مع أفلامها الوثائقية: «فلسطينية أمام فلسطين« 1988، «يافتي« 1988، «بعيداً
عن فلسطين« 1999، «وطن بلانش« 2002، «الأرض بتتكلم عربي« 2007، تبدو
المخرجة الفلسطينية ماريز جرجور حالة متميزة في نسق المخرجات الفلسطينيات،
ليس لأنها تحافظ بدأب على تحقيق إنتاجاتها السينمائية، فقط، بل لأنها تكاد
تمثل خصوصية ثقافية، متكئة على وضعية اجتماعية «ارستقراطية»، وبالتالي
النظر إلى القضية الفلسطينية من منظور يتمايز إلى حد كبير عما في عموم
المشهد السينمائي الفلسطيني.
المخرجة ماريز جرجور، المولودة في يافا، والتي نالت شهادة من المعهد
الفرنسي للصحافة، وعملت صحافية ومنتجة في مكتب الإذاعة والتلفزيون الفرنسي،
في بيروت، ثم التحقت بمكتب اليونسكو، في باريس، وعملت في المجلس الدولي
للسينما والتلفزيون، كما عملت صحافية مستقلة مع عدد من محطات التلفزة في
باريس.. يبدو أنها وظفت مهارات الصحافية في البحث والتقصي والاستكشاف
والسؤال والمقارنة والمحاكمة، لتقدم مجموعة من أفلام وثائقية تهجس بفلسطين
وطنها، ويافا مدينتها، والعودة حلمها.
عبر أفلامها جميعاً، يمكن للمرء اكتشاف حالة الشغف التي تتملك المخرجة
ماريز جرجور، وهي تنتقل من فيلم إلى آخر، مؤكدة موضوعاتها، معمقة
أطروحاتها، مطورة أدواتها الفنية، موسعة الرؤية التي تتناول القضية
الفلسطينية من شتى جوانبها، في مزج بين الشأن التاريخي العام، والتفصيل
الفردي الخاص، من دون أي انفكاك بينهما، وفيّة لبيئتها الاجتماعية،
وانتمائها الوطني، ومشروعها السينمائي.
سترصد المخرجة ماريز جرجور عدداً من أفلامها في سبيل إعادة بناء السياق
التاريخي المرير الذي قطعته فلسطين، حتى سقطت محتلة بين أيدي الصهيونية،
مستفيدة من الوثائق البصرية النادرة التي أمكنها الحصول عليها من أرشيفات
عالمية، مستفيدة من تواجدها في عواصم غربية، وعاملة في مؤسسات عالمية. تبدى
ذلك في فيلميها: «يافتي«، و«الأرض بتتكلم عربي«، اللذين يقومان بإعادة سرد
حكاية بصرية متقنة لمدينة يافا، وفلسطين، على التوالي، مستعينة بوثائق
أرشيفية نادرة، قل أن شاهدناها في أفلام وثائقية فلسطينية من قبل.
فيما ترصد أفلاماً أخرى للتغني بالوطن المضيع، ورثاء أيامه السالفات، بكل
ما فيها من حنين وشوق، كاشفة التناقض المفجع ما بين أيام البلاد السعيدة،
وأيام المنفى والشتات المؤسية، من خلال شخصيات كان لها أن عرفت فلسطين،
وعاشتها، ومن ثم عاشت الشتات والمنفى والغربة واكتوت بنارها، على الأقل كما
في فيلم «فلسطينية أمام فلسطين«، و«بعيداً عن فلسطين«، و«وطن بلانش«.
ولعل فيلمها «وطن بلانش«، عام 2002، (وثائقي مدته 28 دقيقة)، يمثل الخلاصة،
أو التكثيف الأعلى لمشروعها السينمائي في هذا المجال، إذ ستقدم عبر السيدة
«بلانش«، التي سبق أن رأيناها في أفلام سابقة للمخرجة ماريز جرجور، مقولات
غاية في الأهمية، والقدرة على التأثير، الوجداني والعقلي، على الرغم من أن
أحداً يمكن له ببساطة أن يقول: إنها نموذج استثناء!
«بلانش«، التي حمل الفيلم اسمها، هي سيدة فلسطينية، ولدت في يافا عام 1910
لأسرة ميسورة الحال، إن لم نقل ارستقراطية فعلاً، إذ تؤكد هي، أكثر من مرة،
أن أسرتها كانت ذات أملاك واسعة، وأرصدة وحسابات في بنك «باركليز»، كما ذات
شأن إداري وسياسي، من حيث أنها تذكر أن عمها (قيصر)، كان عمدة مدينة يافا
قبل أن تحيق بها النكبة عام 1948.
الأهمية التي تؤكدها المخرجة ماريز جرجور في اختيارها لنموذج السيدة «بلانش«،
لا تتوقف عند هذه التفاصيل جميعها فقط، بل ربما أولاً وأصلاً لأن «بلانش«،
أضحت، بتجربتها وعمرها ووضعيتها، كما تقول المخرجة: «ذاكرة التاريخ
الفلسطيني الحيّة.. شاهدة على التاريخ«.. وهي مع هذا العمر المديد، وهي
تبحر في التسعينات من عمرها، والذاكرة الطازجة الحاضرة، باتت تنتمي إلى
أولئك الفلسطينيين الذين مع رحيلهم تختفي ثروتنا.. أي الذاكرة!.
تستفيد المخرجة ماريز جرجور من وجود السيدة «بلانش«، بكل ما يمكنها. بل
إنها تنتقل ما بين محطات التسجيل معها، سنة بعد أخرى، أو عقداً بعد آخر،
وستحضر السيدة «بلانش« من فيلم لآخر من أفلام المخرجة، حتى تغدو بمثابة
الشخصية الأثيرة لها، والبطلة الدائمة الحضور في أفلامها، فضلاً عن العلاقة
الشخصية التي تربطهما.
تشيخ السيدة «بلانش« وتهرم، وتنتقل من أواخر السبعينات من عمرها، عام 1988،
في مطلع هذا الفيلم، وكما ظهرت في غيره من أفلام للمخرجة، إلى مطالع
التسعينات من عمرها عام 2002، في نهايته، وتبقى الذاكرة متدفقة، لا تبهت،
ولا تنطفئ، ويبقى التمسك بحلم العودة إلى فلسطين، على الرغم من قرن تكاد
تطويه هذه السيدة الاستثناء!
منذ نيف وستين عاماً، والسيدة «بلانش« تنقل معها سجلّ أملاكها؛ (الكواشين)
في فلسطين، وجواز سفرها الفلسطيني، الذي حصلت عليه قبل العام 1948،
وذكرياتها الوقادة. إنها تتحدث في التاريخ، والسياسة، وعن المؤامرات التي
حيكت ضد فلسطين.. تذكر محطات أساسية، شهدتها ووعتها، وأخرى عرفتها وسمعت
بها وقرأتها. كما تتحدث عن تجربتها الشخصية.
«أتوا واحتلوا بيوتنا وأراضينا وأملاكنا وأموالنا المودعة في مصرف
«باركليز» في يافا«. تقول السيدة «بلانش«، وتستذكر أيام يافا، وحينما كانت
تعيش حياة هانئة، كالأميرات، وتعلمت في الثامنة عزف البيانو، لتصبح وهي في
العاشرة من عمرها قادرة على عزف مقطوعات لبيتهوفن وشوبيرت. وسنراها اليوم،
مع هذا الفيلم، وهي في الثانية والتسعين من عمرها، تمرر أصابعها بمهارة على
أصابع البيانو، في بيتها البعيد عن فلسطين!
تسألها المخرجة ماريز جرجور: «وأنت في التسعين من العمر، لماذا تصرين على
الحديث عن فلسطين؟«.. فتجيب «بلانش«، بلا تردد: «فلسطين. وطني الجميل«
وسنرى فلسطين؛ الوطن الجميل، لا يفارق السيدة «بلانش«، إينما حلت، وارتحلت،
ومهما بلغت. إنها تتذكر ما كانت تعدّه من طعام في يافا، وتعيد تحضيره
لضيوفها حتى لو كانت في أقصى أصقاع الأرض.. تتذكر جولاتها وزياراتها
وسفراتها، في فلسطينها وخارجها، وتحتفظ في إناء صغير بحفنة من تراب يافا،
جلبته لها حاجّة فرنسية.
السيدة «بلانش«، السيدة الفلسطينية، ذات المنبت الارستقراطي، والوضعية
الاجتماعية المميزة، لن تنسيها سنوات الغربة والمنفى وطنها فلسطين ومدينتها
يافا، ولم تفّت الأيام من عضد حلمها، فهي ستبقى تحلم بأن تعود إلى فلسطين،
وتستعيد أملاكها.. وتعيش فيها.. وهي على هذا تشكل الجانب الآخر من صورة
الفلسطيني! ليس في السيدة «بلانش«، الشقراء الأنيقة، ملامح الفلسطيني
اللاجئ الفقير، المرميّ في مخيمات البؤس والمهانة.. ليس فيها مأساة الوقوف
على طوابير الإعاشة، لا ضنك المخيمات، ولا ضيق زواريبه، ولا حياة قواعد
الثورة ومعسكراتها.. وربما لم تجرّب أيّاً من صنوف العذابات هذه!.. ومع ذلك
فهي لا تقل انتماء لفلسطين، عن سواها.
تمنح السيدة «بلانش« صورة حضارية لفلسطين، ولطرازها من الفلسطينيين. فهي
الفتاة التي ترعرعت في كنف أسرة باذخة، وعرفت رغد العيش، وبحبوحته، وتملكت
الثقافة الغربية، بشكل أو بآخر، لغة وثقافة وطريقة عيش.. هويات ومتع فاخرة،
من عزف البيانو، إلى السفر والسياحة، وزيارة المتاحف العالمية الشهيرة، في
أوروبا، وفي ثلاثينات القرن العشرين، الأمر الذي لم يكن متاحاً للغالبية
العظمى حينها.
تتذكر السيدة «بلانش« بألم وغضب، حادثة زيارتها جناح فلسطين، في «المعرض
الدولي«، المُقام في باريس عام 1937 ورؤيتها للصور الظالمة عن فلسطين
والفلسطينيين، إذ جرى العمل على عرض صور «بدو مع قطعانهم، أو أحصنتهم، أو
حميرهم«، على جدران المعرض، وكُتب إلى جانبها باللغة الفرنسية: «هؤلاء سكان
فلسطين الأصليون!.
«كنا نُنعت بالبدو، عام 1937، وكانت هذه الدعاية اليهودية«.. تقول السيدة «بلانش«،
الفتاة الفلسطينية، المتحضرة، الحاضرة في المعرض الدولي، ذاك، والشاهدة
العيان على مدى التزوير والظلم الذي يصيبها هي شخصياً، كما وربما قبل أن
يصيب الصورة المفترضة لفلسطين وشعبها!.. لم تكن السيدة «بلانش«، ولا
معرفتها، تقع في إطار الصورة التي قدمها ذاك «المعرض الدولي«!..
بوضعيتها، يمكن للسيدة «بلانش« أن تؤشر إلى أنها، ومع أن الغالبية العظمى
من الفلسطينيين، كانوا قبل النكبة، ينتمون إلى مجتمع فلاحي ريفي، فيه قدر
كبير من البساطة، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن عدداً من أهم الحواضر
المدينية العربية، كانت في فلسطين، حينها. ليس القدس فقط، بل أيضاً في يافا
وحيفا.. تلك الحواضر المدينية الفلسطينية، التي شهدت البدايات الأولى
والمبكرة للإذاعة والمسرح، وانتشار التعليم، وتنوع المدارس، من شرق وغرب،
وظهور أنواع نافرة من أشكال التعبير ووسائله ووسائطه، من قصة ورواية وشعر..
كما شهدت، تلك الحواضر المدينية الفلسطينية، النويات الجنينية الأولى لنشوء
الأحزاب اليسارية والقومية والأممية، كما عرفت اللحظات الأولى لتشكيل
النقابات العمالية.. مُستفيدة من موقعها الاستراتيجي؛ جسر التواصل بين الشق
الآسيوي والأفريقي، من العالم العربي، وحلقة الانتقال بين بلاد الشام
والحجاز، من جهة أولى، وبلاد مصر وشمال أفريقيا من جهة أخرى.
كما أن السيدة «بلانش«، وعبر تعلقها الشديد بوطنها فلسطين، وحلمها بالعودة،
مهما طال الزمن، واستطالت المسافات.. إنما تؤكد أن حلم العودة ليس متعلقاً
بوضعية اجتماعية، أو اقتصادية، وهو ليس حكراً على من عاش في المخيمات،
فقط.. بل إن السيدة «بلانش«، ما بين أوروبا الغربية وأميركا الشمالية
وحيثما أقامت أو انتقلت، لن تقلّ عن أبناء مخيمات شاتيلا وعين الحلوة
واليرموك وحندارات والوحدات البقعة والشاطئ وجباليا ودهيشة وبلاطة.. رغبة
في العودة، وحلماً بها، وتمسكاً لا يتراخى.. الأمر الذي سيجعلها، كما يفعل
الفيلم، في جانب منه، قدوة ونموذجاً للعديد من الشباب الفلسطينيين، الذين
وُلدوا في شتى أنحاء العالم، في أوروبا والأميركيتين، وعاشوا بعيداً عن
المكان، ولكنهم لم يفلتوا أبداً من ارتباطهم وانتمائهم وتعلقهم بوطن لا
يُستبدل.
تنجو المخرجة ماريز جرجور من رتابة الإيقاع، وتقليدية البناء، تلك التي كان
من الممكن أن يفرضها الحضور الطويل، والحوار المتواتر مع السيدة «بلانش«،
وذلك عبر إضافات مونتاجية ماهرة، متوازية أو متتالية متفاعلة، تتنوع ما بين
أحاديث السيدة «بلانش«، ورؤيتنا لها، خصوصاً وهي تتنقل في ما بين الأمكنة،
في منفاها البعيد، داخل بيتها، وخارجه، في الشوارع والأسواق، وبإضافات جيدة
لشهادات شباب فلسطينيين يتظاهرون دعماً لحق العودة، أو يدلون برسائل للسيدة
«بلانش«، التي تشاهدهم عبر شاشة التلفزيون، ربما في تأكيد لأهمية هذا
الجهاز (التلفزيون)، في عالم التواصل الراهن، بشكل يؤكد أنه بات في لحظة
ما، نافذة الإطلالة على العالم، وعلى الآخر، برؤيته وسماع صوته، وحتى
التفاعل معه.
في فيلمها هذا، الذي حمل اسمها، ستتحدث السيدة «بلانش« باللغة الفرنسية..
وكأن مأثرتها عبر ذلك، وعلى الأقل، تتلخص بأن الفلسطيني يقول فلسطينه،
انتماءً، وحلم عودة.. باللغات كلها، ومن خلال الوضعيات الاجتماعية
والثقافية جميعها! فهل هذا يكفي؟
المستقبل اللبنانية في
18/07/2010
«عناقات مكسورة»:
طموحات كثيرة في ذلك الفيلم الواحد
حسن داوود
كنت الوحيد في الصالة الواسعة التي يعرض فيها فيلم ألمودوفار «عناقات
مكسورة». كنت قد توقّعت أن يكون عدد الحاضرين قليلا، فعرضُ الساعة الرابعة
لا يلائم محبّي هذا النوع من الأفلام. لكن فاجأني أن أكون هناك وحدي، في
الصالة التي تتّسع للمئات. عندما خرجت من الصالة كان موظّفو السينما جالسين
معا وهم، حين راحوا ينظرون إليّ خارجا من الصالة، فكّرت أنّ عليّ أن أعتذر
لأنّني أبقيتهم منتظرين شخصا واحدا. «هل كنت وحدي هناك في الداخل؟» سألتهم
قبل أن أتخّذ أمامهم هيئة المتعجّب والمتأسّف في الوقت نفسه.
وقد خطر لي فيما أنا أخطو إلى الطريق أنّ الفيلم كان سيبدو أقلّ استعصاء لو
كان هناك مشاهدون غيري. حتى لو كان هؤلاء بعيدين في الخلف، وحتى لو لم
يعلّقوا على أيّ من المشاهد، كان مجرّد وجودهم مساعدا على فكّ بعض عقد
الفيلم. بل الأحرى أن أقول على ربط أجزاء الفيلم الذي، فقط بعد الإنتهاء من
عرضه، يبدو واقعا كلّه في وسط ما. أقصد أنّه يرد كلا من بدايته ونهايته إلى
وسَطه، أو إلى منتصفه. ذاك أنّ «عناقات مكسورة» لم يتوقّف عن إقتراح بدايات
له. في المشهد الأوّل رأينا بطل الفيلم، الذي سنعرف في ما بعد أنه مخرج
سينمائي تحوّل إلى كتابة النصوص والسيناريوهات، الضرير، يغازل امرأة أوصلته
إلى بيته بعد أن ساعدته على اجتياز الطريق. وقد ذهب بعيدا في المغازلة إلى
حدّ إتمامها. تلك البداية أُسقطت من سياق الفيلم اللاحق ومن مجرياته، إذ لم
تعد تلك المرأة إلى الظهور، أو إلى التذكّر، ولو مرّة واحدة. وحتى قوله
لمساعدته ومديرة أعماله أنّه قرّر الآن أن يعيش الحياة التي كان أوقفها منذ
سنوات، لم يتسلّل إلى ذلك السياق ولم يجد له مكانا فيه.
أحد نقّاد الفيلم، أنطوني لاين، تساءل في النيويوركر «كم هو عدد الحكايات
التي يرويها فيلم ألمودوفار الجديد؟» ثم قال إنّ «مشاهديه لم يتوقّفوا عن
اعتراض أفكارهم متنقلين بينها ليهتدوا إلى النقطة التي يمكن منها البدء
به». في الثلث الأوّل من الفيلم بدا كلّ داخل جديد إلى دوره من الممثلين في
الفيلم مقدّما إقتراحه بأن تبدأ حكاية الفيلم من هنا، من حيث يعرّفنا على
شخصه. أوّل هؤلاء هو البطل الضرير ماتيو بلانكو الذي قرّر، بالنظر إلى تلك
الرغبة التي لم تتوقّف عن مراودته بأن يكون شخصا آخر، أن يسمّي نفسه هاري
كاين. ولم يكن لتلك الفكرة، أو المسألة، أيّ قدر من الوجاهة في الفيلم إذ
لم يظهر أنّ أشياء كثيرة بُنيت عليها. كان يمكن لبطلنا مثلا أن يبقى على
إسمه الواحد طالما أنّ حلمه بأن يكون رجلين اثنين لم يتحقّق، أو أنّه لم
يتسنّ له أن ينقسم عن نفسه بالقدر الكافي.
وجريا على رغبة المودوفار الدائمة في إبراز شخصيات كثيفة الحضور، لغرابتها،
ابتدأ ذلك الشاب المستفزّ الهيئة أحد احتمالات البداية، بداية الفيلم،
قائلا لرجلنا الضرير أنّه يرغب في أن يشاركه في صنع فيلم. سمّى الشاب نفسه
X Ray ، وقد رفض المخرج الضرير طلبه ذاك على الفور، بما جعلنا نفكّر أنّ
هناك صلة ما ماضية ، مأساويّة أو مرّة، وهي على وشك أن تبدأ برجوع الفيلم،
بطريقة الفلاش باك، إلى زمن سبق.
وقد تمّ الرجوع إلى سنوات التسعينات، حيث كان هذا الشاب صبيّا تملأ البثور
وجهه ولا يتوقّف عن التلصّص مصوّرا ما يتسرّقه بكاميرته الفيديو. ذاك
الشاب، المضاف إلى هوسه بالتصوير تخلّي أبيه عنه، ومثليّته، وخبثه صغيرا
وقابليته للإستفزاز كبيرا، هو إحدى تلك الشخصيّات التي يعوّل ألمودوفار على
إبقائها في ذاكرة مشاهدي أفلامه. لكن لم يحظَ
X Ray هذا بما حظيت به شخصيات كثيرة للمخرج حيث بدا هنا، في هذا الفيلم
الأخير، كأنّه مصنوع لكي يكون غريبا، أو أنّ نيّة مخرجه واضحة أكثر مما
ينبغي في تفاصيل صناعته.
حتى الشخصيات الجانبية التي لم تظهر إلا مرّة واحدة في الفيلم - والد لينا
( بينيلوب كروز) المريض والذي لم تكن هناك حاجة لجعله مشوّه الوجه إذا ما
ضربنا صفحا عن رغبة ألمودوفار بجعل الوجوه غريبة عن المألوف والمعتاد، ثم
جارة لينا الأربعينيّة الثرثارة والخارجة لتوّها من مجامعة مفاجئة مع رجل
التقته بالصدفة وتبين لها أنّه أكبر مهرّب في البلاد وأنّه ترك في شقّتها
حقيبة تحتوي 15 كيلوغراما من الكوكاكيين، وقد اعتقلته الشرطة بعد ساعات من
خروجه من منزل تلك المرأة.
كلّ ذلك يجري في محادثة واحدة في الفيلم الذي كان يعمل بطلنا الضرير على
إخراجه، وهو فيلم في داخل الفيلم والعديد من الأحداث ترتكز على وقائع
تصويره. وهو، الفيلم المتضمَّن، لا يختلف في نوع شخصيّاته عما يُخرجه
ألمودوفار في افلامه هو. فهذه المرأة الأربعينيّة بدت كأنّها توزّع دورها
على فيلمين اثنين، إذ هي موجودة هناك، في الفيلم الأوّل مثلما هي موجودة في
الفيلم الثاني.
«عناقات مكسورة»، بحسب تصنيف موضوعه من قبل عدد من نقاده، عملٌ عن الشغف
والذنب والفساد والخيانة والإعتراف والموت والعمى وعما تأتي به صروف الدهر
مجتمعة كلّها في فيلم واحد. وإلى ذلك ينبغي أن نضيف ما كتبه أحد أولئك
النقّاد من أنّ المخرج أعطى أولويّة للجانب التقني من عمله حيث تختلط
الأزمنة بين الرجوع بها إلى الوراء وإعادتها من ثمّ إلى الزمن الراهن، مرّة
بعد مرّة بعد مرّة، وهذا ما أضاف صعوبة أخرى إلى الصعوبات التي تربك
مشاهديه في سعيهم لتنسيق مجرياته.
تلك الحبكة المعقدّة في تقنيّتها شبيهة بما تسعى روايات التشويق إلى حبكه.
وإذ وُفّق ألمودوفار في جعل مشاهديه قادرين على متابعة ما يتوالى عرضه لهم،
كان ذلك على حساب تركيزهم على بلوغ ما تسعى تلك المشاهد إلى إيصاله، في ما
يتعدّى مجريات الحكاية. لم نقف طويلا عند مشاهد الغرام المحموم بين بطل
الفيلم وبطلته، ولا عند المأساة الناتجة عن فقد البصر، ولا عند معاناة
الذنب، أما الغيرة التي أصابت رجل الأعمال الكهل، الثري والفاسد، بعدما
هجرته عشيقته، فلم تأت إلا بما يفيد تقوية حبكة الفيلم.
ذلك الكثير الذي يحتويه الفيلم، لجهة الأحداث وتعدّد الشخصيّات ومهارة
العمل التقني والتعلّق البالغ بتبديل الوجوه وتغيير الشخصيّات عن هيئتها،
على نحو ما يجري تغيير وجه بينيلوبي كروز وشعرها في جلسات الإعداد للتصوير،
ذلك كلّه لن يكون إلا على حساب ما كنّا ننتظره من عمل جديد لألمودوفار.
في أحيان ينبغي أن تكون الأشياء أقلّ جمالا لكي تكون أكثر حقيقيّة.
المستقبل اللبنانية في
18/07/2010 |