بالقطع «مصري» وسيظل.. ليس بجنسيته فقط، ولكن بهواه وعطائه
وشخصيته وبكل تفصيلة من تفاصيل حياته القصيرة الصعبة والمتوهجة بتفرد
الموهبة
والنجومية.
لذلك تبدو مفاجأة حقيقية أن يقول أحد: «عبد الحليم حافظ سعودي
الأصل».. مفاجأة قد يرفضها بحسم الملايين من عشاقه في مصر، خاصة عندما تقفز
إلي
أذهانهم عشرات الأغاني الوطنية الصادقة التي ارتبطت باسمه وأرخت لعهد كامل
شهد
تغيرات سياسية واجتماعية وأحداثا عسكرية خطيرة.
هؤلاء سيرفضون هذه المعلومة
تماما ولن يهتموا أساسا بتوثيق صحتها من عدمه، ولكن هذا لا ينفي أنها أعلنت
مؤخرا،
وكانت سببا للتحقيق الذي تقرأه الآن.
قرأت المعلومة الصادمة في ثنايا حوار
طويل مع الشاعر السعودي البارز سعود شربتلي، نشرته مجلة خليجية مؤخراً، حكي
فيه
شربتلي ذكرياته مع نجوم الغناء والموسيقي في العالم العربي، وبينهم
عبدالحليم حافظ،
الذي التقاه سعود لأول مرة في صيف عام ,1974 وكان يومها طالبا لم يزل،
وسافر إلي
بيروت لقضاء إجازته الصيفية، وعلي أحد كافيهات بيروت وكان عبدالحليم حافظ
جالساً
علي إحدي طاولاتها، التفت سعود فرآه، ولم يصدق نفسه عندما اندفع إليه
مرحباً
وطالباً التقاط صورة تذكارية، مازال سعود يحتفظ بها مفتخراً.
••
تكرر اللقاء بين سعود وعبدالحليم في لندن، بعدها بعامين، وكان
اللقاء أكثر حميمية هذه المرة، ومنحه حليم ساعات في سهرة امتدت حتي تباشير
الصباح،
حكي فيها حليم كثيراً، احتفظ منها سعود شربتلي بهذا الاعتراف الذي باح به
العندليب
في تلك الأمسية اللندنية الباردة.. بكلمات لا تقبل التأويل قال له حليم إنه
يعشق
الغناء السعودي والإيقاعات السعودية، ويميل ذوقه إلي طلال مداح أكثر من
محمد عبده،
لأن طلال يغني من قلبه وبإحساس أكبر.. وربما يعود إعجابه وعشقه للغناء
السعودي إلي
أنه - أي حليم - سعودي الأصل ، وتمتد جذور أسرته إلي الجزيرة العربية.
في
ثنايا كلماته وبين سطورها فرح حقيقي يطل من
صوت سعود شربتلي وهو يزف إلي مواطنيه
هذا الاعتراف علي لسان العندليب، وكأنه يقول إن لهم نصيبا في صوته وموهبته
ونجاحه
الأسطوري.
••
عبدالحليم حافظ إذن سعودي الأصل؟!
حملت دهشتي وتوجهت بها
إلي المتحدث الرسمي باسم عائلة العندليب..
محمد شبانة الذي قابل دهشتي بابتسامة،
وقال ببساطة لم أتوقعها:
-
فعلاً.. ده صحيح.. عائلة شبانة أصلها سعودي..
وإن شئت الدقة من منطقة نجد والحجاز قبل تأسيس المملكة السعودية.
ثم أضاف:
«الشبانية» إحدي بطون قبيلة بني تميم.. وهي قبيلة يرجع نسبها
إلي الإمام علي
والسيدة فاطمة الزهراء.. أي أنهم من آل
البيت النبوي الشريف ومن السلالة الحسينية
الطاهرة.. ومن نجد هاجر «الشبانية» إلي بلاد عربية عدة بينها مصر والبحرين
والكويت.. وفي مصر تفرقوا بين عدد من المحافظات أهمها الشرقية والمنوفية
والدقهلية
وسوهاج.. والعائلة الشبانية مسجلة في نقابة الأشراف برقم 92 ع.. ولدي شيوخ
العائلة
وثائق وشجر أنساب محفوظة منذ سنين طويلة تثبت نسبهم إلي البيت النبوي
الكريم.
وأسأل محمد شبانة: هل كان عبدالحليم يعرف أن جذور عائلته تمتد إلي
نجد السعودية.. وإلي آل البيت؟
يرد: بالتأكيد.. لكنها كانت مجرد معلومة لم
يتوقف عندها كثيراً.. لأن عمي كان معتزاً بمصريته إلي المنتهي.. كان يعيشها
بدمه..
لكن هذا لم يمنع أن يرتبط بصداقات إنسانية طويلة وعميقة مع أمراء من الأسرة
المالكة
في السعودية.. بينهم خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. ومازلت
أحتفظ
ببرقيات كان يرسلها إلي عمي يطمئن فيها علي صحته.. وكان من أقرب أمراء
الأسرة
المالكة إلي قلبه عبدالمجيد وبدر وعبدالله.. كان يتعامل معهم بلا ألقاب ولا
رسميات.. وبكبرياء بالغ، وكان يرد هداياهم بأحسن منها.
وحتي عندما أراد أن
يؤدي العمرة فإنه سافر علي نفقته الشخصية..
كان ذلك في عام 1976 وقبل أيام من سفره
إلي لندن للعلاج، وهي السفرية الأخيرة له، حيث مات في عاصمة الضباب..
المدهش أن
حليم عندما سافر لأداء العمرة تصادف أن كان موسم غسل الكعبة المشرفة، فوجد
نفسه
مشاركاً في هذا العمل العظيم، وأتيح له أن يدخل الكعبة، وأن يصلي في
أركانها
الأربعة.. ولما عاد كان في منتهي السعادة، وقال بفرح:
أنا شفت حاجات حلوة
بعدما صليت في الكعبة.. بس مش هقدر أحكي
لكم عنها!
انتهي كلام محمد شبانة.
••
مفيد فوزي أحد أشهر رفاق حليم، وأحد أهم من أرخوا لسيرته وكتبوا
عن تفاصيل تفاصيل حياته، عندما سألته عن «الأصل السعودي» لحليم قال:
لم
أسمع عبدالحليم يوماً يتحدث في هذا
الموضوع.. أنا نفسي لم أسمع به من قبل.. ربما
كان الأمر صحيحاً لأن سكان محافظة الشرقية بالذات أغلبهم لهم جذور عربية
نتيجة هجرة
قبائل من الجزيرة العربية، جاءت واستوطنت في محافظة الشرقية بالذات.. ولكن
الأمر
يحتاج إلي تدقيق تاريخي.. أما الذي لا يحتاج إلي دليل ولا تدقيق فهو أن
حليم عندي
شاب مصري منقوع في المصرية، ولد في أعماق ريف مصر، وحمل كل صفات ومواصفات
الفلاح
المصري، بما في ذلك دودة البلهارسيا.. وظل طوال حياته مرتبطاً بأهله وقريته
وبناسه
في الحلوات شرقية.
وبمناسبة الحلوات - يضيف مفيد فوزي - أذكر أن أحد محافظي
الشرقية عندما علم أن عبدالحليم يجهز لبناء مقبرة له، طلب منه أن تكون تلك
المقبرة
في الحلوات بجوار البيت الذي ولد فيه.. أو فيه إذا شاء.. لكن عبدالحليم كان
بعيد
النظر، ولم يشأ أن يعذب معجبيه إذا أرادوا أن يزوروا مقبرته بعد رحيله،
ويضطرهم
لقطع مسافة طويلة إلي بلدته.. فاختار أن تكون مقبرته في البساتين.. في قلب
القاهرة،
ليوفر علي محبيه مشقة السفر.. وأذكر أنه كان يزور تلك المقبرة بين حين وآخر..
ليطمئن علي بيته الأخير!!
••
فاروق إبراهيم، مصور حليم الخاص، وواحد من أقرب خلصائه عاش معه،
وسافر واقترب وسمع وعرف.. وتعامل معه العندليب كأنه واحد من أهل بيته.. لما
سألته
أجاب بضحكة عالية ثم قال بجدية:
عمري ما سمعت الكلام ده من عبدالحليم.. ولو
ده صحيح فهو أمر غريب.. ولقد عاش حليم 49 سنة ومات من 33 سنة فلماذا تظهر
هذه
المعلومة الآن؟.
لماذا لم يظهر هذا الكلام في حياته.. وأنا كنت قريباً منه
ويحكي لي ما لا يخطر علي بال.. فلماذا نسي أن يذكرنا بأصله السعودي..؟!
وأنا أعرف شخصيات سعودية مهمة كانوا قريبين من حليم ويسهرون معه بصفة
دائمة
وعلي اتصال به لا ينقطع كالأمير بدر أمير مكة، والسفير أسعد
أبو النصر.. عمر ما أحد
فيهم أشار إلي هذه المعلومة التي تخص الأصل
السعودي لحليم.. وعبدالحليم نفسه لم
يذكرها أبداً، مع أنه فخر لأي إنسان أن تكون جذوره من نجد والحجاز.. الأرض
المباركة
التي يقدسها المصريون.
••
عبدالحليم سعودي الأصل.. ربما
عبدالحليم من آل البيت..
يجوز
أما الحقيقة المؤكدة التي لا تقبل الشك فهي أنه مصري.. وإنه أصدق
وأجمل من غني لهذا الوطن.
مجلة روز اليوسف في
06/11/2010
حميدة
بقلم: كمال رمزي
أتذكر جيدا كيف تردد نعمان عاشور قبل موافقته على تحويل مسرحيته الجميلة «عيلة
الدوغرى» إلى مسلسل تليفزيونى، وقال إن العرض الذى أخرجه عبدالرحيم
الزرقانى، على خشبة المسرح القومى، معتمدا على كتيبة فريدة من كبار
الفنانين، لا يمكن أن يصمد أمامه أى مسلسل. ونتيجة لإصرار ودأب كاتب
السيناريو الموهوب. محسن زايد، وافق نعمان عاشور.. جاء المسلسل الذى أخرجه
يوسف مرزوق على درجة عالية من القوة والإتقان جعل مبدع النص المسرحى يعرب
عن سعادته بالمسلسل وإعجابه بإضافات محسن زايد الموفقة، بتجسيد وقائع
وأحداث جاءت كمجرد إشارات فى المسرحية، أو مد خطوط الشخصيات والعلاقات إلى
آخر مدى.
هذه التجربة تلقى ضوءا على المناقشات الدائرة الآن حول جدوى تحويل أعمال
سينمائية ومسرحية إلى مسلسلات، خاصة فيما يتعلق برائعة نجيب محفوظ «زقاق
المدق» التى قدمت، عدة مرات، على خشبة المسرح، وخلال ميكروفون الإذاعة،
وحققها حسن الإمام، على الشاشة الكبيرة عام 1963.. أى منذ ما يقرب من نصف
القرن، وقيل إن هيفاء وهبى اعتذرت عن أداء دور «حميدة» الذى جسدته شادية،
لأنها لا تجد عندها، أو عند غيرها، ما يصمد للمقارنة مع شادية.. تلقفت
الزميلة علا السعدنى هذا التصريح، وأيدته بشدة، وذهبت إلى القول إن
«حميدة»، فى الفيلم، جاء ببصمة شادية، حيث لا يمكن تكرارها.. ولعل هذا
الكلام يحتاج للمراجعة، جملة وتفصيلا، ذلك أن رواية «زقاق المدق»، شأنها
شأن أعمال نجيب محفوظ الأخرى، تستحق إعادة إخراجها، أكثر من مرة.
كما حدث مع «بداية ونهاية» التى حققها صلاح أبوسيف 1960، وأعاد عاطف الطيب
إخراجها بعنوان «دماء على الأسفلت» 1992 بمعالجة جديدة لأسامة أنور عكاشة.
و«الطريق» التى قدمها حسام الدين مصطفى 1965، ثم أخرجها أشرف فهمى بعنوان
«وصمة عار» 1986.. وليس من باب التجنى القول إن رواية «زقاق المدق» أكبر
وأعمق من الفيلم الذى نسج على منوال حسن الإمام الذى أضاع الكثير من معالم
الرواية حين انغمس فى الرقص والغناء.
جدير بالذكر أن «زقاق المدق» بشمولها ونفاذ بصيرته او تجاوزت الحدود
المصرية، ووصلت إلى المكسيك، فتبدت قوتها وروعتها فى «حارة المعجزات» الذى
أخرجه جورج فونسى 1995، ملتزما بأكبر كمية من الوقائع والأحداث، راصدا،
بدقة، جوهر الشخصيات، وعلى رأسها «حميدة» التى أصبح اسمها «الميتا»، بأداء
خلاب من سلمى حايك، وبعيدا عن التعصب لكل ما هو مصرى، تبدو فنانتنا الكبيرة
شادية، متواضعة أمام سلمى، فبينما استعانت شادية بالكيشيهات المتكررة، من
قبيل المغالاة فى الحركة باليدين ومضغ اللادن والتثنى وهز الردفين أثناء
المشى، تعمدت سلمى حايك أن تعبر عن أعماق «حميدة» «العاهرة بالسليقة»،
بالنظرة واللفتة واللمسة المقتصدة.
طبعا، لا يمكن إغفال الفارق الزمنى بين الفيلمين، فضلا عن الاختلاف بين
مخرج يقدم منولوجا لشكوكو ورقصتين لسامية جمال، وآخر لا يوجد عنده لقطة بلا
ضرورة.. لهذا كله.. من المهم، والمفيد، أن يعاد تقديم «زقاق المدق»، سواء
على الشاشة الكبيرة، أو الصغيرة.
الشروق المصرية في
06/11/2010
تقنية
(أفلام الديجيتال) سينما بديلة أفرزتها التكنولوجيا
الدوحة - أسامة عسل
أصبحت أفلام الديجيتال لدى كثير من المخرجين الشباب سينما بديلة عن
السائد والنمطي، بعد أن وقعت السينما العربية في مطب الروتين والبيروقراطية
ـ باستثناءات قليلة ـ وخرجت من العائق الأساسي في الإنتاج والتنفيذ، مثل
وجود الكاميرات السينمائية وأشرطة التسجيل الصوتي والمرئي، تحويل شريط
النيجاتيف، المونتاج من قص ولصق، والأهم توافر التقنيين المتخصصين
والمحترفين في العمل على هذه الأدوات بكل مرحلة من مراحل الفيلم.
وتغلبت أفلام الديجيتال على معضلة التكلفة التقنية في صناعة السينما
الكلاسيكية، وبرزت أهميتها في إنجاز العمل دون تكلفة تذكر، مع مشاهدة
التصوير بشكل مباشر بعد الانتهاء منه، ومع الوقت زاد أداء كاميرات
الديجيتال جودة موازيا تطور تقنيات الكمبيوتر وبرامج المونتاج أيضا، خصوصا
أنه في الإمكان تحويل فيلم الديجيتال إلى شريط سينمائي وعرضه على شاشة
السينما العادية. وهذا ما قامت به العديد من التجارب في الغرب الذي استفاد
من التقنية الجديدة على صعيد خفض تكلفة الإنتاج، ما ساعد في إفراز توجهات
فنية استطاعت الاستفادة من الأطروحات التي يمكن لتقنية الديجيتال أن تقدمها
للوصول إلى أشكال فنية جديدة للإبداع السينمائي.
وعلى الصعيد العربي، فأول تجربة تصوير فيلم بكاميرا ديجيتال كانت على
يد المخرج المصري يسري نصر الله في العام 8991 من خلال عمله الروائي الطويل
»المدينة«، والتي فتحت باب الحلول البديلة للتكلفة العالية للتصوير
السينمائي، كما شجعت خيري بشارة ليخرج فيلمه »ليلة في القمر« ثم محمد خان
لتصوير فيلم »كليفتي« بالطريقة نفسها. وكان من أهم مكتسبات أفلام الديجيتال
أنها أفسحت المجال لأن يكون عمل السينمائي أكثر استقلالية بعدم ارتباطه
بجهة منتجة أو مؤسسة رسمية في حال استطاع إنتاجه بمفرده أو بمعونة آخرين،
وبلور ذلك الفيلم الروائي الطويل »لما حكيت مريم« للمخرج اللبناني أسد
فولادكار العام 3002 وقد نال العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية.
ويؤكد يسري نصر الله حول فوائد استخدام الديجيتال ومميزاته قائلا:
سيحل أزمات كثيرة في السينما، لأن التكنولوجيا لم تكن أبدا عائقا لأي
صناعة، لكن المهم توظيفها بشكل صحيح، ودخول عصر الديجيتال تطور طبيعي لفن
السينما الذي بدأ صامتا.
ويصف خالد أبو النجا ـ دخل تجربة الديجيتال كممثل ومنتج في فيلمي
»هوليوبولس« و»ميكروفون« ـ تصوير الديجيتال فيقول: هو فن مستقل بذاته له
قواعد وأصول مثل المسرح والفيديو، وله مميزات مختلفة غير السينما العادية،
فمثلا يمكن التصوير بهذه الكاميرا في أماكن ضيقة جدا، أو إخفائها في درج
لتصوير لقطة معينة، كما أنه يمكن إعادة المشهد 20 مرة للحصول على أفضل
نتيجة.
»أفلام الديجيتال« قفزة جديدة في عالم السينما
العربية، واتجاه حديث أفرز فرص عمل للمخرجين والمنتجين الشباب، ولمعت من
خلاله ظواهر وإبداعات وأسماء جديدة في مصر منها إبراهيم البطوط واحمد
عبدالله وهالة خليل ومحمد حماد.
وفي السطور التالية، يرصد (الحواس الخمس) هذه السينما البديلة التي
يبدو صناعها متحررين من شروط الإنتاج ومراهنات السوق من جهة، ومن سلطة
الجمهور وتوقعاته من جهة أخرى، ويسلط الضوء على ذلك من خلال قراءة لفيلم
»حاوي« ولقاء سريع مع مخرجه إبراهيم البطوط.
(حاوي) تجربة ديجيتال يرتجل فيها الممثلون الحوار
موجة جديدة من أفلام الديجيتال أخذت تغزو شاشات المهرجانات السينمائية
مصدرها القاهرة، وسر تميزها مستواها الفني الرفيع فضلا عن طبيعة القضايا
الجادة التي تطرحها وتنتمي للحاضر، والتي تثيرها هذه الأعمال برؤية واعية
بالغة العمق، فضلا عن ميزانية إنتاجاها التي تصل أحيانا إلى المستوى صفر.
وفي الأسبوع الماضي، فاز فيلمان من تلك النوعية »حاوي« للمخرج إبراهيم
البطوط كأفضل فيلم عربي في مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي، و»ميكروفون«
للمخرج أحمد عبدالله الذي حصد الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج السينمائي.
والمصادفة الغريبة، أن يركز العملان موضوعهما على مدينة الإسكندرية
بكل تفاصيلها ودروبها وشخوصها، وسنقدم قراءة لفيلم »ميكروفون« خلال عرضه في
ديسمبر المقبل ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي.
ونتوقف اليوم أمام فيلم »حاوي« أحدث الأعمال السينمائية للمخرج المثير
للجدل إبراهيم البطوط، الذي صنع طفرة في مفهوم السينما المستقلة وأفلام
الديجيتال بمصر بعد فيلميه »إيثاكي« عام (2005) و»عين شمس« (2008) والذي
حصد به العديد من الجوائز الدولية في مهرجانات متعددة.
»حاوي« ـ مثل كل أفلام البطوط ـ يعيد خلق قصص
الحياة اليومية، مخاطبا الجمهور بكافة فئاتهم بلسان حالهم، مما يخلق حالة
من الترقب لدى المشاهد تجعله جزءا من أحداث الفيلم بمفرداته مع الاحتفاظ
بالجو السينمائي الساحر.
(بقيت حاوي بقيت غاوي/ في عز الجرح أنا ما أبكيش/
بقيت عارف/ أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش/ بقيت قادر/ أداري الدمعة جوايا
مبينهاش/ بقيت راضي أنام رجليه مقلوبة كما الخفاش/ ما أنا أتعودت أحلامي/
أشوفها تجري قدامي وما ألحقهاش)، كلمات أغنية لفريق مصري سكندري اسمه »مسار
إجباري« شارك في تمثيل الفيلم وشكلت تلك الكلمات أيقونة معبرة في نهاية
الفيلم الذي حمل عنوان الأغنية التي تعكس حالة أبطاله في لقطات من الضياع
والعزلة تشكل المحور الرئيسي للعمل الشديد الواقعية.
لسنا أمام قصة لها بداية ووسط ونهاية، بل مجرد صور ترصد المشاعر بدقة
ليس لها سيناريو، والحوار كما يؤكد المخرج في غالبية المشاهد ارتجالي،
ولذلك يبقى الحوار في الخلفية والحدث في المقدمة ليعرض صورة مقربة حقيقية
من أرض الواقع أبطالها حقيقيون يعيشون بيننا ويعانون نفس المعاناة التي لا
يستطيع أحد وصفها لكنه يقدمها دون كلمات فخيمة وخطابات لا مجال لها، إنه
يقدم صورة تزعج الجميع لأنها تكشفهم وتعريهم تماما.
(يوسف وإبراهيم وفادي) ثلاثة أصدقاء عانوا من عذاب
المعتقلات واكتووا بنار الخوف من السجون، فادي حاول التأقلم مع الحياة بعد
خروجه ودفن أحلامه مع شباب طموح يملك مفاتيح الإبداع الموسيقي لكنهم عاجزين
عن إيجاد طريقة مناسبة لتصدير ما بداخلهم للعالم، إبراهيم الذي يقوم
إبراهيم بطوط بتمثيله يعكس واقعا يعيشه المخرج في الحياة، فالبطوط له بنت
تعيش في البوسنة لم يرها منذ سنوات.
ومن الواضح أن الفيلم رسالة اعتذار لها، يعود إلى الإسكندرية بعد غياب
20 عاما يحاصره الخوف من كل جانب وكأنه يخشى مجهول عانى منه قديما، لكن
معاناته الكبيرة في مواجهته لابنته آية التي لا تعرف عنه شيئا، أما يوسف
فيمثل حلم النزاهة والإرادة للجميع يخرج من تعذيب الأسر في صفقة يقوم فيها
بتسليم مستندات وأوراق مهمة مقابل حريته ومبلغ كبير من المال.
لا يحكي الفيلم اي تفاصيل لكن فادي يذهب إلى ابنته الصغيرة الضريرة
ياسمين يأخذها في حضنه ويؤمن لها مستقبلها بمبلغ يعطيه لمدرسة البيانو
لتشتري لها بيتا عندما تصل إلى عمر الواحد والعشرين، ويذهب ليواجه مصيره
بالموت نتيجة عزمه أن لا يعطي أصحاب السلطة والنفوذ كل الأوراق، وتصدمه
سيارة في شوارع الإسكندرية لتموت الحقيقة معه على أرصفة الطرقات.
وبين هذه الصور الثلاث تأتي صور أخرى، خالة آية وهي مدرسة الموسيقى
نفسها التي تعكف على الاهتمام بتربية (ياسمين وآية) في رسالة لها دلالتها
لعلاقات زوجية هشة يكون نتيجتها أبناء يفتقدون الحنان والأمان، وجعفر الذي
يرتبط بحصانه ضرغام الذي على وشك الموت وتعكس علاقتهما حالة خاصة لشريحة
مطحونة تعتمد فقط على الحيوان الذي يضمن لهم البقاء في الحياة، وهناك كذلك
الراقصة التي تظهر كمثقفة تحب الرقص وتمارسه في الملاهي الليلية أملا في
الشهرة وتحقيق الذات، أما محور الشر في الحارات والبارات فكان (الدكتور
وإنسانية) شخصيتان لا يخلو أي مجتمع منهما.
هناك الكثير من الأمور المشتركة بين طبيعة صناعة هذا الفيلم، وطبيعة
أحداث الفيلم نفسه، فالاثنان يشتركان في مضمون واحد، رسالة واحدة، هدف
واحد، فالفيلم مصنوع من لاشيء، مجرد كاميرا يمتلكها مخرج ومؤلف الفيلم
بتمكن وقوة فائقة الرصد والتعبير ذهب بها إل الإسكندرية.
وكل ما صرفه على الفيلم غرفة صغيرة في »البنسيون« الذي مكث فيه في هذه
المدينة الساحلية الجميلة، أما كل ما يتعلق بالفيلم وصناعته وممثليه فكان
إبداعا مجانيا من أجل إيصال رسالة إلى صناع السينما المستقلة بأنهم
يستطيعون عمل ذلك.
وهكذا يتقاطع هذا الهدف مع شخصيات الفيلم نفسه وأغنية العمل التي تدفع
أبطاله إلي أن يتعايشوا مع الفقر ويستغلونه لتحقيق الثراء، أن يتعايشوا مع
متاعبهم وآلامهم ويستغلوها في البحث عن الراحة والسكينة، يستغلون البعد
والفراق والغربة من أجل البحث عن القرب واللقاء والعودة للوطن.
وعلى عربة »كارو« حملت الفرقة الموسيقية التي أدت الأغنية على كورنيش
الإسكندرية، وفي تداعي لصور الفيلم الكثيرة التي تخرج عن نمط السرد
المألوف، وتقترب من الواقع في التصوير والارتجال، جاءت دعوة حاوي للجميع،
الجمهور والسينمائيين، للبحث عن أمل جديد للأفلام المصرية وسط حالة من
اليأس الشديد للسينما التجارية المسيطرة على العقول وشباك التذاكر.
ويفند المخرج إبراهيم البطوط فكرة إدخال مفهوم الأفلام التي لا
ميزانية لها قائلا: أمتلك فقط كاميرا ديجيتال والتي منها ينطلق كل شيء،
اختار الموضوع بعناية والأماكن التي سأصور فيها، كما اختار الممثلين من
البيئة نفسها التي تتناسب مع المكان والموضوع، في تجربتي مع فيلم »عين شمس«
اخترت منطقة عين شمس الشعبية والشهيرة في مصر.
وفي »حاوي« اتجهت للإسكندرية بدون ميزانية وعملت مع فنانين مخلصين
لعملهم لا يسعون وراء المال والشهرة، لم يتذمروا لأنهم لم يأخذوا دفعة من
أجرهم، أصبحوا شركاء معي في الفيلم وأي أرباح أو جوائز أو إيرادات من
الداخل أو الخارج أو بيع لقنوات فضائية لهم فيها نسبة، وافقوا على ذلك دون
أن نوقع عقودا إلى لحظتنا هذه، وغالبيتهم من الإسكندرية فنانون وفنيون،
يحبون السينما ويعشقون سحرها.
وحول الفوضى التي يمكن أن تحدث لو أن كل من امتلك كاميرا صنع فيلما،
يقول البطوط: وما الذي يضير من وجود كم كبير من الأفلام، هذا من شأنه أن
يرتفع بمستواها، فالمبدع سوف يكون غيورا على فيلمه، سيحاول أن يقدم أعلى
مستوى في كل مشهد، وهذا ما سيخدم الفيلم بشكل عام وعلى الجمهور أن يغربل كل
ما يخرج، فتراكم التجارب يخلق فرصة للجمهور ليخلق قاعدة نقيس من خلالها
كسينمائيين مدى نجاح التجربة من عدمها.
وعن اعتماده على فكرة ارتجال الحوار في أفلامه، وخصوصا »حاوي« يعلق
قائلا: الحوار لم يكن ارتجاليا بالمعنى المفهوم، كان يتم الاتفاق عليه
أثناء التصوير، فهو مكتوب داخل رأسي وليس على الورق، أسعى لأن أجعل
الممثلين يخلقون حوارهم بأنفسهم من شخصياتهم وطبيعتهم، من خبراتهم وحياتهم،
حتى يصبحوا جزءا لا يتجزأ منهم، وليس مجرد بعض كلمات يرمونها أثناء التصوير
بلا أي مشاعر أو أحاسيس.
ويسترسل البطوط حول رسالته من الأفلام التي يصنعها فيقول: رسالتي هنا
ومن خلال أفلامي السابقة، أن أؤكد أن كل من يمتلك كاميرا من الممكن له أن
يصنع فيلما روائيا، دون انتظار لقيود السوق السينمائي، والتي أصبحت مثل
التجارة التي تخضع لمقاييس الخسارة والمكسب، وهو الشيء الذي أرفضه،
فالسينما قبل أن تكون صناعة فن وإبداع وتفكير وموهبة، وهي أيضا صورة تقدم
لمتعة الجمهور ولا يجب أن تدخل في حسابات أخرى.
البيان الإماراتية في
06/11/2010 |