بدأ مسعود أمر الله آل علي بالشعر في بداية
الثمانينات قبل أن يتحول في منتصف التسعينات رائداً للحركتين السينيفيلية
والمهرجانية في الامارات. اليوم، حين يتذكر تلك الكتابات التي يقول عنها
إنها "إنشائية"،
تشعر بأنه لا يزال حائراً بين ديوان الشعر والفيلم، بين القلم
والكاميرا، بين الكلمة المتخيلة واللحظة المصورة، برغم انه حسم
أمره منذ زمن بعيد
لصالح الشاشة التي تحولت أولوية في حياته، وصارت شغله الدائم، وصانعة
أحلامه.
فبعدما نظّم نشاطات ومهرجانات كثيرة بدءاً
من "مسابقة أفلام من الامارات"، وصولاً
الى تولّيه الادارة الفنية لمهرجان دبي السينمائي، يتذكر سنوات
المراهقة، تلك
الأيام التي لم يكن يغادر فيها المنزل ويمضي وقته بالمطالعة حدّ أن والده
كان
يعتبره مريضاً.
بقيت الكتابة هاجساً عنده، الى ان دخل جامعة الامارات عام 1984
وتخصص في الاعلام. في تلك المرحلة بدأت كتاباته تجد طريقها الى
صفحات الجرائد. ثم
كان اللقاء الحاسم مع مادة الفيلم اثناء الدراسة، من طريق إنجاز الاعلانات
والتدريب
على استخدام الكاميرا ولمس هذه الآلة السحرية وتحريكها. هناك بدأ يكتشف انه
بينما
كان يمسك القلم ليكتب الصورة، كان يستطيع أن يذهب مباشرة الى
الصورة عبر التقاطها
بالكاميرا. هكذا بدأ شغفه بالمشاهدة النهمة التي ستجعله واحداً من أهم
السينيفيليين
في الامارات. يتذكر: "في تلك المرحلة، عندما كنت أشاهد فيلماً، كنت أوقفه
فجأة
لأكتب قصيدة. السينما كانت تلهمني وتأخذني الى مكان ما. فصرت أفعل عكس ما
كنت افعله
في الماضي: فيما كنت استعمل الشعر سابقاً لكتابة صورة، أصبحت استعمل الصورة
لكتابة
الشعر".
هكذا ترسخت عنده الروح السينيفيلية. علماً ان قصة حبه مع السينما لها
امتدادات ابعد من ذلك. يروي لي أمر الله ونحن جالسان معاً في
واحد من هذه الفنادق
الفخمة التي تجسد نمط العيش والترف في الامارات اليوم، انه ووالده كانا
يسلكان أزقة
دبي العتمة لكي يصلا الى إحدى الصالات السينمائية. حكاية تبدو خرافية لمن
لم يعرف
دبي في سبعينات القرن الفائت، ولم يشاهدها الا من احدى الطبقات
العالية المطلة على
"لونا بارك" عصري فيه الكثير من الأضواء المشعة. "كان والدي يحملني على
كتفه ويمسك
طرف رجلي فندخل في ظلام الزقاق لأن الكهرباء لم تكن موجودة. وفجأة ندخل في
ضوء
الشاشة. فكنت أسأل نفسي كيف يمكن أن ألتقي هذا الضوء من طريق مجيئي اليه من
الظلام".
في دبي السبعينات، كانت تعرض أفلام عربية وأميركية وايطالية. لا يعرف
أمر الله لماذا كانت تصلهم أفلام ايطالية. ربما لأنه كانت
تعلَّق لتلك الأفلام
ملصقات في مداخل الصالات عليها صور فتيات شبه عاريات. طبعاً، لا يتعلق
الأمر
بانفتاح جنسي في الإمارة المسلمة، بل بنوع من فخّ للمشاهد، اذ لم يكن ايٌّ
من
الأفلام المعروضة يتضمن لقطات عري أو عرض مفاتن كالتي يعدك بها
الملصق، لأنها، وبكل
بساطة، كانت مقطعة. وكان يمكن العثور ايضاً على وصفات ترويجية من نوع:
ثلاثة أفلام
بتذكرة واحدة. أو عروض لأفلام يقال عنها "مختصرة"، اي انه كان يمكن مشاهدة
اربعة
منها بما يعادل مدة الفيلم الواحد. من مرحلة لاحقة من صباه، يتذكر أمر الله
انه كان
يرتاد سينمات مفتوحة السقف: "كنا نتابع الفيلم والنجوم فوق رؤوسنا. أما
التدخين
فكان مسموحاً، لذا كنت تشاهد الفيلم من خلف الدخان".
شيئاً فشيئاً، صار يميز
بين الجيد والأقل جودة، وراح يعمق اطلاعه على السينما؛ يطلب الأفلام والكتب
من
أميركا. ثم جاءت مرحلة الفيديو التي رافقت جزءاً كبيراً من
حياته. آنذاك لم تكن
هناك حقوق للملكية الفكرية، فكنت تجد في الامارات كل أنواع الأفلام لا سيما
الأوروبية منها. كان أمر الله يعمل باحثاً اعلامياً في شرطة دبي، عندما قرر
أخذ
اجازة لمدة سنة لدراسة السينما في أكاديمية نيويورك للفيلم.
فتابع حصصاً في الاخراج
من الجانب التقني لا النظري. هناك تعلّم فعلياً كيفية تحريك الكاميرا
وأشياء مماثلة
وأنجز ثلاثة أو أربعة أفلام تجريبية وهو لا يزال طالباً. ثم عاد الى
الامارات مع
حلم بأن ينجز الأفلام في بلد حيث الانتاج السينمائي صفر. اخرج
فيلماً قصيراً، "رمرام"،
عن ميثولوجيا حديثة، ذهب الى مهرجانات، وسال بعض الحبر.
هذه المقابلة
أجريتها مع أمر الله في مهرجان الخليج السينمائي الماضي وننشرها هنا
لمناسبة انعقاد
الدورة الجديدة من مهرجان دبي بعد عشرة أيام واستكمالاً للملف
الذي نشرناه قبل
اسبوعين عن المهرجانات الخليجية (خارج الكادر هذا الاسبوع مخصص لمهرجان
الدوحة).
هناك، في المكان الذي التقيت أمر الله، كان
يوجد الكثير من الشباب الذين ينمو عندهم
يوماً بعد يوم شغف التعبير بالصورة. هذه التجمعات الشبابية
التي كنا نراها تتبادل
النقاشات حتى الصباحات المبكرة، صارت مشهداً مألوفاً اليوم، خلافاً للماضي.
"في
أيامنا، لم نكن نجد من نناقشه في موضوع السينما. كنت اشعر بالضياع. هناك
شباب
اماراتيون درسوا في الخارج قبلي وعادوا الى بلادهم لكن للأسف
اتجهوا الى مجالات
أخرى لأن الأرض لم تكن ممهدة، باستثناء علي العبدول الذي أخرج أول فيلم
روائي طويل ("عابر
سبيل") في الامارات في 1989".
بعد انهيار مرحلة صالات السينما، صار أمر
الله يشتري الأفلام بكثرة، وينفق عليها من المال أكثر مما ينفقه على نفسه.
فتراكمت
عنده مجموعة يقدَّر انها تحتوي على 25 ألف فيلم. ثمة أفلام يعود ويشاهدها.
لأنها،
كما يقول، تغسله من الداخل. عام 1997، جاءت اللحظة التي لم يعد
يملك الطاقة فيها
ليفعل شيئاً في النهار وشيئاً آخر في الليل. استقال من شرطة دبي وذهب للعمل
في
المجمع الثقافي في أبو ظبي. يصف عمله في المجمع بـ"التجربة الثرية جداً"
لأن العالم
المتخيل كله الذي كان يتعامل واياه صار واقعاً مجسداً من خلال نشاطات
المجمع.
"أقمنا اسبوعاً لجيري منزل الذي جاء والتقيناه. ثم اسبوعاً لماركيز
الذي حضر
بدوره". مع المجمع شرعت أمامه أبواب الاحتكاك بالمخرجين، فتقرّب منهم، اذ
كانت
وظيفته أن يتولى ادارة وحدة الانتاج.
ثم مع مرور الزمن، بدأت تلوح في الأفق
مسألة السينما. يقول أمر الله: "صحيح أننا كنا ننظم اسابيع مهمة، وكان
الجمهور
يستجيب، لكن كنا نريد المزيد. فبدأت ألحّ عليهم بضرورة اقامة مهرجان، لكن
كان
الجواب دائماً "لماذا تريد مهرجاناً ما دام ليس هناك أفلام؟".
من جانبي كنت مدركاً
هذه الحقيقة، لكني كنت آمل دائماً اكتشاف اسماء جديدة. أمام اللامبالاة
المتكررة،
قررت أن أجمع كل الأفلام التي أنتجت في الامارات، فحصلت على 58 فيلماً.
عرضت هذا
الكمّ على ثلاثة أيام. وأذكر أنني قلت في مقدمة الكاتالوغ
بأسلوب غاضب إن السينما
تهان في هذا البلد وإن الجمهور اذا حضر فسيرى ان الافلام غير صالحة للعرض،
ولكن هي
مجمعة لهذا الهدف، أي لتقول إنها غير صالحة للعرض. هذا اثار نوعاً من
الاهتمام.
فذهبتُ الى مدير المجمع محمد السويدي، لأقول له آن الأوان لننطلق بالمهرجان".
الكل كان يقول له إنه "يضع العربة أمام الحصان". لكن كانت له وجهة نظر أخرى.
حين انطلقت "مسابقة أفلام من الامارات"،
يومذاك بدأ ينخرط في الهموم كلها، من
المونتاج الى تصحيح الكتابة مروراً بإعطاء الكاميرا لمن هو في
حاجة اليها، وذهب الى
الكليات والمعاهد وشركات النفط ليطلب الدعم والرعاية. في الدورة الاولى
للمهرجان
وصلت الى المجمع 90 فيلماً، اي أكثر من كل ما سبق جمعه في الدورة
التمهيدية. جاء
هذا نتيجة جهد كبير، اذ كان يدفع الشباب الى أن يصوروا. حرّض
كثيرين على خوض
الانتاج السينمائي. ولم يكن يعنيه الفيلم بقدر ما كان يعنيه المخرج. يذكر
ان رئيس
لجنة التحكيم آنذاك كان عمر أميرالاي الذي "مسح الأرض" بالجميع. ولكن كان
أمر الله
فرحاً بأن يتصرف على هذا النحو. قال لأميرالاي: "لا اعرف ما هي هذه التجربة!".
بعد ثلاث سنوات من انطلاق "مسابقة أفلام من الامارات"، تأسس مهرجان دبي،
واتصل
رئيسه عبد الحميد جمعة بأمر الله للتعاون، وصادف هذا مع التغيير الحاصل في
ادارة
المهرجان في ابو ظبي، ورغبتها في تحويل المسابقة من اماراتية
الى دولية. هنا كانت
بداية الخلاف بين أمر الله والمهرجان. حين سألته اذا كان تأسيس مهرجان
الخليج نوعاً
من ردّ على "مسابقة أفلام من الامارات"، التي غادرها نتيجة الخلاف، قال:
"لست هنا
لأتحدى أياً كان. انا هنا لأكمل مسيرة بدأت تثمر. لا ارى ان من العيب الا
يكون لنا
سينما، انما من العيب ان يصير العالم بصراً فيما نحن نمتنع عن
ذلك. فالأشياء بدأت
تأخذ ملامح ما. لست مراهناً على صناعة بل على تجارب. أراهن على خمسة. اذا
اصبح
لدينا خمسة سينمائيين، فهذا يكفي".
لم يكن ممكناً الحديث مع أمر الله من دون
التطرق الى شؤون متعلقة بالمهرجانات الخليجية وكيفية تعاملها مع الفيلم،
علماً ان
حول هذه التظاهرات أقاويل كثيرة تبدأ عند الأموال المدفوعة لشراء كل شيء
وتنتهي عند
المنافسة غير النزيهة. هذا كله في امارات لا يزال الانتاج السينمائي فيها
شبه
معدوم. يستهل السينيفيلي هذا الشق من اللقاء، بالقول: "في هذه
المنطقة بات من
الواضح جداً ان المهرجان هو الذي يدفع بالانتاج الى الامام وليس العكس".
بعد
هذا، عرّج حديثنا على الأموال التي تذهب على الضيوف والسهرات ومن أجل
الاتيان
بالنجوم. هنا بدا أمر الله مستفَزّاً: "هل نحن نهدر هذه
الأموال في مهرجان دبي؟ هل
استطيع أن أخيّرك بين أن تأكل أو تستحم! هل هناك مجال لخيار؟ في معظم
الأحيان نحن
نوضع أمام خيارات. أكثر من مرة سمعت من يقول لنا "لماذا تقيمون مهرجاناً
وأنتم ليس
لديكم سينما؟". أو ينصحون لنا بأن نضع أموال المهرجان في سبيل الانتاج.
المهرجان
شيء والانتاج شيء آخر، ولا يمكن الخلط بينهما. مهرجان دبي اتُهم بأشياء
كثيرة من
غير وجه حق. مثل القول اننا دفعنا المال للإتيان بنجوم. هناك
أموال كثيرة لبست
مهرجان دبي. وأنا أؤكد من هنا أننا لم ندفع درهماً واحداً لنجم".
أسأله: "وماذا
عن المليون دولار الذي دُفع لجورج كلوني؟". يجيب: "من قال هذا؟ هل المهرجان
أعلن عن
هذا الشيء؟ عندما يأتي ممثل الى مهرجان فهل يأتي لأجل المال؟ هل كلوني في
حاجة الى
هذا المليون؟ هذا الذي اريد أن افهمه". نسمع أشياء كثيرة من
مثل "لماذا لا تعطون
المخرجين الاموال لصناعة الأفلام، بدلاً من وضعهم في فنادق "سبع نجوم"؟
حسناً، في
رأيك ما الذي عليّ أن أفعله عندما يأتيني سبونسور ويقدم لي الفندق مجاناً،
ماذا
عليَّ أن أقول له "لا، أريد فندق نجمة واحدة"، كي يعتقد الإخوة
أننا فقراء. معادلة
دبي مختلفة عن معادلات مدن أخرى. المهرجان مكلف لأن المدينة مكلفة. السهرات
الليلية
مثلاً يقدمها الرعاة على نفقتهم. سبعون في المئة من الموازنة تعود الى
الرعاة".
يشتكي امر الله أيضاً من وجود صورة نمطية في عقول الناس ازاء العرب عموماً
والخليجيين خصوصاً. أبناء الخليج تطاردهم صورتان نمطيتان:
"السينما الأجنبية صوّرت
الخليجي بدوياً جاهلاً، بعد ذلك انتقلت الى اعتباره صاحب أموال يرمي ما
يملكه على
الفتيات، الى أن جاء 11 أيلول فصار ارهابياً. اذا كان الغربي يفهم الخليجي
على هذا
النحو، فأغلب الظنّ أن العرب ايضاً يفهمونه على هذا النحو.
الخليجي لم يُنصَف. مجرد
ان يكون المرء من دول الخليج، فهو ثري، وهو غبي، وهو فاحش، وهو لا يفهم! في
المقابل، هو مطالَب بأن يدفع الأموال للمثقفين العرب لينجزوا أفلامهم
وينشروا كتبهم
ويحققوا مشاريعهم. اذاً، نحن مجرد جيب. جيب مليء بالفلوس. هم
العقل ونحن الجيب.
طبعاً، البلد يعيش في الفخامة، لكن هل من الممكن اعتبار كل الخليجيين
اثرياء؟". في
السياق نفسه، يروي أمر الله انه عندما كان يشارك في المهرجانات، كان "يكره"
نفسه في
أحايين كثيرة، لأنهم يأتون ليطالبوه بتمويل مشاريع، أو لكي يعرّفهم الى شيخ
أو
تاجر. وأحياناً يجد انهم يرافقونه فقط لأهدافهم وليس من باب
الصداقة. وهو يشعر الى
الآن أن كثيرين يلتفّون حوله فقط من أجل اطماع شخصية.
حسناً، هذه الاشكاليات
كلها تجد مسوّغاً في أجوبة أمر الله. لكن، ما قصة كسر العضم بين مهرجاني
أبو ظبي
ودبيّ، الذي تطور في المرحلة الأخيرة، ولو ضمنياً؟ ينكر أمر
الله بأسلوب ديبلوماسي
وجود مثل هذه المنافسة العنيفة، قائلاً إنه يهمه أن يكون هناك في الامارات
أكثر من
مهرجان. "هذا الشيء كنت احارب من أجله منذ سنوات: أن يكون هناك فرص لمشاهدة
الأفلام. كنا ننتظر الفيلم سنوات قبل التمكن من مشاهدته وكنا
نعاني لإدخاله الى
البلد وتهريبه من الرقابة. أن تفتح مهرجاناً، يعني أن تفتح مدرسة. خصوصاً
اذا
اعتبرنا ان المهرجانات باتت تؤثر وتصنع. في الدورة الاولى من مهرجان
الخليج، كان
اهالي السينمائيات يحذفون اسماء بناتهم من الجنريك. الآن، تغير
الأمر. السعوديات كن
هنا وكذلك الاماراتيات. لكن اختلف مع منطق أن نستعيد مهرجاناً موجوداً.
لماذا لا
ينجزون مهرجاناً لأفلام التحريك مثلاً؟ ماذا يفيد أن تكرر أغنية من بعدي؟
أنجز
أغنية أخرى. لا أمانع المنافسة، بل ارغب في المنافسة التي
ترفعنا الى أعلى". طبعاً،
يغفل أمر الله أن المشكلة أكبر من هذا، لأن المنافسة ليست فقط بين
مهرجانين، بل
ايضاً بين مدينتين، و"مهرجان التحريك" لن يحرك قلب طرف في اتجاه الآخر!
نقد
"رجال
وآلهة" في "مهرجان السينما الأوروبية"
أفلمة بديعة وهادئة ومنصفة تعبق برائحة جون فورد لقصة الرهبان الفرنسيين
السبعة
الذين قتلتهم الجماعة الاسلامية في الجزائر عام 1996، قبل أن
يتبين ان الجيش
الجزائري هو خلف الجريمة، لكن هذا الجزء يتركه الفيلم غامضاً ويستغله في
سياق كلامه
الميتافيزيقي. مشروع هذا الفيلم كان يتضمن عدداً لامتناهياً من المطبّات
استطاع
كزافييه بوفوا القفز فوقها بذكاء حاد. نحن أمام فيلم يفتح
ذراعيه للعالم، ومرافعة
ضد العنف، يخرج بفكرة ان الخلاص الوحيد الممكن هو في يد الانسان، لا الدين.
لامبير
ويلسون في دور الراهب كريستوف المسؤول عن الدير، يقدم أداء فعالاً، لكن
لجنة
التحكيم في مهرجان كانّ فضّلت عليه اداء خافيير بارديم في "بيوتيفول".
عرف مخرج
"الملازم الصغير" كيف يخطف انتباهنا من خلال إيمان الرهبان برسالتهم
الانسانية
والامتناع عن ادراج الحكاية في اطار فيلم ديني مملّ. على مدار ساعتين
تقريباً، نغوص
في صلواتهم وكلامهم عن قيم الديانة المسيحية التي، ويا للفكرة الجميلة، لا
تأخذ
البتة منحى تبشيرياً.
الفيلم عن جزائريين يعانون انواع الظلم كافةً جراء
التعاطي السيئ للجماعات المتطرفة معهم، لكن هذه المعاناة مصورة من وجهة نظر
الرهبان
الثمانية (واحد منهم لن يُقتل) الذين سيقفون أمام مشروعهم العنفي وسيدفعون
ثمن
موقفهم هذا. كل الممثلين الذين يشاركون في ترسيم هذه اللوحة
الانسانية المؤثرة،
يرفعون الفيلم بأدائهم، ومنهم الكبير مايكل لوندزال. لكن ويلسون هو الذي
يخطف
الفيلم. اذ يقدم أداء فعالاً مترجحاً بين دمعة وصرامة.
(•)
يُعرض
غداً الساعة 20:00 في "متروبوليس" (أمبير ـــ صوفيل) في اطار مهرجان
السينما
الأوروبية الذي تُختم دورته الـ17 الأحد المقبل.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
"النهار"
في المدينة القرميدية
يحتفي "مراكش السينمائي"
هذه السنة بعيد تأسيسه العاشر، المهرجان الفرنكومغربي، الذي يشبك بالعالم
العربي
علاقة غير مفهومة بعد، يرفع الستارة عن نشاطاته مساء غد ويستمر تسعة أيام
تُعرض
خلالها مئات الأفلام ضمن المسابقة الرسمية والأقسام الموازية،
وسيكون على رئيس لجنة
التحكيم جون مالكوفيتش وبقية الأعضاء أن يمنحوا في ليلة الختام جائزة
"النجمة
الذهبية". ماذا تخفي العناوين الغامضة للدورة الحالية التي تكرّم السينما
الفرنسية
وتستقطب ايضاً اسماء مهمة مثل كوبولا وسكورسيزي والاخوين داردين؟ هذا ما
سنكتشفه من
خلال متابعتنا المهرجان، علماً ان "النهار" من الوسائل العربية القليلة
التي تغطي
هذا الحدث وتلتقي ضيوفه السينمائيين.
ماريو مونيتشيللي ينتحر في عمر الـ95
Final cut
بعد
المنتج الكبير دينو دو لورانتيس، ايطالي آخر من العصر الذهبي للسينما
الايطالية
يرحل، ولكن هذه المرة ليس القدر الذي ينال منه. ففي الـ95 قرر
مخرج أفلام الكوميديا
الايطالية التي انتشرت في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، أن يضع حداً
لحياته من
خلال الانتحار. مع دينو ريزي ولويجي كومنتشيني كان الرجل رمز تلك الحقبة
المثمرة
وأدار الكبار من مارتشيللو ماستروياني الى كلوديا كاردينالي
مروراً بفيتوريو غاسمان
الذي اعطاه واحداً من أروع أدواره في "الحمامة" (1958). كان مونيتشيللي
يشكو من
سرطان في البروستات، فقرر يوم الاثنين الماضي أن يقفز من نافذة المستشفى في
روما
حيث كان يخضع لعلاج. كان يعلم ان أيامه معدودة، وعلى رغم ذلك
فعلها وتحدى القدر. لا
نزال نتذكر أصداء اعتراضه على قرار برلوسكوني القاضي بتقليص الموازنة
المخصصة
للثقافة والسينما في ايطاليا، اذ دعا الشباب على عدم السكوت لما يتعرضون
له، مندداً
بحال السينما الايطالية التي لم تعد تعكس العمق الاجتماعي الايطالي. عاش
ثائراً
ورحل ثائراً، واستخدم الـFinal
cut
في حياته ومماته.
خارج الكادر
خالد والأيقونات!
حطت الطائرة في مطار
الدوحة تحت شمس حارقة. حافلة مؤثثة بكراسٍ جلد، اتجهت صوبنا لنقلنا الى
نقطة
التفتيش والأمن العام. اهتمام ومواكبة ومظاهر استقبال لا نحظى
بمثلها في المهرجانات
الغربية الكبيرة، حيث على الصحافي أن يجر شنطته ويصعد في الباص أو المترو
(أو
التاكسي في أفضل الأحوال) ليصل الى مكان اقامته. هذا هو الفرق الأول بين
مهرجانات
الخليج التي تراهن على الإغراء والإمكانات المادية، وزميلاتها الأوروبية
العريقة
التي تكتفي بتاريخها... والباقي عليك يا صاح!
فتاة سمراء فاتنة جاءت لتهتم
بأوراقنا. غابت ثم عادت لتهمس في أذن زميل أن ثمة قنينة ويسكي في حقيبته
غير مرحب
بها. في انتظار ترتيبات نقلنا الى الفندق، كان علينا الجلوس في قاعة زجاجية
تطلّ
على مكان مراقبة الجوازات. بعد نحو عشرين دقيقة، عبرنا الحواجز
الأمنية كلها ووصلنا
الى حيث السيدة المكلفة توزيعنا على فنادق المدينة. مشينا كمجموعة متجانسة
على رغم
أنه لم يسبق لي أن تبادلت الكلام مع نحو نصف اعضاء هذا الوفد اللبناني. ركب
الجميع
في السيارات الفخمة ووصلنا الى مكان اقامتنا على مدى الأيام الأربعة التي
يستغرقها
المهرجان، وهي للمناسبة، فترة قصيرة جداً لفرض لقاء حقيقي مع السينما. لكن
فترة
كافية لتصاب بـ"احباط المولات".
لدى خروجنا من المطار لركوب السيارات، صفعني
الحر الشديد. في المرات القليلة التي أتيحت لي زيارة بلدان الخليج، لم يُتح
لي لقاء
الحر على هذا النحو الا في أوقات الانتقال النادرة بين السيارة والأماكن
المبردة.
الحرّ في الدوحة كان أكثر شراسة، كإبليس يخرج من بطن الأرض ولا يريد لك الا
الشرّ.
ردهة فندق "دبليو" كانت مزدحمة بناس، لهم
شأن ما
بالمهرجان الذي أسسه أولاً روبرت
دو نيرو قبل أن تنقله قطر الى عاصمتها في نسخة عربية معدلة. كان جو
الانطلاقة يسيطر
على سواه من الأجواء، واللغة الانكليزية تسيّر أمور ناس ضائعين في الترجمات
التقريبية. كيف لا، وعدد كبير من العاملين في المهرجان هم
انكليز أو من غير العرب،
بدءاً من مديرته الاوسترالية، الصحافية السابقة في "الجزيرة انترناشونل"،
التي
تعرفت اليها في البندقية عام 2008 خلال مقابلة لي مع تاكيشي كيتانو لم
أنشرها لشدة
ركاكتها.
جرى وضع الصحافيين في فندق "دبليو" العصري لقربه من صالات السينما
الأساسية الواقعة في مول "سيتي سانتر"، وهو على مسافة خمس
دقائق سيراً على الأقدام.
واذا اردت ان تستقل السيارات المتوافرة للضيوف ليلاً ونهاراً على مدخل
الفندق، فلا
يستغرق المشوار أقل من تلك المدة. لكن لا أحد يمشي في قطر. على الصحافي أو
الناقد
الذي يريد معاينة الأفلام، وعدم الاكتفاء بالسهرات الليلية
المتكررة والمتشابهة
وجوهاً وحديثاً، أن يبقى أسير تلك المساحات المقفلة بحيث يشعر بالانغلاق
جراء
الخطوات المئة التي يقوم بها ذهاباً واياباً في "المول" بعد أن يخرج من
فيلم لينتظر
الثاني.
لا أريد أن اعلّق هنا على برنامج المهرجان الذي جاء بأفلام من هنا
وهناك وعرضها في ظروف لائقة نسبياً، لكني لا أريد أن أخفي أن
الروح المهرجانية بدت
مفقودة بشكل رهيب، وهذا أول ما يلاحظه المرء الآتي من مهرجان آخر. طبعاً،
تريبيكا
في حاجة الى المزيد من الوقت للنمو، لكن لا أرى بصراحة ماذا يمكن الفعل
بمهرجان
كهذا وما هي سبل تطويره، وخصوصاً ان ثمة شعوراً بأن الأشياء
هنا تنم عن رغبة في
تجاوز الآخرين. الشهرة للشهرة لا تصنع المهرجانات.
أمضيت معظم الوقت الذي كان
في تصرفي وأنا أبحث عن مكان أذهب اليه. الصحافيون لم يكونوا كثيرين، على
الاقل لم
ألتق بزملاء أعرفهم. الأشياء منظمة بالتأكيد على الطريقة
العصرية التي تعتبرك
خارجاً من بطن حاسوب إلكتروني، تفقه كل شيء وتتمكن من تدبير أمورك بمجرد أن
تقرأ
ارشادات كتبت على ورقة. الفتاة التي كانت تتولى الاهتمام بشؤون الصحافة،
كانت
لطيفة، لكن كثيراً ما كان يدور بيننا حوار طرشان، ينتهي كله في
ختام الجولة بسوء
فهم وزعل. كنت أريد لقاء دو نيرو، الذي صدمتني رؤيته بهيئة عجوز ينتعل "دوكسايد"
قديم في رجله، لكن بدلاً من ذلك، كانوا يقترحون عليّ أجراء حوار مع مصممة
أزياء، أو
المشاركة في "شيشا نايت". فجأة، لم أعد أفهم لماذا أنا هنا!
بيد أن أكثر ما
صدمني هو شيء آخر: مئات البورتريهات الضخمة علّقت في انحاء المدينة، حيث
دورة
الحياة فيها تمشي كعقارب الساعة. هذه البورتريهات بالأبيض
والأسود لمخرجين وممثلين
ومسؤولين في الشأن السينمائي (معظمهم عرب)، التقطتها المصورة المعروفة
بريجيت
لاكومب. هذه الفرنسية قبضت مبالغ كبيرة عن هذا المشروع العبثي (احد
المسؤولين قال
لي إنه كان يمكن إنجاز أفلام عدة بهذا المبلغ)، المنافي، على
الأقل، لأصول حماية
البيئة! ورق وورق وكثير من الورق...
في تنقلاتي المتكررة بين الفندق ومركز
المهرجان بسيارة الجاغوار، تعرفت الى عشرات السائقين، هنوداً وفيتناميين،
لكني لم
أتعرف الى مخرج واحد. ربما كان الحق عليَّ كوني لم أتحرش بهم، فلا يمكن
لومي وأنا
مندهش بهذه الصور الضخمة المعلقة، وأسأل نفسي لماذا عُلّقت في
هذه الصحراء العصرية،
ذلك أن أحداً لم يكن يهتم بها. واذا قصدتها بغية الاستمتاع بها، فستستاء
أكثر، لأن
السيدة الفرنسية اشتغلت الصور "من قفا يدها"، حدّ ان بعضهم، مثل الممثلة
هيام عباس،
بدت كأنها تلعب دور الفزاعة في فيلم رعب أميركي. القاطنون في الدوحة من
عمال أجانب،
لم يكترثوا لهوية هؤلاء الغزاة، وعندما سألت سائقاً هندياً اذا كان يعرف
أصحاب هذه
الوجوه، أشار بأصبعه الى صورة عادل إمام، وقال: "هذا اعرفه،
خالد!". طبعاً، هذا لا
شيء مقارنةً بكتاب الصور للاكومب، حيث الوجوه المصورة بلقطة مقربة احتلت
صفحتين
متقابلتين على نحو يضيع الأنف والفم في طيّ الكتاب.
اختتمت الدورة الثانية هذه
بحفل توزيع جوائز. في مهرجان بلا جمهور تقريباً، نال فيلم لبناني جائزة
الجمهور.
المبلغ: مئة ألف دولار، في حين أن الشريط لم يكلف الا ربع ذلك، كحد اقصى.
كانت
الأمسية تلك محتشدة بالأجانب من رجال الأعمال وآخرين، ولم يعد هناك أمكنة
للجلوس.
عندما دخلت القاعة الجميلة ولم أجد مقعداً شاغراً، سألت مضيفة عما يجب أن
أفعله.
فقالت لي: تعال معي، سأريك. لم يتسنَّ لي
الوقت لأفكر في طبيعة المفاجأة، اذ قادتني
الى نوع من قبو حيث مشاهدون "درجة ثانية"، يحدقون الى شاشة
وضعت أمامهم. عليها، نقل
مباشر للحفل الذي يجري في القاعة المجاورة. تعالى صريخ الأولاد الرضّع
وتعليقات
الشباب، الى حين صعدت المديرة أماندا بالمر الى الخشبة متوجهة بالشكر الى
كل
"الأيقونات" الذين وزعوا صورهم على جدران المدينة الحزينة. "أيقونات"؟!
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
02/12/2010 |