«يضيء الوعي، في كل لحظة من حياتنا، على ذلك الجزء الفوري من الماضي،
المتربص بالمستقبل، بل الساعي إلى إدراكه والارتباط به. قد لا ينشغل الوعي
إلا بتحديد المستقبل المجهول. لذا، يسكب بعضاً من ضوئه على حالات موغلة
القِدَم في الذكريات، والتي قد تُجمَع، بشكل مفيد، مع حاضرنا، بل مع ماضينا
القريب... أما البقية فتبقى في العتمة». (هنري بيرغسون «المادة والذاكرة»).
ثلاثة أفلام عرضت ضمن مهرجان «أيام بيروت السينمائية» تجعل عبارة بيرغسون
أعلاه موضوعاً قائماً، يضم المشاريع الثلاثة بعناق كبير واحد. قد تبدو
الصور والحكايات والسيناريوات السينمائية متفرقة، مشتّتة لكن أواصرها
مربوطة بحبل سرّة واحد: الذاكرة.
«بحبك يا وحش» لمحمد سويد، «يهود لبنان: الولاء لمن؟» لندى عبد الصمد،
و»شيوعيين كنا» لماهر أبي سمرا... أفلام أخذ صانعوها نَفَساً عميقاً وغطسوا
في المدينة (بيروت وصيدا). داروا بكاميراتهم ونصوصهم، وأحياناً بأفكارهم
المسبقة كما بتفاعلهم العفوي مع ما لم يكونوا قد استشرفوه. جالوا في
الشوارع، في الأمكنة المكنونة كقُطب في حاشية ثوب، وهي التي تعني بهاء
الثوب كله لشخصيات بعينها. تواريخ ومقاهٍ ومبان وأحياء تكاد بالسينما
تتماهى مع أناسها، الغريبين عنها اليوم وكانوا ينتمون إليها، على الأقل في
زمن مضى، وعلى الأكثر في ذكريات ما زالت تأكل معهم من صحونهم، وَعَوا ذلك
أم لم يعوه.
بحث سويد في قاع بيروت وصيدا، وعلى هوامشهما، وخرج بشخصيات «عادية». لا
أبطال، ولا عناوين كبرى، ولا قضايا مصيرية، شعوبية، أممية، أقليمية، قومية،
أو وطنية... «طم طم» لاجئة فلسطينية، لكن بلا مفتاح بيت في «الأرض
المغتصبة» يظهر في يدها، ولا دموع انكسار، فهي اللعوب رغماً عن أنف العمر
والفقر والقضية التي تقضم البشر. وهناك «الكينغ» الظريف الذي يعرف كل شيء،
سائق التاكسي اليساري بفطرته البسيطة، الشاب السوداني الكادح، وغيرهم.
ليسوا «عاديين» بالنسبة إلى سويد، والمسألة لا تنحصر في أن لكل منهم قصة
يرويها. بل كل واحد(ة) منهم عالم كامل يستحق أن تعيّشه كاميرا المخرج. «طم
طم» كانت جميلة، وما حصل هو أنها كبرت. امرأة، وقد تجعّد وجهها وانحشر طقم
أسنان في فمها. موضوعها، الذي يعنيها فعلاً، هو ذبول شبابها وجمالها وصوتها
الذي كان يُطرِب. اللجوء الفلسطيني للجماعات واليافطات. الجمال والصوت
والصورة المعلقة على مرآة غرفة النوم، كلها تصنع أفراداً. الشخصيات تضجّ
بذواتها. من خلالها، يبدو سويد كمن يفكر بنفسه وبالمدينة، كأنه صوتها، بل
عدستها الناطقة. صوت الراوي المكتوم يتساءل عما تغيّر في رأس بيروت، وما لم
يتغير في صيدا. الصوت هو الصورة، كوزموبوليتية في الحمراء، مخلصة لأزقة
صامدة و»قهوة زجاج» في صيدا. لعله قلق، سويد، كأي مديني نابض. قلق من زوال
صغائر الحياة اليومية، وقلق من ألا يحتفي بها كفاية، إذ يعي أنها بهجة
الحياة أبداً، وحسرتها أيضاًً.
من جهتها، نبشت عبد الصمد تاريخاً ممتداً، بين لبنان ودولة إسرائيل، منذ
قيام الأخيرة، مفاده أبناء المكانين. المكانان وليس «الوَطَنَيْن». فالرجال
والنساء اليهود الذين قابلتهم، ولاحقتهم إلى مواطئهم الجديدة القديمة من
القدس إلى بريطانيا وكندا، كانوا مواطنين لبنانيين، وصار بعضهم مواطناً
إسرائيلياً أو فرنسياً أو كندياً. حسناً، وبعد؟ لا يهم. تتعمّد عبد الصمد،
بحرفة، ألا تقف عند الإيديولوجيا في بطاقات هوية هؤلاء، وإن كانت السياسة
مضمرة، لمن يود قراءتهما من المشاهدين، بملامح إنسانية. ماذا تعني حياة كان
هؤلاء اليهود اللبنانيون يصرّفون شؤونها لتستمر من بعدهم غيرها؟ أي تاريخ
بشري لكنيس وبيوت مقفلة منذ عقود؟ أي علاقات حب وصداقة وقرابة كانوا
أطرافاً فيها وثمة، في لبنان، من هو حي يرزق ويتذكّرها؟ ماذا يدندن ذلك
الرجل في المقهى في إسرائيل؟ «عبدو حابب غندورة». منذ متى صارت كلمة
«اليهود» مرادفة لـ»العدو»؟ ليس منذ زمن بعيد، وإن كان ما قبل ذلك الزمن
يُعلَّب ويُنمّط ويرمى في بحر «النضال». وحدها الأمكنة، بما هي ناس، تحفظ
مثل تلك القصص وتعيد سردها، لا «الأمة» ولا «الأرض».
أما أبي سمرا، فقد لاحق هواجسه وأسئلته كشيوعي، انهارت أعمدة إيماناته وما
وجد لها بديلاً بعد. يستقدم قدامى «رفاقه» إلى حَملَته تلك، علّه يجد
تفسيراً لما يحدث الآن من حوله ولا يفهمه. لماذا يعود الشيوعيون إلى
طوائفهم؟ كيف يهضم بعضهم، اليوم، مقاومة ذات وجه طائفي في حين أن ذلك كان،
أمس، وجه «الخصم»؟ انخرطوا في الحزب لأسباب، وخرجوا منه لأسباب... مختلفة؟
يتساءل أبي سمرا، وهو الذي عاد من اغترابه الفرنسي إلى الحي نفسه الذي كان
يقطن فيه، قرب مركز للحزب، لأنه هناك يشعر بـ»أمان الدجاج في قنّه».
الذاكرة هنا ذاكرة صاحب الفيلم، ترسم المسار: تقاطعات بين الاجتياح
الإسرائيلي العام 1982 وحرب تموز 2006، خريطة بيروت التي رسم و»رفاقه»
عليها خطوط التماس السنية الشيعية الجديدة وفي باله خطوط أخرى غابرة بين
«شرقية» و»غربية»، وبين ميليشيا وأخرى في زمن الحرب الأهلية. في العام 82
ثم 87 حمل سلاحاً والآن عاد حاملاً كاميرا. ربما لم تأت الإجابات على وزن
الأسئلة. وربما لم تُشحذ الأسئلة بالقدر الكافي. تُركت الإشكاليات الطبقية
والاجتماعية والطائفية وحتى السياسية العميقة، بالمعنيين الشخصي والعام،
لسباتها السابق على الفيلم، والذي عقد أيضاً هدنته مع مُسَلّمات كثيرة
ألقيت في حضنه. وظلّ اليسار/الشيوعية/الماركسية في عتمة النقاش، لصالح
عنوان المقاومة الساطع على السطح وظلال الخيبة البعيدة. التمعت غواية
ذكريات «الرفاق»، ومنطقهم المطلق في إعادة إنتاجها، ولم نعرف إن فكفك أبي
سمرا ما أعلن، في بداية «شيوعيين كنا»، أنه يستغلق عليه... أي فهم الراهن
وإن انطلاقاً من الماضي.
ثلاثة أفلام لبنانية، إذاً، والذاكرة.
للذاكرة تجليات شتى قد لا نفطن فوراً إلى بعض مسالكها ذات الدلالة.
ففي خلال النوم، مثلاً، يعاود بعض الذكريات ظهوره، رغم أن النائم نفسه، في
أوقات يقظته، كان يظنّه قد ضاع منه إلى الأبد. وبذلك، قد تُعاش نوماً تلك
الذكريات بتفاصيلها واكتمالها المذهل: مشاهد من الطفولة، وجوه وعبارات من
بيت قديم، لغات نسينا أننا نتقنها...الخ.
وفي خضم تجارب اختناق أو غرق لا تختتم بالرحيل الناجز عن هذه الدنيا،
غالباً ما يعلن الناجون أنهم رأوا، في شريط بالغ السرعة، أحداثاً (كبيرة أو
صغيرة) من حياتهم، كانت في عُرفِهم منسيّة.
لعل «الحالم» لا يصعد فوق الخاص ولا يحلّق فوق الفرد. غير أنه يحمي تفاصيل
الماضي والذكريات، حين تأتيه، وإن راوحت مستقلة عن بعضها البعض، وعن السياق
الأكبر للحياة في صيغ الماضي والمضارع والمستقبل... أما مَن يفتح علب
الذاكرة المغلقة، ساعة موت/خطر/تأزم داهم، فإنه لا يترك لتلك الأحداث أن
تتخذ من أجله دالات ومدلولات تستجلب له معنىً يعود به إلى العيش، والأرجح
أنه يكتفي بعموميتها العريضة، بشبيهاتها وخلفياتها، كصور من أمس انقضى،
فيما يمسي الحاضر امتداداً رمزياً وتمثيلياً لها.
وإذا كانت حالتا الحالم والناجي ههنا حالتين قصويين، فإنهما غالباً ما
تتداخلان وتتمازج آثارهما طبيعياً. ويحصل أن يتخلى الحالم والمحتضر معاً،
كل مرة، وبداخل كل منّا، عن جزء من نقاء الحلم، وجزء من صفاء الموت الوشيك،
من أجل ذاكرة تنتج معنىً ما. فمَن، بين صانعي الأفلام الثلاثة وأبطالها، هو
الحالم في منامه؟ ومن الحيّ الذي يركل عنه موته؟
لقد روى بعض يهود لبنان، لعبد الصمد، يوميات قديمة من وادي أبو جميل، بعدما
داهمهم تهديد مجتمع نقز منهم بعد النكبة، وأكثر منها بعد النكسة، وتحفّز
للفظهم كجماعة، كفئة، كـ»نوع». تلقفت عبد الصمد ذكرياتهم وحكاياتهم كمنامات
فردية متقطّعة، غير أنها وضعت نصّيها المرئي والمكتوب، وبدقة خفرة، في قلب
لحظة موات ممتدّ للانتماء... ولـ»الولاء» الذي عنونت عليه فيلمها.
وحَلُم سويد بقصص مدينتين، بكل قصة تنثر نفسها حلقاتٍ على طول فيلمه. ربما
انحاز إلى هناءة الأحلام وفرادة كل من أبطالها. إنما، وفي أكثر من لحظة
أخيرة، استلحقت عينه محطات غرق واختناق قد تعبرها بيروت أو صيدا، اللتان لا
تقاوِمان، في «كادره»، شقلباتهما، شأنهما شأن المدن وأفرادها، الأصيلون
فيها والوافدون إليها.
أما في منام أبي سمرا الطويل، فقد استيقظت قناعات بمشاريع جديدة للمقاومة،
حام شبح الحرب الأهلية فوق خطوط تماس حديثة، وعَبَر طيف «القنّ الآمن»
جميلاً ومؤثراً. الخاص ذكريات، كأحلام حزبيين سابقين، والعام أنتجته أزمة
أبي سمرا وحده. كانت لحظة احتضار الحزب الشيوعي قصيرة جداً في الفيلم.
فمرّ، بأسرع مما هو متوقع، شريط «حياته» كما الأحداث في حيوات أربع من
قدامى أعضائه، ثم... ماذا؟ مات «الشيوعي»؟ لم يمت؟
المستقبل اللبنانية في
03/10/2010
كأنّنا لم نزل في مرحلة حبّ السينما
حسن داوود
قبل أكثر من نصف ساعة على فتح باب الدخول إلى الصالة كان الجمهور السينمائي
قد أقفل باحتشاده مدخل السينما والدرجات العريضة الموصلة إلى بهوها مالئا
تلك المساحة إلى آخرها. ذلك الجمهور، في العروض التي شاهدتُها، تطلّبت
كثرته إقامة العرض في صالتين اثنتين من صالات السينما، في الوقت نفسه، وفي
كلّ مرّة. وهو جمهور شاب، إلى حدّ أنّ المخضرمين القلائل الذين توزّعوا بين
حلقاته أو على أطرافها، بدوا كأنّهم نزلوا ضيوفا على جيل أبنائهم. وهؤلاء
الشباب، خلافا لما عهده المخضرمون أولئك، ميّالون إلى الأناقة واتبّاع
الموض الجديدة، في لبسهم وطرق كلامهم التي بدت اللغة، بل اللغات،
الأجنبيّة، واحدة من مظاهر جدّتها. إنّهم يختلفون عن الجمهور الثقافي أو
الفني الذي سبقهم، هذا الذي بات قليل الإكتراث لما يُعرض له في المناسبات
الثقافيّة التي تخصّه. في الندوات الأدبيّة على سبيل المثال لا نفتأ نرى
كيف أنّ الجهد الذي يُبذل للندوات والأمسيات يخيب، محبطا القائمين به. في
وقت مقارب لابتداء عروض «أيام بيروت السينمائيّة» خلت قاعة «بابل» الواسعة
خلوّا يكاد يقرب من أن يكون تامّا حيث لم تُلبّ الدعوات التي وُجّهت عبر
وسائل إعلام كثيرة إلى حضور ندوة الشعراء العراقيّين. وقد وصفت بعض الصحف
ذلك بكونه تخلّيا وإهمالا وتنكّرا للشعر العراقي صاحب الفضل في الريادة
الشعريّة الحديثة في أيّام الأربعينات.
كأنّ الجمهور الثقافي الجديد إختار السينما دون سواها من الفنون، وكأنّ
الفنون الكتابيّة تحوّلت إلى أن تكون شغف الناس القديمين وحدهم. الآن ولّى
ذلك الزمن وتراجع أهله. كليّات الآداب في الجامعات اللبنانيّة الكثيرة،
باتت موئلا لأولئك الذين وضعوا التعلّم خيارا إحتياطيّا لهم، أو لأولئك
الذين قلّت خياراتهم إلى حدّ التحاقهم بأقلّ الإختصاصات كلفة. أما دراسة
الفنون البصريّة، على جدّتها عندنا، فما زالت تتّسع سنة بعد سنة، وتتفرّع،
جاذبة إليها أصحاب الأهواء الجديدة كلّهم.
وقد أمكن لهؤلاء الجدد أن ينشئوا مجتمعا عريضا متصلة أطرافه بعضها ببعض.
كان من يصل إلى احتشادهم هناك في البهو، نازلا الدرجات الغاصّة بهم أيضا،
يبدو كأنّه يأتيهم بعد انتظار فيروحون يحيّونه فيما هو يتنقّل بينهم. وعند
بدايات العروض، في أثناء ما يجري تقديم صانعي الأفلام لها، يبدون عارفين
بكلّ من يُذكر إسمه أمامهم، معرفةّ تتعدّى دوره في الفيلم الذي سيُعرض عند
انتهاء التقديم. بل إنّ الحاضر بينهم (ذاك المخضرم إيّاه) متعرّفا على
«جوّهم»، يحسب أنّ أولئك الجالسين على مقاعدهم في الصالة ليسوا متفرّجين
فقط على ما يدور هناك على المنصّة، بل إنّهم أصدقاء وزملاء لهم يمكنهم أن
يتبادلوا المواقع معهم فيقوم هؤلاء عن مقاعدهم ليحلّوا محلّ مَن يحتفى بهم.
ويختلف السينمائيّون هؤلاءعن سابقيهم من أهل الفنون الكتابيّة في كونهم
متصلين بالخارج إتصالا إستعصى على أولئك الأخيرين. بدا تعداد الجهات
الراعيّة والمموّلة المشاركة في المهرجان شاملا لها على اختلاف إتّجاهاتها
وبلدانها. ثمّ أنّ أكثر الأفلام التي عرضت كان قد سبق لها أن عرضت في بلدان
أوروبيّة عدّة وبعضها حظي بجوائز في مهرجانات عالميّة. وقد استدركت الأمر
المؤسّسات اللبنانية الراعية إلى حدّ أنّ تعدادها في كلمة الإفتتاح الأولى
التي ألقتها هانية مروّة إستغرق وقتا غير هيّن.
إنّهم الجيل الفنّي الجديد الذي، في ما أحسب، لم يرغب في أن ينشئ صلة مع من
كانوا قبله. أغناه عن ذلك تضامنه وزهوه بانتسابه إلى السينما بما فيها من
بريق وبما لها من حضور. الأفلام اللبنانيّة التي عرضت في المهرجان، وكذلك
التي عرضت في مهرجانات سبقت، وأيضا تلك التي قدّمت كأعمال للتخرّج من
الجامعات، كلّها، على الأرجح، لم تلتفت إلى أعمال أدبيّة كان يمكن لها أن
تكون مادة أساسيّة لسيناريوات أفلام. متابع المهرجان لا يفوته أن يلاحظ ذلك
الإنفصال بين ذينك الفنّين، أو بين السينما وفنون أخرى من بينها المسرح
الذي لم يقطع مع ما يعاصره من أعمال أدبيّة. أولئك السينمائيّون يرغبون أن
تكون بدايتهم من أنفسهم. أن يبدأوا من سينماهم، مستأنفين في ذلك ما قامت
عليه الحداثة الأدبيّة إذ راحت تسمّي كلّ مرحلة من مراحلها بداية، جابّة
هكذا كلّ ما كان اُنجز قبلها. في سينما هليوبوليس بدا الشباب كأنّهم
يحتفلون ببداية السينما اللبنانيّة، أو يحتفلون بتأسيسها على نطاق يتعدّى
كونها محاولات متفرّقة أنجزها سينمائيون لبنانيّون من أجيال مختلفة. وهم،
بسبب رغبتهم في أن يكونوا البادئين، لم يكترثوا بتجاوز ما أنتج من أفلام
لبنانيّة، كأن ينتقلوا من أفلام مارون بغدادي وبرهان علويّة ورندة الشهّال
وسواهم إلى ما هو أعقد وأكثر حداثة. في الأفلام التي عرضت في هذا المهرجان
بدوا لناقديهم كأنّهم آثروا أن يبدأوا غافلين عن تلك المرحلة، أو المراحل،
التي سبقتهم. أي أن يبدأوا من حيث تبدأ الأشياء، أي من أوّلها، أي من ألف
بائها، من مرحلة ما قبل صناعة الفيلم التام الكامل.
أغلب ما شاهدناه هو تجارب مما يسبق صناعة الفيلم أو يهيئ لها. في فيلم
«الجبل» لغسّان سلهب، ما شاهدناه هو إثبات المخرج لامتلاكه المقدرة على
إنجاز فيلم طويل نسبيا بأقلّ ما يمكن من التنويع المشهدي. تابعنا الممثّل
فادي أبي سمرا مقيما أو منعزلا في غرفة الفندق لوقت يزيد عن الساعة. شاهدنا
لغة سينمائية خاصّة وقادرة، لكن ألم يكن ذلك مجرّد إمتحان لإثبات تلك
المقدرة؟ أقصد: إلى أين أخذنا الفيلم في ما يتعدّى متابعته الناجحة لتلك
العزلة؟
في عمل آخر (فيلم «باحبّك يا وحش» لمحمّد سويد) جرى الإعتماد على طرافة
الشخصيّات التي أجريت حوارات معها إلى حدّ الظنّ أنّها قادرة وحدها، مضافة
إليها ذائقة تصويريّة، أن تسوّغ فيلما. كان قد أعجبنا ما شاهدناه، وأضحكنا،
كما أحببنا الحنان الذي يغمر فيه محمد سويد أمكنته وبشره، لكن هل يكون ذلك
كافياً.
ولا يكفي أن نردّ ذلك إلى الميزانيّة القليلة، خصوصا وأنّ بعض ما عرض كان
إنتاجا كبيرا (على مستوى غير هوليودي طبعا). ديما الحرّ في فيلمها «كلّ يوم
عيد» بدت كأنّها غرقت في شغفها بالسينما إلى حدّ أنّ ولعها بالمشهد القويّ
في ذاته فكّك الفيلم أجزاء وجعله بلا فكرة ولا قوام. وهذا ما كان قد وقع
فيه سينمائيّون لبنانيّون سابقون ظنّوا أنّ المشهد القويّ يمكنه، على رغم
وقته القليل، أن يتمدّد منتشرا على أجزاء الفيلم كلّها.
ذاك وغيره مما لا يتسع المجال لقوله، يعني أننا ما زلنا في مرحلة حبّ
السينما.
المستقبل اللبنانية في
03/10/2010
فيلم “القلب المجنون”
تصوير مشاعر انسانية لعشق خريف العمر
بغداد- علي حمود الحسن
ان البنية الانتاجية
الضخمة التي تتميز بها صناعة السينما في هوليوود ،لم تمنع انتاج افلام ذات
ميزانية
محدودة ،وفريق عمل متضامن يمتلك رؤية فنية ووجهة نظر خاصة هذه
الفسحة من الحرية التي يمنحها سدنة هوليوود للفنانين
الموهوبين ،لاتعني بالضرورة تبني افكار ورؤى هؤلاء ،انما وعي
المنتجين لاهمية مثل
هذه الافلام التي ربما لاتتجاوز كلفتها العشرين مليون دولار – وهذا الرقم
لايكفي
اجر نجم واحد من نجوم هوليوود-هذه الشركات الصغيرة والتي تذكرنا بتاريخ
نشوء
هوليوود حينما هرب اصحاب المشاريع الصغيرة من شراسة امبراطورية
توماس ادســـــون
وشركته (اديسون ترست ) في نيويورك ، وقد يبدو غريبا ان يحصد فيلم” مثل
خزانة الالم “ذي
الميزانية المتواضعة ،فيما اخفق فيلم جميس كاميرون الفخم والذي تجاوزت
كلفته
الثلاثمائة مليون دولار ،الامر نفسه ينطبق على فيلم سكوت كوبر
الممثل الذي استهوته
قصة توماس كوب، فعمل على انتاجها مع الممثل الكبير روبرت دوفال , قد تبدو
حكاية
عادية ،مثلما اجمع النقاد لكن الذي فاتهم كم المشاعر الانسانية التي تحتدم
في
تفاصيلها ،وهذا بالضبط ما اغرى سكوت كوبر وروبرت دوفال على
التصدي لاخراجها ،فهي
تحكي قصة مغني مشهور لاغاني الكونتري (الريف )الاميركي التي انطفئ وهجها في
سبعينيات القرن وتجاوزها الزمن ،لتتحول الى ذكرى جميلة تداعب مخيال عجائز
مسنين،في
اطراف وضواحي المدن ،يؤدي دوره بتماهي يصل حد التوحد في بعض
اللقطات جيف هذا المغني
المسكون باطياف الماضي ومجد زائل لايستطيع الامساك به على مثابرته في اقامة
حفلاته
في تلك الاماكن البعيدة ، حيث يقوم بجولاته الغنائية عبر الولايات الشاسعة
بسيارته
القديمة ،وهو يحمل قيثارته التي بح صوتها وقبعته العريضة
وشرابه الذي لاينفك عن
احتسائه،في محاولة لتغييب وعيه والتغلب على وحشة روحه واحباطات كابوسية
لزواج فاشل
وابن فارقه منذ اكثر من عشرين عاما ،في واحدة من جولاته الغنائية ،وبعد ان
شاركه
صاحب حانة يهوى الموسيقى عازفا على البيانو في حفلة ناجحة
،يرتب له لقاء صحفي مع
ابنةاخيه الصحفية التي تكتب في الحقل الموسيقي ،تؤدي دورها بتميز عرف عنها
ماجي
جيلينهال ( فيلم “ابتسامة الموليزا” “مركز التجارة العالمي2006” ،”اغرب من
الخيال2006”،” نذهب بعيدا 2009” ) تلتقي بباد الذي يحيى حياة
بوهيمية ،حيث تعم
الفوضى كل شيء لتحاوره عن الموسيقى ،يرفض ان تصوره ويطلب منها ان تفعل ذلك
خلال
وصلته الغنائية في الحانة ،يعزف ويغني بحماس شديد فيما تلتقط له صورا لتدعم
تحقيقها
الصحفي معه ،لم يستطع التغلب على ادمانه وكاد يخسر ليلته على المسرح حينما
تنتابه
حمى سعال وتقيؤ ،ينهار تماما فالزمن غير زمنه والادمان دمر
روحه قبل جسده ليس هنالك
بصيص امل ،فالعمر شارف السبعين وعليه ان يعطي الكثير من التنازلات ليسدد
فواتير
مصاريفه المنفلتة ،الا ان شعورا جارفا يشدوه نحن جين الصحفية التي حركت
قلبه المليء
بالاسى ،يكتشف انها مطلقة ولديها طفل صغير لا يتجاوز الرابعة
،يدعوها لعشاء
يتصارحان بمكنون اسرارهما ،يخفق قلبه الذي هده الادمان والاحباط ،يتعرف على
الصغير
ويكسب وده ،تجتاحه روح الشباب فيحلق بالامل وتكاد ارجله تدك خشبة المسرح ،الاان
الضرورة البايولوجية تقول له اتئد ،يعلنان حبهما وتتغير حياته
بشكل كامل ،فلم يعد
سحاب بنطاله مفتوحا ،ولا قميصه مدعوكا ،وحتى مشيته الحنفاء استقامت ،طالبته
بالكف
عن الشراب ووعدها بالمحاولة ،وما فائدة ان يغيب وعيه ،وقد صار لايامه معنى
ولحياته
هدف ،يخبره وكيل اعماله بان عليه ان يفتتح حفلة لمطرب شاب كان تلميذا لباد
،ادى
دوره بحضور طاغي وتميزالممثل القدير كولين فاريل الذي عرفناه
في افلام مثل ( تقرير
الأقلية ، والفيلم المثير (كبينة الهاتف )، وفيلم (العالم الجديد ) يتباهى
كثيرا
بالغناء امام هذا الجمع لكنه يفهم انه جبر خواطر من قبل تلميذه تومي الحلو
، لكن
هذا لايهم طالما ياتي له بالمال والاهتمام ،يشغله الحب ويعيش
ايام هناء اسرية
ويستعيد ثقته بنفسه ويبدو العالم اكثر احتمالافي عينه ،تتفجر لديه عاطفة
الابوة
ويحنو على الصغير كابيه وتسعد جين بكل هذا الدفء ، وفي لحظة تجلي يخبرها
بانه مزواج
وانه طلق خمس من النساء ولديه ابن لايعرفه عمره (28عاما)وتفضي
هي الاخرى بعقدتها من
الرجال الذين اذوها كثيرا ،لكن حمى الحب وصدق عاطفتهما يجعلهما يتطلعان الى
تكوين
اسرة على فارق العمر ،وفي يوم يصطحب باد الصغير في جولة ترفيهية وبعد ساعات
حافلة
بالمسرات ،لايقاوم رغبة قسرية بارتياد بار لاحتساء الشراب ،فقد
الطفل ،فهرع يبحث
عنه في زحام المدينة ،وبعد ان يخبر الشرطة التي تعثر على الطفل ،ترفض الام
اعتذاراته ،وتتهمه باذيتها وطفلها وتقرر هجرانه ،ينهار وينكص يمرض ويدخل
المستشفى
،ثم مشفى للعلاج من الادمان ،وبعد مراجعة قاسية مع الذات ،يعترف بان عليه
ان ينسحب
من حياة جين وابنها كعشيق ،لتتحول عاطفته نحوها الى ابوة وحرص ،يكتب اغاني
لتومي
الحلوهي خلاصة تجربته المريرة في الحب والحياة ينتعش ماديا ،يلتقي جين
وابنها
ويمنحها مبلغا من المال لضمان مستقبل الطفل .انا اتفق تماما مع
النقاد على اعتبار
حكاية الفيلم تقليدية ،لكني اضيف بان جمالية الفيلم تحددها مجموعة عوامل
،ليس اقلها
وجهة نظر المخرج في معالجته للقصة ،وكذلك الى أي مدى يستطيع الممثلون تجسيد
شخصيات
الحكاية ،الفيلم اخرجه ممثل محترف هو سكوت كوبر الذي نجح ببراعة في تحريك
الممثل
الكبير،جيف بريدجز ،الذي تماهى مع الدور حد التوحد ،فالصوت
الذاوي ،والمشية
الحنفاء،والشعر الذي لم يصففه الا بعد ان مسه سهم كيوبد،ناهيك عن استرخاء
المدمن
ولا اباليته ،وكل هذا لم يات بسهولة بل من مران شاق ،فقد عمد جيف الى زيادة
وزنه
اكثر من عشرين كيلو ،وتمرن كثيرا على اداء اغاني الفيلم التي
غناها بصوته بصدق واسى
،ناهيك عن الاكسسوارات ذات الدلالة الاشارية ،القبعة الكبيرة ،سحاب
البنطلون الذي
لم يحكم اغلاقه الابعد عشقه لجين ،وكذلك قميصه المدعوك والملقى
فوق البنطلون طالما
هو محبط واسير الادمان ،الفيلم اعتمد اصلا على ممثل مقتدر خبير بالتفاصيل
الصغيرة ،
فالبطل يعيش وهم الماضي واحباط الحاضر نجح جيف بتجسيده عبر ايماءات اداء
بلا تكلف ،
آزره فيها الاداء المفعم بالرومانسية والبراءة لامراة تعيش في
ضواحي المدينة كصحفية
في جريدة عادية ،تجد في بوهمية والتباس شخصية باد معادلاً موضوعياً
لاغترابها عن
محيطها الرتيب ،كذلك الممثل القدير كولين فاريل الذي ظهر بدور التلميذ الذي
تجاوز
استاذه لكنه يدين له بالعرفان ،ويحاول ان يمازج بين موسيقى
الاباء والابناء ،الفيلم
يناقش ثيمة الحب غير المتكافئ ،لكنه مفروض بمصادفة كالتي يحكي عنها عالم
النفس
الشهير يانك ،مصادفة ربما تغير مصائر ،فجيف المغني الذي ملأت شهرته الافاق
في
سبعينيات القرن الماضي كواحد من ابرز مغني الريف الاميركي
والذي يعيش وحدة واحباط
اديا به الى الادمان ،بعد ان تجاوز موسيقاه الزمن وخفتت من حوله الاضواء،يلتقي
صحفية مغمورة تعاني هي الاخرى من وحشة الروح والجسد تعوض ذلك بالتفاني في
تربية
طفلها ،تجد في جيف الحبيب والاب والصديق والابن ايضا ،تتعانق
روحيهما وكلا يكمل
الاخر ،فعنفوانها يجدد دماءه الخاملة ،وشيخوخته يمنحها امان فارقها لقسوة
طليقها
وعنفه ،هذا الحب الملتبس والمتقد بين هذين الشخصين المختلفين ،لم يمنع صوت
العقل من
ان يعيد كل شيء الى نصابه ،فجيف يتحول بعد نجاحه ككاتب اغان
لايبارى لا يجد الا ان
يتراجع لتنتصر عاطفة الابوة على عاطفة العشيق ،والحال كذلك بالنسبة لجين
التي اتجهت
نحو الافق مع طفلها ربما لتحيا تجربة اخرى .الفيلم تقنيا مكتمل حاله حال
الافلام
الاميركية عموما ،فليست ثمة شيء زائد ،السرد بمنتهى السلاسة
والجمال ،اغاني الفيلم
بصوت جيف بريدجرزاو كولين فاريل بمنتهى الصدق ،تصوير الطرق الخارجية من
خلال حركة
سيارة باد بليك والطبيعة الخلابة المحيطة بالولايات الاميركية على خلفية
اغاني
(الكنتري)اضفى
جمالا على مشاهد وايقاعه من خلال مونتاج.الفيلم حاز على جائزة افضل
ممثل لجيف بربدجرزباستحقاق ،ليس لانه مخضرم ومرشح عتيد للاوسكار ،وانما
لادائه
التلقائي لهذه الشخصية المركبة ،الفيلم كسب تعاطف الجمهور اينما عرض لانه
اقترب
كثيرا من مشاعر انسانية لعشق خريف العمر ،الذي وصفه الموروث
الشعبي العراقي
بانه”جتال بالضرورة”
الصباح العراقية في
03/10/2010
إبراهيم جلال: التمرين ما زال مستمراً
بغداد – كاظم لازم
فوجئ مرتادو (مسرح بغداد) في مسائه
الشتوي عام 1976 وباحة انتظاره الضيقة من اجل مشاهدة عرض فرقة المسرح الفني
الحديث
الجديد والموسوم .. (رحلة الصحون الطائرة)
ترجمة واعداد فيصل الياسري بوقوف مخرج العرض ابراهيم
جلال فوق
الدكة العالية المؤدية لقاعة المسرح وتدخله المباشر في اختيار مشاهدي
العرض، لم
يستفز الكثير من الذين تواجدوا قرب الدكة هذا التصرف الغريب من المخرج بل
استحسنه
عندما بقيت مجموعة من الشباب والذين كانوا يضعون العلكة داخل
افواههم وهم يتغامزون
ويطلقون النكات السرية ليطلقوها ضحكة واحدة خارج قاعة العرض.
عندها سأل المخرج الكبير قاسم محمد والذي جسد احدى الشخصيات
الرئيسية في العرض المخرج ابراهيم جلال عن سر هذا التصرف.. اجابه الاخير ان
المكان
مقدس ولا يمكن لهؤلاء ان يدنسوه.
عن تلك الحادثة وما حملته من مفارقة يشكل تاريخ هذا العملاق
المسرحي الذي ولد عام 1921 ليواصل مشواره خلال اكثر من نصف قرن
واضعاً اكثر من بصمة
فوق تراث كبير اسمه المسرح العراقي، ابراهيم الذي اسس عام 1952 الفرقة
الشهيرة (المسرح الفني الحديث) لتتحول بعد ذلك الى
مدرسة كبيرة للفن المسرحي الواعي
والملتزم من خلال عروضها المهمة ليكون جلال احد فرسانها من خلال استلهامه
لمشروع
برشت الملحمي وتطويعه للروح العراقية، ابراهيم جلال .. ضحك كثيراً وهو يرى
الصحف
المصرية وقد خرجت بعناوين بارزة لتتحدث عن اهمية المسرح
العراقي بعد ان قدمت الفرقة
القومية للتمثيل عام 1969 مسرحية (البيك والسائق) التي اعدها الشاعر صادق
الصائغ عن
مسرحية برشت .. السيد تونيتلا وتابعه ماشي والتي عرضت على احد المسارح
المصرية.
ضحك جلال يومها وهو يرى رسوم الكاريكاتير التي تسخر من المسرح
المصري وغفوته واتجاهاته التجارية ومجيء المسرح العراقي الذي
ايقظه من نومته
الطويلة.
ابراهيم جلال وبعد 19 عاماً من رحيله كان يؤكد من خلال اعماله
التي اخرجها على ضرورة ابراز التناقضات الاجتماعية واقامة
علاقة جديدة وجدلية تفعل
بين القديم والجديد.
تسنى ابراهيم جلال من خلال مسرحياته العديدة الكثير من الاسئلة
ليعرف في النهاية مفهومه للفن ومدى حاجة الواقع المعاش اليه
فالمسرح لديه لا يقدم
اجوبة جاهزة بل اسئلة واشكالية متواصلة تثير القلق لكنها تمنح متعة
الاكتشاف من اهم
اعماله في المسرح
1-
مقامات ابي الورد
2-
كاليغولا
3-
الملحمة الشعبية
4-
رحلة الصحون الطائرة
5-
دائرة الطباشير القوقازية
6-
ست دراهم
7-
البيك والسائق
8-
الطوفان
9-
الشيخ والغانية والتي كانت اخر اعماله
وفي مجال السينما مثل واخرج العديد من الافلام ابرزها
1-
القاهرة – بغداد وهو فيلم عراقي مصري مشترك اخراج احمد بدر
خان.
2-
فيلم عليا وعصام 1948.
3-
فيلم ليلى في العراق عام 1949.
4-
فيلم من المسؤول عام 1956 .
5-
فيلم سعيد افندي عام 1958.
كما شارك ممثلاً في مجموعة كبيرة من الافلام اهمها.
1-
شايف خير 1968
2-
سنوات العمر 1976
3-
الرأس 1976
4-
الايام الطويلة 1980
5-
الاسوار 1979
6-
الاسوار 1979
7-
فائق يتزوج 1984
8-
الفارس والجبل 1984
9-
الوداع الاخير وكان اخر مشاركته في السينما.
الصباح العراقية في
03/10/2010 |