بعد أشهر قليلة على إقامة تظاهرة للسينما اللبنانية ("الهدوء بعد العاصفة:
فهم الحرب الأهلية اللبنانية")، ها هي جمعية "آرتي إيست" تقوم بمبادرة
جديدة تشمل السينما العربية. فعلى مدى الأسابيع الثلاثة الفائتة، شهدت
مدينة نيويورك حدثاً سينمائياً عربياً أطلقته "آرتي إيست" (ArteEast) بالتعاون مع "متحف الفن الحديث" (Museum
of Modern Art-MoMA). "خرائط الذات: التجريب في السينما
العربية منذ الستينات وحتى الآن" هو العنوان الذي ظلّل التظاهرة كاشفاً عن
الجزء الأول فقط من برنامج سيمتد على ثلاث سنوات. المرحلة الأولى من
البرنامج التي انعقدت تحت عنوان "مومياءات، ذكريات وخسارة"، يهدف إلى
اقتفاء أثر سينما عربية مغمورة بمعظمها، قائمة على الذاتية والفنية
والتجريب، تعود جذورها إلى ستينات القرن الماضي. كان ذاك الزمن مؤاتياً
للأحلام الثورية والأمل بالتغيير. فقد مهّدت الستينات منذ بداياتها لصعود
"التيارات المضادة" في السياسة والاجتماع والثقافة والفن. كانت مرحلة خصبة
بالتحوّلات على غير صعيد، أشعلت رغبة التغيير والتمرّد وكسر الأنماط
السائدة عبر العالم. لم يكن السينمائيون العرب بعيدين من ذلك المناخ، فقدّم
بعضهم تجارب قامت على كسر الأنماط السردية السائدة والاعتبارات التجارية،
ممهّداً لصعود تيار ذاتي في التعبير السينمائي. على أن فكرة تنظيم هذا
البرنامج السينمائي انطلقت من اعتبارات آنية أكثر منها تاريخية، كما تقول
رشا سلطي منظّمة البرنامج (بالتعاون مع يوتيه جنسن المبرمجة في قسم الفيلم
في متحف الفن الحديث) والمديرة الفنية في "آرتي إيست".
"يتردّد كلام كثير اليوم عن سينما مستقلة بالروح والإنتاج في العالم العربي
بصفتها ظاهرة نشأت في التسعينات وأكملت طريقها إلى الألفية الثالثة" تقول
رشا سلطي متابعة "ولكن التجريب في السينما العربية ليس سمة هذه المرحلة فقط
بل هو امتداد لحركة انطلقت قبل نصف قرن ولكن الخلل الحاصل في تداول الأفلام
العربية وانتشارها يقصيها عن ميراثها وتاريخها، فتبدو يتيمة من دون جذور
ولا مرجعيات." البرنامج إذاً محاولة لرأب هذا الصدع بين ماضي السينما
العربية وحاضرها ولكنّه أيضاً قراءة في تحولات جيل ومنطقة.
"تكوّنت فكرة برنامج "خرائط الذات" على مراحل، كان منطلقها بحثاً اشتغلت
عليه حول نوادي السينما في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. اكتشفت من
خلاله أن الحياة السينمائية كانت مختلفة تماماً في البلدان العربية ومرتبطة
بنشاطات سياسية معارضة يسارية وشبابية. "سينماتيك" الجزائر مثلاً كانت مقصد
سينمائيين مثل جان-لوك غودار الذي كان يسعى إلى عرض فيلمه فيها قبل فرنسا.
واكتشفت ان أفلام السينمائيين الكبار كانت تجد طريقها إلى العرض في العالم
العربي من خلال نوادي السينما. أفلامنا اليوم غير متداولة وأرشيفنا
السينمائي إما مجهول المصير وإما مستحيل الوصول إليه. وهناك اليوم جيل من
السينمائيين العرب يصنع سينما مغايرة وتجريبية وسينما مؤلف ولكنه فاقد
الصلة بالجيل الذي سبقه. هذا ما دفعني إلى التفكير في نبش هذا الإرث
السينمائي وترميم بعضه وعرضه من جديد بهدف إحيائه."
عندما استشعرت سلطي أهمية المشروع، بدأت البحث عن جهات داعمة وحاضنة: "متحف
الفن الحديث في نيويورك معروف ببرنامجه السينمائي الحاضن للسينما التجريبية
والعالمية. ولكن على الرغم من أن عمر هذه المؤسسة مئة سنة، إلا أنها لم
تقدّم من قبل أي برنامج سينمائي عربي. "خرائط الذات" هو أول برنامج عربي في
تاريخ المتحف. البرنامج العربي الوحيد الذي نُظم هناك كان معرض فنون
تشكيلية في العام 2004. أعتقد ان هذا البرنامج قد يكون مقدمة لانفتاح على
حداثة المنطقة العربية تماماً كما حدث مع أميركا اللاتينية."
بالفعل تحمّس المتحف للمشروع ولكن تلك لم تكن سوى البداية أو الضوء الأخضر
لانطلاق عملية البحث عن الأفلام. "حصلت على منحة من مؤسسة "آندي وارهول"
تغطي نفقات السفر لاستكمال البحث والعثور على الأفلام في مصر وسوريا ولبنان
وفلسطين والعراق والمغرب والجزائر". لم تكن العملية سهلة لأسباب كثيرة
أولها إشكالية التعبير نفسه "السينما التجريبية": "هذا التعبير سائد في
أوروبا. في أميركا، نعثر أكثر على تسمية سينما شخصية أو ذاتية. في العالم
العربي، تختلط التعريفات. فهناك سينما المؤلف بالدرجة الأولى مع شيء من
التجريب أحياناً والكثير من الذاتية. لكل بلد عربي تجربته الخاصة المرتبطة
بتكوينه الإجتماعي والسياسي والثقافي والحقبة السياسية التي كان يمرّ بها."
البحث
إن ذلك الإختلاف في التجربة السينمائية بين بلد عربي وآخر استناداً إلى
تكوينه وصراعاته حتّم على سلطي توسيع دائرة البحث: "أثارت تسمية "سينما
تجريبية" ردود فعل مختلفة بين بلد وآخر. في الجزائر مثلاً، بدا السؤال عن
أفلام تجريبية عادياً ومفهوماً نظراً إلى الإرث السينمائي الكبير الذي
تمثّل بسينماتيك الجزائر. كانت الأخيرة محوراً حقيقياً للعالم العربي
وإفريقيا وسينما الحركات التحريرية. سينما أميركا اللاتينية على سبيل
المثال وجدت بيتاً لها في الجزائر."
في مصر، لم يلقَ سؤال سلطي عن أفلام تجريبية الصدى نفسه. فالتجارب في هذا
الصدد قليلة جداً وغير متداولة أو غير دقيقة: "شادي عبد السلام هو
السينمائي المصري الأكثر ارتباطاً بفكرة التجريب ولكن فيلمه الروائي اليتيم
"المومياء" ليس تجريبياً بل ينتمي إلى سينما مؤلف من الطراز الأول. وفوق
ذلك أفلامه غير متداولة واسمه معروف أكثر من تجربته السينمائية."
هكذا عدّلت سلطي خطّتها ليشمل بحثها مجموعة تسميات ومصطلحات سينمائية:
سينما مؤلف، ذاتية، غير سردية، متمرّدة، مغايرة للسائد... ولكن بحثها قادها
إلى أكثر من اكتشاف: "جلست مع صلاح مرعي السينوغراف ومصمم الديكورات الذي
اشتغل على "المومياء". عرفت منه أن وزير الثقافة ثروت عكاشة دعم تأسيس مركز
الفيلم التجريبي في العام 1969 الذي تولى عبد السلام إدارته. ولكن المركز
عاش ثلاث سنوات فقط. الخطوة كانت جريئة لاسيما أنها جاءت في أعقاب النكسة.
ثم عثرت على فيلم "صيف 70" لناجي شاكر الذي درس السينما في إيطاليا وأنجز
فيلمه اليتيم "صيف 70" عام 1970 في إطار مشروع تخرّجه. قُدم الفيلم في مصر
في عرض واحد فقط وانتقل بعده شاكر إلى مسرح الدمى".
في سوريا، شهدت السينما أجرأ تجاربها بين منتصف الستينات وأوائل الثمانينات
وهي "مرحلة الثورات والإنقلابات. تجربة السينما التجريبية تنتهي عندما لا
تعود الأنظمة قادرة على أن تتحمّل التعبير الثقافي المعارض. اخترت من سوريا
فيلم "اليازرلي" (1972) للمخرج العراقي قيس الزبيدي وهو الفيلم الروائي
الوحيد الذي قدّمه بين مجموعة من الأفلام الوثائقية قبل أن يتحوّل إلى
التوليف والتأريخ والكتابة السينمائية. اللافت في هذا الفيلم انه فيلم
تجريبي إنما من صميم المعيش."
وتجد سلطي التجربة السينمائية اللبنانية مثيرة للإهتمام ذلك "أن لبنان كان
في فترة الستينات وأوائل السبعينات غارقاً في إنتاج أفلام تجارية هي نسخ
سيئة عن الافلام التجارية المصرية. ولكن مع انفجار الحرب الأهلية، تشكّل
وعي آخر لدى جيل من السينمائيين مسيّس. كأنه عندما احترق ذلك "الديكور"
بفعل الحرب، وجدت السينما الجادة طريقها وصارت تحكي بلغة الذات."
تختلف التجربة السينمائية الفلسطينية في هذا الإطار إذ من الصعب الحديث على
حركة سينمائية في فلسطين الستينات. "فقط عندما أصبحت أدوات السينما أكثر
ديمقراطية بدأت الموجة واصبحنا نقع على تجارب جريئة تبحث عن لغة واسلوب
للتعبير عن واقع الإحتلال المستمر".
بناء السياق
تمخّضت عملية البحث للمرحلة الأولى عن ستة وعشرين فيلماً. من فلسطين، عرضت
أربعة أفلام لإيليا سليمان: "إرتباك" (2007) و"الزمن الباقي" (2009) و"سجل
إختفاء" (1996) و"يد إلهية" (2002) إلى "ميناء الذاكرة" (2009) لكمال
الجعفري. ومن لبنان، قدم المخرجان خليل جريج وجوانا حاجي توما أربعة من
افلامهما المشتركة: القصير "رماد" (2005) والوثائقي "الفيلم المفقود"
(2003) والروائيان "يوم آخر" (2005) و"بدي شوف" (2008). كما عُرض "أشباح
بيروت" (1998) لغسان سلهب و"شيوعيين كنا" (2010) لماهر أبي سمرا. من سوريا،
عرض البرنامج شريط قيس الزبيدي "اليازرلي" (1972) وفيلمي عمر أميرالاي
"الحب الموؤود" (1985) و"مصائب قوم..." (1981) وشريط هالة العبد الله "أنا
التي تحمل الزهر إلى قبرها" (2006). إلى "صيف 70"، تضمّن البرنامج أفلاماً
مصرية أخرى هي "المومياء" (صور عام 1969 وعرض في العام 1973) والقصير
"الفلاح الفصيح" (1970) لشادي عبد السلام و"سياحة داخلية 2" (2009) لمها
مأمون. من السينما الجزائرية، عرض "وقف إطلاق نار" (2003) لأحمد زير
و"أبناء الريح" (1981) لابراهيم تساكي و"الرجل الذي كان ينظر إلى النوافذ"
(1986) لمرزاق علواش و"ولو في الصين" (2008) لمالك بن اسماعيل. أما السينما
المغربية فتمثلت بفيلمي مؤمن سميحي "الشرقي، الصمت العنيف" (1975) وهشام
عيوش "شقوق" (2010). ومن العراق عرض الفيلم الوثائقي "الحياة بعد السقوط"
(2008) لقاسم عبد.
كان واضحاً منذ البداية بالنسبة إلى المبرمجين ضرورة المزج بين التجارب
السينمائية القديمة والحديثة للقول ان الأخيرة هي ابنة تاريخ ومنطقة وإرث
وليست وليدة اللحظة. بعد مرحلة البحث، اصبح ذلك ضرورة وإن فقط بفضل العنوان
العريض الذي يجمع تلك التجارب تحت مسمّى "مخرجون عكس التيار".
"الفكرة الأولية كانت تقديم 25 فيلماً ووضع برنامج لكل بلد على حدة وفقاً
لترتيب جغرافي وزمني. ولكن بعد اطلاع يوتيه (جنسن) على الأفلام اقترحت أن
نقسّم البرنامج على ثلاث سنوات وأن نرتّب الأفلام وفقاً لتيمات مازجين
الزمن والجغرافيا. أتاح هذا الترتيب اكتشافات مذهلة. فحين تجاورت الأفلام،
نشأت بينها حوارات عبر الزمن والجغرافيا. حوارات لم تحدث بالفعل ولكنّها
مفترضة تقوم على حساسيات مشتركة ومخيلات تخاطب بعضها البعض. لقد حقّق هذا
البرنامج السينمائي الصلة بين جيلين في حوار متخيّل بين أجيال وداخل
جغرافيا."
تعلّق سلطي أهمية كبرى على جوانب أخرى لبرنامج "خرائط الذات: التجريب في
السينما العربية منذ الستينات وحتى الآن" إذ تجد فيه "عملية تأريخ للحداثة
بمعنى كشفه لتاريخ جديد للسينما الحديثة. فمن خلال هذه الأفلام وتواريخ
إنتاجها، نفهم تأثير التيارات السينمائية في العالم على السينمات العربية:
الموجة الجديدة وتأثيرها على السينما الجزائرية، أفلام تاركوفسكي وتأثيرها
على السينما السورية."
أتاح الحوار بين سلطي وجنسن مساحة نقاشية خصبة "هي الآتية من خلفية
سينمائية واسعة عثرت على صلات غير متوقعة بين أفلام عربية وأخرى أجنبية.
فحين شاهدت "تحيا يا ديدو" لمحمد زينات وهو أول فيلم جزائري أنتج بعد
الثورة بطلب من البلدية وجدته منتمياً إلى السينما البرازيلية. أما أنا
فذكّرني بأدب الستينات ولوحاتها التشيكلية. بنفس المعنى، يمكن أن نشعر أن
فيلم مرزاق علواش "الرجل الذي كان ينظر إلى النوافذ" قريباً من السينما
الروسية. وبين أفلام إيليا سليمان وشريط قيس الزبيدي سؤال عام مشترك حول
كيفية تعامل السينما مع الظلم ومخيلة المظلومين إذا نطقت."
أما تقديم البرنامج في ثلاث مراحل وعلى امتداد ثلاث سنوات فمردّه إلى
العثور على تمويل إضافي لترميم بعض الأفلام. "من خلال "أفيردا" استطعنا في
المرحلة الأولى ترميم فيلم "صيف 70" ليكون أول فيلم عربي يدخل أرشيف متحف
الفن الحديث. واستفدنا من قيام المركز السينمائي المغربي بترميم ستة أفلام
مغربية أنتجت بين ستينات وسبعينات القرن الماضي. وحصلنا على بعض الأفلام من
المركز السينمائي الوطني في فرنسا ومن المركز الثقافي الجزائري. ولكن
الطريق طويلة وجزء من أهدافنا في "آرتي إيست" جمع تلك الأفلام وترجمتها
ونقلها إلى "ديجي بيتا" و"دي.في.دي" لعرضها حول العالم."
فكرة التجريب التي انطلق البرنامج منها قبل أن يتسع ليشمل أفلاماً أنجزت
عكس التيار، أتاحت لتجارب الفيديو أن تجد مكانها الطبيعي على اللائحة:
"المسافة بين السينما التجريبية وفن الفيديو مموّهة. الفيديو هو إحدى وسائل
التعبير الحرة بالنسبة إلى المخرجين العرب الشباب اليوم."
التحوّلات
صحيح أن برنامج "خرائط الذات: التجريب في السينما العربية منذ الستينات
وحتى الآن" يسلّط الضوء على تجارب سينمائية خصبة إلا أنه في الوقت عينه
يسجّل انكسارات عدة ويدفعنا إلى مساءلة تجارب مجهضة وتاريخ سينمائي متعثر:
"ثمة جانب محزن في كل تلك الإكتشافات متمثّل في انكسار جيل. بعض هؤلاء
السينمائيين المجرّبين والمبتكرين أكمل بشكل أو بآخر. والمؤسف أن معظمهم
توقف عن العمل وصار منسياً. ولكن في المقابل، تتيح هذه التظاهرة اكتشافات
صغيرة من نوع المكانة النوعية التي باتت تحتلها المرأة في مجال صنع الأفلام
بين الستينات واليوم. يحملنا البرنامج أيضاً على فهم جيل اليوم أكثر وعلى
تقدير شجاعته وجرأته وربما "وقاحته" في كسر القوالب."
عرض جزء من البرنامج في الدورة الأخيرة لمهرجان أبوظبي السينمائي وسينتقل
جزء منه أيضاً إلى متحف "تايت مودرن" في لندن كما إلى بلدان عربية وأجنبية.
المستقبل اللبنانية في
19/11/2010
ستة عروض لفيلم هادي زكاك في سينما "متروبوليس":
"درس في التاريخ" في أروقة السياسة والتربية والمواطنة
ريما المسمار
منذ سنوات، يعمل هادي زكاك على أفلام وثائقية واقعية. يواكب تحولات المجتمع
اللبناني المتسارعة منذ العام 2005 بأفلام وثائقية، ينجزها لمحطات فضائية
تواكب الحدث وتصطاد المحاور الساخنة. هكذا تناوبت أفلامه على تناول نشوء
حركتي 8 و14 آذار في "حرب من أجل السلام" وسبر أغوار الطائفتين السنية
والشيعية على خلفية التحولات الأخيرة في "اصداء سنية من لبنان" و"أصداء
شيعية من لبنان". ولكن ربما يكون في جديده "درس في التاريخ" قد حقق شيئاً
مختلفاً نظراً لأهمية الموضوع غير المتداول. من كتاب التاريخ المدرسي في
المدارس اللبنانية، يدلف زكاك الى أروقة السياسة والتربية والمواطنة في
لبنان ويكشف حقائق مروعة من خلال شهادات عدد من التلاميذ الذين يروون
التاريخ من منظور الانتماء الديني والحزبي لعائلاتهم. لعل العنصر الغائب عن
الفيلم والمثير للاهتمام هو عدم غوصه على كتاب التاريخ الموحد الذي أقر قبل
سنوات من دون ان يتم العمل به. ماذا يحتوي الكتاب الجديد؟ هل يتناول الحرب
الاهلية؟ أسئلة قد تشكل مدخلاً لجزء ثانٍ ربما أو لدراسات وتحقيقات صحافية
حول موضوع شديد الخطورة والتعقيد. بخلاف أفلامه السابقة، ليس "درس في
التاريخ" موضوعاً حدثياً أو آنياً. بل انه موضوع قديم لم يتم تناوله، على
الرغم من أهميته، من قبل في السينما على الأقل. انه موضوع او معضلة كتاب
التاريخ المعتمد في المدارس اللبنانية منذ العام 1970 والذي يتوقف عند
مرحلة جلاء الجيوش الفرنسية عن لبنان. وعلى الرغم من صدور مرسوم بتوحيد
كتاب التاريخ المدرسي الا ان ذلك لم يحدث حتى هذا اليوم. لا يوضح الفيلم ما
اذا كان كتاب التاريخ الجديد الموحد سيتطرق الى التاريخ الحديث للبنان.
فالمشكلة هنا مشكلتان: الاولى تتمثل في تعدد كتب التاريخ المعتمدة في
المدارس والثانية هي خلو المنهاج الدراسي من اية إشارة الى تاريخ لبنان
الحديث. من هذا المدخل الذي قد يبدو أكاديمياً بحتاً لغير العارفين لتركيبة
البلد وتاريخه، يدخل الفيلم في فئات المجتمع اللبناني وانقساماته الحادة
التي لا تحكم حاضره فقط بل تملي عليه أيضاً نظرته الى التاريخ ورجالاته.
والأنكى من ذلك ان تلك الرؤية يتوارثها الأولاد (معظمهم تحت الـ15 سنة)
ويطلقونها ثوابت غير قابلة للتشكيك او النقاش. هكذا تؤكد الفئات الشيعية أن
أهم شخصية وطنية في تاريخ لبنان هي "الخميني" بينما ترى المارونية ان "بشير
الجميل" هو الأهم وقس على ذلك. يقوم الفيلم على مجموعات مقابلات مع الطلاب،
يطرح عليهم أسئلة شائكة عن اصولهم الفينيقية ورؤيتهم للحرب الاهلية ونظرتهم
الى الدول الصديقة للبنان... تأتي الإجابات منسجمة تماماً مع خلفيات
الطلاب. وإمعاناً في تثبيت ذنبهم في ما آل اليه أولادهم، يحاور الفيلم بعض
الأهالي ليقول ان جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتقهم. على الرغم من
المفارقات الساخرة والكوميدية ومحاولات زكاك الحفاظ على إطار بحثي موضوعي
من خلال إطلالاته المتفحصة لبعض الأخطاء الوارد في كتب التاريخ او استشهاده
بآراء متخصصين حول مساوئ المناهج المتبعة، يثير الفيلم الذعر في النفوس على
كل الأصعدة. بخلاف أفلام زكاك السابقة عن الطائفتين الشيعية والسنية وما
قدمتاه من نماذج طائفية متحجرة حيث تعلن تلك الشخصيات مواقعها الطائفية من
دون اي تردد، لا يفقه هؤلاء الاطفال شيئاً مما يتبنونه. فإذا كان وقت
التغيير قد فات جيل الحرب، فأي عمل دؤوب وممنهج يمكن ان ينقذ الجيل المقبل
من أفكار أهله المتجذرة؟! شريط يقضي على آخر بصيص أمل، إن وجد أصلاً، في ان
يكون مستقبل هذا الجيل مختلفاً. فلندع جانباً أساليب التدريس البدائية التي
تظهر في الفيلم والمعلومات المغلوطة التي يتفوه الاساتذة بها والنماذج
المقولبة التي يقدمونها كأشخاص لتلامذتهم.. فلندع كل ذلك جانباً ولنتأمل
فقط في كيفية صوغ التاريخ البعيد والقريب لهذا البلد بما يقدم صورة حقيقية
لهذا الجيل.
ولكن من سيكتبه؟ بشيء من المرارة وعلى قاعدة آخر الدواء الكي، ربما يجدر
بنا ان نطالب، انطلاقاً من فيلم زكاك، بأن يكون ما يتفوه به هؤلاء الطلاب
واساتذتهم في الفيلم سبباً كافياً لإلغاء مادة التاريخ كلياً من المنهاج
الدراسي لبعض العقود ريثما يتشكل جيل من دون تاريخ، عله بذلك يتطهر من
ضغائن أسلافه وأحقادهم.
المستقبل اللبنانية في
19/11/2010
عودة الى كلاسيك السينما (2):
كازابلانكا
حميد مشهداني من برشلونة
تمر هذه الايام الذكرى 68 لعرض فيلم “كازابلانكا” الذي يعتبر من جواهر
تأريخ السينما. الكتابة عن هذا الفيلم تمثل معضلة كبيرة لاي كاتب، رغم
سهولة الكتابة عنه من جانب اخر، لان هذا الانتاج الكلاسيكي بمرور السنوات
صار “أيقونة” لمحبي وهواة السينما منذ عقود، رغم ان مراحل انتاجه كانت
متعثرة ومرتبكة، لان شركة “وارنير” التي كانت تنتج أكثر من 50 فيلما كل عام
كانت تشك في جدوى انتاجه لانه في البداية كان عملا مسرحيا لم يصل خشبات
المسرح، وبعدها صيغ “كسيناريو” تداخت فيه روؤس مؤلفيه، فميزانيته كانت
محدودة جدا، وأثناء التصوير أحتار ابطال الفيلم في أمرهم، لان “السيناريو”
كان يرتجل كل يوم، وما كان يحفظوه من الجمل الليلة الماضية لم يكن لينفع
صباح اليوم التالي، ومن جميع جوانب انتاجه كان نوعا من الاضطراب اليومي مما
جعل “وارنير” اتخاذ قرار وضع نهاية لهذا المخاض المتعب الذي لم يكن احدا من
المساهمين فيه على يقين كيفية انتهائه، وحسم الفيلم بتصوير نهايتين
مختلفتين، ولحسن الحظ النهاية التي نراها الان، وباعتقادي هي كانت الافضل،
وتمثل قمة الانفعال، خصوصا في آخر دقائق الفيلم.
قصة الفيلم كانت مليئة بالعثرات والمتاعب، ففي أصله كان عملا مسرحيا
كتب من قبل “موراي بارنيت” و“جوان أليسون” أثناء سفرة الى “فيينا” حيث
أستلهموا الفكرة الاولى للمسرحية، وفي سفرة ثانية الى جنوب فرنسا نضجت
الفكرة بعد زيارة أحد مقاهي ساحل الرفيرا المتوسطي، عازف البيانو الاسود
كان ايضا من العناصر المهمة في إعادة كتابة المسرحية التي رفضت في “برودواي”،
وموضوعها الرئيسي هو مشكلة الهاربين من الحروب باحثين عن ملجئ آمن في اي
بلد اخر، وهذا ما رأيناه في العديد من افلام تلك المرحلة المظلمة من تأريخ
أوربا مثل “الرجل الثالث” الذي اخرجه كارول ريد وقام ببطولته “اورسون ويلز”
عن رواية “غراهام غرين” الذي كتب السيناريو وافلام اخرى انتجت في تلك
الفترة البائسة عكست مشكلة اللاجئين ومحنتهم، والتي مازال يعانيها الملايين
هربا من القمع والاضطهاد.
عنوان المسرحية الاصلي، كان “الكل يأتي الى مقهى ريك” المرفوضة، ولكن
أحدى قارئات “وارنر” عثرت على النص صدفة، واقترحت على رئيسها انتاجه كفيلم،
وهذا “هال واليس” الذي سأتحدث عنه فيما بعد، تحمس كثيرا للفكرة وهو المشهور
بدقته وحسن رؤيته، فسارع بشراء حقوق المؤلفين، ولكن بشروط عديدة مثل تغيير
العنوان الى “كازابلانكا” وحرية التصرف في الشخصيات، والمواقع.
فمنذ البداية، كما ذكرت سابقا، كان العمل مليئا بالعثرات، الاولى منها
كان اختيار أبطال الفيلم الذي كان موضع خلاف شائك بين مديري “شركة وارنر”
واول المرشحين كان “رونالد ريغان” الذي لم يتم اختياره لحسن الحظ، أما
الدور النسائي فقد رفض من قبل الكثير من شهيرات تلك الفترة من الممثلات،
بسبب أرتباك “السيناريو“ وأخريات طلبن اجورا غير معقولة، مثل الممثلة
الفرنسية “ميشيل مورغان” التي طلبت 55000 دولار، وانتهى الدور الى النجمة
السويدية الشابة “أنجريد بيرجمان” مقابل 25000 دولار، والتي كتبت في
مذكراتها، ”كنا نصور يوميا، والسيناريو يتغير كل لحظة، وكل يوم كان كما
البدء من الصفر، في كل صباح كانوا يقدمون شيئا جديدا ولم يكن احدا منا يعرف
اين تحدث الامور، و أين تنتهي، وكنا نشعر غرباء في أدوارنا، ولم نعي قيمة
العمل مما سبب الارتباك بين الممثلين، وأنا كنت اسأل المخرج “مايكل كورتيز”
عاشقة من انا؟، وجوابه كان دائما، لا أدري لحد الان، وما عليك الا القيام
بدورك في هذه الاثناء”.
كان الفيلم يصور ارتجالا كل يوم، وحتى المخرج لم يكن يعرف اين ستكون
نهايته، فالخلط والتشابك كان سمة العمل اليومي في كل مسارات الانتاج
والاخراج، والتناقضات ايضا، جعلت منه وليدا فريدا، لذالك اعتبرته “أكاديمية
السينما الاميركبة” ثاني احسن فيلم في التأريخ بعد “المواطن كين” لاورسون
ويلز. يقال ان رئيس “المونتاج”للفيلم“ أوين ماركس” هو كان وراء نجاحه وهو
الذي اختلطت عليه الامور اثناء التقطيع والتركيب، بسبب كثرة اللقطات
المرتجلة وتعددها، وهذا جعله في حالة غضب دائم مع الجميع، ورغم ذالك كان
واحدا من المرشحين لجائزة الاوسكار.
مايكل كورتيز، 1888 -1962 المخرج، في العشرينيات من القرن الماضي كان
ممثلا رائعا في بلده “هنغاريا” لكي يبرع في الاخراج فيما بعد، خصوصا بعد
هجرته الى “فيينا” حيث اخرج العديد من الافلام الناجحة ومما اثار اهتمام
صناعة السينما في “هوليوود” فاستدعته “وارنر” وهاجر مرة أخرى وفي أميركا
غير اسمه الهنغاري الصعب اللفظ، وتأخر كثيرا في تعلم اللغة الانكليزية الذي
جعله الوقوع في مطبات مضحكة. ورغم براعته في الاخراج فهو كان فريسة سهلة
لكل المنتجين، وكان يقبل اي تكليف يوصى به، ورغم ترشيحه لجوائز الاوسكار 4
مرات في السابق، فأنه لم يحصل عليه الا على فيلم “كازابلانكا”، حيث كان
أخرج العديد من الافلام المشهورة مثل “مغامرات روبن هود” 1936، و”الكابتن
بلود” في نفس السنة تقريبا و”صقر البحر” 1940 وافلام عديدة اخرى.
كما ذكرت أعلاه، دور المنتج “هال واليس”1899-1986 كان حاسما في صناعة
الفيلم، فهذا الروسي -البولوني الاصل والذي مارس كل المهن الصغيرة منذ
طفولته بسبب الفقر المدقع الذي كانت تعيشه عائلته، وصار اخيرا مشرفا على
أحدى دور السينما المتوسطة حيث اثبت مهارة فريدة، وهذا لفت أنتباه ”جاك
وارنر” الذي سرعان ما تعاقد معه ليضمه الى فريق عمل الشركة وبسعة الضوء صار
المنتج الاول للشركة، وهو الذي اختار الفيلم وأشرف على كل تفاصيله من
الازياء الى الديكورات، والمعدات الاخرى، وكان مراقبا على كل شئ في الانتاج،
واثبت جدارة نادرة وجرأة في اختيار النصوص، والتنبؤ بنجاح اي عمل كان هو
يختاره.
أما بطل الفيلم “همفري بوغارت” 1900-1957 الذي كان قد لعب ادوارا مهمة
في أكثر من 30 فيلما قبل “كازابلانكا” صار أسطورة بعد وفاته، ومعظم افلامه
تعتبر الان من أفضل ما أنتجته “هوليوود” بين الاربعينات والخمسينات، مثل
“الصقر المالطي” لـ”جون هيوستون” و”الحلم الابدي” الذي اخرجه “هيوارد هيوز”
وكان بطل معظم روايات “جاندلر” وهاميت”البوليسية التي اقتبست سينمائيا.
وصار واحدا من أيقونات هوليوود، شاهدت كل افلامه مرات عديدة ووفي كل مرة
كنت أكتشف اشياء جديدة رغم اختلافه الجمالي الذي اعتادت صناعة السينما
الاصرار عليه، فكان قصير القامة، قاسي التعابير، وذو ميل للقبح احيانا، الا
أن الكاميرا كانت تحب وجهه، وهنا تكمن عظمة بعض النجوم.
فهو عمل تحت أشراف أكبر مخرجي هوليوود، من بينهم، بجانب الذين ذكرتهم
سابقا، “نيكولاس راي “ و”ادوارد ديمتريك" و"بيلي وايلدر” و”مانكفيتش"
واخرون ومن الصعب تلخيص 30 عاما في العمل السينمائي، حيث اشترك وقام ببطولة
أكثر من 70 فيلما ويذكر دائما موقفه الشجاع ضد السيناتور الاميركي
“ماكارثي” المشهور بقيادته حملة “محاكم التفتيش” السيئة الصيت ضد المثقفين
والفنانين، المتهمين بالشيوعية او التعاطف معها، خصوصا المشتغلين في صناعة
السينما، وكان على الضد من “رونالد ريغان” رئيس نقابة الممثلين آنذاك،
والذي تعاون وبحماس في هذه الحملة القذرة التي كانت نتائجها مريعة بالنسبة
للعديد من الممثلين من أعضاء “الحزب الشيوعي الاميركي” والمتعاطفين معه،
فمنهم من حرم من العمل، وآخرون اعتزلوا طوعا، والمأساوي، ان بعضهم فضل
الانتحار، واختفوا عن الانظار ونساهم الملايين.
في هذا الفصل من حياته لعب أجمل ادواره بسلوك أثبت اخلاصه لمواقفه،
وبدون خوف فسخر علنا من “ماكارثي” وأتهمه بالهلوسة العقلية، والكحولية،
وادمانه على كل الممنوعات كما ثبت فيما بعد. يؤدي “بوغارت”، في هذا
الفيلم، اجمل ادواره، مبتعدا عن تلك التي أعتاد عليها كمحقق خاص في العديد
من الافلام البوليسية، فهنا يمثل شخصية فوضوية و “رومانتيكية” ومغامرة
قريبة من قضايا عصره، هاربا من الاحتلال النازي لباريس ذاهبا الى شمال
افريقيا مخدوعا بقصة حب فاشلة، حيث يؤسس المقهى الشهير في “كازابلانكا”
الذي كان قبلة المهاجرين وضحايا الحرب الطاحنة التي كانت تدور في كل اوروبا،
ليجد نفسه ثانية وجها لوجه مع ماضيه، وموعد جديد مع حب ضاع بسبب ذلك
الاحتلال ليتورط من جديد في مواجهة النازبة، التي كانت تراقب “المقهى” عن
كثب، بسبب ارتياده الدائم من قبل اللاجئين الذين كانوا يحلمون بالهرب الى
أميركا عن طريق “لشبونة"، ناهيك بأنه كان وكرا للخلايا المعادية للنازية.
اما البطلة “انجريد بيرجمان” 1915-1982 التي رفعها هذا الفيلم الى
القمة، ففي بدايتها كانت ممثلة شابة في بلدها “السويد” ثم هاجرت الى اميركا
وأنتهت في عاصمة السينما “هوليوود” وقامت ببطولة العديد من الافلام المهمة
تحت اشراف أشهر المخرجين، مثل “ضوء يحتضر” و”لمن تقرع الاجراس” و”جان دارك”
ومع “هيتشكوك” مثلت 4 أفلام، وقد فازت على 3 “أوسكار” بجدارة.
في هذا الفيلم، نلاحظ تعدد جنسيات العاملين فيه، كما تعدد جنسيات
زبائن “مقهى ريك” فالبطلة سويدية، والبطل الثالث زعيم المقاومة “بول
هينرييد” من أصل نمساوي ابنا لعائلة “نبيلة” من فيينا، وهو نفسه كان لاجئا
سياسيا في الواقع و “كلود رينز” الذي قام بدور الضابط الفرنسي الفاسد كان
بريطانيا، اما “كونراد فيدت” الذي ادى دور رئيس “الغستابو” كان الماني
الاصل. اما الممثل الرائع “بيتر لور” الذي اكنشفه المخرج “فريتز لانغ”
فأصله جيكوسلوفاكي، وأخيرا الممثل الذي قام بدور المتلاعب في السوق السوداء
“سيدني غرينستريت” كان بريطانيا ايضا.
مرة اخرى أعود الى موضوع النقاد “الفاهمين في السينما” الذين اعتبروا
بعد عرضه نوعا من الضحك على ذقون المتفرجين، واتهموه بالسذاجة، والبساطة،
ليعودوا بعد أجيال معتبرينه “أيقونة” من جواهر تأريخ السينما.
الفيلم في النهاية رائع من ناحية الاخراج، والأداء، توليف كل ماهو
جميل في صناعة السينما، واشتهرت جمله التاريخية وأغنيته العاطفية "بينما
الزمن يمر" التي تعتبر، الى اليوم، من أجمل الاغاني السينمائية، وقد غناها
دولي ويلسن والفها ولحنها هرمان هومفيلد... وطبعا لاننسى الموسيقى
التصويرية الرائعة التي وضعها الموسيقار السينمائي الشهير ”ماكس شتاينر”
الذي عرف كيف يطعم موسيقى الحدث الدرامي بمقاطع من النشيد الوطني الفرنسي
المارسييز.
إيلاف في
19/11/2010 |