داوود عبد السيد واحد من أعلام السينما المصرية
استطاع من
خلال عدد قليل من الأفلام أن يؤسس لخصوصية
ميّزت أفلامه عن كثير من الأفلام السائدة
في السينما المصرية. بدأ تجربته السينمائية كمساعد مخرج لبعض الأفلام، منها
"الأرض"
ليوسف شاهين، “الرجل الذي فقد ظله” لكمال الشيخ، و”أوهام الحب” لممدوح
شكري. ترك
مهنة مساعد مخرج التي بدت له مرهقة وكأن بشيء ما ينتفض في داخله بحثا من
مخرج. ليس
سوى هوية المخرج ذاتها.
بدأ مسيرته الاخراجية الفردية بأفلام وثائقية
منها
“وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم ـ 1976”،
“العمل في الحقل ـ 1979”، “عن
الناس والأنبياء والفنانين ـ 1980”.
يقول عن هذه التجربة : "إن الفيلم التسجيلي
يتيح لك حرية التجريب دون خوف من الخسارة المادية مثلاً.. أقصد بالتجريب هو
أن تعبر
عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة.. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب،
ولو نجح
التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه.."
بعد هذه التجارب مع
السينما التسجيلية اقتحم داوود عبد السيد عالم الأفلام الروائية لكن هذه
المرة
برؤيته الخاصة فأخرج فيلمه الأول "الصعاليك" وهو من تأليفه ثم تلته أفلام
أخرى : "البحث عن سيد مرزوق" من تأليفه وفيلم "أرض الأحلام" وهو من تأليف :
هاني فوزي
وفيلم "الكيت كات" عن رواية “مالك الحزين”
لـ إبراهيم أصلان - السيناريو للمخرج
وفيلم "سارق الفرح" عن قصه لـ خيري شلبي بنفس الاسم - السيناريو للمخرج
وفيلم "مواطن ومخبر وحرامى" وفيلم "رسائل البحر" الذي شارك في المسابقة
الرسمية لأيام
قرطاج السينمائية. وهو نفس الفيلم الذي
اختارته اللجنة المستقلة التي شكلها الفنان
فاروق حسنى وزير الثقافة للمنافسة على جائزة الأوسكار العالمية لأفضل فيلم
أجنبي "غير أمريكي " لعام 2010 .
"فيلم " رسائل البحر "إنتاج 2010 إخراج وسيناريو
وحوار داود عبد السيد ومن إنتاج الشركة العربية للسينما وبطولة
آسر ياسين “يحي”
وبسمة “نورا” مي كساب “بيسه” محمد لطفى “قابيل” صلاح عبد الله
“هاشم” نبيهة لطفى
“فرانشيسكا” أحمد كمال “محمود” سامية أسعد “كارلا”...
وتدور أحداث الفيلم حول
المهندس" يحيى" وهو شاب في مقتبل العمر يعانى من اضطرابات في النطق، مما
يعرضه
للسخرية من أصدقائه في العمل فيترك مهنته, ويقرر أن يذهب إلى الإسكندرية
دون هدف
محدد، وخلال ذلك يلتقي بالعديد من الشخصيات لكل منها قصة مختلفة"
عل هامش أيام
قرطاج السينمائية..
كان لنا مع المخرج هذا الحوار الخاطف وهو يهم
بمغادرة
الفندق قبل يوم من اختتام المهرجان. الذي ألعن بعد ذلك عن فوز
بطل الفليم آسر يس
بجائزة أفضل ممثل وتسلمتها بدلا عنه
الممثلة الهام شاهين.
·
بدءا يمكن أن نقول إن داوود عبد
السيد ظل
في أفلامه ينتصر للمهمشين وللطبقات المسحوقة من الصعاليك إلى رسائل البحر
مرورا
بالكيت كات. هل انحسار الطبقة الوسطى التي ولدت فيها هو سبب انغماس
السينما في
عوالم المهمّشين؟
ما دمت تعبّر عن طبقة وتنقل هموما وأفكارها للشاشة
فمن البديهي أن تكون مهتما ومنتسبا لهذه الطبقة وتحمل صفاتها.
أنا ولدت في طبقة
متوسطة لكن ذلك لا يمنعني من الحديث عن
المهمشين وليس عندي أي مانع من القيام
بأفلام في القصور وعن عوالمها. القضية قضية
رؤية إخراجية وقد قدّمت رؤيتي الشخصية
للمهمشين. أنت تعلم أن هناك من تعامل مع هؤلاء بشكل سطحي وهناك أيضا من
تعامل
بموضوعية ... فالرؤى تختلف.
·
قدمت «الكيت كات» عن رواية «مالك
الحزين» لإبراهيم أصلان و «سارق
الفرح» عن قصة لخيري شلبي، لاحظنا اهتماما كبيرا
بالقصة كعصب أساسي للأفلام التي صورتها... فهل مازال بإمكان الأدب العربي
أن يقدّم
للسينما في ظل طغيان ظاهرة سينما المؤلف؟
الأدب أحد مصادر السينما
هذا صحيح لكن ليست هي المصدر الوحيد فهناك روايات لا تصلح لأن تحوّل إلى
أفلام
سينمائية .. فالقضية تكمن في مدى صلاحية القصة وإمكانية تطويعها في عمل
سينمائي.
عموما بالنسبة إليّ نادرا ما تجذبني رواية وتشدني
إليها وأتمنى أن أجد
كل يوم رواية صالحة للتحويل أعتقد أن مشكلة
الأدب الحالي هو كونه "أدب مكتئب" يدفع
لليأس لا للرغبة في الحياة.
·
محاولة التغلّب على العجز تيمة
رئيسة,
تقريبا, في كل أعمالك؟ فهل الإنسان لديه دائما القدرة على التغلّب على
اليأس؟
ليس دائما بقادر لكن على الأقل تكون عنده النية
والاستعداد
التلقائي للخروج من حالة اليأس والإرادة القوية.. المهم ألاّ
تكون روحه مستسلمة
للقدر. الجميل في الإنسان امتلاكه لروح
مغامرة ورغبة في التجديد.
·
في فيلمك
الجديد"رسائل البحر" تقدّم صورة شاعرية لقابيل القاتل (محمد لطفى) الذي
يندم على
جريمته الأولى ويقرر ألا يعود لأذية أحد بعد ذلك. الإنسان أو قابيل الحقيقي
اليوم
تدفعه الجريمة الأولى إلى ارتكاب المزيد من الجرائم. حتى يبدو القتل لعبته
الأثيرة.
لا علاقة لبطل الفيلم بقابيل التوراتي الأسطوري.
القضية تكمن في القتل المخطط
والقتل بدون ضمير لكن شخصية قابيل في
الفيلم هي شخصية مغايرة شخصية تمتلك
ضميرا.
·
عالجت في الفيلم من خلال شخصية
حارس الملهى قابيل أو محمد
لطفى فكرة الإنسان والذاكرة. فهل يمكن أن
نعيش بلا تاريخ
وذاكرة؟
الإنسان هو حيوان له ذاكرة وله تاريخ كما يقول
أحمد بهاء الدين
في كتابه "أيام لها تاريخ" وهو ما ساهم في
تقدّمه وازدهاره لأنه يملك تاريخ فمن ليس
له ماض لن يكون له حاضر.
·
في الفيلم صورة لصيادين: الصيّاد
الشريف الذي يمثله البطل “يحيى” (آسر ياسين) والذي يضن عليه البحر بسمكة
للعشاء
فيبيت خاويا صابرا والصياد الشرير الحاج هاشم الذي يصطادة بوحشية وجشع من
خلال
الديناميت. القصة أبعد وأعمق من الصيد بكل تأكيد؟
أردت الحديث عن نوع
من أنواع الطبقات الجديدة في المجتمع المصري والتي تسعى للربح بأكبر قدر من
السهولة
والسرعة وهو نوع من أنواع الصيد الجائر وهو ضد "الطبيعية".
أردت أن أحذر من
خطورة هذه الطبقة الجديدة وهي تمثل خطورة على المجتمع تعمل بلا قانون ولا
مبادئ ولا
رقيب يردعهم وهو خطر على "البيئة الاجتماعية".
هؤلاء الطبقة مشكلتهم الأساسية
اقتصادية بحته أما الطبقة المهمّشة والمسحوقة فمشكلتهم التنظيم. لابد لهذه
الطبقة
الفقيرة أن تعي بمصالحها وتنظم نفسها لنيل حقوقها.
·
تتناول مواضيع
حساسة وعميقة في آن، لكن دون مباشرتية كما لاحظنا في بعض الأفلام العربية
المشاركة
في أيام قرطاج السينمائية. كيف تقي نفسك من خطر المنبرية في خطابك
السينمائي وأنت
تعالج مواضيع تبدو أيديولوجية؟
أنا أرفض أن يكون للفن إيديولوجية أو
عقيدة لأن العمل الفني ليس عملا موجه لا لتجييش الجماهير بل موجه للبشر
ليزدادوا
وعيا ورهافة واستمتاع لست مع "تسييس" السينما ولا طرح "خطب سياسية
موجهة".
·
هل رفضك للسينما التجارية هو سبب
قلة
أعمالك؟
أعترف بقلة أعمالي على مدار السنة لكن جزء من ذلك
يعود للإنتاج
وصعوبة إيجاد تمويل. وأحيانا أنتظر7 سنوات أفكر في عمل. أعمالي
غير تجارية مع الأسف
والمصالح الاقتصادية و"البيزنس" يفرض شروط
ومعايير أخرى للفن صراحة أنا أعذر
المنتجين.
القضية قضية سوق وتوجه السوق وهذا يتوقف على
الدولة ونظامها الاجتماعي
فالدولة في مصر مثلا تعمل رقابة لتوجه
الأفلام وفق سياساتها بالتالي المفروض أنها
تقدّم دعما لتحويل هذه الرؤى إلى أفلام حية.
مثل الأنظمة البيروقراطية شعارها "أراقبك ولا أدعمك لتصنع ما هو أحسن".
·
صحيح أنك لا تقدم أفلاما
تجارية ولكنك تقدم أقلاما جماهيرية. هناك فرق إذن بين الجماهيري
والتجاري؟
أنا اهتم بالبعد التجاري والجماهيري والفني أحاول
التوفيق
بين هذا الثالوث عموما صعب لكن أحاول.
أسعى إلى أن أصنع فيلما جماهيريا بمستوى
فني راق ذلك شعاري.. قد أكون نجحت وقد أكون فشلت، هذا أتركه للجمهور
والنقاد. لكن
على الأقل أعمل فيلم يرجع للمنتج أتعابه وأرباحه.
·
شخصية الزوجة الثانية التي تظهر
في مظهر
مومس في فيلمك.. فما موقع قضية المرأة في افلامك؟
أنا عموما متحيز
للمرأة ولضرورة تمتعها بحقوقها وحريتها كاملة وضد أي قمع لها بشرط محافظتها
على
خصوصيتها.
شرعية العلاقة الزوجية أضعها على المحك لأنها لا
تتوقف على إمضاء
العقد بل على شروط أخرى.
فعندنا مثلا في مصر ظاهرة زواج الفتيات الفقيرات
من
أثرياء خليجيين في أعمار أجدادهن هن لا يتجاوزن ال13 سنة وفارق
عمر كبير، يشتريها
من أهلها ويتزوجها مثل العبودية تماما. هل
يمكن اعتبار هذا زواج؟ هو بيع وصفقة
"رقيق أبيض", شرعية الزواج ليست في العقد.
الاتجاهات الدينية المتخلفة عندنا
تركّز من جانب على المنحى القانوني وترفض إصلاحه. قانون متخلف ضد المرأة
وضد
الإنسانية عامة.
·
بعد أعمال قليلة في عالم السينما
الوثائقية بدأ
بها داوود عبد السيد حياته السينمائية نراه
ابتعد عنها هل هو الطلاق
بالثلاث؟.
لا وجود لطلاق بيني وبين السينما الوثائقية.
مشكلتي أني حين
بدأت أشتغل بالسينما الوثائقية لم يكن لها
جمهور يتابعها ويهتم بها لكن هذا المفهوم
تغير بسبب انتشار القنوات التلفزيونية التي تهتم بالوثائقية وبعضها اختص
فيه.
مشكلة السينما الوثائقية في مصر أنها تعاني من
الفوضى الإنتاجية والتنظيمية
أنا في النهاية أشتغل كمخرج محترف وأعيش من
شغلي.
الفترة القادمة في مصر غنية
بالأحداث السياسية والفنية والاجتماعية بالتالي قد أفكر في العودة للوثائقي.
·
هل
تنتظر تتويجا في قرطاج في هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية؟
لا أعتقد أن
وظيفة المخرج أن يتحصل على جوائز لكن أكيد يسرني الجائزة ويا حبذا لو كانت
مادية
أنا لا أبحث عن الجوائز ولا أتفاجأ إن توّجوني بالتانيت.
·
وكذلك قلت
عندما سألوك عن رأيك في ترشيح فيلمك للأوسكار.شكرا سيد داوود عبد
السيد
*عبارة يرددها «الشيخ
حسني» محمود عبد العزيز في «الكيت كات»
الجزيرة الوثائية في
04/11/2010
السينما الدادائيّة
تستخدمُ
قليلاً من الملح، والبهار، وبعض الدبابيس والمسامير
وتبدعُ بياناتٍ ضدّ الحكايات
والتقارير..
صلاح سرميني ـ باريس
وُفق قاموس (Le Petit Robert)،
كلمة
"Dada"
تعني "حصانٌ
من الخشب" بلغة الأطفال، كما تُشير إلى موضوعٍ مُفضل، أو فكرة نعود إليها
باستمرار، وأخيراً، اشتقّ منها مُصطلح الدادائية/
Dadaïsme
الذي اعتمدته حركة فنية،
أدبية، وثورية ظهرت في عام 1916
.
وفي المُجتمعات العربية تحديداً، تُعتبر "Dada"
واحدةً من ثلاث كلماتٍ ينطقها الأطفال في سنٍ مُبكرة: بابا، ماما،
دادا(الأخ، أو الأخت)، وتعني بالنسبة لهم أشياء كثيرة، ولا شيء
على
الإطلاق.
بدورهما، يعتقدُ الباحثان الفرنسيّان " Henri BEHAR"، و"
Catherine VASSEUR"
بأنّ مشاهدة، وقراءة أعمال الحركة الدادائية اليوم
بمثابة معجزة على الرغم
من الاضطهاد الذي عانته من طرف النظام النازيّ (كانت الوحيدة التي أشار
إليها هتلر
بشكلٍ صريح في كتابه "كفاحي")، وإحراق أولئك الذين استهلكوا "الفنّ المُنحط"،
والطبيعة الهشة للمواد المُستخدمة القابلة للتلف، وبشكلٍ خاصّ، العداء ضدّ
البورجوازية في تلك الفترة، والتي يمكن الاعتقاد بأنها كانت مُتحررةً بما
يكفي، أو "مازوخية"
كي تقبلَ، وحتى تُكرّس أولئك الذين لم يتوانوا عن استهدافها بغرض
تحطيمها، وأكثر من ذلك، استعجالها إلى المعارض الفنية،
ومُزايداتها في صالات البيع،
والاحتفاظ بعنايةٍ في خزائنها بأعمالٍ هي في جوهرها سريعة الزوال.
لقد أنشأت
الحركة الدادائية أسطورتها الخاصّة بتقديم نفسها "تدميرية"، و"إرهابية"
سواءً في
الفنّ، الأدب، أو الأخلاق الاجتماعية، أو الفردية.
تاريخياً، انطلقت من "زيوريخ"
في بداية عام 1916، وتوسّعت حتى ألمانيا، فرنسا، والولايات المُتحدة،
ولكنها لم
تُعمّر طويلاً، حيث أعلنت عن نهايتها عام 1923 مُمهدةً للحركة السوريالية
التي ظهرت
في فرنسا مباشرةً بعدها، ولكلّ الأساليب، والمُمارسات اللاحقة في السينما
التجريبية.
وقتذاك، في قلب الحرب العالمية الأولى كانت الأجواء نزقة، والمجزرة
الكبرى تحصد آلاف الجنود تاركة خلفها العائلات الثكلى، والقلوب
المُنكسرة، لم تكن
أوروبا أكثر قتامة، وتمزقاً من أيّ وقتٍ آخر.
في فبراير من عام 1916 حاولت
مجموعة من الثوريين تحويل طاقة الرياح، عندما وصل المخرج
"Hugo Ball"،
وزوجته
الراقصة، الشاعرة، والكاتبة " Emmy Hennings"إلى
"زيوريخ"، وقررا معاً تشكيل "حانة
فولتير" التي تمثلت مهمّتها في الترفيه عن أتباعها عن طريق
برامج موسيقية، وشعرية
يؤديها فنانون حاضرين من بين الجمهور، وعلاوةً على ذلك، شجعا الشباب على
المُشاركة
في البرمجة من خلال طرح اقتراحاتهم، وأفكارهم، وهكذا، استقطبت الحانة
الشخصيات
الكبيرة، وأصبحت فيما بعد منصةً حقيقية للحركة الدادائية، وكان
من بين روّادها :
الشاعر الرومانيّ " Tristan Tzara"، الشاعر الألمانيّ
" Richard Huelsenbeck"،
النحات الألزاسيّ " Jean Arp"،
والرسام الألمانيّ
" Hans Richter".وعن طريقها،
اعتزم هؤلاء المُغايرين اختراق المُعاهدات المفروضة في الفنّ،
والأدب، والتفاني
الخالص لحرية الإبداع في كلّ أشكاله، وقد فرضت الحركة نفسها بدون زعيم، كان
كلّ
واحدٍ من الدادائيين قائداً في مكانه.
في عام 1915، وبفضل ثلاثة من الدادائيين
الفرنسيين " Marcel Duchamp"،
"Man Ray"، و"
Francis Picabia "،
أرست الحركة
قواعدها في الولايات المُتحدة، وبشكلٍ خاصّ في المدينة المُؤثرة "نيويورك".
خلال
إقامتهم هناك، عرضَ الثلاثة أعمالهم، ونشروا في مجلة أسموها 291 التي لم
تحظَ
بنجاحٍ مُتوقع، وبعد محاولاتٍ غير مُثمرة، عادوا إلى أوطانهم
قائلين:
" Dada
لا
يمكن أن تعيش في نيويورك".
في عام 1918 تٌوجت الدادائية بانضمام الرسام،
والنحات" Marcel Duchamp "
إلى مجموعة "زيوريخ"، الذي منح تأثيراً كبيرا للحركة
التي امتدت في وقتٍ قصير إلى حدود أوروبا، ثم توسّعت دولياً،
وبدأت فلسفتها تُثير،
وتُكيد في نفس الوقت .
فنّ الصدفة
المُنظمّة..
لم تمتلك كلمة "Dada"
إطلاقاً أيّ دلالة خاصّة في
علاقتها مع الحركة، ويعود الفضل في اختيارها إلى الكاتب، الشاعر، واللغويّ
الفرنسيّ
من أصلٍ رومانيّ "Tristan Tzara"
الذي وجدها بالصدفة عندما كان يتصفحُ قاموساً
بطريقةٍ عشوائية، كما يعود إليه استحقاق تفسير روح الحركة نفسها من خلال
عبارته
الشهيرة:
"
تضعُ الدادائية الشكّ قبل الفعل، وقبل كلّ شيء : تُشككُ الدادائية
في كلّ شيء".
وهكذا تجسّدت أهدافها الجوهرية بمسح الماضي، وطرح التساؤلات
المُعمّقة حول جميع الاتفاقيات، والقيود الإيديولوجية الفنية،
والسياسية، وبشكلٍ
خاصّ، الازدراء من الحرب، وخطورتها باعتبارها عبثية.
وبالمُقابل، أبرزت الروح
الطفولية، واللعب مع المألوف، والاعتياديّ، ورفضت العقل، والمنطق، وتعمّدت
المُغالاة، والغرابة، واستثمرت السخرية، والفكاهة، بدون إغفال
رغبتها بإبهار، وصدم
الجمهور الذي وقع بين خيارين، إما أن يحبّ نتاجاتها، أو يرفضها تماماً (كان
الدادائيون يعشقون تشويه الأعمال المعروفة سابقاً، المُوناليزا على سبيل
المثال،
حيث نجدها في لوحةٍ لـ
"Marcel Duchamp"بشاربيّن).
وعندما رفضت الدادائية قواعد
الرسم التقليدي، وقف الدادائيون حائرين أمام اكتشاف أشكالٍ جديدة كي لا
ينعتهم أحدٌ
بأنهم ينفون كلماتهم الخاصة بهم، ومع ذلك، كانوا يكتشفونها بالصدفة.
في أغسطس من
عام 1927 حكى "Man Ray"
في المجلة الطليعية " Close Up"
عن إحداها:
(لقد
صورتُ
أحد المشاهد الأكثر إثارةً للاهتمام من فيلمي
" Emak-Bakia"
وكنتُ في سيارتي
المرسيدس المُخصصة للسباق أهتزّ بشكلٍ رهيب، وأنا أمسكُ
كاميرتي الصغيرة، وأصورُ
بها عندما التقينا في الطريق بقطيعٍ من الأغنام، كبست
" Rrose Sélavy"(شخصيةٌ
متخيلة) على الفرامل، وتوقفت السيارة على بعد متر منها،
ومنحتني تلك الحادثة فكرةً
:
لماذا لا أصور اصطداماً ؟
نزلتُ من السيارة، وخلال تحضيري للكاميرا، كنت
أتابعُ القطيع، ومن ثمّ ضغطتُ على زرّ التشغيل، وقذفتها في الهواء مسافة
عشرة أمتار
تقريباً، والتقطتها بيديّ من جديد).
وفي مكانٍ آخر، يشرحُ "Man Ray"
سياق إنجاز
صوراً ضوئية/إشعاعية (Rayogrammes)
استخدمها في فيلمه "عودة إلى المنطق"(Le
Retour à la raison)،
واعتمدها من جديدٍ في فيلمه
" Emak Bakia" :
فقد حصل على لفافةٍ
من شريط خام بطول حوالي ثلاثين متراً، وجلس في غرفةٍ مُظلمة كي يقصّه إلى
شرائط
قصيرة ثبتها على طاولة، ورشّ على بعضها قليلاً من الملح، والبهار، ورمى
عشوائياً
على الأخرى دبابيس، ومسامير صغيرة، ومن ثمّ عرَّض الأشرطة
للضوء الأبيض لفترة
ثانية، أو ثانيتين، وبعد أن تخلص من تلك الأشياء الموضوعة على الشرائط، قام
بتحميضها، وأظهرت النتيجة أشكالاً انطبعت بدون استخدام كاميرا، وبمعنى
أدقّ، بدون
الاستعانة بنظامٍ بصريّ.
يقول " Man Ray":
لم يكن لديّ أيّ فكرةٍ عن
النتيجة التي سوف تظهر على الشاشة.
الجزيرة الوثائية في
04/11/2010
في البحث عن الكاوبوي
فجر يعقوب
يبدو الفيلم التسجيلي ( البحث عن الكاوبوي ) الذي
بثته مؤخرا فضائي الجديد اللبنانية استعاديا لمقاتيلن عاشوا على طرف واحد
وجبهات
الحرب المختلفة ، فلم يستقدم المخرج المقاتلين الذين عاشوا على الطرف
الآخر ،
واكتفى بمقاتلين سابقين من الحركة الوطنية اللبنانية . هذا لا يعد بالطبع
أمر سيء،
أو يضير الفيلم ، ولكن كان مهما لنا كمشاهدين أن نتابعهم ،
لنعرف آراءهم ومصائرهم ،
وبخاصة أن المقاتلين الذين استضافهم عبّر بعضهم عن ندم شديد بخصوص
مشاركاتهم في
معارك لم تكن معاركهم بأية حال ، فكان لافتا مثلا أن نشاهد عقل حمية القائد
العسكري
السابق في حركة أمل يظهر ندمه على مشاركته بما سمي ب( حرب المخيمات ) ،
وبخاصة أنه
عرف عنه حينها تطرفه وغلوائه في حصار المخيمات الفلسطينية (
1985 – 1987 ) ، وأغرق
نفسه في ذكريات شخصية بعد مقتل أخيه علي في هذه الحرب الظالمة ، وأضاف بما
يبدو
مفاجئا لمتتبع سيرته بوصفه أميرا من أمراء الحرب الكثر : " الرئيس نبيه
بري أخذ
موقع الامام موسى الصدر ، وهو رئيسي ولولا ذلك لربطت له عند الأوزاعي ".
بالطبع قدم
لنا الفيلم صورا كثيرة لحمية مع رئيسه بري في زيارة أماكن مختلفة من العالم
.
مهما يكن ، فإن فيلم ( البحث عن الكاوبوي ) لم يكن يعنى بالدرجة الأولى
بانحناء
هؤلاء المقاتلين (الأشداء) على ضمائرهم ، بغية تفحصها ،
والاعتراف بما يمكن
الاعتراف به ، لا راحة هذه الضمائر المثقلة بالدم والموت والخراب ، كأن
يقول مقاتل
سابق في حزب البعث العراقي إنه غير نادم البتة على قتله لمقاتيلن مثله وقد
كتب على
جداره عبارة بارانوية متشككة أنتجتها الحرب في بعض أوقاتها الصعبة ، وهو
مازال
متمسكا بها مثل غيره من الذين يتمسكون بذكرياتهم عن الحرب
وعلاماتها المعقدة :"
ممنوع دخول المخبرين وفهمك كفاية ". ربما تلخص هذه العبارة المستهلكة تماما
المنبت
الايديولوجي الذي قدم منه هذا المقاتل الشرس . في المقلب الآخر سوف يكون
للموسيقي
الشيوعي ، عازف العود اعترافات من نوع آخر . ربما الموسيقا هي
من بدلته وقلبت حاله
رأسا على عقب . وهو وإن طالب حزبه بإيفاده إلى موسكو لدراسة الموسيقا ،
وحصل على
منحة عسكرية عاد بعدها ليصبح قائد مجموعة وهو يرتدي ملابس عسكرية سوفياتية
ظل
يرتديها على المحاور التي قاتل عليها ، واحتمى بها وغنى لها
بصحبة عوده ، إلا أنه
لاقى الصبية التي غيرت حاله نهائيا عندما اكتشفت حساسيته ورقته ومقدار
ثقافته وعلمه
وتزوجت به .
ثمة مقاتل متوار في العتمة هو وحده من كان يعرف
(
الكاوبوي ) مقصد الفيلم عموما ، وهو من كان يرشد المخرج نحو ضالته .
الكاوبوي
الذي تعرف إليه مقاتلون آخرون ، وبعضهم سمع به ، فقد ذاع صيته ، ولم يكن قد
بلغ
الرابعة عشرة من عمره حين انغمس بملء إرادته في أتون الحرب
المدمرة . الكاوبوي بحسب
بعض الشهادات غير الواضحة مقاتل محترف تمكن من أن يستولي على فنادق ويتحكم
بها من
خلال عناصر منصاعة له بالكامل . ومن هذه الفنادق استطاع ان يفرض ( الخاوة
) على
الكازينوهات وأماكن التسلية الأخرى التي شاعت أيام الحرب الأهلية
اللبنانية.
بدا المخرج مشدودا تماما إلى شخصية الكاوبوي من خلال إعادة لعب دوره
وارتداء ملابسه المميزة بمشاهد تمثيلية غارقة بموسيقى
الكاوبوي الشهيرة التي أغرقت
أفلاما كثيرة حينها واشتهرت أكثر من الأفلام نفسها . ثمة تفصيلات كثيرة
أعيد
استخدامها بطريقة فيها الكثير من التحنيط والتقليد . القبعة والمسدسين
والجزمة التي
تزينها النجمة عند الكعبين . لم يكن هناك إشارة إلى الكاوبوي
اللبناني ، المقاتل
السابق في صفوف الحزب التقدمي ، إلا من خلال هذا الزي الذي استهلكته أفلام
من هذا
النوع ، والذريعة الوحيدة التي أشار إليها المقاتل الآخر المتواري في الظل
، ويرتدي
ذات القبعة تكمن في أن هذا ( الفتى المميز) وجد ضالته يوما في قبعة كانت
تتدحرج
أمامه ، وربما ارتداها لمرة واحدة ، وقد استمد لقبه من هذه
الواقعة .أصبح الكاوبوي
اللبناني أمرا واقعا . ولكن البحث عنه لم يأخذ منحى الإثارة التي كان يلهث
المعد
رياض قبيسي وراءها ، فقد بدا واضحا أنه يعرف مكان سكناه الجديد ، وإن ما
يدور حوله
من أسئلة لا يتعدى التمهيد للوصول إليه . فهو يسأل ذات المقاتل
/ الشبيه ، المقاتل
المقلد إن جاز التعبير عنه ، فلا نعرف سببا لارتدائه ذات الثياب والقعود في
الظل ،
ليقدم شهادته عن سميّه الكاوبوي المفقود في لحظات بدت ثقيلة ، وبخاصة أن
معظم
المقاتلين الآخرين مثل شاكر البرجاوي ومحمد خريس وعقل حمية لم
يكونوا معنيين في
الفيلم بسيرة الكاوبوي الذي اتخذه الفيلم عنوانا له ، ومقصدا دراميا واضحا
، وهو ما
زاد من البلبلة والحيرة في تتبع أثر هذا ( المقاتل الاستثنائي ) على الأقل
بدا
الأمر لنا كذلك ، ونحن نتابعه من خلال زميله الذي دأب على
تقليده ومحاكاته ومكاشفته
.
هذه المكاشفة لم تأخذ الفيلم في الاتجاه الذي قصده المخرج ، وربما عرجت به
باتجاه
منحنيات درامية كانت تسمح بوجود عدة أفلام في نفس الوقت ، فالحرب الأهلية
اللبنانية
نبع لا ينضب ، وأفلام كثيرة حاكتها ، بعضها أصاب ، وبعضها لم يغادر فكرة
المخرج
الغامضة عنها
.
البوح
والندم الذي عاشه مقاتلون سابقون لا ينتمي إلى جسم الفيلم الأساسي الذي
أراده
المخرج . ربما ينتمي إلى أفلام أخرى كما أسلفنا ، فالخيط الذي
يقودنا إلى الفتى
الكاوبوي شابته تعرجات كثيرة والتواءات زادت من تشويش الفكرة الأساسية ،
فالكاوبوي
بنسخته الأصلية غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية ، وهو يعمل حاليا في
العقارات
ولديه زوجة وولدين ، وتمكن المخرج من الاتصال به عبر الأنترنت
، ليبلغنا برسالته
المجتزأة وغير المفهومة عن دوره في هذه الحرب . بدا كلامه غامضا ولا يملك
فكرة
واضحة عن المعارك التي شارك فيها . ربما لم يصلنا منه سوى هروبه بقصد
النجاة " حتى
لا يلعب البعض على رأسي " . هذا ما فهمناه منه ، ولتتبعه بعد ذلك مجموعة من
الصور
لفتى وسيم قد يستغرب البعض وجوده بين مقاتلين أشداء وصور أخرى برفقة زعيم
الحزب
التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط .
لم يقل أحد عنه شيئا . البعض من المقاتلين
سمعوا به ، أو تردد اسمه بينهم وهم يتسابقون في عمليات القتل ، وكأن الحرب
لم تكن
آفة في يوم من الأيام ، وأما المقاتل المتواري في الظل ، فلم يسعفه
الضوءالقليل
ليقول ، مايمكن أن يقال . ولم يسجل المخرج علامة تخصه ، حول ما
إذا كان الكاوبوي
مجرد رمز بائس من رموز الحرب المجنونة ، أو كان يقصد شخصا لا حول له ولاقوة
، وهو
ما أوقع الفيلم في اشكالية تتبع هذا الخيط ، بغية نسج الشبكة الدرامية
المتوخاة
لصناعة فيلم تسجيلي عن شخص بعينه
.
الجزيرة الوثائية في
04/11/2010 |