تاريخ يمشى على قدمين.. هكذا بدا لى الطاهر الشريعة حين التقيته، لأول مرة،
فى بداية السبعينيات فى القرن الماضى، فى مهرجان دمشق السينمائى. مظهره يدل
على مخبره: رأس كبير بملامح وجه شديدة الوضوح، كأن نحاتا مرهفا حددها من
مادة ثمينة. لحية طويلة، بياض شعرها أكثر من سوادها، كثة، مشعثة، تلتف حول
الذقن والصدغين وتتصل بفروة الرأس المجللة بالشيب.. تسلل الزمن إلى الجبهة
وحول الفم فترك خطوطا غائرة. حاجبان غزيرا الشعر، يعلوان عينين غائرتين
تنطق نظراتهما النفاذة بالبصيرة والمحبة. أنف مستقيم، فوق مساحة غير قصيرة،
يحتلها الشارب الموصول بشفتين منفرجتين عن ابتسامة لا تتلاشى مهما غضب صاحب
الوجه.. حبات العرق دائمة التفصد، سواء فى الصيف أو الشتاء. وفيما يبدو أن
الشريعة تآلف مع تصبب العرق فلا يحاول تجفيفه. أو ربما أيقن أن لا فائدة من
وقفه، فتركه لامعا على بشرته.. الطاهر، غالبا، يرتدى جلبابا تونسيا، ناعما
فضفاضا، مطرزا تطريزا رقيقا. يحمل فى يده حقيبة كبيرة فاغرة الفم، يطل منها
عنق زجاجة مياه فضلا عن حوافى كتب ومجلات وجرائد.
كم أحببته بهذه الطلعة؟.. يقبل عليك بشوشا، حارا، ليواصل حوارا قد يكون
انقطع من سنوات فى أحاديثه البالغة الثراء، يمتزج الماضى بالمستقبل، ويتوحد
«العام» بالخاص، فالتاريخ عنده ليس مجموعة أحداث ومواقف قديمة، ولكنه وعى
مدعم بتجارب شخصية، ناجحة وفاشلة، يتأملها معك لتدرك على نحو ما، ما ستأتى
به الأيام، من خير وشر. الطاهر الشريعة، لا يتأمل الأمور من نافذة معزولة،
ذلك أنه عاش حياته عضوا فاعلا، بقوة، ليس فى مجريات الأمور وحسب، بل فى
صناعتها.
حلم البداية
الطاهر الشريعة «5 يناير 1927 ــ 4 نوفمبر 2010»، ولد ببلدة «صيادة» التى
تطل على البحر وتزخر بتراث شعبى يتمثل فى قصص ذات طابع أسطورى، وأزياء
ومشغولات محلية تماما، فضلا عن أغان فلكلورية، وبعد استكمال تعليمه الثانوى
والجامعى عمل مدرسا فى إحدى مدارس «صفاقس»، العامرة بالعروض السينمائية،
ولأن الطاهر انخرط فى الحركة الوطنية ضد الاحتلال، فإنه تسلل إلى «نادى
السينما» الذى يهيمن عليه الفرنسيون، ولاحقا، مع أواخر الخمسينيات، أنشأ «نادى
السينما للشباب بصفاقس بإدارة تونسية خالصة، حيث فتح الباب للسينما
المصرية».
لم يدافع الشريعة عن السينما المصرية دفاعا عاطفيا، لمجرد كونها ناطقة
باللغة العربية أو لوقوف مصر إلى جانب استقلال تونس، ولكن لأنه رأى فى
أفلامها ما يستحق اعتبارها من السينمات المهمة فى العالم. وفى مقال مطول،
أقرب للدراسة، كتبه الشريعة عام 1959، وقف بجرأة ضد الاستخفاف بالأفلام
المصرية ورفضها جملة وتفصيلا، واعتبارها مجرد «عويل ودموع وأغان ورقصات
بطن»، فمن قلب هذه السينما، رأى الشريعة بحسه الصائب، ما يثير الأمل ويستحق
الاحتفاء ــ وهنا ندرك دور الناقد المرهف الذى ينتبه إلى الشعاع المضىء وسط
العتمة ــ فالشريعة يرصد ملاحظتين على قدر كبير من الأهمية: الأولى تتمثل
فى محاولة الخروج من الأنماط المتكررة مثل «الميلودراما والهزل والأفلام
الغنائية»، إلى أنواع جديدة، ذات طابع مختلف كالنوع البوليسى وبلا تردد
يقول: «بعض الأفلام مثل «رصيف نمرة 5» أو «حميدو» أو «سواق نص الليل»، أو
«باب الحديد» نلاحظ فيها أن اللكمات والضرب بالمطرقة أو الخنجر، لا تقل
جودة عن أى مشاهد مماثلة نجدها فى أفلام الحركة التى تنتجها روما أو باريس
أو هوليوود».. وإذا كانت أحكام الطاهر النقدية تتسم بالدقة والوضوح فإن
تقييماته تنتبه عادة إلى الجانب الذى من الممكن أن يكون خفيا، فعنده «خالد
بن الوليد» لحسين صدقى «لا يخلو من التهريج فى حد ذاته. إلا أنه يشهد
بالرغبة الأكيدة فى الخروج من الأنماط القديمة البالية».
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتلك القضايا الجديدة، المرتبطة بالواقع، التى
يثيرها مخرجون شباب ــ أيامها ــ مثل يوسف شاهين، صاحب «باب الحديد» و«صراع
فى المينا»، والأكبر من شاهين سنا مثل هنرى بركات فى «دعاء الكروان»، وصلاح
أبوسيف فى «الفتوة» وعقب ذكر الكثير من هذه الأعمال يعلن الشريعة بوضوح أنه
يهدف «لحث المتفرجين أن يكونوا أكثر عدلا فى تقديرهم». وبلهجة لا تخلو من
عتاب يتساءل «كم من طلبتنا ــ وبالأخص طالباتنا ــ شهدوا «إحنا التلامذة»
لعاطف سالم، أو «أنا حرة» لصلاح أبوسيف؟ كم من نسائنا المتحررات والمحاربات
أو حتى اللواتى يتزعمن الحركة التقدمية شاهدن «أنا حرة» الذى يمكن اعتباره
أداة حقيقية لنشاط النوادى والاتحادات والمنتديات النسائية المختلفة
وبنزاهة يعلن «هذه السينما هى سينمانا أكثر من أية سينما أخرى».. إذن، من
الإنصاف القول إن الطاهر الشريعة، تاريخيا، هو خط الدفاع القوى، للسينما
المصرية.
نجاح المشروع
بفضل طاهر الشريعة، انتشرت نوادى السينما فى طول تونس وعرضها، وانتشرت معها
الثقافة السينمائية، فعقب كل عرض، تندلع مناقشات بين الرواد، تحلل وتفسر
وتقيم. ومن هذه النوادى، ظهر معظم رجال السينما التونسية، مخرجين، نقادا،
ممثلين، وحتى منتجين. لذا، فإن فنانى تونس يعتبرون أنفسهم أبناء هذه
النوادى، ويعتبرون الشريعة، هو الأب الروحى.
الطاهر الشريعة يتمتع بنوع من الحيوية الذهنية، عقله لا يتوقف عن الخيال،
ذلك الخيال البعيد عن الأوهام، والمبنى على خبرة بالواقع ودراية
بالاحتياجات ومعرفة بالإمكانات والقدرات، لذا فإنه بعد تحقق حلم نوادى
السينما، بدأ يرنو إلى مشروع رائد، ليس على مستوى تونس فقط، لكن على
المستوى العربى والأفريقى. ولأنه يدرك موقعه تماما، تاريخيا وجغرافيا، هداه
تفكيره إلى تنظيم وإقامة «مهرجان قرطاج السينمائى» الذى يعتمد على دائرتى
السينما العربية، والأفريقية.
هنا تظهر فى الصورة شخصية أخرى، لا تقل طموحا عن شخصية الشريعة، وتوازيها،
ميلادا ونشاطا وإنجازا.. الشاذلى القليبى، المولود فى تونس قبل الشريعة
بعامين، ودرس فى مدرسة الصادقية التى درس فيها الطاهر، وانخرط فى النضال
الوطنى، وأسس وزارة الثقافة وتولى شئون وزارة الإعلام من 1961 إلى 1970،
وبلا تردد، بل بحماس، استجاب لمشروع «أيام قرطاج السينمائية»، ووقف إلى
جانبه ووراءه، كى يرى النور عام 1922، فيصبح أول مهرجان فى الدول العربية
والأفريقية، يقام بانتظام كل عامين، وله لائحة محددة وواضحة، واستطاع أن
يستمر، نابضا بالحياة، حتى يومنا هذا.
جدير بالذكر أن السينما المصرية بأفلامها ومخرجيها ونجومها ونقادها، تمتعت
بحضور دائم فى قرطاج، ويوم فاز «المخدوعون» بالطانيت الذهبى فى دورة 1972،
فوجئ مخرجه، توفيق صالح، أن الجمهور التونسى يعرفه تماما، من خلال أفلامه
التى عرضت فى نوادى السينما، كذلك الحال بالنسبة لصلاح أبوسيف، ناهيك عن
يوسف شاهين، الذى يهيم به عشاق السينما.. الكثير من أفلامنا فازت بجوائز
مرموقة، مثل «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب، «خرج ولم يعد» لمحمد خان،
«عفاريت الأسفلت» لأسامة فوزى، و«ميكروفون» لأحمد عبدالله.
حصاد
الطاهر الشريعة، فى عالم الكتابة، يتميز بأسلوب خاص، ناصع، يعبر عن مقاصده
بدقة، وطلاوة، ترجم الشعر من العربية للفرنسية، ومن الفرنسية للعربية، له
كتاب بالفرنسية، عنوانه «شاشات الثراء سينما التحرير فى أفريقيا»، وكتاب
آخر بالعربية، عنوانه «أيام قرطاج السينمائية، فيها وعليها»، أشرف على
إصداره الناقد الكبير، خميس خياطى، وفى سطوره تتجلى روح الدعابة التى لا
تفوت الشريعة، حتى فى أكثر المواقف تجهما، فالكتاب الذى يحكى عن أهم وأغرب
ما حدث فى المهرجان، خلال دوراته المتوالية، وإذا كان كاتبه، ومعه كل الحق،
يسرد أسماء من سلط قرطاج الأضواء عليهم، فى بداياتهم، مثل عثمان سمبين،
سليمان سيسى، خالد الصدويقى، محمد ملحى، محمد عبيد هندو، فإن الشريعة،
بصراحته يحكى عن وقائع قد لا يجرؤ على الاعتراف بها الآخرون، مثل ذلك
الإهمال الذى أدى إلى نسيان أحد وفود دولة أفريقية فى الفندق، مما جعل موعد
الطائرة المغادرة يمر، وكانت النتيجة بقاء الوفد إلى أن يحين موعد إقلاع
الطائرة التالية، بعد ثلاثة أيام.. وأصبحت المشكلة هى: من يدفع ثمن الغذاء
وتكاليف الإقامة فى الفندق؟
الشريعة، يعرف قدر نفسه، من دون غرور أو تواضع، ويدرك أنه من صناع التاريخ
الثقافى فى وطنه، ونحن جزء منه، لذا فإنه، فى كتابه هذا، يحدثك مباشرة
بقوله «أعلم.. كذا وكذا»، ولا يفوته أن يدعو لك، بقلب أب طيب «وقاك الله من
كل شر».. وهو، حين يحصى عيوب «قرطاج» يبدو وكأنه يدرك أن هذه العيوب ستغدو
أقرب للأمراض المتوطنة، المنتشرة، تظهر فى «أيام قرطاج» التالية وتنتقل إلى
معظم مهرجاناتنا العربية، ومنها، على سبيل المثال ما يتعلق بضآلة الوثائق
والمعلومات عن الأفلام التى يعرضها المهرجان، أصحابها، بلدانها، تاريخ أو
سوابق «سينماتها». ويعلق الشريعة «صحيح أن الحصول على هذه المادة ــ نشرات،
صور، ترجمات أشخاص، معلومات أخرى ــ من أفريقيا والوطن العربى يعد من
الصعاب.. ولكن أصح من ذلك أن المهرجانات الجادة ــ لا العابثة ــ استطاعت
دائما أن تحقق المطلوب بمعجزة بسيطة».
أما عن لجان التحكيم، فإن الشريعة يلاحظ «كل دورة من دورات المهرجان يصيب
تركيب اللجنة التسرع وقلة التروى إذا لم أقل الاستخفاف والانبهار بالنجومية
التى أهلا وسهلا بها فى المهرجان.. لا فى لجنة التحكيم».. بعد سنوات طويلة
من هذا الكلام، وأثناء تكريم الطاهر الشريعة، الجالس على كرسى متحرك فوق
خشبة المسرح، دار فى الصالة المشهد التالى: الصف الأول من المقاعد، عدة
كراسى مخصصة لأعضاء لجنة التحكيم، ومن بينها النجمة الصاعدة سلاف فواخرجى،
التى نسيت أنها عضوة، فى لجنة، وهيمنت عليها صورة النجمة المدللة التى تأمر
فتطاع. أرادت أن يقعد بجوارها زوجها، ولما لم يستجب لطلبها غادرت القاعة
غاضبة.. رحم الله الطاهر الشريعة.
الشروق المصرية في
10/11/2010
الرقابة في مصر تحذف مشاهد وعبارات في أفلام العيد
منعت أغنية عن الحشيش وفقرات عن الجنس والإرهاب
وعبارات عن
الوليد بن طلال
القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من أحمد الشوكي:
أصرت الرقابة على
المصنفات الفنية على حذف عبارات من الأفلام التي ستعرض في عيد الأضحى على
شاشات
السينما، فقامت بحذف أغنية 'دماغ قراقيش'، رغم اعتماد المنتج
عليها في فيلم 'محترم
إلا ربع' وقالت الرقابة ان الأغنية بها مصطلحات مستفزة تحرض الشباب على
تدخين
المخدرات، مثل 'يا حشيش عملولك شفرة وكله خلاص بقي في التوهان آه يا عيني
على ورق
البفرة وعلى الهواية والسلوفان ورجعنا نشيل الفلة وندور على
الكرتلة، أنا عامل دماغ
قراقيش علشان مبقاش فيه حشيش'، ولم تكن الأغنية هي النص الوحيد المحذوف من
الفيلم
الذي يقوم ببطولته محمد رجب وروجينا، فقد حذفت من الفيلم كل ألفاظ السباب
والشتائم
ومشاهد كذلك للتبول وعبارة 'مش هاترطش على القعدة'.
وتكشف العبارات المحذوفة مدى
التردي الذوقي في الأفلام المنتظر عرضها في موسم عيد الأضحى.
وقامت الرقابة بحذف
مشاهد لرجال الأمن في فيلم 'سعيد حركات' الذي يقوم ببطولته طلعت زكريا،
لأنها مشاهد
لا تليق مع المهام التي يقومون بها. يذكر ان هذا الفيلم تم تأجيله عدة مرات
بسبب
مرض زكريا.
وقد طالبت الرقابة ايضا بتغيير اسمه فأصبح وفقا لمراد الرقابة 'الفيل
في المنديل' وتدور أحداثه حول سعيد حركات الفكهاني الفضولي
الثرثار، الذي لا يسلم
من لسانه أحد ويقوم أحد الضباط بالاستعانة به في عملية في عمق إسرائيل
ليسافر معه
حتى يلفت انتباه المخابرات الإسرائيلية إليه فيستطيع الضابط أن يقوم
بمهمته، وفي
النهاية يتم تكريم سعيد حركات.
وطالبت الرقابة كذلك بتغيير اسم فيلم 'القنصل
الأمريكي' الذي يقوم ببطولته أحمد السقا وغادة عادل. وحذف جملة '90 ' من
المحطات دي
كافرة' ويقصد بها الفضائياتن وكذلك عبارة 'الفيزا دي يا ابني هي اللي حتحرر
فلسطين'. وحذف مشهد رشوة شرطي.
وطالبت الرقابة بإضافة مشهد في الفيلم يتم فيه
تأنيب القنصل للشاب على استغلاله صورة الإسلام للنصب عليه. وطالبت الرقابة
في فيلم 'فاصل ونواصل' بحذف جملة لبطله، كريم
عبدالعزيز، يوجهها للضابط وهي 'حسبي الله ونعم
الوكيل فيكوا يا كفرة يا ولاد الكلب' وجملة 'عليا الحرام من
ديني' و'الست بتصلي
بتصلي أيوه صح رقاصة'.
وتم تغيير اسم فيلم 'الحقنا يا ريس' الى 'صرخة نملة' وحذف
صفحات كاملة من السيناريو والحوار تهاجم أهالي المنوفية، وايضا
جملة 'ساحبهم في
إيدي زي البهايم'. وكذلك حذفت مشاهد للرقص المستفز على واحدة من أغاني كوكب
الشرق
أم كلثوم، وحذف عبارة يتهم فيها رجل عربي المرأة المصرية بأنها على السرير
شقية.
ويتحدث الفيلم عن السلبيات الناتجة عن بيع القطاع العام.
وطالبت الرقابة بتغيير
شخصية وزير الزراعة في فيلم 'دقي يا مزيكا الى مسؤول بوزارة الزراعة وجملة
'مفيش،
أصل الزيت غرق البنطلون'.
وعبارة 'النسوان بتتعامل بنظام ادفع، ترفع'. وكذلك
ورغم السماح بتصوير فيلم 'أنا بضيع يا وديع' الذي هو امتداد لإعلان يحمل
صبغة جنسية
حذفت مشهدا لضابط يدخن وهو يقول، ولا فيه حتة طرية، وكذلك حذف مشهد يسيء
لشخصية
الأمير الوليد بن طلال وعبارة اللحمة بتجيب فلوس الفن وحده ما
يأكلش' وقد نجا فيلم 'زهايمر'
لعادل إمام من مقص الرقابة.
القدس العربي في
10/11/2010
ثقافات / سينما
فيدريكو فيليني يكتب فيلم حياته سردا
محمد الحمامصي من القاهرة
ليس غريبا أن تأتي كتابة فيدريكو فيليني ساحرة ومدهشة، وهو الرسام الساخر
والصحفي وكاتب السيناريو والمخرج الأكثر توهجا وتألقا في تاريخ السينما
العالمية، بأفلام تعد من العلامات مثل "المتسكعون"، "الطريق"، "الاحتيال
وليالي كابيريا"، و"الحياة الحلوة".
كتاب فيليني الذي حمل عنوانا "كيف تصنع فيلما؟" وصدر أخيرا عن مشروع كلمة
للترجمة إحدى مبادرات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ينسج حياة فيليني،
كاشفا عن المرتكزات الأساسية لتكوينه الثقافي والفني والإنساني، والتي
انعكست بشكل واضح على أعماله، تلك المرتكزات التي منحتها له حيوية التفاصيل
والمشاهد والأمكنة والزمن والشخصيات التي عاشها، ولكونه يملك حسا فنيا
أصيلا اختزن أكثر الحيوات ثراء ليخلق ويشكل منها رؤيته الإنسانية والفنية،
حيث جاءت أفلامه حاملة لعوالم عاشها في طفولته وشبابه فضلا عن التجارب
والشخصيات التي لعبت دورا مؤثرا في تركيبته.
متى بدأ حلم السينما يجتاح فيليني بدأ "حين كنت في السابقة أو الثامنة من
العمر، أطلقت على زوايا فراشي الأربع أسماء صالات السينما الأربع في ريميني:
فولغور، أوبرا ناتسيونالي باريلا، سافويا و... ما اسم تلك الرابعة؟
السلطان، كنت أعتبر التوجه إلى الفراش عيدا، لم أكن أبتكر نزوات للبقاء
مستيقظا مساء فكان كل ما يقول البالغون حول المائدة يفقد سريعا أي اهتمام
من جانبي، كنت أركض ما أن أتمكن من ذلك إلى غرفتي، أنزلق تحت الغطاء بل
وغالبا ما كنت أضع رأسي تحت الوسادة، أغلق عيني وأنتظر بلا حراك حابسا
أنفاسي بينما يخفق قلبي، وفجأة وبصمت شديد يبدأ العرض، عرض فاتن على
الإطلاق ما هو؟ يصعب سرده أو وصفه، كان عالما، أوهاما براقة، مجرة من نقاط
مضيئة، كرات، دوائر مشعة، نجوما، شعلا، زجاجا ملونا، كونا ليليا براقا يكشف
عن نفسه في البداية بلا حراك ثم حركة تزداد توسعا وتأثيرا وكأنه دوامة
عملاقة، لولب براق، امتصني هذا الانفجار في دوار لم يكن يصيبني أبدا
بالعثيان، يستمر العرض لفترة يصعب تحديدها، لكنها طويلة جدا في كل
الأحوال".
شغف باكر للفن امتلأت به روح فيليني طفلا وشابا وكهلا، يسرده بشكل وأسلوب
ورؤية أخاذة، هو لا يكتب عن كيفية صناعة الفيلم، ولكن يكتب سيرته مع الفن
رساما كاريكاتوريا ساخرا وصحفيا وأخيرا كاتب سيناريو ومخرجا أحدث نقلة في
المعالجة الفنية السينمائية العالمية، بل يمكن القول دون تجاوز إنه يكتب
صناعة "فيليني"، يكتب عن هذا الصانع لتلك الأفلام الساحرة الشهيرة، يرصد
للتفاصيل الفنية المثيرة لملامح وتقاطيع عالمه: الشوارع، الكنائس، الرجال،
النساء، الأطفال، والمقاهي، يلتقط الظلال والألوان والأبعاد الأكثر عمقا
التي نعبرها ولا نراها رغم اقتحامها لنا، من هذه الشخصيات المدهشة التي
يرصدها شخصية رومانيا إغوات "كان يدبغ الجلود، عمل يقوم به بمهارة فائقة،
وذلك في ورشة هي في الواقع كهف بلا أبواب، يبقى طوال اليوم دون حديث إلى
أحد، عند عرض أفلام الحرب فقط، كان يتوجه إلى السينما في الثانية ليغادرها
في منتصف الليل منبهرا متحدثا إلى نفسه، كانت نوبات الجنون تصيبه بشكل
مفاجئ وكأنه سمع صوتا يأمره، يترك كل شيء على الفور ويرتدي إحدى بزاته
العسكرية الهجومية أو البحرية أو الجبلية "لديه الكثير منها من تلك الرثة
إلى الكرنفالية إلى جانب ترسانة من الخناجر والحراب والقنابل اليدوية ما
بين حقيقة وزائفة" ينزل بوابة ورشته وينطلق زاحفا كالقط على طول جدران
المنازل، حاملا بفمه خنجرا وممسكا بقنبلة يدوية، وصولا إلى الساحة، فيلقي
بنفسه أرضا ويبقى هكذا غارسا وجهه في الصخر الصواني دون حراك، متحدثا بصوت
منخفض جدا وفي حالة هيجان. الطونيون، الطونيون الملاعين، يقصد الألمان، ثم
ينهض عن الأرض مصدرا صيحة تشبه نهيق الحمار، ليبدأ الهجوم وسط عاصفة من
الطلق الناري وصخب القذائف، مع مزيد من اللعنات، والانفجارات، والانهيارات،
إلى الأمام يا سافويا، تحيا إيطاليا، وعند بلوغه مقهى راؤول يعلن التصفيق
وما يرميه به المتسكعون من الصودا انتهاء المعركة، يؤدي إغوات مبللا تماما،
التحية العسكرية مستديرا في جميع الاتجاهات بالأسلوب العسكري، يقلد بعد ذلك
بفمه صوت بوق بعيد وكئيب يعزف الصمت، كان يقوم ببراعة كبيرة وبشكل جيد،
يؤثر حتى في نفوس أكثر المتسكعين شراسة الذين رموا وجهه قبل دقيقة بكتل
القشدة، فيستمعون إليه حتى النهاية".
هذا الطفل الذي خلق سينماه الخاصة بين جدران غرفته وفوق سريه وتحت لحافه
يذكر أن أول ذكرياته عن الأفلام كانت فيلم "ماشيست في الجحيم":"كنت على ساق
والدي وكانت الصالة مكتظة في جو حار، قاموا برش مبيد حشري سبب بحة في الحلق
وخلف تخدرا بين الجميع، ومن تلك الأجواء الأفيونية أتذكر صورا تميل إلى
الصفرة لنساء جميلات بأحجام ضخمة، أتذكر أيضا ما رأيت لدى رجال الدين من
شرائح مصورة في غرفة كبيرة تمتلئ بأرائك خشبية، صورا بالأبيض والأسود
لكنائس، أسيسي وأورفييتو، لكن ما علق في ذاكرتي بشكل خاص ملصقات الأفلام،
فقد كانت تسحرني، حتى أنني قصصت يوما مع أحد الأصدقاء بشفرة جيليت صور
الممثلة إيلين ميس التي بدت لي رائعة الجمال، كانت قد أدت في فيلم مع
ماوريتسيو دانكورا دور فينوس على ما أعتقد، وقد حدث يوما حين كنا في
السينما أن وضع رفيقي رأسه على القضبان، ثم ظهرت لقطة قريبة جدا لوجه
الممثلة إما غراماتيكا تقول "لا" فأدار رأسه هكذا بالتخاطر".
يمنحنا فيليني في هذا الكتاب عالمه، فلسفته، روحه، رؤاه لعناصر ومفردات
الفن السينمائي، التركيبة السحرية لصناعة فيلمه، كل ذلك بينما يسرد على
سجيته، بل بتلقائية مدهشة نغوص فيها إلى أجوائه العميقة، نزواتها،
تقلباتها، خبراتها، يفعل ذلك دون إدعاء بطولة أو أستاذية أو محاولة فرض
وصاية، يقول "لم تثر اهتمامي أي من اللعب الأخرى باستثناء الدمى، الألوان،
التركيبات الكارتونية، وتنفيذ رسوم لقصها ثم شدها ببعضها بعضا، لاشيء آخر
على الإطلاق، لم أركل بقدمي كرة في حياتي، كان يعجبني البقاء في الحمام
لساعات وساعات، فأضع المساحيق على وجهي وأتنكر بشوارب وذقن من نسالة
الكتان، مع رموش مصطنعة طويلة وسبلتين مرسومتين بالفلين المحروق".
يعترف فيليني " أخرج الأفلام لعجزي عن القيام بأي شيء آخر، ويبدو لي أن
الظروف قد تشكلت على الفور بشكل تلقائي، وطبيعي، لتسهيل هذا الأمر المحتوم،
ذكرت من قبل أني لم أكن أتوقع اشتغالي بالإخراج، ولكن بدا لي منذ اليوم
الأول، منذ أن صرخت للمرة الأولى: كاميرا، أكشن، ستوب، أن هذا ما سأقوم به
دائما، وأنه ليس بإمكاني عمل أي شيء آخر، فهذا أنا، وهذه حياتي، لا أتطلع
إذن خلال تنفيذي للأفلام إلى أي شيء سوى طاعة هذا التوجه الطبيعي، سرد
القصص من خلال السينما، قصص تناسب شخصيتي ويروق لي سردها في مزيج متداخل من
الصراحة والابتكار، الرغبة في إثارة الدهشة، في الاعتراف، وتبرئة الذات،
رغبة جامحة في الفوز بإعجاب الآخرين، في إثارة الاهتمام، وتقديم العظات،
والقيام بدور الشاهد والمهرج والإضحاك وإثارة المشاعر، وهل هناك حاجة
لدوافع أخرى؟".
وفي إطار سرده لعالمه تتجلى آراءه في العناصر السينمائية المشكلة لصناعة
الفيلم كاشفا عن بعض من أسراره يقول فيليني عن دور الضوء "السينما بالنسبة
لي صورة، العامل الأكثر أهمية فيها هو الضوء، وقد قلت أكثر من مرة إن الضوء
في السينما إيديولوجيا، مشاعر، لون، درجات، عمق، أجواء وكذلك سرد، فالضوء
قادر على صنع المعجزات، يضيف ويزيل، يفقر ويغني، يضعف ويؤكد، وكذلك يخدع،
فهو يضفي مصداقية وقبولا على الخيال والحلم، يمنح من ناحية أخرى شفافية
وذبذبة وسرابا للواقع اليومي المتكرر والباهت، يكفي فانوس إضاءة وعاكسان
لتحويل وجه معتم خال من التعبير وصامت إلى وجه فطن، أو غامض وجذاب، يمكن
للديكور البسيط والمنفذ بشكل تقريبي، أن يحوز بفضل الضوء منظورا وآفاقا
تمنح السرد أجواء غائمة مثيرة للاضطراب، بينما يكفي تحريك إضاءة خمسمائة
كيلو وات، واستخدام إضاءة خلفية، لإزالة التوتر وإضفاء سكينة وسلام على
المشهد. يكتب الفيلم بالضوء، وبالضوء يقدم الأسلوب".
يذكر أن فيدريكو فليني ولد في عام 1920، وكان أول أفلامه عام 1950م
بالاشتراك مع ألبرتو لاتوادا بعنوان "أضواء المنوعات"، وفي 1952 أخرج فيلم
"الشيخ الأبيض"، ليخرج بعده بعام فيلم "المتسكعون" وفيلم "الحب في المدينة"
وفيلم "الطريق" عام 1954، وفيلم "الاحتيال" عام 1955، وفيلم "ليالي كابيريا"
1957 وفيلمه الشهير "الحياة حلوة" 1958 وفيلم "ثمانية ونصف" عام 1963.
وفيلم "الحكايات الاستثنائية" 1968، ورائعة "كازانوفا" 1976، وفيلم "مدينة
النساء" 1980، ويعتبر فيلم "صوت القمر" هو آخر ما أخرجه للسينما عام 1989م
قبل أن يفارق الحياة عام 1993م.
إيلاف في
10/11/2010 |