدث حين
يتقاطع مساره بثلاثة أجيال من النساء في القرية؟! تعيش أم عائشة، كما جميع
القرويات
حياة متقشفة، تطهو الطعام في فرن بدائي، وتجلب الماء من البئر، تعيش من دون
مصدر
رزق غير أجر ابنتها عائشة من عملها. فما إن تخبرها هذه أنه تم طردها من
العمل حتى
تحتضنها في تأثر قائلة «لا خدمة ولا زوج ولا مستقبل»، وتبيت مهمومة بزواج
ابنتها؛
هي تسعى لتمرير صورة الابنة الفوتوغرافية إلى جارة لها تبحث عن
عروس لابنها المقيم
في باريس.
أضحى حلمها الأساسي أن تتزوج ابنتها من ذلك العريس اللقطة فهي لا ترضى
بأن تكرر
ابنتها نمط حياتها. وفي موقف غاية في الإنسانية تضيء شمعة وتدعو الله
بكلمات ساذجة
أن تلقى ابنتها قبولاً لدى العريس، ذلك بينما الابنة متورطة في علاقة حب مع
«مراد»
أحد شبان القرية الذي وعدها بالزواج ولكنه يتركها حاملاً ويرحل من دونها
إلى باريس،
فلا تجد عائشة غير الطبيب ليخلصها من ورطتها، فيصحبها إلى مركز تنظيم
الأسرة
بالمدينة لتسقط حملها؛ فيتأثر بها ويقع أيضاً في حبها.
تمثل الصبية الحلوة الشقية أمينة (دينا سعدي) نقطة
الضوء في الفيلم فهي تبادر
الطبيب بالحديث عن صبيحة وصوله إلى القرية، وهي في طريقها للمدرسة تشع
«أمينة»
براءة وحيوية وسط الحياة الراكدة في
القرية. تلعب مع الصغار في الساحة وتبدي نجابة
في المدرسة غير أن زوجة أبيها تحجزها في البيت خشية أن يتسرب
خبر خيانتها لزوجها
والد أمينة. وتأتي محاولة المدرسة فك احتجازها من دون جدوى، في لقطة لافتة
يصل
لأسماع الصبية ضحكات ماجنة وعلى ضوء شمعة تتجه إلى مصدر الصوت ومن فرجة
الباب تتلصص
على ما يدور بالداخل من أسرار فيلقي الموقف المشين ظلالاً من العتمة على
جانب من
الوجه الملائكي البريء.
إثراء الدراما
يستند الفيلم إلى سياق مسلسل من الأحداث؛ عني المؤلف بإثرائه
بالتناقضات التي
تعتمل في نفوس الشخصيات، فتضفي لمحة ساخرة، أحياناً على السياق ولمحة
مأسوية
أحياناً أخرى. يؤنس الطبيب وحدته بالعزف على الغيتار في فناء الدار فيستنكر
الجيران
تصرف الطبيب ويسألونه «أنت طبيب ولا عازف»، ويقرر سفيان (لطفي العيدلي)
المقيم
بباريس الزواج؛ فيطلب من أمه أن تنتقي له عروساً من القرية
ليكون أول وآخر رجل في
حياتها، فهو على رغم تعدد علاقاته الغرامية في باريس يرى الباريسيات لا
يصلحن لغير
التسلية، وحين يتسرب إليه أن لعائشة شبهة علاقة بأحد الشبان، يصحبها في
سيارة إلى
شاطئ البحر ويحاول الاعتداء عليها فما أن ترفض وتتشاجر معه حتى
يرمي بحاجياتها على
الرمال وينطلق وحده بالسيارة فتصب عليه سيلاً من السباب. وتكون لحظة وصول
«سفيان»
الى القرية في سيارة مثقلة بالصناديق من
أطرف المشاهد حيث تخرج القرية صغارها
وكبارها لاستقباله وتطلق النساء الزغاريد.
وفي موقف آخر بالغ السخرية يجتمع موظفون من الحكومة بالأهالي لمناقشة
تطوير
القرية فيتعالى الصياح وينذر بالاشتباك بين الأهالي والجالسين على المنصة
بينما
يخلص الاجتماع إلى تكوين فرقة استعراضية على نمط فرق مشجعي الكرة الأميركية
فتكون
الفروق كبيرة في كل من الهيئة والأداء وتبقى القرية على حالها.
وفي الختام ينبثق
الأمل من اقتران الطبيب المثقف بالقروية الجميلة.
فيلم «آخر ديسمبر» طرح بسيط للعلاقات والأوضاع في قرية تونسية نائية
متدنية
الخدمات وذلك عبر عين طبيب مستنير يتذوق الفن والجمال ويكشف تناقضات
المجتمع ومساخر
الأهالي.
الحياة اللندنية في
14/01/2011
كتاب
لغة صوفية بنكهة ساخرة
القاهرة - أمل الجمل
بخلاف تلك الصورة النمطية الشائعة عن كتب التكريمات وما يُصاحبها من
استعجال ثم
استهجان وعدم رضى؛ الى درجة أن البعض يعتبر أن تلك الإصدارات لا تُؤدي إلا
إلى
نتيجة واحدة، هي وأد فرصة قد يحلم بها آخرون في تقديم كتاب جيد عن الشخصية
المحتفى
بها - يُعد كتاب «محمد كامل القليوبي.. حياة بلا ضفاف» للمؤلف سيد سعيد،
والصادر عن
صندوق التنمية الثقافية المصري، من الاستثناءات القليلة التي
أفلتت من ذلك المصير،
بل انه جاء مُغايراً تماماً، حتى إنه يمكن اعتباره أحد أهم الكتب
السينمائية التي
صدرت في مصر في الفترة الأخيرة، لأسباب عدة، في مقدمها عاملان لا يُمكن فصل
أحدهما
عن الآخر، وهما المُحاوِر وموضوع الحوار، أي سيد سعيد
والقليوبي، لأنهما كانا
ولايزالان رفيقا درب وحياة، تلازما سنوات تجاوزت الأربعين، خاضا تجارب
مشتركة، عاشا
مرارات وأوجاع، مرّا بانتصارات وانكسارات، كان كل منهما سنداً للآخر في وقت
الشدة،
تعاركا واختلفا؟!.. ربما. مع ذلك نقش كل منهما اسمه في ذاكرة الآخر، وبقيت
الصداقة
رباطاً قوياً يجمعهما.
تشي تلك العلاقة الإنسانية الحميمة بأن سرد الكتاب لن يكون موضوعياً
مع صاحب
السيرة، وبأن صديقه ربما يُقدّم صورة مغايرة للحقيقة، أو على الأقل موشاة
بكل
المظاهر الإيجابية، خالية من العيوب والسلبيات، فيرسم صورة بطولية يُحب
المحتفى به
أن يظهر بها على جمهوره وقرائه. يعترف مؤلف الكتاب نفسه ضمناً وتصريحاً في
أكثر من
مناسبة بأن شهادته ستكون مجروحة وربما تنتفي عنها الحيادية
والموضوعية. مع ذلك ما
إن نبدأ في مطالعة الكتاب حتى نغرق فيه ومعه، ويتلاشى الاتهام فلا يبقى له
أثر،
خصوصاً في ظل الأسئلة الاستفزازية التي جعلت «القليوبي» يفض مغاليق خزانته،
لكنها
في أحيان أخرى لم تنجح في سبر أغواره كما حدث في تيمة علاقته
بالمرأة التي أفلت
منها بذكاء فلسفي مُراوغ.
تناقضات
لا ننكر أن موضوع الكتاب يدور حول سيرة حياة، وإبداعات شخصية ثرية كان
صاحبها
محسوباً على اليسار في مرحلة ما، اعتُقل وخاض تجربة السجن والحرب، درس
الهندسة
ومارسها قليلاً أو كثيراً، لكنه اختار السينما عندما سكنته وسكنها، فأصبح
كاتب
سيناريو ومخرجاً سينمائياً وباحثاً ومنقباً وموثقاً لتاريخ
السينما المصرية إلى
جانب عمله كأستاذ أكاديمي. منذ صباه، كان القليوبي مولعاً بالمسرح والفن
التشكيلي
والكتابة. طبيعته الساخرة العنيدة المحتفية بالحياة منحته القدرة على
اختبار حياة
الصعلكة والتورط فيها عن رغبة عنيفة. دخل في معارك كثيرة، حقق نجاحات،
ونالته بعض
الإخفاقات. يعترف أن شخصيته تتسم بالجرأه، والاندفاع أحياناً
إلى حد العنف، ولأنه
شخصية مزاجية، أحياناً يكون مشوشاً أو مضطرباً على حد وصفه، ويبدو أحياناً
متناقضاً
وأحياناً أخرى فضولياً، وهذا كله ينبع من رغبته في التجربة والاكتشاف، لكنه
في
النهاية راض عن حياته، مُلمحاً إلى أنه دخل في دروب استنثائيه،
مُؤكداً أنه لو
أُتيح له اختيار حياته من جديد لاختار الحياة التي عاشها نفسها.
رغم كل ما سبق، ومن دون أدنى شك، لو كان كتاب «محمد كامل القليوبي..
حياة بلا
ضفاف» جاء مُوقعاً باسم آخر غير اسم سيد سعيد، لما تحققت عند قراءته تلك
المتعة
والبهجة التي تسرق المتلقي من محيطه الزماني والمكاني. إنه كتاب أشبه
بقصيدة
متفردة، ما إن ينتهي المرء من قراءته حتى يتمنى لو كان هو
كاتبه. ينجح فيه مؤلفه،
المخرج السينمائي سيد سعيد، والذي يُعَدّ أحد أبرز مفكري ومنظري السينما
المصرية،
في أن يصبغ الكتاب بأسلوبيته الصوفية البديعة، مع ذلك يمنحه نكهة ساخرة
عذبة،
ويُضمِّنه لمحات كاريكاتورية، خصوصاً في بعض المواقف والوقائع
الحقيقية التي صاغها
في مشاهد سينمائية تعتمد في أغلبها على الحوار الشعري.
يقع الكتاب في 327 صفحة تحتشد بالذكريات والصور المتوهجة، تشهد على
حياة «القليوبي»
ومنجزه السينمائي، وكل ما يتعلق بتجربته الإبداعية والإنسانية. يبحث سيد
سعيد عن الخيوط، يضع بعضها الى جانب بعض، أو بعضها في مواجهة بعض، ليُفسر
بعضها
بعضاً. يعكس تصورات صاحب السيرة عن نفسه، فتتداخل معها تصوراته
هو عن صديقه الحميم
صاحب هذه السيرة، ومن ثم يترك مساحة أخرى للقارئ حتى يبني تصوراً ثالثاً.
طوال هذه الرحلة الشيقة تعكس صفحات الكتاب مناخ الستينات السياسي
والفكري
والإبداعي، وترسم ملامح جيل من المبدعين، يحكي عن تلك الأيام والمشاريع
التي لم
تتحقق. يسرد كماً هائلاً من النصوص، والحكايات، والوقائع من خلال سلسلة
حوارات مع
«بطل»
الكتاب حول كل مرحلة من حياته منذ خروجه إلى موسكو وسنوات اغترابه التي
ضمنت
له علاقات إنسانية رائعة مع مبدعين من شتى أنحاء العالم، مروراً بتسكعه
وتصعلكه في
ألمانيا وباريس بكل ما فيها من ثراء ثقافي، وبهجة وأزمات مالية
طاحنة، ثم قرار
عودته إلى مصر. ويتخلل الحوارات شهادات كتبها مبدعون، جمعت الغربة بينهم
وبين
القليوبي، مثل منير عياد، وسيد سعيد، والمخرج السينمائي والمسرحي محمد
قارصلي،
بالإضافة إلى جلسة جماعية مع الأصدقاء والصديقات كانت تستدعي
الماضي وتُسائله في
محاولة لاستكشاف الدلالات العميقة لما صنعه، ولما أضاعه هذا الجيل. إلى
جانب
تحليلات وكتابات النقاد عن أعمال محمد كامل القليوبي السينمائية الروائية
والوثائقية.
الحياة اللندنية في
14/01/2011 |