منذ كان كل رصيدها السينمائي فيلماً روائياً
واحداً، أرغمت أحد أكبر مهرجانات
السينما في العالم، مهرجان «كان» السينمائي الدولي، على الاحتفاء بها
وتكريمها.
إنها المخرجة التونسية مفيدة تلاتلي التي
شقت طريقها بثبات، فكرست وقتاً طويلاً من
حياتها للمونتاج السينمائي قبل أن تتحول إلى الإخراج في «حادث
عرضي» على حد وصفها.
قدمت تلاتلي أفلاماً قليلة جداً، ثلاثة ولا تزال تستكمل فيلمها الرابع
«الأيادي
الصغيرة»، لكنها نجحت في أن تُؤصِّل لنفسها مكانة جليَّة كرائدة في السينما
التونسية والعربية.
وُلدت مفيدة تلاتلي لأسرة متواضعة في سيدي بو سعيد
في تونس عام 1947. ومن دون
إرادتها وجدت نفسها تنتمي الى عالم المرأة المسلوبة الإرادة والمرتبكة،
التي وُلدت
ونشأت في ظل مجتمع ذكوري. كانت تشعر أنها في معترك قضية كبرى غير مُعلنة،
وأن كل
شيء ضدها، مع ذلك نجحت في الحصول على منحة لدراسة السينما في معهد «الإيديك»
في
باريس، وتخرّجت عام 1968. عملت مشرفة سيناريو، ومنتجة في
التلفزيون الفرنسي بدءاً
من عام 1972. تعترف بأنها لم ترفض أبداً أي عمل يُعرض عليها حتى في الأفلام
القصيرة. أخرجت فيلمها الروائي الطويل الأوّل «صمت القصور» عام 1994، ثم
فيلمها
الروائي الثاني «موسم الرجال» عام 1999، والفيلمان شاركت فرنسا
في إنتاجهما. عملت
وقتاً طويلاً من حياتها في المونتاج السينمائي. من دون وعي منها كانت أثناء «التوليف أو التركيب» تتعلم مهنة الإخراج
عبر أخطاء ومهارات من اشتغلت معهم من
مخرجين مثل مرزاق علواش في شريطه السينمائي «عمر قتلته
رجولته»، وفاروق بلوفة في «نهلة»،
و «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي، و «الهائمون» لناصر خمير، و «حلفاوين»
لفريد بوغدير، و «ظل الأرض» للطيب الوحيشي.
امرأة صامتة
كانت تلاتلي قد طلبت من والدتها رعاية ابنها حتى
تتفرغ لعملها وتفي بالتزاماتها
المهنية. لكن فجأة تمرض والدتها بالزهايمر فتضطر مفيدة إلى مرافقتها. بعد
ما يزيد
على عشرين سنة غنية بالعمل المتواصل وبالتجارب الممتعة تترك تلاتلي عملها
السينمائي
لمدة سبع سنوات كاملة من أجل رعاية أمها وأولادها. في تلك الفترة تبدأ شكوك
الصبا
وهواجسه في مُحاصرتها، ومن جديد تُطوِّقها تساؤلات حول عائلتها
وحياة أمها بخاصة
حين كانت تجلس الى جانبها لفترات طويلة قرب البحر. في أحد الأيام تُمسك
بالورقة
والقلم لتضع حداً لهذا الأرق أملاً في تحقيق خلاصها!
عندما بدأت الابنة تتأمل حياة وشخصية والدتها
انتبهت إلى أن الأم كانت امرأة
صامتة، لا تجرؤ على قول «لا»، لذلك كان المرض هو طريقتها الخاصة لقول هذه
الـ «لا»،
ولإنهاء حالة الاستعباد التي عاشتها طوال حياتها. تعترف مفيدة بأن الإخراج
كان
متنفساً رهيباً يُطهرها من مِحن وآلام عاشتها منذ الصغر، كان تنفيساً عن
وضعية لم
توجد داخل البيت الأسري فحسب، بل كان لها امتداد في المجتمع
الذي تعيش فيه. سمح لها
الإخراج بالتعبير عن آلام والدتها وشقائها وعن أمور كان مسكوتاً عنها.
فحياة
والدتها كانت نموذجاً لحياة غالبية النساء في شمال أفريقيا. وعندما تصف
تلاتلي
الإخراج بأنه «حادث عرضي» تنسب فضله إلى والدتها، فقد كانت
الأم ترمز إلى جزء كبير
من حياة ابنتها التي أرادت أن تتناساه فتحوّل إلى معادل موضوعي في أفلامها.
صورة
من وحي هذه التجربة المؤلمة وتجارب أخرى عاشتها
تلاتلي تفجرت قدرتها على سكب كل
هذا الوجع في أول أفلامها «صمت القصور» الذي لفت إليها الأنظار بقوة
مُدهشة، إذ نال
جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان «كان»، ثم سرعان ما احتفى به النقاد
ورجال
السينما في العالم ليحصد أكثر من عشرين جائزة، وليُصبح أحد أهم
الأفلام التي تُعالج
وضعية المرأة في تاريخ السينما العربية والتونسية على وجه الخصوص.
اليوم عندما يُذكر اسم مفيدة تلاتلي تتفجر في
الذهن صورة يملأها التحدي ولا
تنقصها الشجاعة أو الإرادة، صورة مترعة بالخطوط والظلال لامرأة صنعت خلاصها
المستحيل، لإحدى المخرجات العربيات النادرات اللائي كافحن ضد الأفكار
المسبقة وضد
خوفهن الشخصي. امرأة فرضت نفسها وشخصيتها كمبدعة بأسلوبها الخاص. نموذج
ناتئ للمرأة
التي تحوّل معاناتها وتجربتها الشخصية المعجونة بالحزن والمأسوية إلى حالة
إبداع
سينمائي شديدة الخصوصية وبجماليات فنية نادرة.
في أفلامها، «صمت القصور»، و«موسم الرجال»، و «نادية
وسارة» 2003، تعالج مفيدة
تلاتلي مشاكل المرأة التونسية ووضعيتها الراهنة حتى في ظل منظومة من قوانين
تحرير
المرأة. تُبرز معاناتها، ومعركتها النفسية والاجتماعية دون السقوط في فخ
المباشرة.
بعيداً من الرؤية النسوية المتعصبة تلتقط كل التناقضات التي تمنع تطور
شخصياتها
النسائية وتصنع جحيمها. تُسلط الضوء بفنية راقية على العلاقات المتوترة بين
النساء
والرجال، على القوة الرجعية المتأصّلة في عقلية المرأة
التونسية. تفضح عوامل القمع
والقهر الداخلي والخارجي التي تُكبّلها. تكشف كيف تخلق النساء أغلالهن
بأنفسهن،
مُوضحة أن الرجل لم يعد وحده المسؤول عن هذه الوضعية، فالنساء لم يعدن
ضحايا له، إذ
إنهن شريكات في تلك الجريمة. إنهن سجينات عقولهن وقيمهن،
فالمرأة ذاتها تُكرّس لهذا
القمع وتُعيد إنتاجه عندما تربي أولادها الذكور والبنات على القيم
والتقاليد
البالية نفسها، مما يُضاعف من عجز الفتيات عن التحرر الداخلي.
في عام 2008 عندما كانت في الواحدة والستين من
عمرها نالت مفيدة تلاتلي تكريم
سيد المهرجانات، مهرجان «كان» السينمائي الدولي. واختارتها إدارة المهرجان
للمشاركة
في ندوة تحت عنوان «السينما والالتزام» ضمن تظاهرة «أسبوع النقاد»، كما
رشحتها
للإشراف على طاولة مستديرة تحت عنوان «حول سينما المرأة
العربية»، وذلك بعدما كانت
عضواً في لجنة التحكيم في المهرجان ذاته عام 2001.
وهذا العام اختارتها الجمعية المصرية لنقاد
السينما المسؤولة عن تنظيم مهرجان
الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط لرئاسة لجنة التحكيم الدولية في
دورته
السادسة والعشرين. هذا إلى جانب تكريمها وعرض فيلميها «صمت القصور» و «موسم الرجال»
ضمن برنامج «بانوراما سينما المرأة وقضاياها» الذي أقيم على هامش
المهرجان.
الحياة اللندنية في
01/10/2010
جمالية الصورة أنقذت الفيلم من رتابة
السيناريو
تونس - صالح سويسي
ينطلق شريط «آخر ديسمبر» قبل الجنيريك بمشهد حزين، حيث يظهر آدم يجلس في
المستشفى وهو يبكي حزناً على فراق عزيز عليه لا ندري تحديداً
من يكون، ثم ومع بداية
الفيلم نرى أن هذا الطبيب يعيش حالة اكتئاب شديدة تجعله يهمل حياته الشخصية
والمهنية. ليقرر في وقت لاحق أن يلتحق بالقرية حيث سيعمل.
يصل آدم الى القرية وتبدأ خيوط الحكاية تُنسج في قلب الطبيعة الجميلة التي
أتقن
المخرج تصويرها، حيث يباشر الطبيب الشاب والوسيم المغرم بعزف
الغيتار، عمله في
القرية التي تفتقر لأبسط مقومات الرفاهة حيث سيلتقي عائشة الفتاة
الرومانسية
الحالمة التي تقع في غرام أحد أبناء القرية ليتركها حاملاً منه ويهاجر. يقف
آدم إلى
جانب عائشة ويساعدها على التخلص من الجنين لتتمكن من الزواج من احد شبان
المدينة
الذي يقيم في باريس لكن العلاقة تفشل بعد وشاية زميل لها في
العمل، لتجد في الطبيب
الشاب مخلصاً لها من آلامها وليجد هو أيضاً خلاص روحه على يديها، أو هذا ما
أراد
المخرج أن يوهم به المشاهد.
قصة بسيطة وصورة مدهشة
قصة هذا الفيلم تبدو بسيطة جداً ليس فيها أي اشتغال على النص لا من حيث
السيناريو ولا الحوار، قصة كلاسيكية يمكن أن تحدث في أي مكان
أو زمان، قدمها كمون
دون تحديد لمكان بعينه أو زمان. وأحداث بطيئة إلى حد الملل في بعض ردهات
الشريط.
وكأن المخرج أراد أن يعدل إيقاع شريطه على
إيقاع القرية الرتيب، ولعلّ ما قلل وطأة
الملل عدد المشاهد الكوميدية التي لم يخل منها الفيلم، فضلاً
عن المناظر الطبيعية
الرائعة والخلاّبة التي التقطتها كاميرا معز كمّون، حيث جاءت الصورة في
غاية النقاء
والجمالية ما يعطي انطباعاً بالارتياح أثناء المشاهدة.
اعتمد المخرج على تصوير المشاهد بشكل فيه الكثير من الإغراء السينمائي
وبحرفية
نادرة جعلت الصورة ثاني أبرز نقاط القوة في الشريط بعد الأداء
الممتاز للممثلين دون
مفاضلة، حيث كان اختيار الممثلين لافتاً وقدم كل واحد منهم ما هو مطلوب منه
وزيادة.
وعلى رغم تجربتها البسيطة في السينما إلاّ
أنّ هند الفاهم «بطلة الشريط» نجحت إلى
حد بعيد في إقناع المشاهد بقدرتها العالية على أداء دور الفتاة
الحالمة والرومانسية
والساذجة أحياناً، أمّا ظافر العابدين فقد أكد مرة أخرى أنه من طينة الكبار
وأنه
يخطو بسرعة نحو النجومية لما يبرزه في كل دور جديد من حرفية وذكاء في تقمص
الشخصية
التي يقدمها مع كل عمل جديد. بقية الممثلين الذي شاركوا في هذا
العمل السينمائي
الجديد شكلوا عنصر دفع وإضافة مهمين.
ومهما يكن من أمر فإن كل عمل سينمائي جديد في تونس يمثّل حدثاً ثقافياً
وفنيّاً
تحتفي به وسائل الإعلام والجمهور بأشكال مختلفة، ولئن كانت
اغلب ردود الفعل تؤكد
ضعف السيناريو والحوار في الفيلم فإنّ الاتفاق كان حول جمالية الصورة
وتميّز أداء
الممثلين. كما أنّ «آخر ديسمبر» قطع مع «الحمّام العربي» والأجساد
المتناثرة هنا
وهناك بموجب ودون موجب على عادة كثير من الأفلام التونسية.
يذكر أنّ الشريط استغرق
سنتين لتنفيذه كما أكد مخرجه الذي أضاف أنه صرف كل ما يملك على فيلمه
الجديد وقد
سبق له أن أخرج عدداً من الأفلام القصيرة إلى جانب فيلم طويل بعنوان «كلمة
رجال»
وهو مقتبس من رواية التونسي حسن بن عثمان.
الحياة اللندنية في
01/10/2010
آرثر بن أسّس لهوليوود الجديدة وكورتيس
اختتم أزماناً منسية
كتب إبراهيم العريس
كانا في سن واحدة تقريباً، بل ان المخرج بينهما كان أكبر من الممثل على
الأقل
بثلاث سنوات. ومع هذا كان ثمة كثر يمكنهم أن يراهنوا، من
الذاكرة، على أن هذا
الأخير بينهما كان أكبر سناً بكثير من الآخر. ولعل في خلفية هذه المراهنة
أن الممثل
الراحل أمس طوني كورتيس، كان يرمز بكل تاريخه ومساره الفني، الى عهد
هوليوودي انقضى
منذ زمن بعيد، فيما كان المخرج آرثر بن، الراحل قبل كورتيس
بساعات،
يرمز الى كل التجديد الذي صارت عليه هوليوود خلال ثلث القرن الأخير وأكثر،
وربما –
تحديداً – بدءاً بواحد من أقوى أفلامه
وأشهرها: «بوني وكلايد» (1967). ومع هذا فوجئ
كثر من أهل السينما ومتفرجيها برحيل بن وكورتيس في وقت واحد
تقريباً، ناقلين الى
واجهة الأحداث نقطة انعطافية أساسية من تاريخ عاصمة السينما في العالم، في
تقاطع
مدهش وذي دلالة بين النمط العاطفي الكوميدي الناعم الذي كان يمثله أداء
طوني
كورتيس، وغالباً في أدوار ثانوية الى جانب نجوم كبار، والنمط
القاسي الذي مثلته
أفلام آرثر بن، التي لا شك في أنها، وأفلام سدني بولاك وجون فرانكنهايمر،
شكلت
الجسر الصلب الذي عبرت عليه هوليوود من قديمها الى جديدها.
فالحال أن الجيل
الذي انتمى اليه آرثر بن، وسمي دائماً «جيل التلفزيون»، كان هو الأساس الذي
انطلق
منه جيل «أصحاب اللحى» (كوبولا وسكورسيزي وسبيلبرغ... الخ)
لأحداث تلك الثورة
السينمائية (والفكرية – السياسية) الضخمة التي نقلت هوليوود من حال الى
حال. ولئن
كان طوني كورتيس (المولود في أسرة هنغارية الأصل، عام 1925) ظل طوال حياته
يشكو من
أن هوليوود لم تكرّمه أبداً (على رغم أنه مثل في أفلام ناجحة، وأحياناً تحت
إدارة
بيلي وايلدر، كما قام بدور لا ينسى في «خناق بوسطن»، لا سيما
في «البعض يحبها
ساخنة»)، فإن آرثر بن لم يكن ليبالي بمثل هذا التكريم، على رغم أنه أُغدِق
عليه
مراراً وتكراراً، بخاصة في موسكو التي أحبته في حقبتها السوفياتية وكرّمته
كثيراً.
ظهر طوني كورتيس في أكثر من مئة فيلم (منذ العام 1949)، وغالباً في
أدوار الوسيم اللاتيني الظريف. أما آرثر بن فلم يتجاوز عدد
الأفلام التي حققها
الخمسة عشر فيلماً، إضافة الى أعمال كثيرة للتلفزة، ومسرحيات كثيرة حققها
لبرودواي.
ومع هذا فإن العدد الأكبر من أفلام آرثر بن
اعتبر أفلاماً كبيرة، وغالباً ذات قضية.
وهذا الأمر واضح من لدن مبدع آلى على نفسه دائماً أن يجعل سينماه نقيضاً
لكل ما
حاربت الماكارثية الحمقاء من أجله. ومن هنا نزعت أفلامه في اتجاه بعدٍ
اجتماعي
تقدمي، لم يفته أن يكون متقناً وجماهيرياً في آن. ومن هنا نرى
كيف ساهمت أفلام
أساسية له (مثل «بوني وكلايد» و «ميكي وان» – وهما فيلمان تأثرا بالموجات
السينمائية الجديدة في أوروبا
أواسط سنوات الستين – لا سيما «الرجل الصغير الكبير» الذي أبدع فيه داستن
هوفمان في
دور الأبيض الذي عاش وسط أحضان الهنود الحمر والطبيعة، و «مسدس العسراوي» و
« صانعة
المعجزات» و «المطاردة» – إحدى روائعه المنسية اليوم)، في
ولادة الثقافة الأميركية
الجديدة، ونزعات الاحتجاج الشبابي.
بيد أن هذا كله تضاءل حضوراً خلال
السنوات الأخيرة من القرن العشرين، حيث انصرف آرثر بن، بعد خيبات وإحباطات
للعمل في
التلفزيون، مهد موهبته، والمسرح، كما عمل مدرّساً جامعياً لفن السينما، قبل
أن
يقعده مرض ظل يرافقه حتى قضى عليه. حاله في هذا حال طوني
كورتيس الذي التجأ أيضاً
الى التلفزيون قبل، أن يستبد به، هو الآخر، المرض ويقضي عليه في وقت كان
كثر
يعتقدون بأنه هو الآخر رحل منذ زمن بعيد.
الحياة اللندنية في
01/10/2010
نساء العالم وأطفاله في متاهات الشاشة
الأنثوية
سلا (المغرب) - مبارك حسني
مرة أخرى تربح السينما العربية مهرجاناً دولياً. ومرة أخرى وبقدر قليل من
الدراية والمثابرة تكبر مدينة سلا من مدينة للقراصنة المجاهدين
ذات زمن ضد الغزو
الأوروبي، ومدينة للصلاّح الزاهدين وأخيراً مدينة الأسوار الرومانية
الأمازيغية
القديمة، لتكبر بلقاء سينمائي ذي طابع دولي ترسخ وصار موعداً سنوياً
أساسياً. هي
إضافة فنية حديثة، وهذا ما لا يتاح لمدن أخرى أكبر، وذلك بفضل
وجود ثلة من عشاق
السينما يعرفون أن الفن السابع أفلام طبعاً وخطاب صوري شامل معبر كامل،
وأيضاً جو
احتفالي جدالي يفتح كوات متألقة على العالم الواسع بطموحاته وأفاق الرحبة
ومشاكله
وهواجسه.
والدورة الرابعة التي اختتمت قبل أيام أكدت بالملموس وإلى حد مقبول جداً
هذه
المعطيات، خصوصاً أنها رفعت شعار العصرنة وشعار الحديث عن
المرأة كقضية أساسية في
منظومة التقدم خصوصاً في عالمنا العربي، وأيضاً في مفهوم الجمال عامة.
وبخصوص هذا
المعطى الأخير لا بد من الإشارة إلى وجود الممثلة الفرنسية الشهيرة «ماشا
ميريل»
إيقونة أفلام الموجة الجديدة بفرنسا والممثلة المفضلة لكبار المخرجين
المؤلفين
العالميين. فهي لم تكتف بدورها كرئيسة لجنة التحكيم فقط بل أضافت لمسة خاصة
على
الأجواء خلال يوم الافتتاح بخطاب متزن وعميق تحيي فيه مبادرة
مهرجان للمرأة في
المغرب كفعل له انعكاس إيجابي على المجتمع، ومشيرة في ذات الوقت إلى أنها
ليست
غريبة عن البلد بما أنها ولدت فيه من أبوين روسيين، وبالضبط في العاصمة
الرباط التي
تركتها منذ كانت في الثامنة من عمرها. والشيء نفسه قامت به
خلال يوم الاختتام حين
أشارت في كلمة بذات العمق بأن المرأة هي التي ستغير العالم، وأوصت بأن تضم
الدورات
المقبلة للمهرجان أفلاماً من إخراج نساء فقط عكس الدورة الحالية التي ضمت
أفلاماً
لسبع مخرجات وخمس مخرجين. وهذه الوثوقية في الرأي تجلت بصماتها بوضوح في
نتائج لجنة
التحكيم، وفي قيادتها لأوركسترا اللجنة المؤلفة من نساء من الكاميرون
والبرتغال
وإيطاليا وفرنسا ومصر عبر حضور الممثلة سمية الخشاب والمغرب
عبر حضور الممثلة
المقيمة في مصر سناء بوزيان. فقد جاءت هذه النتائج موضوعية ومتفقاً عليها،
ولم تتسم
بأية محاباة، كما أن الطريقة التي قدمت بها قادتها هي بنفسها من خلال
إعطائها
الأوامر في شكل لاقى استحساناً وجعل الناس يثمنون بادرة
المنظمين باختيارها.
أفلام من دون رأفة
وهكذا من بين اثني عشر فيلماً في المسابقة الرسمية، توجت بدور أحسن نسائي
بطلة
الفيلم الإيطالي «الدمية» (إنتاج 2010) باتريسيا جيرالدي.
ويتناول الشريط قصة تبني
طفلة متروكة في حديقة عمومية من طرف زوج وزوجة يعملان في مجال فنون السيرك.
وقد تم
تصوير الطفلة ذات العامين في شكل مؤثر وأخاذ لا يمكن مقاومة تأثيره بسهولة.
وذلك
باعتماد العفوية والطلاقة من لدن الممثلين بحيث اكتفى المخرج بتتبع الأمر
وبخاصة
الطفلة.
ونال جائزة أحسن دور رجالي الممثل التركي فكرت بورتكال عن دور بائع الورود
في
الفيلم التركي «رجال فوق الجسر» (إنتاج 2009) للمخرجة التركية
الشابة أسلي أوزج.
الشريط يلعب على حبل الوثائقي والمتخيل مع المراوحة الواقعية بينهما، وذلك
عبر ثلاث
حكايات مستقلة في ظاهرها لشرطي ورجل متزوج ومراهق يحاول كل واحد منهم تحقيق
رغبة
«مثالية»
ضداً على الواقع الصعب الذي يدورون في فلكه. تبتغي المخرجة رسم بانوراما
عامة لتركيا الحالية بمشاكلها السياسية والإثنية وتأرجحها ما بين الحلم
الأوروبي
والتميز المحلي، مع ما يستتبع ذلك من أثار على نفسيات السكان
وسلوكهم. والحق أن
المخرجة بعملها الأول هذا تدخل منطقة سينما الالتزام غير المريح لكن الذي
ينبئ عن
مسار سينمائي مقبل سيكون لا محالة قوياً.
وحصل على جائزة أحسن سيناريو مناصفة الفيلم الأرجنتيني «متاهة» (أنتاج 2010)
لنتاليا اسميرنوف والفيلم الشيلي «الخادمة» (إنتاج 2009) لسيباستيان سيلفا.
الأول
يحكي قصة الحرية النسائية في الأرجنتين وفي العاصمة بوينس ايرس تحديداً،
والتي يبدو
أنها لا تزال محدودة، أمام سيادة مفهوم الرجل الذكوري المسيطر، وذلك بواسطة
صور
ولقطات ذات جمال ملحوظ تختال فيها بطلتها بتمكن واقتدار.
المتاهة لعبة أساسية قدمت
كهدية ومادة انطلاق حكي داخل الشريط، لكنها أيضاً إحالة على وضع عام ملخبط
وغير
ميسر للوهلة الأولى لتشابك عناصره ومحدداته. الفيلم الثاني يروي قصة راكيل
التي قضت
أكثر من عشرين سنة في خدمة عائلة ثرية بسانتياغو، وبالتالي
جعلها الوضع لا تقبل
معاشرة خادمات أخريات داخل المنزل، مما يدفعها لتخترع المقالب لطردهن.
وبالطبع
إحداهن، وهي بدوية، ستتمكن من قلبها. لكن فوق هذا وذاك يتمكن الشريط من رسم
بورتريه
امرأة محت منها المشاعر والأحاسيس لطول زمن الخدمة في الخلف من دون أية
قدرة على
التصرف في شكل شخصي مستقل. الفقدان عبر العمل الدوني الخاضع
للأوامر والنسيان. إلا
أن الحب والمشاركة يمكنهما أن يغيرا الكثير إذا ما توافق ووجدا الظروف
المناسبة.
جائزة لجنة التحكيم الخاصة فاز بها الفيلم الفرنسي «فستان السهرة» (أنتاج
2010)
للمخرجة ذات الأصل المغربي مريم عزيزة. الشريط يصور قصة جولييت الفتاة
المراهقة
التي تكن لأستاذة لها تعلقاً جارفاً وتود أن تصير مثلها، جميلة وجذابة وذات
شخصية
قوية. لكن علاقة الأستاذة بتلميذ في الفصل ستجعلها تعيش حالات
انجذاب ونفور وعدم
فهم تمتزج بنهوض مشاعر ورغبات المراهقة الأولى. فيلم الرهافة والرقة والألم
الباطني.
أما الجائزة الكبرى للمهرجان فقد نالها الفيلم الكوري الجنوبي «حياة جديدة»
للمخرجة الفرنسية والكورية الأصل أوني لوكنت. والحق أن هذا الفيلم يتجاوز
كونه
فيلماً ليصير شهادة وثيقة لصاحبته. فهو يحكي قصة أطفال متخلى عنهم وتم
تبنيهم من
طرف الغير بعد أن تكون مؤسسات خيرية دينية (مسيحية هنا) قد
تكفلت بحمايتهم في
البداية. وفي واقع الأمر أن المخرجة تناولت عالماً تعرفه في شكل جيد بما
أنها فتاة
تم التخلي عنها في الصغر، وتكفلت بتربيتها أسرة فرنسية. وبالتالي فقد روت
ما تعرفه
بالتفصيل الدقيق وبالمشاعر العميقة والقوية للتجربة. وقد انتظرت زمناً قبل
أن تقوم
بما قامت به، وخلاله اخترقت عالم السينما عبر مهنة مصممة ملابس. وعند
سؤالنا لها عن
هذا المسار غير المألوف في السينما العالمية خلال ندوة النقاش الصحافية في
الصبيحة
الموالية للعرض، أجابت بأنه خاضع للتعود على معاشرة الشخوص عند
إلباسهم عبر إتباع
دقيق لما يفرضه السيناريو، وكذلك مشاهداتها في بلاتوهات التصوير، كل هذا
دفعها كي
تلتحق بورشة كتابة سيناريو، وفيه كتبت الفيلم فلقي تجاوباً من منتج معروف
قام بتبني
مشروعها الفيلمي هذا.
وككل مهرجان سينمائي يبغي التثقيف والمساهمة الفكرية والإشعاع الجماهيري
العام
نظمت على هامش المسابقة الرسمية ندوات وعروض فيلمية. الندوة
المهمة وترأسها الناقد
ومدير المركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل رفقة العديد من المختصين
الأوروبيين، تناولت موضوع الساعة: تبني الصيغة التقنية الرقمية
من طرف القاعات
السينمائية العالمية، وأثرها على الفن السينمائي، ومردوديته الموضوعاتية
والمالية.
فلم يعد إمداد القاعات يكلف الكثير بحيث
يمكن إرسال أكبر عدد من نسخ الأفلام في
الوقت نفسه إلى أكبر عدد منها بخلاف صيغة الشريط المحمول الذي
يكلف ثمن النقل
والشحن والتوزيع مع التعثر والإتلاف والتقادم الذي يتعرض له. لكن سلبية
الرقمي تكمن
في خطر انهيار الذاكرة السينمائية العالمية وكيفية التصرف بها. بموازاة ذلك
تم عرض
أفلام أخرى كأفلام السينما الإيطالية المكرمة في هذه الدورة،
وأفلام مغربية
والأفلام القصيرة، في أحياء المدينة وبعض البلدات المجاورة.
ويمكن الجزم أن هذه الدورة أضافت تنويعاً فكرياً وفنياً وتجربة خاصة، وهنا
لا بد
من التذكير بأن العروض تقدم في قاعة سينمائية بكل مواصفات
الحداثة توجد في حي شعبي
مكتظ مما يضمن جماهيرية كبرى له وللساكنة.
الحياة اللندنية في
01/10/2010 |