تتكوّن شبه القارة الهندية من إتحاد ولاياتٍ لا
يحكمها سلطةً مركزيةً واحدة، وتنتشر فيها أديان مختلفة، وعدد
كبير من اللغات،
وتساهم هذه العناصر بإفقادها تجانسها، وربما تكون "السينما" هي الوسيلة
الوحيدة
التي تمنحها هويةً وطنية، وعلى الرغم من تنوّعها، يحبّ الهنود سينماهم،
ويفضّلون
مشاهدة الأفلام الهندية أولاً، ويمنحون نجومهم قداسةً حقيقية، ويضعونهم
أحياناً في
مرتبة الآلهة.
و"السينما الهندية من الشمال إلى الجنوب"، فيلمٌ تسجيليّ طويلٌ
فريدٌ من نوعه (بطول 168 دقيقة زمنياً) من إنتاج عام 2008، وإخراج الناقد
السينمائي
الفرنسي "أوبير نيوغريه" المُهتمّ بالسينمات الآسيوية، وبشكلٍ خاصّ،
الهندية.
ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء يطغى عليها أسلوب التحقيقات التلفزيونية (المُقابلات
الحوارية)، ولكن، تتجسّد أهميتها في الجانب المعلوماتيّ الذي تزخر
به.
من الشمال إلى الجنوب، ومن خلال لغاتٍ كثيرة تنتشر على طول المساحة
الجغرافية الشاسعة للهند، يحاول الفيلم أن يفهم، ويُعرّف الجمهور بسينماتٍ
تمتلك
كلّ واحدةٍ منها تاريخاً، ورسوخاً مختلفين تعكس ثقافاتٍ ثرية،
وبنى اجتماعية
متباينة.
يُجري الفيلم مسحاً شاملاً لمراكز الإنتاج الكبرى في الهند، ويقدم
لمحةً عامّة عن سينما اليوم، ولكنه، يُثير أحاديث عن عظماء الماضي، أولئك
الذين
منحوا السينما الهندية اعترافاً دولياً، واحتراماً، وذلك من
خلال مقابلاتٍ عديدة،
ومفيدة مع مُبدعي الحاضر.
ويحمل الجزء الأول من الفيلم عنوان "أجيال السينما
البنغالية"، ويتضمّن حواراتٍ أجراها "نيوغريه" مع شخصياتٍ فاعلة في
السينما
البنغالية، المهدّ التاريخي للسينما الهندية.
ولأنني أعرف مُسبقاً، بأنّ الشغوف
بالسينما، الهاويّ، والمُحترف على السواء، لن يتسنّى له
مشاهدته، فقد تخيّرت تفريغ
الحوارات المُوزعة مونتاجياً على طول مدته الزمنية (55 دقيقة)، وجمعتُ تلك
الخاصة
بكلّ شخصيةٍ على حدّة بهدف تعريف القارئ بسينما مجهولة لم تأخذ حقها من
الانتشار
عربياً، وعالمياً، ماعدا بعض الأسماء المعروفة في تاريخ
السينما البنغالية، ومنها
المخرجيّن "ساتياجيت راي"، و"مرينال سين"، وربما عددٌ قليل جداً من
المُهتمين قد
شاهدوا أفلام : ريتابان غاتاك، آدور غوبالاكريشنان، غوتام غوس، ريتوبارنو
غوش،
بوداديف داس غوبتا، أو ريتويك غاتاك.
وتعتبر هذه الحوارات المُتمركزة أساساً حول
السينما البنغالية محاولة أولية لتوجيه الأنظار نحو السينمات
الهندية (ومنها
البنغالية) تلك التي ارتبطت دائماً في أذهان الناس بأفكارٍ مُسبقة، وتعالي،
واستخفاف، مرتكزين في أحكامهم على بعض أفلام شاهدوها ماضياً، أو حاضراً، لا
تعكس
بالضرورة واقع، وتنوّع، وثراء السينمات الهندية .
مرينال سين (مخرج)
Indian People's Theatre Association (IPTA)
هي
حركةٌ ارتبطت بالحزب الشيوعيّ الهندي، كانت بمثابة الفرع الثقافيّ، ولكنني
لم أكن
عضواً فيها، ولا في الحزب الشيوعي، هناك عددٌ من الأحزاب
الشيوعية في الهند .
ومع ذلك، كنت قريباً منها، وتأثرتُ كثيراً بأعمال مثقفيها، ورُبما
لهذا السبب،
رغبت الانضمام إلى عالم الفنّ، لا أقصد المسرح، ولكن بالأحرى السينما.
كنت
متفاهماً بشكلٍ كبير مع "ريتويك غاتاك"، بينما كان "ساتياجيت راي" على
مسافةٍ ما،
إذّ لم يكن يحب الاختلاط بما يكفي، ولكنه كان رجلاً ممتعاً، ويمتلك حساسيةً
كبيرة،
بدأنا بإنجاز الأفلام، ولكن كان "ساتياجيت راي" يعاني من صعوباتٍ كثيرة
بالإعجاب
بأفلام الآخرين، وهي حالة معهودة في عالم الفنّ.
لو تحدثنا مثلاً مع "بيكاسو"
حول أعمال "ماتيس"، سوف يتأفف، ويقول : أوه.
وإذا تحدثنا مع "ماتيس" عن
"بيكاسو"، فإننا على الأرجح سوف نلاحظ نفس ردّة الفعل .
كان "ريتويك غاتاك"
عاطفياً كثيراً، وتضمّنت نظرته الكثير من المُيلودرامية، ولكنه امتلك
إحساساً
عالياً بالصورة .
أنجزنا في البنغال عدداً من الأفلام، حصل بعضها على نجاح كبير،
وحاز البعض الآخر على إعجاب جيد، ولكن، بشكلٍ عام، لم تُبهجني تلك الأفلام
كثيرا،
كان عليّ انتظار
(Pather Panchali)
ل"ساتياجيت راي" المُنتج في عام 1955 كي أتذوق
أخيراً طعم الفيلم الجيد، لقد كان فيلماً رائعاً، وبشّر بمُستقبلٍ ناجح
جداً، ولكن،
إذا أردتَ معرفة رأييّ عن أفلامه الأخرى، فإنّ( (Aparajito
في عام 1956، الجزء
الثاني من ثلاثيته، هو، بالنسبة لي، أفضل أفلامه.
تدور أحداث القصة في
الثلاثينيّات، ولكن، عندما أشاهده اليوم، أجده فيلماً معاصراً تماماً، حيث
لا تعتمد
الحداثة، أو المُعاصرة أبداً على الفترة الزمنية لأحداث الفيلم.
لقد وصلتُ إلى
السينما بالصدفة، عندما كنت طالباً لم تكن تهمّني إلى هذا الحدّ، على
العكس، كنت
شغوفاً جداً بالأدب، وفي يوم ما تصفحتُ بالصدفة كتاباً بعنوان "الفيلم كفن"
ل"رودولف أرنهايم"، لم أفهم كلّ شيء فيه، ولم أكن أشاهد أفلاماً كثيرة،
ولكنني وجدت
الكتاب جيداً، ومثيراً للغاية، ما شجعني على قراءة كلّ الكتب الموجودة في
المكتبة
حول السينما، قرأتُ كلّ شيء، في بعض الأحيان كنت أفهم
محتوياتها، وأحياناً أخرى لا
أفهم شيئاً على الإطلاق، قرأت كتب إيزنشتين، بودوفكين، ودوفجنكو،... ومن
خلالها
دخلتُ إلى عالم السينما.
كنا نتلقى المال من الحكومة، وكانت تمنحنا الضوء الأخضر : "اصنعوا
ما ترغبون"، وهكذا صورتُ فيلمي Bhuvan Shome
في عام 1969(باللغة
البنغالية، والهندية، والكوجوراتية)، لم نكن نهتم بأيّ قواعد، تعتبر
السينما في
جوهرها اكتشافاً تقنيّاً، ويمكن أن نصنع ما نشاء مع التكنولوجيا، لقد
استخدمناها،
وأشاد الناس بالفيلم قائلين : "إنها الموجة الهندية الجديدة"، حاولت جاهداً
بأن
أكون واقعياً، وأقدم رؤيتي الخاصة عن الواقع، ولكن، واقع من ؟ إنه السؤال
الحقيقي.
هل
هي واقعيتكَ، أم واقعيتي؟ أم واقعية غودار، أم واقعية ماو تسي ـ تونغ ؟
واقعية من؟
وبطريقةٍ ما، فإننا جميعاً من إنتاج أنفسنا، عندما أتحدث عن الواقعية،
فإنها ليست
بالضرورة واقعيتكَ، حاولت البقاء كما أنا ؟
لقد طُلب مني تصوير فيلماً بلغة الـ
"oriya"،
(المقصود فيلم
: Matira Manisha
من إنتاج عام 1966)، وأنجزته فعلاً،
قالوا لي : "اعمل ما تشاء، ولكن بلغة أوريا"، في البداية، كان الأمر
بالنسبة لي
مشكلة، وبعد سماعي المُكثف لتلك اللغة، قلت لزوجتي : يجب علينا التحدث عن
الحبّ
بلغة الأوريا، كانت اللغة جميلة، ولغة التليغو تُثير عندي نفس
الإحساس بالضبط،
الإنكليزية، والهندية أيضاً، ومرةً أخرى، من الضروريّ جداً معرفة اللغة،
لقد
اعتمدتُ على الآخرين، أصدقائي، والممثلين، كانوا مدهشين، محترفين، وأذكياء،
ولكن،
أحب أن أقول شيئاً، لو طُلب مني إنجاز فيلم بلغتي الأمّ،
البنغالية، عن صناعيٍّ
ثريّ في البنغال، سوف أفشل في تحقيقه، لأنني لا أعرف الأثرياء الصناعيين،
ولكن، لو
طُلب مني إخراج فيلم عن الفلاحين في السنغال، فربما أكون قادراً على
إنجازه، لأنّ
حياتهم قريبة من حياتي، أعرفهم، إنهم متشابهون مع فلاحي جنوب
البنغال، وبهذه
الطريقة أخرجت فيلمي Oka Oorie Katha
في عام 1977: القصة الأصلية بلغة الأوردو،
وتوّجب علينا ترجمتها إلى الهندية، كانت القرية واقعة في مكانٍ ما من
"أوتار
براديش"، عندما كتبت السيناريو باللغة البنغالية فكرت بقريةٍ في البنغال،
ومن ثم
نقلتُ القصة إلى ولاية "أنديرا براديش"، هناك حيث يتحدث السكان بلغة
التليغو،
وصوّرنا بتلك اللغة، وهنا، فإنني أرغب الإشارة إلى ضرورة احترام شروط
الحياة
للشخصيات، عندما نفعل ذلك، يصبح الباقي أكثر سهولة، يبقى الأمر
معقداً، ولكن أفضل.
ريتابان غاتاك(مخرج)
سكنت الجمعية روح المخرج "ريتويك غاتاك"، كتب
سيناريوهاتٍ، وأخرج، وأنتج، وفي أطروحته "On the cultural front"
يقول:
ـ
الثقافة هي كلّ شيء، الأحزاب موجودة لتُنظم، ولكنّ الفنانين أحرار، لا
يتقيد الفنان
بحدود، و حرٌ مثل الريح، المحيط، النهر، هم أحرار، وغير فاسدين، الفنان
ينجز ما
يرغب في إطار سياسةٍ ديمقراطية.
كان يزوره في بيته معلمون عظام في السينما
الهندية، مثل : "بيمال روي"، ومخرجين آخرين، كان "طاغور" يأتي
إلى بيتنا أيضاً، بدأ
أبي مشواره كمُساعد مخرج مع "بيمال"، وفيما بعد، في عام
1977أخرج " Nagarik"
أول
أفلامه الروائية الطويلة، والذي كتب له القصة، والسيناريو.
ليس من الضروري كتابة
سيرة حياته، فقد كتبها بنفسه، كشف عنها في مسرحياته، قصصه القصيرة،
درامياته،
وأفلامه، قال كلّ شيءٍ عن نفسه من خلالها.
ماهيندرا كومار (مدير تصوير)
كان "ريتويك غاتاك" فناناً شاملاً، عمل في المسرح،
كتب، ومن ثمّ تحوّل إلى السينما، وكان يعتقد بأنّ الأفلام تبقى، إنه قاصّ
حكاياتٍ
مدهش.
في يومٍ من الأيام، كنا في زيارة لأحد المُوزعين، واقترح "ريتويك" بأن
يحكي حكاية، بدأ بتصفح ملاحظاته، ويحكي، وشدّ انتباه مستمعيه لمدة نصف
ساعة،
وأعجبوا بتلك القصة، وطلبوا منه السيناريو، فقال لهم : لم أكتب شيئاً بعد،
لقد حكيت
لكم الحكاية فقط.
في يومٍ ما، عندما رغبتُ بأن أصبح سينمائياً، اتصلت به، وحصلت
على جوابه : يجب أن تعرف كلّ شيء عن السينما، كي تكون مدير تصوير جيد، يجب
أن تفهم
المونتاج، وإذا كنت قادراً على فعل الوظيفتيّن بإمكانك أن تصبح
مخرجاً.
أدور غوبالاكريشنان (مخرج)
عانى "ريتويك غاتاك" من التقسيم، فقد جاء من شرق
منطقة البنغال، والتي أصبحت فيما بعد "بنغلاديش".
كان شخصاً غير صبور، وبشكلٍ
ما، فإنّ عملكَ يعكس شخصيتك، ويتطلب إنجاز فيلم ما الكثير منك،
عندما يصبح الضغط
قوياً، يتحول البعض إلى مدمن للكحول، إنها وسيلة للهروب من الضغوطات، عندما
ننجز
فيلماً، فإننا نتحرّر، نهرب، ويكون الإدمان ملجأ، وقد امتلك "ريتويك غاتاك"
جانباً
مضيئاً، وآخر مظلماً، كان مكوّناً من الجانبين، إنها فرادة أعماله،
وخصوصيتها، على
العكس من "ساتياجيت راي"، حيث كلّ شيء عنده يميل إلى الإتقان،
والدقة، وتحظى أقلّ
التفاصيل بأهميتها.
وكما الحال في المسرح، كان "ريتويك" يستخدم مؤثراتٍ صوتية،
ضجة، ضربة سوط، وفيMeghe
Dhaka Tara من إنتاج عام 1960 على سبيل المثال، نتعرف
على الأصوات، إنه أمرٌ مثير، وهي تقنيات، واستخدامات خاصة بالمسرح، لو
احتجت إلى
صوتٍ في حالة مماثلة، فإنني أختار صوتاً يعرفه المتفرج مسبقاً، واستخدامه
في سياقٍ
مختلف لا يتضمّن نفس المعنى، جعلنا نفكر بالاحتمالات الكبيرة
للصوت، ويعود الفضل في
ذلك إلى "ريتويك".
شارميلا طاغور (ممثلة)
في عام 1959 صوّر "ساتياجيت راي" الجزء الثالث من
ثلاثيته عالم آبو (Apur Sansar)،
وكان يبحث عن ممثلةٍ لأداء دور الخطيبة، فطلب من
متخصصين الوقوف أمام بوابات المدارس، والأماكن الإستراتيجية، وهناك أثرتُ
انتباه
أحدهم، وأعتقد بأنه تبعني إلى بيتي، وفيما بعد، اتصل "ساتياجيت
راي" بوالدي، وطلب
مقابلتي، وقرر بأن أقوم بتجربة، فذهبتُ، والتقط لي عدداً من
الصور، وألبسني ملابس
أفضل مما كنتُ أرتديها، وهكذا كانت البداية.
ولك (Devi) /1960
كان فيلماً
مختلفاً، قويّ جداً، وسوداويّ جداً، يُظهر التعارض بين أرذوكسية الديانة
الهندوسية،
والعقلانية الجديدة التي ظهرت، وكانت الفتاة الشابة "دويامويه" ضحية ذلك
التصادم،
وقد احتوى الفيلم على الكثير من اللقطات الكبيرة.
استطاع "ساتياجيت راي" ـ وكنا
نُسميه "مانيكا" ـ الحصول على أفضل ما عندنا بدون جهدٍ كبير،
لم يكن يرشدنا كثيراً،
بالتأكيد، كان لدينا السيناريو مع الحوار، ولكن، لم يكن يكرر تعليماته بدون
توقف،
كان يشرح لنا المشهد مرةً واحدة، ولم يكن يكفّ عن النظر إلينا، كان طويلاً،
ويتحتم
عليه بأن يخفض نظراته حتى مستوى نظراتنا، ينحني، ويقترب منا.
لم نكن نعمل
تدريباتٍ، أو قراءاتٍ مشتركة للسيناريو، كان كلّ شيء يحدث بشكلٍ منفرد،
عندما كان
يقدم تعليماته، كنا نشعر بأنه يتوّجه إلى فريق العمل كلّ على حدة، كنا نشعر
دائماً
بأنه يمنحنا كلّ انتباهه.
قبله، كان الإخراج مسرحياً في البنغال، وكانت اللغة
المُستخدمة أدبية، لغة مكتوبة، وليست محكية، وكان شريط الصوت قطعة من
الموسيقى
الكلاسيكية، السيتار، وقد تخلى "ساتياجيت راي" عن ذلك، واستعاض
عنها بضرباتٍ بسيطة،
قرقعة أدوات الطعام، صوت الراديو، خرير مياه النهر، زقزقة العصافير،
...
كان
الممثلون يتحدثون مثل باقي البشر، وكان يستخدم اللغتين، نحن في الهند
(البنغال)
نتحدث الإنكليزية، والبنغالية، كانت اللغة
المحكية لغة عائلية، وكان أداء الممثلين
طبيعياً.
بالطبع، ريتوبارنو غوش، أنجان داس، غوتام غوس، بوداديف داس غوبتا،
أبارنا سن،..يستمرون في النضال من أجل صنع أفلامهم، ولكن، بدأ الأمر يزداد
صعوبة،
هم يريدون إنجازها بالبنغالية، لقد أصبح أمر إخراج فيلم جيد،
وتحقيق الإيرادات أكثر
صعوبة من ذي قبل، لا يوجد سوقٌ لهذه الأفلام، ولهذا السبب، نحن مضطرون
للتصوير
باللغة الهندية، منذ تلك اللحظة، تتوّلد حركيةٌ من نوع أخر، ولكن، هناك
بدائل بأن
نصور باللغة الإنكليزية.
"أبارنا سن" مثلاً صورت فيلميّها
"Mr. and Mrs. Iyer "،
و"Japanese
Wife"، باللغة الإنكليزية، إنه سوق آخر.
المخرجون يحاولون، والحياة
مستمرّة، والفنانون يجدون دائماً طريقة للتعبير.
هامش :
أحيلُ القارئ إلى الجزء الأول من
هذا الموضوع المنشور في موقع "الجزيرة الوثائقية" بتاريخ
الثلاثاء 12 اكتوبر 2010
والموجود رابطه أدناه، وأنوّه بإعادة نشر المُقدمة في
الحالتيّن بهدف توضيح مصدر
هذه الحوارات، والعلاقة التي تربط بينها.
الجزيرة الوثائقية في
28/12/2010
في السينما الفلسطينية الجديدة 2
بشار
إبراهيم
إن ولادة «سينما فلسطينية جديدة»، يعني منطقياً
نشوء ظروف جديدة تستدعي هذه الولادة. لأن ولادة سينما جديدة لا
يتمُّ بنزعات ورغبات
إرادية، فقط، دون إنكار أهميتها، ولكنه يتمُّ أولاً وأساساً بفعل جملة
عوامل ناشئة
فاعلة؛ ذاتياً وموضوعياً، تقود بمجموعها وبتفاعلها، إلى الضرورة التاريخية،
أو
الإمكانية المفتوحة، المتمثِّلة ببروز الجديد، وامتلاكه لمشروعيته
المستقبلية،
وانطفاء القديم أو تراجعه وانحساره، وافتقاده لمبررات استمراره..
ولادة سينما
جديدة، وفق هذا الفهم، يفترض بها أن تعني استنفاد دور السينما القديمة،
سواء على
مستوى الأشكال الفنية، التي كانت تُعتمد، أو على مستوى المضامين، التي كانت
تُقدَّم، وأساليب تقديمها، أو على المستويين، كليهما، والميل
من ثم نحو ما هو
مستجدّ، من أشكال فنية، ومضامين فكرية، وطرائق تقديمهما، بفعل نشوء
تحوِّلات عميقة
في شروط الواقع، أو في طريقة وعي هذا الواقع، أو لنشوء أغراض جديدة في
الواقع ذاته،
أو تحولاته..
وإذا ذكرنا أن من العوامل التي هيأت لنشوء سينما فلسطينية جديدة،
نشوء جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين، خاصة من داخل الوطن المحتل، سواء
في العام 1948،
أو في العام 1967، هؤلاء السينمائيون الذين خرجوا للدراسة، وأمكن لهم
العودة
متسلحين بمعارف سينمائية، واطِّلاعات على تجارب سينمائية عالمية، وأشكال من
المشاركات فيها أحياناً، واتفاقات على تمويل أعمالهم السينمائية الخاصة، مع
جهات
إنتاجية أوروبية أو أمريكية.. فإن من تلك العوامل أيضاً توفّر
إمكانية إنجاز أعمال
سينمائية فلسطينية، داخل الوطن المحتل، خاصة بعد انتهاء مرحلة الحكم
العسكري
الإسرائيلي، الذي كان مفروضاً على العرب الفلسطينيين حتى العام 1966، والذي
كان يقف
عائقاً أمام أية محاولة للتعبير الجماعي عن الوجود الثقافي الحضاري
الفلسطيني، ولم
يكن من الممكن حينها إلا ظهور التعبيرات الإبداعية الفردية،
التي يمكن أن تمرُّ (أو
تتحايل) على قوانين الرقابة، وأعين سلطات الحاكم العسكري. وعبر ذاك، يمكننا
إدراك
لماذا أصبح الشعر الفلسطيني وسيلة التعبير الإبداعية الأساس، عن الذات
الفلسطينية،
من خلال الفرد المبدع، طيلة العقود الثلاثة (خمسينيات وستينيات وسبعينيات
القرن
العشرين) من عمر النكبة، في حين انعدمت تماماً وسائل التعبير
الإبداعي الفلسطيني
الجماعي، والسينما في مقدمتها.. فالشعر هو فعل فردي، وهو ذات مبدعة منتجة،
تعيد
إنتاج معرفة وثقافة ورؤية للعالم، بينما السينما فعل جماعي، يتطلب مستلزمات
تفيض عن
الفرد.
ثم كان للتحولات التي حصلت عند نهاية
السبعينيات، ومن أبرزها المكاسب التي حقَّقها الفلسطينيون، بعد
انتفاضة يوم الأرض
1976، وامتلاكهم، بعد ذلك، القدرة على التعبير الذاتي
عن أنفسهم، سياسياً
واجتماعياً وثقافياً، أثرها الكبير في بدايات الظهور الجنيني
لمحاولات التعبير
الجماعي، من مسرح وسينما على مستوى الثقافة.. ومن أحزاب وكتل وقوائم على
المستوى
السياسي، ونشوء العديد من المراكز الثقافية والروابط والتجمعات ذات الأغراض
والأهداف الاجتماعية.. التي كانت بمجموعها تريد التعبير عن
الوجود الفلسطيني،
كقضية، أو كأقلية قومية، أو كجماعة بشرية.. وهي التي أسست للحضور الفلسطيني
الناهض
في أراضي 1948، من تحت ركام النكران والتجاهل، بعد شوط من القتل والمجازر..
وفي
سياق مواز، كان للتفاصيل التي ولَّدتها اتفاقيات كامب ديفيد 1979، مع مصر،
أثرها
اللافت، خاصة بعد خروج مصر من دائرة الصراع، وخروج الإسرائيليين من عقدة
الخوف، في
التعامل مع العرب، بعد أن تيقَّنوا أن العرب لن يستطيعوا
أبداً، لا من «رميهم في
البحر»، ولا الاقتراب من حدودهم، وأن حرب تشرين 1973، هي آخر الحروب، ليس
فقط كما
أعلن أنور السادات، بل كما كان يصرِّح الواقع الذاتي والموضوعي للعرب.. لا
سيما وقد
نجح الإسرائيليون في اختلاق الشريط الأمني، في الجنوب
اللبناني، بحراسة جيش من
العملاء والمتعاملين معهم، باسم (جيش لبنان الجنوبي)، بقيادة سعد حداد، ثم
قيادة
انطوان لحد، ذاك الجيش الذي كان من مهماته العملياتية ردّ ومنع أية أعمال
عسكرية
يمكن للثورة الفلسطينية، أو المقاومة الوطنية اللبنانية،
القيام بها.. وهو ما منح
الإسرائيليين شعوراً بإبعاد خطر قوات الثورة الفلسطينية، والحدّ من قدرة
الفدائيين
على إيذاء (أو إزعاج) مستوطنات الشمال، التي طالما كانت أهدافاً لهجماتهم..
إن تجاوز الإسرائيليين لعقدة الخوف من العرب،
سمح بنشوء مواقف غضِّ النظر الإسرائيلية عن اتصال بعض
الفلسطينيين الموجودين في
الأرض المحتلة، علناً بمنظمة التحرير الفلسطينية، بل والمضي إلى حدِّ
السماح (أو
غضِّ النظر عن) لبعض الإسرائيليين بالاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية،
أمثال ما
فعله كل من الجنرال ماتياهو بيليد، ويوري أفنيري، وآخرون ممن
ينتمون إلى المعارضة
الإسرائيلية، أو ممن ينتسبون إلى ما يسمى «اليسار الإسرائيلي»، وما سُمِّي
حينها
باسم «حركة السلام الآن». وقد كان أي اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية،
أو أيٍّ
من قياداتها، أو رموزها، ممنوعاً لدى الإسرائيليين، ويرقى إلى درجة استحقاق
العقوبة، والوصم بالخيانة، أو تهمة التعامل مع العدو (أي
الفلسطيني من هذه
الزاوية)..
في هذا الوقت، تماماً، بدأ التراجع يدبُّ في حركة الثورة الفلسطينية
المسلَّحة، التي غاصت في مستنقع الحرب الأهلية في لبنان (مختارة، أو
مجبرة)، إلى
الدرجة التي أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية طرفاً فيها، وكان
من نتائج ذلك أنْ
فقدت الثورة الفلسطينية الكثير من مكانتها، ووهجها، وألقها، وشعبيتها..
ونالت من
قيمة القضية الوطنية ذاتها، في بعدها القومي والعالمي، وجعلتها تدفع
أثماناً باهظة،
على المستوى المادي والمعنوي، إذ دفعتها للخوض في حروب، لا يمكن أن تكون
رابحة، حتى
لو كان الطرف الآخر ممن يتعاملون مع العدو الصهيوني، فبدت بمثابة حرب «اللا
غالب
واللا مغلوب»!.. وأثارت الأسئلة حول الثورة بدايةً، ثم حول
القضية تالياً، وأعطت (إن
لم نقل دفعت) الكثيرين للكفر بالقضية، وهو ما بدا بمثابة المسوِّغ المنتَظر
لمن
كان يريد التخلُّص من وطء القضية..
إن التراجع الذي دبَّ بالثورة والمنظمة، كان
لا بدَّ له، بالضرورة، أن يصيب مختلف الفعاليات التي كانت
تمارسها الثورة
الفلسطينية، وعلى المستويات كافة، ومن ضمنها، في صدد ما نحن فيه، تراجع
«سينما
الثورة الفلسطينية»، (أي السينما القديمة)، والوشاية باستنفاد أغراضها،
وتجاوز
الزمن للكثير من مفرداتها، وعدم تناسب خطابها، بتقليديته،
وتحريضيته، وربما ثوريته،
مع التطورات والتحولات الناشئة.. ولقد توازى هذا التراجع، في السينما، مع
بدء
انتقال مركز الثقل في الفعل الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، والذي سيصعد
إلى ذروته
الباهرة في الانتفاضة الباسلة العام 1987.
ذكرنا أن من أهم العوامل التي كان لها
الدور (وإنْ غير المقصود) في توفير الإمكانية لظهور «السينما
الفلسطينية الجديدة»،
بروز وتنامي اتجاهات اليسار الإسرائيلي، ونشوء حركة «السلام
الآن»، عام 1978، التي
تكوَّنت من مجموعة من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ومن عدد من
الفنانين
والكتاب والشعراء والروائيين والصحفيين، ومن العاملين في مجالات الدراما،
في
المسرح، أو في السينما الإسرائيلية.. إذ بدأ طور جديد،
بتأثيرات حركة اليسار، وحركة
«السلام
الآن»، ومختلف الأحداث والتطورات، كان من أبرز سماته إدخال تعديلات ملحوظة،
ولو محدودة، على صورة الفلسطيني في المنتوج الإسرائيلي، ومنها في السينما
والمسرح،
كما كان من نتائجه أن فسح المجال أمام عدد من الفنانين
الفلسطينيين داخل الوطن
المحتل، ليعملوا في السينما والمسرح الإسرائيليين، وجعلهم يمثُّلون دور
المعبِّر
الذاتي، أو الممثل الذاتي، عن حضور الفلسطينيين ووجودهم (وينبغي الانتباه،
والتأكيد، على كلمة وجودهم).
صحيح
أن هذا التحوُّل لم يصل إلى درجة النزاهة والوضوح والشفافية، ولم يخرج
أبداً عن
إطار الصورة العامة الصهيونية، في التعاطي مع حضور الفلسطيني، وصورته، ولم
يتخلَّ
عن نزعاته العنصرية تجاه الفلسطيني كآخر (غوييم)، بل حصل أن وجدنا، في بعض
الحالات،
محاولة صهيونية وقحة لمنازعة الفلسطيني على موقع الضحية،
واستلابه حتى من هذا
الموقع؛ موقع الضحية..
ولكن الصحيح أيضاً، من جهة لا تقلُّ أهمية، أن مجرد
السماح لبعض الفنانين الفلسطينيين للتعبير عن ذاتهم الفلسطينية، كان له أن
يمثِّل
(بشكل
ما) تجاوزاً مضمراً للمقولة الصهيونية التي كانت تتنكَّر لوجود
الفلسطينيين،
أصلاً، ومن حيث المبدأ.. فقبل هذا الطور كان الممثلون اليهود الشرقيون
(لاعتبارات
فيزيولوجية أيضاً) هم من يتولُّون تمثيل دور الفلسطيني، في
السينما الإسرائيلية،
بينما كان اليهود الغربيون يقومون بتمثيل دور الإسرائيلي، فيها.. وعادة ما
تأتي
صورة هذا الفلسطيني بوصفه إرهابياً دموياً متوحشاً همجياً متخلفاً.. يريد
عرقلة
المشروع الصهيوني (الحضاري!..)، الذي يريد تحويل الأرض البور
الجرداء إلى جنة!.. بل
يبدو الفلسطيني على هيئة من يرفض التطور والحضارة التي يجلبها الصهاينة
له!.. وهم
بذلك يضعون الفلسطيني في سياق معاد للحضارة الغربية، ذاتها، التي تريد
قيادة
العالم، وتتولى إدارة شؤونه!!..
الجزيرة الوثائقية في
28/12/2010
"حجارة الوادي".. تأريخ النضال التقدمي في فلسطين
سعيد أبو
معلا
قليلة هي الأفلام الوثائقية الفلسطينية التي تعود
للوراء، أي أن تتجشم عناء فتح صفحة ما من الماضي، سواء القريب أو البعيد
منه، ربما
للأمر علاقة ما بثقل الواقع وسخونته، وهو ما يدفع بالكاميرا ومن قبلها
المخرجين
لتكون عيونهم مسلطة على اللحظة الراهنة، فكيف وهي الأكثر
درامية وعنفا ودموية، وهو
ما يجعل عودة أي مخرج للماضي حدثا مهما، فكيف والحال مع فيلم مختلف فنيا
وموضوعا.
نقصد في حديثنا السابق عودة المخرج الفلسطيني إسماعيل الهباش في فيلمه
الجديد "حجارة الوادي" (2010) إلى مرحلة غاية في الأهمية بالنسبة للتاريخ
النضالي
الفلسطيني، وهي الفترة الواقعة ما بين عام 1948 – و1967، وهي هنا ليست عودة
مفتوحة
على كل شيء، بل عودة اقتنصت النضال الشيوعي والتقدمي في فلسطين
من خلال الدخول إلى
عوالم ستة من المناضلين التقدميين.
بين الماضي
والحاضر
أرادها المخرج محاولة للتأريخ الشفوي لهؤلاء المناضلين، أو
هكذا أعلن عنها في مطلع فيلمه الذي تجاوز الساعة بدقيقة ونصف تقريبا، لكنه
وأن لم
يخلص لتلك المحاولة تماما نرى الفيلم تجربة لمقاربة فترة زمنية
مهمة ليس بهدف توثيق
الحدث التاريخي والنضالي الصرف بل عبر مقاربتها إنسانيا عبر ستة مناضلين
تقدميين
أصبحوا الأن على أعتاب قبورهم، بعد عمر طويل طبعا.
قبل تلقي الفيلم سأسأل: ماذا
يمكن لكاميرا مخرج أن تسجل وتقول عندما تذهب في زيارة لمنازل
وأماكن الفعل والحدث
لمناضلين فلسطينيين ينتمون إلى الفكر الشيوعي؟ وبعد المشاهدة سأقول: صحيح
أن الفيلم
لم يطرح سؤال اللحظة الراهنة في ظل حالة التراجع المدوية أو لنقل الانتكاسة
التي
تضرب بالنضال التقدمي، وبين سؤال والقول أجد أن الفيلم ذاته
فرصة مثالية لطرح
السؤال إنطلاقا من التجربة التاريخية العريقة، إنه فيلم وأن كان مهموما
بالماضي
والتأريخ له نراه مستدعيا، وبطريقة غير مباشرة، للحظة والمصير والواقع.
تسجل لنا
الكاميرا القليل مما نعرفه من عمر تلك الفترة الزمنية (1948-1967) والكثير
عما لا
نعرفه من تفاصيل مواطنين بسطاء كانوا في عز حماسهم النضالي والفكري أمام
ثقل الواقع
الذي كانت تعاني منه فلسطين المحتلة من أكثر من جهة، وهو
بالذات ما دفعهم للانخراط
في حزب أو حركة كان لها ثقلها المرفوض من أنظمة عربية تارة، حيث كانت ترى
فيها ما
يهدد حكمها، ومن عقلية محافظة تارة أخرى، كانت ترى فيه نضالا يجترأ على
الدين
ويعادي الأخلاق والكثير من الصور النمطية التي رافقت ذلك
النضال والفكر التقدمي، كل
ذلك كان في عز حاجة المجتمع الفلسطيني لتلك الأفكار الاشتراكية التي كانت
ثورة على
الافكار السائدة وعلى السلوك الاجتماعي المستتب.
15
عاما من
النضال
إذا يؤرخ "حجارة الوادي" 15 عاما من النضال الفلسطيني عبر
الايغال في مقاطع من حياة شخصيات مناضلة وهي على التوالي: خديجة عودة،
وفؤاد قسيس
وزوجته جميلة النمري، وراغب البرغوثي، وعبدالله البياع، وخضر
العالم.
يتوقف
المخرج بخفة على محطات من حياة هؤلاء ويتنقل بين تجربة نضالية وأخرى ببراعة
من
يتنقل بين الزهور، حياة ربما لا يعرفها قطاع كبير من الشباب الفلسطيني في
يومنا
ولحظتنا الراهنة، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت باتحاد
الشباب الفلسطيني، وهي
الجهة التي تقف على إنتاج الفيلم، بالعمل على اخراجه إلى النور وأن كانت قد
قطعت
على نفسها عهدا بإكمال المسيرة التي يفترض بها أن تطال تجارب نضالية أخرى
في الداخل
والشتات.
وهو في ذلك وأمام هدفه النبيل، حتى لو اقتصر على طيف نضالي فلسطيني،
وعبر تنويعات مكانية وبشرية تشكل معا ضفيرة الفيلم، التي تشي وتبوح بجزء
مما عايشوه
وعانوه، وطبيعة الأفكار التي يحملونها ونظرتهم للواقع والبدايات النضالية.
نرى
المناضلة "خديجة عودة"، المولودة في قرية زكريا داخل الاراضي المحتلة العام
1948،
والتي تعيش الآن في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة بيت لحم في
الضفة
الغربية، تتحدث بعاميتها وببراءة الفلاحات الأصيلات عن طفولتها
القروية ومن ثم عن
يومياتها مع زوجها الممرض الشيوعي، وعن هربها في ليلة ثلجية من أحد
المستشفيات بعد
ساعة على ولادتها مخافة أن ينفضح أمرها، فهي التي عاشت سنوات طويلة برفقة
زوجها
متوارية عن الأنظار.
خديجة العجوز القوية تسرد مقاطع مؤثرة من مشوارها النضالي
الطويل مع زوجها الشيوعي، كيف كانت تقيم مع الرفاق وتؤمن لهم الطعام
والشراب
والمنام، وكيف كانت تتحمل حديث أهل القرية الذين لا يفهمون ما
تقوم به، وكيف كانت
تهرب الرسائل بملابسها الداخلية وفي حفاظات أطفالها الصغار.
تحولات
الوضع السياسي
وبمقدار ما طغى الحديث الإنساني وتفاصيل النضال الدقيقة
على تجربة خديجة كان حديث المناضل خضر العالم من قرية "كفر عين" منصبا في
جزء منه
على الوضع السياسي وتحولاته وكيف أثر ذلك على الحزب الشيوعي.
يحدثنا "العالم"
بداية عن سر انخراطه بالنضال وهو أمر يرتبط برغبته بالانتقام من الفظائع
التي تعرض
لها الشعب الفلسطيني على أيدي سلطات الانتداب البريطاني، فيقرر رفض الزواج
ويطلب من
والده أن يمنحه أموال زواجه ليشتري بندقية تمكنه من نصب كمين
لدورية بريطانية حيث
يعتقل ويسجن بقرار من محكمة بريطانية سنوات ست.
يسرد العالم أيضا تفاصيل إنسانية عن يوم زفافه
حيث قررت السلطات الأردنية اعتقاله، والأيام التي مرت عليه
برفقة زوجته دون أن
يجدوا ما يسد جوعهم، ولحظات نومهم تحت الشجر وفي المزارع مختبئين من أعين
المخابرات.
أما في تجربة فؤاد قسيس من مواليد مدينة رام الله وزوجته جميلة نمري
المولودة في قرية الحصن الأردنية ما يضيف ويثيري التجربتان السابقتان،
فقسيس الذي
تعرف على الأفكار الشيوعية عندما كان مقاتلا في جيش الانقاذ
ومنها نرى سجنه بفعل
أفكارة وإقامته الجبرية التي كانت سببا في افتتاحه مدرسة لقريته ومن ثم
تحريضه
سكانها على المطالبة بالحقوق الصحية وهو ما دفع بالسلطة إلى وضعه في السجن
الانفرادي.
أما زوجته جميلة المدرسة المطرودة من سلك التعليم بفعل مشاغبتها
فتسرد حكاية زواجهما التي تمت بقرار حزبي حيث كان قسيس محكوم ويعيش حياة
سرية، وهي
التي أرهنت حياتها في سبيل الحزب.
تسرد في الفيلم ومن مطبخها وغرفة الجلوس كيف
أنها لم تنم ليلة كاملة لكونها رأت عاملا يجر عربة ثقيلة، وأن
زوجها كان يبيع أرضه
كي يدعم الحزب، وأنه كان يستثمر لحظات زيارته لوالده في المستشفى من أجل أن
يجمع
تبرعات للحزب وهو ما لم يتوقف حتى في جنازة والدة.
نرى ونسمع عبر الفيلم حكاية
راغب البرغوثي من قرية كوبر، الذي أكمل مشوار والده في السجن
الذي حكم بسبعة وعشرين
عاما قضاها في سجون الاحتلال البريطاني قبل ان يعدم شنقا، ليكمل هو مشواره
في
الحديث عن رحلته بدءا من رحلته المدرسية والأيام الماطرة وذهابه حافي
القدمين
ومعاناة كل ذلك في سبيل إكمال مسيرته الدراسية في جامعة بيرزيت.
يتحدث البرغوثي
عن الكيفية التي أثرت فيها الأفكار الاشتراكية على عقلية القرية وعلاقات
سكانها حيث
كان للحزب دور في نزع فتيل الكراهية بين العائلات في القرية وفي تحرير
النساء، كما
يحدثنا عن الكيفية التي كان يقاوم فيها الافكار المتخلفة من
التبرك بالأولياء وطلب
المطر منهم.
يحدثنا أيضا عن قرية "كوبر" التي أصبحت بفضل النضال التقدمي تسمى "موسكو
الصغيرة"، ثم يقص مجموعة من أسراره مثل سفراته لسوريا وتدربة على السلاح
هناك ومن ثم عودته واعتقاله برفقة 90 رفيقا عام 1957.
أما عبد الله البياع، من
قرية كفر مالك، والمعروف "ببياع الشيوعي" فيتحدث عن تطوع والده
في الحرب العالمية
الاولى مع الجيش التركي هربا من التنكيل به من قبل زوجة ابيه، وكيف خاطب
عناصر في
الجيش الروسي " الفلاحين والعمال" من الفلسطينيين والعرب في الجيش التركي
بالانقلاب
على الاقطاعيين وتسلم السلطة كما فعل الروس انفسهم.
كما يتحدث عن أهم جارب حياته
وتحديدا دروسه التي تلقاها من المدرسين الحزبيين الذين كانوا
يزرون بيتهم لعقد
اجتماعات حزبية، وهو يفاخر كذلك بكونه الوحيد الذي يوزع البيانات الحزبية
جهارا
نهارا، كما يستعرض بعض مواقفه الثورية على الظلم الاجتماعي وحالة الفساد
السياسي
وارتهان أهالي قريته للحاكم العسكري الأردني.
وعبر تلك القصص التي دمجت معا
وشكلت ضفيرة متنوعة المشارب على مستوى التجارب أو على مستوى
القضايا والموضوعات
التي تنوعت ما بين السياسي والإنساني والتاريخي..الخ، وهو الذي قدمه المخرج
بالاستعانة بذاكرة أبطاله المتقدة.
إحساس عال.. ومعادلات بصرية
المخرج
الذي بدا متعاملا بإحساس عال مع أبطاله وحديثهم الحميمي وراتعا بفرح وتفكر
بتلك
الاستعادة المؤلمة ضمن فيلمه بموسيقى تراثية ناظمة للعمل وهي موسيقى النشيد
الوطني
إضافة إلى مقطوعات موسيقية تراثية يتسيدها صوت (الناي)
والإيقاع (الطبلة) التي كانت
تقوم بدور الناقل للقصص وتفريعاتها باختلاف الأبطال المتذكرين مع تفاصيل
حياتهم في
اللحظة لراهنة.
المخرج إضافة إلى صدق إحساسه لجأ إلى معادلات بصرية بسيطة (تتوائم وشروط الانتاج الفقيرة) في محاولة
محاكاة الأحداث أو المواقف التي يسردها
الأبطال، فمثلا عندما قص "غالب البرغوثي" مقاطع من طفولته
وطريق ذهابه وأيابه إلى
المدرسة في فترة الأربعينات حيث كان يقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام
تحت المطر
استعان المخرج بمشاهد يومية لأطفال القرية في رحلة ذهابهم وأيابهم المدرسية.
كما
عادت الكاميرا مع أبطالها إلى الأماكن الأولى، حيث تجولت مثلا بالمناضل
"العالم" في
قريته وساحة البئر الذي كان يذهب إليه هربا من الوقت ليهرب أبناء قريته من
حوله
مخافة الشبهات التي كان يجلبها لكل من يتحدث إليه.
كما تذهب بنا الكاميرا مع
"خديجة" حيث البيت الذي كانت تقيم فيه متخفية برفقة زوجها مع مجموعة من
الرفاق،
وتركض ذات الكاميرا بالطريق الوعرة التي سلكتها وهي تحمل مطبعة الحزب
الوحيدة في
ليلة ماطرة باردة.
كما برع الفيلم باستخدام مجموعة لا بأس بها من اللقطات
اليومية والحميمية لحياة أبطاله حيث توقفت الكاميرا مع تفاصيلهم وعائلاتهم
وأطفالهم
ولحظات احتسائهم الشاي...الخ من تفاصيل اليومي والبسيط
والإنساني.
مُشاهد "حجارة
الوادي" سيفخر بالنماذج التي ظهرت فيه، مهما اختلف فكريا معها، لكنه وبذات
الوقت
سيتألم على ما آل إليه النضال الشيوعي والتقدمي في فلسطين وغيرها. فالفيلم
يطرح
السؤال الصعب على ذلك النضال الذي اجتاح العالم ذات وقت، وهو
هنا يؤكد أنه أن صانعي
هذا النضال هم تماما مثل حجارة الوادي التي يصعب اقتلاعها أو حتى التخلص
منها..
فشكرا للمخرج إسماعيل الهباش على فعل
التأكيد وحالة التذكر، ويبق السؤال المستحق في
ظل تراجع اليسار إن لم نقل انتكاسته: أين الخلل إذا؟
الجزيرة الوثائقية في
28/12/2010 |