اختار هادي زكاك مخرج
وكاتب سيناريو الفيلم الوثائقي «درس في التاريخ»، خمسة عشر طالباً من خمس
مدارس
واقعة في مدينة بيروت وضواحيها وهي: «سيدة الجمهور»، «الإمام الحسين»،
«المدرسة
الإنجيلية»، «الإيمان النموذجية»، و«المدرسة الألمانية». وقبل
البدء بمشروعه، التقى
بمئةٍ طالب من طلاب «البروفيه» (الصف التاسع) للإطلاع على دروس التاريخ في
هذه
المدارس.
رتب زكاك أجندة فيلمه على طريقة التحقيق الصحفي المصور، متناسياً عن
قصد أو عن غير قصد، أن ما يدعى بـ«الحقيقة الإعلامية» أمر يصعب بلوغه،
لارتباط ذلك
بترتيب مضمون التحقيق الصحفي، الذي يضع الصورة في أحيان كثيرة
تحت رحمة المونتاج.
يأخذ «زكاك»، عبر تمرير كل سؤال للتلاميذ، لقطات قريبة ومتوسطة لوجوه
الطلبة،
كمن يستنبط العبرة. ويسأل في درس اللغة الإنكليزية عن أشهر الأطباق
اللبنانية،
فيجيب الطلاب: «التبولة.. الفتوش.. السلطة.. الحمص». ثم يسأل: من هي الدولة
العدوّة
للبنان؟ ويجيب الطلاب: «إسرائيل.. إسرائيل.. سوريا.. إسرائيل».
ويطلب المخرج من
الطلاب أداء النشيد الوطني اللبناني. ويتدخل عبر آليات المونتاج في كل مرة
يتلكأ
فيها طالب عن استكمال النشيد. طبعاً تريد الكاميرا أن تقول هنا: الطلاب لا
يحفظون
نشيد علم بلادهم! ثم يسأل كل منهم: هل أنت فينيقي أم عربي؟
تجيب طالبة بانزعاج: «عربية؟
شو يعني عربية.. ليش عم تقلي هيك؟!» ويرد آخر: «يمكن أنا فينيقي،
الفينيقيون كانوا يحبوا يقطعوا الأِشجار»!
ينحاز الوثائقي فجأة إلى لافتات
الحرب الأهلية في شوارع بيروت، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مئتي
ألف قتيل. ويتدخل
المونتاج مجدداً، فيظهر رأس أحدهم بين الفينة والأخرى عبر نافذة، في بناء
مطل على
شوارع بيروت. لا أحد يعرف من هذا الشبح، ربما علينا التكهن. لعله الباحث عن
التاريخ، وعن الكتاب الموحد لهذه المادة، والذي ما زال في
أدراج وزارة التربية
والتعليم اللبنانية، برغم الانتهاء من صياغته. ليبقى الكتاب المعتمد
للبروفيه بنسخة
عام 1970!
تمر الكاميرا بين الصفوف والممرات الفارغة في المدارس الخمس، فتبحث
وتبحث.. طلاب يلعبون في باحة المدرسة، بينما يعود التلميذ «مجد سلهب» لتفحص
صور،
بالعدسة المكبرة، من أرشيف لخسائر الحرب الأهلية. ثم تتجه
الكاميرا الى حفل عيد
ميلاد «سلهب»، ثم حفل تخرجه المدرسي، حيث يهديه أساتذته «ملف الحرب
الأهلية» كهدية
نهاية العام الدراسي.
إذن لا حقيقة عبر هذا الوثائقي، حيث المونتاج يتكفل في
توصيل وتقطيع أوصال الصور المنقولة. وعلى المتفرج أن يأخذ بصور متداخلة،
بالاعتماد
على عينة عشوائية في مجتمع لا يمكن دراسته أو التنبؤ باتجاهاته، انطلاقاً
من منطقة
أو حي أو مجموعة مدارس متوسطة هنا وهناك.
وينهي المخرج فيلمه ببقاء التلميذ
سلهب في الكادر الأخير، كأمل لأجيال لا تشبه آباءها، مع لقطات
من لافتات في شوارع
بيروت من مثل: «كلنا لأي وطن».
يتدخل المونتاج مرةً أخرى في تحويل الوثائقي إلى «ديكو- درامي»، عبر إطلالة خاطفة لرأس الرجل
المجهول ذي الإطلالات الغريبة، ما يدفع
للسؤال: هل يوضع الفيلم الوثائقي العربي في خدمة أجندات
إعلامية معينة؟ لا سيما أن
الوضع السياسي في لبنان لا يحتمل إيحاءات من أي نوع. وهل بمقدورنا استنباط
الحقيقة
الإعلامية وفق خدعة الموضوعية، التي تحولت إلى عشرات الحقائق الوثائقية
المصورة،
بمساعدة «آلة» المونتاج؟
السفير اللبنانية في
13/08/2010
هل تعلمنا السينما اليوم ألف باء الحب؟
هيفاء أبو النادي
مصطلح يرجع إلى استخدام الأفلام والاستفادة منها في تعليم الطب،
حيث ابتكِر هذا المصطلح لأول مرة في العام 1994 في مجلة طبية بعنوان 'طب
الأسرة' من
قبل الأطباء: ماثيو أليكساندر، وهال، وبيتيس، ثمّ استخدِم مرة
أخرى من قبل الأطباء:
ماثيو أليكساندر، وآنا بافلوف، وباتريشيا ليناهان في كتاب شامل وإرشادي
الهدف منه
الاستفادة من السينما طبيّاً.
فالسينما التي يستفيد منها الأطباء في تعليم
طلابهم الطب يمكن لها أن تكون فاعلة ومهمة في تعليم الناس على
مختلف منابتهم كيف
يتعرفون إلى مشاعرهم ويدركون أهميتها ويفهمونها عن طريق سيناريو المعرفة
الذي
يستقيه المُشاهِد من نبع السينما أثناء المشاهدة والتواصل، فتكون النتيجة
حثّ
وتنبيه مدارك المتعلم/المشاهِد وفكرِهِ النيّر. ففي الحياة
يتمّ تعلم المواقف
والاتجاهات الفكرية المهمة والقيم المختلفة وأداء الفرد بوساطة ما يعرف بـ role modeling،
وهي عملية دمج لانفعالات وعواطف المتعلم. وبما أن المشاعر فاعلة وحيّة في
حيز الوجود قبل المفاهيم، فإن اتخاذ المنحى التفاعلي في الحياة يشكل طريقاً
حاسماً
من أجل الوصول إلى عملية تعلم عقلانية. بينما يمكن اكتساب المعرفة الفنية
(التقنية)
ومهاراتها عن طريق مواصلة تدريب الذائقة على تلمس حقيقة ما نراه على الشاشة
ومقاربته ومقارنته بما يمرّ بنا في هذه الحياة. فنتعرّف كمشاهدين على
شخصيات الفيلم
و'حقائقه' ونستخدم مَشاهِدَهُ من أجل تمثيل 'حقيقتنا' نحن.
وتتوسع المخرجات
التعليمية لدينا كمتلقين عن طريق استمرارية دعم النماذج المختلفة التي يتم
تناولها
في الأفلام لتداعياتنا كمتعلمين وذواقة.
لا يخفى على أحد أن السينما تؤدي دورها
كأداة حراك اجتماعي وحلقة وصل بين الأطراف المتناقضة وغير المتناقضة من أجل
إحياء
ودعم وتوثيق قيمة 'التغيير' بصفتها قيمة إنسانية حضارية فردية ومجتمعية في
آن واحد.
وتحاول جاهدة أن تحقق معادلة الخلود شبه
المستحيلة في عقول البشر داخل وخارج قاعة
السينما وإلى أبعد مدى ممكن. فالأمر ليس مجرد ساعات من المتعة
الوقتية التي تنتهي
بانتهاء العرض. ولكن، يجدر بنا أن نسأل: كيف للسينما أن تؤدي دور المواطن
المناضل
الذي يكدّ ويجتهد من أجل الحصول على لقمة العيش، وفي الوقت نفسه يجاهد من
أجل
النهوض بإنسانه الشاهق والارتقاء به عبر تحسين صورة ثيمة الحبّ
فيه لدفعها قدماً
نحو إدراك أنّ الحياة أغلى من أن تقاس بمقارنة ما يملكه قريبي مع ما أملكه
أنا!
صناعة الحب في السينما، أسسها ومقوماتها، أن تصنع فيلماً عن
الحب...إلخ! لا
يحتاج الأمر إلا إلى فكرة نيرة طائرة في سماء الرومانسية تحترم عقل
المتلقي، وقصة
متماسكة الأوتار، وسيناريو يتسم بالشفافية والصدق والانسيابية والبساطة،
ومخرج خلاق
يعي قيمة الحب، وممثلين مبدعين يلمسون شخصياتهم ويلتحمون بها، وفريق عمل
مجتهد،
ليكون العمل مترابطاً وطائرا كقطعة موسيقية ساحرة.
وهنا أتساءل: بداية، كيف
يتشكل الحب بين اثنين؟ وهل من وصفة سحرية تجعلنا نقع في الحب
ونقتنع في وقوعنا فيه؟
كيف بدأ الحب بين قيس وليلى، فرانكي وجوني، تيمور وشفيقة، وغيرهم؟ أقصد كيف
استطاعت
السينما أن ترينا كيف بدأ الحب بينهم؟ وكيف لأفلام مثل فرانكي وجوني مثلاً
أن
تتركنا مبتسمين حتى نهاية العرض؟ هذا الفيلم الذي أنتج في
أوائل تسعينيات القرن
الماضي.. لميشيل فايفر وآل باتشينو وسحر أخاذ يحملنا بالطول والعرض على
سجادة حمراء
مسافرة بين هذين الاثنين. أتساءل أيضاً: هل يتشكل الحب تماماً كما تتشكل
الكراهية؟
أو تماماً كما يتشكل الوعي والاختلاف على حدّ سواء؟ وهل بوسع السينما اليوم
أن
تعلمنا ألف باء الحب؟
تعدّ السينما بكل ما فيها من سحر خبرة مبهجة لمشاهدها
والعامل فيها، فهي تحفر عميقاً في حياتنا، وتجعلنا ندرك أننا لسنا وحيدين
في
تحدياتنا وعالمنا الكبير المعقد الذي نعيش فيه، فيصبح من
الممكن جدّاً تحدي الصعب
وقهر كل ما من شأنه أن يعيق أو يحدّ من العاطفة.
إن أفلاماً مثل فرانكي وجوني
تخبرك بأن الحب عاقل ومسؤول وخلاق ومجتهد، تبعدك عن تنميط
الأشياء وتأطيرها، وتجعلك
تستشعر قيمة الحب في حياتك، فتشارك من تحبّ الحياة حتى لو كنتما في غرفة
واحدة
سريرها مختبئ في كنبة كانت قد نسيت منذ زمن بعيد أنها موجودة من أجل أن
يمسك
المحبون عليها أيديهم! تعلمك السينما ألا تقتل الوقت الجميل
بالتفكير في أمور من
شأنها أن تفسد عليك صباحاتك وتجعل لأنفاسك رائحة كريهة فقط لأنك اعتدت أن
تحبس
نفْسَك داخل بوتقة العمر الذي يكبر ولا ينتظرك إلا لتشيخ فيه! توقظ السينما
حواسك
فتجعلك تستشعر قيمة ما تملك، وإن لم تعطك الحياة كل ما تشتهي،
فلا بأس إن حاولتَ أن
تقتلع السعادة من أشواكها، ولا بأس إن استطعتَ أن تدرك حقيقة أوردتها
السينما في
فيلم فرانكي وجوني تقول بأنّ معجون أسنان واحد بلا فلورايد يمكن له أن
يجمعك مع من
تحبّ بفرشاتين زرقاوين تجعلان طعم الصباح أحلى. فما الحب إلا
مجموعة من التفاصيل
اللذيذة التي تجتمع لتريك أنك تستحق أن تسعد. إن سينما الحب صناعة سحرية
لسلسلة بلا
قفل ترتديها عن سبق إصرار وترصد فوق قلبك الذي تعب من الحيرة والغرق في
تفاصيل
العتمة والروتين الآخذ بالانتشار كسرطان مجنون لا يريد أن يحدّ
من نشاطه أبداً إلا
بأخذ جرعات مكثفة من حبّ يشترك فيه اثنان مقتنعان تماماً بأنهما مانحان
وعاشقان
وجريئان في تقبل واقع حياة مشتركة.
تواجه السينما تحديات عظام، كما أنها تشكل
عنصراً مهما جدّاً من عناصر حثّ البشر على استخدام عقولهم بشكل
يضمن على الأقل
اتساعاً معقولاً وسقفاً مرتفعاً للوعي الاجتماعيّ والثقافي. فالسينما سلاح
تنويريّ
تعليمي وتثقيفي من شأنه أن يقينا من العتمة إن نحن أدركنا ذلك. وحتى من
يدعي منا
ارتفاع سقف الحلم والثقافة في بيته، فإنه لا يتصرف بناء على
ذلك، فهو دائم التبرير
والحيرة، ووعيه يزداد ظلمة فيفقد البوصلة التي وجدت لترشده. ومن هنا كان لا
بدّ من
إشعال شمعة أخيرة في قاعة السينما المظلمة من شأنها أن تسلط الضوء على كل
ما يسجننا
داخل دائرة العدم والأنانية. هذه دعوة للحب، ولتعلم الحب عبر السينما،
فاستجب لها
عزيزي القارئ.
كاتبة وأكاديمية أردنية/فلسطينية
القدس العربي في
13/08/2010
"سولت" آخر العنقود في سلسلة "أفلام الترهيب":
بعث العدو السابق رمزاً للآني
ريما المسمار
أوحى الإعلان الترويجي لفيلم "سولت" (Salt) الذي احتل شاشات العرض التجارية قبل أشهر من إطلاق الفيلم بأن عملاً
متقناً من نوع الحركة والتشويق سينازل لهيب شهر آب، موعد إطلاق الفيلم،
وسيرفع من حمى حرارته. ولكن مشاهدة الشريط أثبتت العكس تماماً.
عندما قرّر المخرج جوناثان ديمي إعادة تقديم الفيلم الكلاسيكي "مرشّح
مانشوريان" (The Manchurian Candidate)
في نسخة مجدّدة العام 2005، استبدل السياق السياسي ليتلاءم مع هواجس
المرحلة. ذلك ان الشريط الأصلي الذي صنعه جون فرانكنهايمر في العام 1962،
مقتبساً رواية ريتشارد كوندون، واحد من أبرز إنتاجات هوليوود عن الحرب
الباردة من خلال قصة محارب كوري، يقوم النظام الشيوعي بغسل دماغه لاغتيال
المرشح الاميركي لمنصب نائب رئيس الجمهورية. وإذ عُرض الفيلم (بطولة فرانك
سيناترا ولورانس هارفي وانجيلا لانسبوري وجانيت لاي) في اجواء أزمة
الصواريخ الكوبية ومن ثم اغتيال جون كينيدي الذي جاء في سياق "تقليد الواقع
للفن"، أقلق كثيرين مما ادى الى سحبه من الصالات العام 1963 ليعود الى
الجمهور العام 1988. أما ديمي، فأعاد صوغ الحكاية على خلفية حرب الخليج
وحوّل ابطالها جنوداً أميركيين في واحدة من معارك "عاصفة الصحراء".
في فيلمه الجديد "سولت"، يعود المخرج فيليب نويس الى الحرب الباردة،
من دون أن يكون لتلك العودة خصوصية او مبرر سوى التلميح الى قوى الشر
المتغلغلة في نسيج السياسة الأميركية والمتربّصة بأمن الولايات المتحدة
الأميركية وبشعبها. وللمتابع ان يلاحظ أن هوليوود ابتعدت من موضوعة الحرب
الباردة، سواء بإنتاجاتها المناهضة للشيوعية او المناهضة لسلوك الإدارة
الأميركية خلال الحرب الباردة، منذ الثمانينات. وجاء ذلك بعد عقود من تقديم
أفلام حول الحرب الباردة، شكّلت في الخمسينات والستينات موجة بارزة، غذّاها
الواقع بالدرجة الأولى لاسيما على أثر إنشاء "لجنة الكونغرس للنشاطات
المعادية لأميركا" التي أدانت عشرات الكتاب والمخرجين والممثلين بتهمة
ممارسة نشاط شيوعي. وإذ لم تنأَ هوليوود بأفلامها عن تنميط صورة "المخرّب"
متّخذة من "الشخصية الروسية" أحد أمثلتها الجاهزة، إلا انها انشغلت منذ
أواخر التسعينات بصراعات أخرى مسرحها الشرق الأوسط غالباً. فقامت التوليفة
الهوليوودية الجديدة على "شيطنة" عدو جديد. وإذ قامت بعض أفلام الحرب
الباردة على التلميح الى "العدو" (الشيوعية والاتحاد السوفياتي وغيرهما)
بشكل غير مباشر، يستخدم نويس في "سولت" شبح الإتحاد السوفياتي وروسيا معاً
للتدليل على العدو الخارجي الجديد من دون ذكره. فالمقصود في الفيلم ليس
الحرب الباردة ولا خطر الإتحاد السوفياتي أو روسيا الحالية، بل هو التخريب
والإرهاب. هكذا يغدو العدو السابق افتراضياً ويتحوّل تاريخ الصراع الطويل
خيالاً علمياً يرمز الى معضلة الحاضر.
ولكن السؤال الذي يثيره هذا الطرح وهذه العودة الى أدوات قديمة لسرد
هواجس آنية يتّصل بالأسباب. ففي خضم الإنتاجات الهوليوودية عن الإرهاب
وأعداء الولايات المتّحدة الأميركية، لماذا يلجأ صنّاع "سولت" الى
التّرميز؟ ولماذا لا يسمون الأشياء بأسمائها كما فعلت وتفعل أفلام كثيرة؟
فالعدو الأفغاني والعراقي والإيراني والمسلم عموماً بات ركيزة لأفلام كثيرة
منذ هجمات 11 أيلول. بكلام آخر، لم يعد الطرح السينمائي في ما يتعلّق
بالإرهاب خاضعاً للرقابة او لمراعاة من أي نوع بما يسهّل على المنتجين
والمخرجين والكتّاب القول والإتهام المباشرين. فلماذا التلكؤ في "سولت"؟
بعيداً من تحميل الفيلم فوق طاقته ومن تأويله أبعد مما يحتمل، يقودنا
التأمل في خلفيات هذا الفيلم الى حقيقة ساطعة وحيدة هي حقيقة النظام
الإنتاجي. فباستثناء المحاولات القليلة التي تصب في إطار سينما المؤلف او
السينما المستقلّة أو على الأقل السينما المهتمّة بإبداء وجهة نظر غير
السائدة، تخضع أفلام هوليوود السياسية للشروط التجارية بالدرجة الأولى بصرف
النظر عن مضمونها الذي لا يخلو أحياناً من دقة المعلومات وجرأة التحليل.
وما النّقاش المستمر في أروقة استديوات الإنتاج في هوليوود حول "التوقيت"
و"المزاج العام" الذي يصاحب خروج الأفلام السياسية سوى دليل على أن عملية
صنعها محكومة بشروط خارج الضرورة او الرغبة. وإذا شئنا تحديد موقع "سولت"
انطلاقاً من ذلك على خارطة الأفلام الهوليوودية الأخيرة التي تناولت
موضوعات ساخنة وآنية (أفغانستان والعراق خصوصاً والشرق الأوسط عموماً)،
يمكن ان نفهم ارتداد صنّاعه الى التاريخ القريب لتعزيز مخاوف الحاضر. ذلك
ان موضوع الحرب على العراق استُهلك خلال السنوات الأخيرة في أفلام كثيرة،
لم يختلف صداها كثيراً بين أفراد الجمهور، على الرغم من تفاوت مستوياتها،
إذ ظلّت السمة الغالبة إعراض الجمهور او بروده في تلقيها. وذلك ليس
مستغرباً عموماً إذ يثبت التاريخ ان جمهور السينما التجارية يميل في أوقات
الازمات الى صور - أفلام تنتشله من الواقع. وهو ما عبّر عنه الناقد
السينمائي مايكل أتكينسن في إحدى مقالاته النقدية في مجلة "سايت أند ساوند"
البريطانية (عدد كانون الأول/ديسمبر 2008) حول تعاطي هوليوود مع موضوع
الإرهاب بسؤال ذكي ومختصر: إذا استطعنا ان نحتمل (اي الشعب الأميركي)
متابعة الحرب على العراق في النشرات المسائية، ولم نأبه بمناقشة "حقنا" في
ممارسة التعذيب، فلماذا سنقبل على أفلام تتناول تلك الموضوعات بالتحديد؟
بهذا المعنى، يغدو "سولت" أقرب الى أفلام الكوارث الطبيعية والخيال
العلمي والمؤامرات منه الى الأعمال ذات المضمون السياسي الواضح والمباشر
لجهة تضخيمه الخطر وفق سيناريو متخيّل. كما انه ينتمي الى سلسلة "افلام
الترهيب"، ترهيب المشاهد، التي تدّعي معالجة موضوع الإرهاب. تشكّل هذه
المعادلة أكثر من مكسب بالنسبة الى منتجيه. فالفيلم لا يبتعد من أهزوجة
الإرهاب والخطر و"أميركا الضحية" السائدة إنما من دون أن يغوص على مرارة
الواقع. ويمعن في تصوير الشعب الأميركي مهدداً ولكنّه يجعل الجهة المهدِّدة
مزيجاً من قوة واقعية وخيالية في آن معاً. ذلك ان روسيا (الإتحاد السوفياتي
سابقاً) كانت في ما مضى الخطر ولكنّها تغدو في الفيلم حجة للتدليل على
الخطر الحالي. والمحاولة أشبه ببعث "وحش" مسن وضعيف، لم يعد يرعب المشاهدين
ولكن شبحه وذكراه يحيلان على سيناريوات، وحوشها من طينة أخرى. وتكتمل
معادلة الفيلم بتكريس وقدرات الحكومة الخارقة على الفوز بجولاتها ضد
الإرهاب إنما فقط بمساعدة أبنائها المرتدين إليها، اي العميلة "سولت".
بقول ذلك، حان الوقت للكشف عن بعض حكاية الفيلم وحكايات كواليسه.
تتمحور الأحداث حول عميلة وكالة الاستخبارات الأميركية "أفلن سولت"
(أنجيلينا جولي) التي تواجه، أثناء تحقيقها مع عميل روسي قديم يُدعى
"أورلوف" (دانييل اولبريتشسكي)، تهمة التجسس لصالح روسيا. يروي "أورلوف"
حكاية أقرب الى الأسطورة الملحمية، بدأت فصولها إبان الحرب الباردة حين بدأ
ضابط روسي متنفّذ بإنشاء خلية من الأطفال الروس وتربيتهم على أسس الطاعة
العمياء وتدريبهم عسكرياً منذ سن مبكرة في ظل ظروف قاسية. بعد انتهاء
البرنامج التدريبي ووصل هؤلاء الى سن النضج، تمّ "زرعهم" في الولايات
المتحدة الأميركية في مواقع ووظائف أمنية عليا، بانتظار حلول "اليوم
X"-وهو اليوم الذي تحقق "افلين" فيه مع "اورلوف"- الذي ستقضي هذه
المجموعة فيه على الولايات المتحدة الأميركية من خلال خطوات عدة. إذاً،
تنتمي "أفلين" الى خلية نائمة، حان الوقت لتنشيطها. ولمنح الحكاية أبعاداً
واقعية، يشير "اورلوف" الى ان العملية الأولى للخلية ستجري اليوم خلال
تأبين نائب رئيس الجمهورية الأميركي وتتمثل باغتيال رئيس الجمهورية الروسي.
هذا بالطبع للتأكيد على ان خطة القضاء على أميركا ليست خطة حكومية بل عملية
تديرها فرقة مخرّبين ويعود تاريخها الى النظام السوفياتي.
وسط دهشة زملائها المستمعين الى مجريات التحقيق، تصرّ "أفلن" أولاً
على الإطمئنان على زوجها عالم الحشرات. وإذ تفشل في الإتصال به، تُساق الى
غرفة التحقيق بينما يتشاور زميلاها "تيد" (لايف شرايبر) "بيبوي" (تشويتل
إيجيوفور)، فيصر الأول على زيف التهمة بينما يتمسّك الثاني بحكاية "أورلوف"
مبرّراً للتحقيق معها. في هذه الأثناء، يتمكن الأخير من الإفلات من قبضة
وكالة الاستخبارات الأميركية والفرار موحياً لأفلن بأن تحذو حذوه وانما
لأسباب مختلفة. بقدرات قتالية لا تُضاهى ومهارة في ليس فقط في استخدام
الاسلحة وانما في تصنيعها من مواد بين يديها، تهرب "افلن" وتبدأ عملية
مطاردتها في سلسلة مشاهد، مسرحها الطرقات السريعة وواجهات المباني وسراديب
الكنائس وقطارات الأنفاق، قبل أن تصل الى البيت الأبيض. إزاء المعلومات
المشوّشة والمتضاربة، يتعلّق المُشاهد بتفاصيل صغيرة منها ملامح "أفلن"
المضطربة عند رؤية وجه "أورلوف" للمرة الأولى والتي توحي بمعرفتها السابقة
به. ولكن الأحداث تسير في الإتجاهين المضادين: أحدهما يؤكد انها عميلة
للإستخبارات السوفياتية (هروبها واغتيالها الرئيس الروسي) والثاني يناقض
الإتجاه الأول (إحجامها عن إرداء "بيبوي" وقتلها "أورلوف"). فما هي حقيقتها
إذاً؟
لا يستسيغ هذا النوع من الأفلام التجارية الصرفة الكثير من الغموض
خوفاً من أن يخسر اهتمام مشاهديه وسط تعقيدات الحبكة، فيما همه الأساس منحه
ساعة ونصف الساعة من الأكشن والمطاردات والمواجهات بواسطة اسلحة متطوّرة.
عدا ذلك، لا يهتم بأي منطق ولا حتى ذاك المنزوع من الواقعية انما الملائم
لسير الأحداث. أسئلة من نوع كيف تمكّنت "سولت" من الهرب او كيف استطاعت
تفادي الرصاص المنهمر من كل جهة تبدو من دون طائل إزاء عبثية الأحداث
وخرافية الأبطال. فالمهم هنا البداية والنهاية: الإنطلاق من نظرية المؤامرة
وحشد ما أمكن من وسائل ترهيب المشاهد، الأميركي بالدرجة الأولى، والوصول
الى نهاية بطولية يحقّقها البطل بالنيابة عن مرجعيته الرسمية. أما ما بين
البداية والنهاية فإن المنطق الوحيد السائد والمطلوب هو الترفيه. ومهما بلغ
الخيال واللامنطق من حد فإن البداية والنهاية كفيلتان بالحفاظ على أرضية
واقعية إن من خلال التلميح او استلاب الواقع.
لا شيء جديداً او مفاجئاً في كل ما تقدّم سوى أمرين: الأول مفارقة
تحوّل روسيا أداة للتنبيه من خطر الإرهاب الحالي بعد ان كانت حتى تاريخ
قريب الخطر نفسه، والثاني قيام الفيلم "سولت" على أسماء لها باع في الأفلام
السياسية والتشويقية الجيدة. فالمخرج فيليب نويس البعيد من أن يكون
سينمائياً مكرّساً، سبق له تقديم أفلام جيدة أبرزها تجربته المستقلة في
موطنه الأم اوستراليا "سياج محصّن ضد الأرانب" (Rabbit-Proof Fence)
عام 2002 و"الأميركي الصامت" (The
Quiet American) في العام نفسه (وهو الآخر إعادة لفيلم كلاسيكي بالعنوان نفسه تدور
أحداثه على خلفية حرب فييتنام)، فضلاً عن تجارب مثل "هادىء كالموت" (Dead Calm)
عام 1989 مع نيكول كيدمن. ولكن المفاجأة تغدو دهشة مع استعراض أعمال كاتب
سيناريو "سولت" براين هيلجلاند (كتبه بالاشتراك مع كورت ويمر) الذي تألق
منذ أواخر التسعينات بتأليفه أفلاماً بارزة مثل "لوس أنجيليس سري" (L.A. Confidential 1997)
وفيلمي كلينت ايستوود "بلود وورك" (Blood
Work) و"نهر ميستك" (Mystic
River) في العامين 2002 و2003 تباعاً. وحتى في الأفلام الأقل سينمائية- مثل
"المنطقة الخضراء" (Green
Zone) و"احتجاز بلهام 1 2 3" (The
Taking of Pelham 1 2 3) و"روبن هود"- حافظ على مستوى أفضل بكثير من الذي
يظهر في "سولت"، بما يعيدنا الى النقطة عينها اي الهدف المحدّد سلفاً
للفيلم- على غرار الكثير من الاشياء المسبقة فيه مثل الأحكام والأنماط-
والمتمثل بالترفيه أولاً وأخيراً. وإذا اضفنا الى ذلك المعلومات المؤكدة
حول انطلاق المشروع كسلسلة أفلام جاسوسية بطلها توم كروز (اعتذر بسبب تشابه
الشخصية مع تلك التي لعبها في سلسلة "مهمة مستحيلة") قبل استقراره على
أنجيلينا جولي، فهمنا أكثر الخلفيات التي تستغل الموضوع وتوقعنا ايضاً
إمكانية صدور أجزاء لاحقة لـ"سولت" إلا إذا ثبت لصنّاعه انه غير مربح.
المستقبل اللبنانية في
13/08/2010
العرض القادم
"أي كان ما يصلح"
Whatever
Works
بعد أشهر على تقديم المخرج وودي آلن آخر أفلامه "ستلتقين غريباً
طويلاً أسود" (You Will Meet A Tall Dark Stranger)
في الدورة السابقة لمهرجان كان السينمائي وفي الوقت الذي يوشك فيه على
الإنتهاء من تصويره مشروعه المقبل "منتصف الليل في باريس" (Midnight
in Paris)، أعلنت الصالات المحلية عن اقتراب عرض الفيلم
الأسبق لآلن "أي كان ما يصلح" (Whatever
Works). هذا الشريط الذي افتتح مهرجان ترايبيكا السينمائي في العام 2009،
أعاده الى محبوبته الأولى نيويورك بعد أربعة أفلام أنجزها في أوروبا هي
"نقطة المباراة" (Match
Point) و"سبق" (Scoop) و"حلم كساندرا" (Cassandras
Dream) و"فيكي كريستينا برسلونة". يلعب بطولة الفيلم
لاري دايفيد في دور فيزيائي يحاول الانتحار ويتورط في علاقة مع شابة ساذجة
وسط محاولات والدتها فصلهما. يشارك دايفيد البطولة باتريشيا كلاركسن وايفان
رايتشل وود. واللافت ان آلن أشار في تصريحاته الى ان كتب السيناريو في
السبعينات ولكنه لم ينفّذه. وتلقت الصحافة ذلك التعليق كرد مسبق على ما
يمكن ان يثيره الفيلم من تشابه مع حياة آلن ويضعه في مصاف السيرة.
لا نعرف تماماً ما يجب ان نتوقعه من وودي آلن ذلك ان أفلامه منذ أواخر
التسعينات قسمت الجمهور والنقاد حتى بات الطرفان في انتظار العمل الذي
سيعيد أمجاد المخرج. فبعد سلسلة أفلام عادية -
CELEBRITY
،
SMALL TIME
CROOKS،THE CURSE OF THE JADE SCORPION وغيرها- بدأ مغامرته الأوروبية التي تمخّضت عن فيلم "نقطة المباراة"
الذي وصفته الصحافة العالمية بإيذان العودة إلى روائع السينمائي مثل
Manhattan،
Annie Hall،
Hannah and her Sisters،
Crimes and
Misdemeanors واللائحة تطول. والقصد من ذلك القول ان الفيلم أعاد مخرجه إلى ما قبل
العقد الاخير الذي شهد افلاماً له لا تخلو من عصبه النقدي والفكاهي ولكنها
لا ترتقي البتة إلى ما عُرف به في السابق من ابتكار وذكاء وتجديد. وأرجع
بعضهم ذلك التحول الذي عرفه مسار المخرج المهني خلال العقد الاخير إلى
تأثره بما مر به من مشكلات مع زوجته ومن ثم زواجه من ابنة زوجته... آلن
نفسه اشار في أحد مقابلاته إلى ان ليس مهتماً بالعودة إلى مناخات افلامه
الاولى بينما اشار أحد المقربين منه إلى انه يحتاج إلى قسط من الراحة بعد
افلام استوجب انجازها ان يخرج من داخله الكثير. ولكن المقام لم يطل بآلن
قبل أن يعود الى تقديم تجربة سطحية في
Scoop، فيما لم ينل "فيكي كريستينا برسلونة" الإجماع النقدي والجماهيري.
بانتظار "أي كان ما يصلح"، من الجدير بالذكر ان فيلمه الأخيرYou Will Meet A Tall Dark Stranger
حاز أصداء جيدة في مهرجان كان ويقوم ببطولته كل من أنطونيو بانديراس وجوش
برولين وأنتوني هوبكنز وناومي واتس. وتدور قصة الفيلم حول مجموعة أفراد من
عائلة واحدة يحاولون معاً حل مشاكلهم العالقة وقصص حبهم المتشابكة. اما
"منتصف الليل في باريس" الجاري تصويره حالياً في باريس، فيروي قصة عائلة
تزور باريس في رحلة عمل. وخلال الرحلة، تتبدل حياة الزوجين. تشارك في بطولة
الفيلم السيدة الفرنسية الأولى وعارضة الأزياء كارلا بروني الى جانب
الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار واوين ويلسن.
المستقبل اللبنانية في
13/08/2010 |