أخطبوط التوقعات
فجر يعقوب
شغل الأخطبوط بول وسائل الإعلام المرئية طيلة فترة مونديال جنوب أفريقيا
2010
بتوقعاته الفريدة حول فوز منتخبات وخسارة منتخبات، وقد أصبح
بذلك «نجماً» يغطي على
نجوم كرة القدم.
لم يفت القائمون على شؤون بول بالطبع أن يتوّجوه بنسخة مماثلة عن كأس
العالم
التي توّج بها الماتادور الاسباني أخيراً، وشاهدناه وهو
يحتضنها من دون أن يفوتنا
أن نغبطه في السر على هذه الحفاوة والتكريم.
ربما تكشف تجربة الأخطبوط بول في وجه آخر من الموضوع قحط وجدب مخيلة جماعية
مأزومة أصبحت أسيرة لوسائل الإعلام المرئية أكثر من أي وقت
مضى، وقد دأبت تروج له
منذ أن فهمنا أنه نجح في تبديد آمال ثمانية منتخبات، ما جعل العالم بأسره
يحبس
أنفاسه لحظة مداعبته لعلم هذا المنتخب أو ذاك. وإذ يتمكن حيوان مائي من أن
يقوم
بهذا الفعل، فإن في الأمر محنة ما، ذلك أن الصورة التي كانت
تطير إلى مختلف أنحاء
العالم عن توقعاته كانت تضيّع شيئاً من متعة اللعب ذاته، فلقد أخفق النجوم
الكبار
حيث نجح الأخطبوط، وأصبح الجميع أسرى هذه التحولات غير المفهومة. لم يعد
هناك أدنى
اهتمام بخطط هذا المنتخب أو طريقة لعبه، فقد تمكن الأخطبوط
المدلل من حسم النتيجة
سلفاً، بالتالي فإن المخيلة الكروية التي كان بالإمكان الركون إليها لتحديد
ومعرفة
مستوى اللعب والبراعة في الأداء أصبحت أسيرة «مخيلة» بول نفسه.
البعض من حوله يقول إنه يمتلك تسعة أدمغة، والبعض الآخر ذهب الى حد الحديث
عن
معجزة في الإلهام، وهذا أمر مشين، لأنه يطاول النجوم الذين
فقدوا خيال اللعب الجامح
ووجدوا أنفسهم يسقطون سلفاً تحت رحمة الأخطبوط وقوة الصورة من حوله.
الآن سيعود بول إلى الحديقة المائية التي يعيش فيها ليواصل عمله في إبهاج
مشاهديه من مختلف الأعمار من دون أن ننسى أن هناك من الخاسرين
من يهدد بشيه على
النار والتهامه.
ربما يُستخدم في توقعات أخرى، كأن توضع أمامه صور متسابقات على لقب ملكة
جمال في
بلد ما، فيقوم باختيار الملكة والوصيفة، فيما تصفق له لجان
التحكيم والنخب المعوزة
كثيراً للخيال والإلهام.
ما يحدث من حولنا هو عوز في الإبداع والقدرة على التحليل، والحق أن العالم
الكروي من قبل أخطبوط التوقعات كان أجمل بكثير، لأننا كنا نميز
بين أداء هذا اللاعب
أو ذاك... أما الآن، فمن الصعب بعدما استسلمت المخيلة الجماعية تماماً
ونامت على
هدي توقعاته المملة أن نعرف ما الذي يدور في الملاعب الخضراء، إذ تمكن بول
وبقوة
الصورة المتلفزة أن يحسم خياراتنا في التوقعات، وهذا أمر مؤسف
تماماً.
الحياة اللندنية في
16/07/2010
سماجة اسرائيلية
فجر يعقوب
وقف مراسل قناة «الجزيرة» من مدينة جوهانسبورغ لينقل أخبار المباراة
الفاصلة بين
المنتخب الهولندي والمنتخب البرازيلي، والتي انتهت كما هو معروف بفوز
الطواحين
البرتقالية الهولندية. توّجب على المراسل في هذه اللحظات أن يحلل المباراة
التي
كانت مفاجئة للجميع، بعدما ودّع منتخب السامبا مونديال 2010.
الآن في هذه اللحظة التاريخية يسمح استدراج الذكريات باستعادة
المباراة ذاتها في
مونديال 1974، عندما أقصت الطواحين ذاتها المنتخب البرازيلي، وها هي تكرر
الفعل
ذاته بعد أكثر من ثلاثة عقود. لحظة مهمة في حياة الهولنديين ومحبي منتخبهم،
فقد
كانت الأصوات ترتفع من حول المراسل أكثر فأكثر، ذلك أن أصحاب
القمصان البرتقالية
كانوا قريبين جداً منه، وهم يتجمعون خلفه، وبعضهم يستخدم الـ «فوفوزيلا»
للتعبير عن
فرحه بالنصر.
بالطبع كان أمراً مفهوماً أن يحتفل الهولنديون ومشجعو منتخبهم برفع
الأعلام
الهولندية، وكل ما يشي برموز المنتخب الفائز. وكان أمراً مفهوماً أن يلتقط
المصور
بعض تعابير وجوه مشجعي المنتخب المهزوم، فهذه مباراة «كسر عظام» بين
المنتخبين آلت
إلى هذه النتيجة المفرحة للبعض، والمحزنة للبعض الآخر.
كانت الكاميرا المتوثبة تلتقط أدق التفاصيــل، وكانت الأصوات الفرحة
والمستــنكرة ترتــفع على حد سواء وتغطي على صوت المراسل الذي حاول مجتهداً
أن يؤدي
دوره كمــذيع من قلب الحدث من دون أن يبدو عليه الانزعــاج. فالساحة من
خلفه تعج
بالمحتفلين والناقمين على حد سواء، لــكن المشهد من خلفه ازداد
تعكيراً فجأة بدخول
مشجعين غامضين يحملون أعلاماً اسرائيلية، وأخذوا يلوحون بها جيئة وذهاباً
وكأن
اسرائيل هي البلد الفائز في هذه «الملحمة الكروية».
لمن لا يعرف، ليس لإسرائيل وجود في مونديال جنوب افريقيا، وهي لم تسجل
في
تاريخها أية انتصارات في هذا المجال. بالتالي، فإن وجود أعلامها وراء
المراسل أمر
نافر، اذ لم يتسن من قبل لدول غير مشاركة أن «تأمر» من باب الدعاية بعض
رعاياها
بحمل أعلامها بغية الترويج لها ولسياساتها.
هذا ما تفعله اسرائيل في مونديال 2010 من باب السماجة التي لا يمكن
دولة غيرها
أن تقوم بها، وهذا ما كان يفعله مشجعوها على غير هدى بعد انتهاء الموقعة
الكروية
بين هولندا والبرازيل، علماً أن الحكومة الهولندية مولت أخيراً دعوى
قضائية، ضد هذه
الدولة المارقة، رفعها متضررون من الهجوم على «اسطول الحرية».
وقد يبدو مثيراً أن نعرف أنه لو رفع مشجعون من دول أخرى أعلام بلادهم
ولوّحوا
بها من دون أن يكون لها مشاركات في أي أنشطة رياضية، لبدا الأمر لنا محض
دعابة
مقبولة، أما مع أعلام هذه الدولة، فيبدو الأمر مغايراً تماماً.
الحياة اللندنية في
07/07/2010
نهاية لاعب شجاع
فجر يعقوب
أنهى اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو حياته الكروية بأقل من ثانية
واحدة بعد
خسارة منتخب بلاده أمام المنتخب الاسباني في مونديال جنوب
افريقيا 2010. ليس بسبب
الهدف الخصم في مرمى فريقه، ولكن بسبب رد فعله المشين، عندما بصق على
المصور
التلفزيوني الذي كان يلاحقه ليلتقط تعابير وجهه بعد الخسارة، ليس شماتة،
وانما من
باب الحرفة في متابعة الحدث ومجرياته.
رونالدو لاعب ريال مدريد الإسباني أساساً، ربما لم يكن يدرك إن ما فعله كان
في
شكل أو في آخر يطاول الملايين من المعجبين الذين، وإن لم
يتواجدوا على أرض الملعب،
فإن عدسة الكاميرا التلفزيونية الموجهة نحوه - والتي لم تكن حيادية في هذه
اللحظات
الصعبة - كانت تنقل إليهم كل نأمة تند عنه هو بالذات، فهو اللاعب الأغلى في
العالم،
إن لم يكن في تاريخ كرة القدم.
بالتأكيد يثير تصرفه الأرعن رغبة بالكتابة عن استخدامه أيضاً كبطل رياضي
مثالي
في الاعلانات التلفزيونية، وواحد منها متعلق بنوع من «شامبو»
الشعر يسبب برودة في
فروة الرأس حال استخدامه. وفي الصورة رونالدو يوجه ضربة صاروخية بقدمه تعمل
في ما
تعمل على تهديم المعنى المجازي الذي تسببه قشرة الرأس في فصل الصيف، وهو
بذلك يزاوج
ما بين قوة الغسول المستخدم، وقوة قدمه اليمنى، من أجل نتيجة
واحدة بحسب
الاعلان.
نفترض أن رونالدو وضع حداً لحياته الكروية بسلوكه هذا، وربما لن تقوم له
قائمة
في الملاعب بعد ذلك. وربما يحدث العكس، فهو لاعب محترف ومهاجم
خطير، بالتالي فإن
الحاجة له ولمهاراته تظل قائمة إلى أجل غير مسمى. وربما حتى بعد اعتزاله لن
يتذكر
معجبوه هذه «الهفوة الكونية»، وسيغفرونها له، فهذا ما يحدث للأبطال دائماً،
وهذا
قدرهم.
لكن الأمر المحير سيظل مرتبطاً بالإعلان التلفزيوني، اذ كيف يمكن لـ «بطل
غير
أخلاقي» أن يقنع المستهلكين بنوعية المادة المستخدمة في
«شامبو» الشعر اليومي، حين
يقررون استخدامه اقتداء به.
الإجابة لن تكون واحدة في الحالين. فتصرفه الأول، وإن نقلته الكاميرا إلى
أنحاء
العالم بلمح البصر حال وقوعه يمكن أن «يتجاهله» محبوه. أما
الإعلان التجاري الذي
يقوم ببطولته، فإن سلوكه المشين ينزع عنه مثاليته. ولا يعود قابلا لأن يظل
فعالا
بنظر المستهلكين، فالغاية من استخــدام النـجوم والمشاهير والأبطال في
الاعلانات
التجارية هو اضفاء صبغة المثالية على البضائع لا العكس. ومافعله كريستيانو
رونالدو
عقب خسارة منتـخب بلاده أمام الجارة اسبانيا نزعم أنه تكّفل
بهذا تماماً.
الحياة اللندنية في
02/07/2010
تعليقات عنصرية
راسم المدهون
يتباهى معلق رياضي بما يظنه عملاً رائعاً يدهشه، فيستحضره من أسوأ مراحل
التاريخ
البشري ليجعله الحادثة القدوة التي يراها مدعاة لأن يحذو حذوها
تاريخنا الراهن.
ما أشير إليه هو تماماً ما فعله أحد المعلقين الرياضيين على مباراة من
مباريات
مونديال جنوب إفريقيا. فالمعلق الذي ساءه «تخاذل» منتخب
إيطاليا عن اللعب، راح يذكر
لاعبي ذلك المنتخب كيف أن موسوليني قد أصدر لهم عام 1938 أمراً من كلمتين:
«عودوا
بالكأس»، فانصاع الإيطاليون الذين يرى المعلق أنهم «لا تنفع معهم غير العين
الحمراء»، إذ لعبوا بجدية، وعادوا إلى روما بالكأس الغالية،
كما أمرهم الزعيم.
أدهشني التعليق، بل صدمني. فإعجاب المعلق بموسوليني شيء يخصُه بالتأكيد،
لكنه لا
يعود كذلك حين يطلقه من شاشة فضائية ينصت لها ملايين
المشاهدين، وأين؟ في سياق
مباريات دورة كروية هي الأهم، أي تستقطب عشرات ملايين المتابعين.
هل يمكن أن يكون وعي المعلق الرياضي منحدراً إلى هذا الحد؟
أين تنتهي مسؤولية المعلق وتبدأ مسؤولية القناة الفضائية التي يتحدث منها
وباسمها؟
أسئلة لا تجد إجاباتها في ضجيج «الفوفوزيلا» والخلاف على صحة أو خطأ صفارات
الحكام وقراراتهم، لكنها مع ذلك تظلُ حاضرة وتشير لوعي مضطرب
هو مزيج من الانفعالات
والزهو الخائب، بل والجهل بأبسط اشتراطات الإعلام النظيف.
الأهم هنا هو التناقض المروع بين إزدهاء معلّق بأفعال موسوليني، وبين كرة
القدم،
والرياضة عموماً. أي بين أحد رموز الفاشية، وعوالم التسامح
والفن، والعلاقات
الحوارية بين بني البشر. وهو تناقض يضعنا مجدداً أمام صورة وعينا في
تشوهاته
وأوهامه، وخليط مفرداته.
السؤال هنا: هل يكفي أن يحفظ المعلق الرياضي أسماء اللاعبين وما فعلوه في
أنديتهم ومنتخباته ليكون مؤهلاً للتعليق في دورة رياضية كبرى؟
وهل يمكن فصل وعيه
الخاص عن عمله كمعلق نستمع لكلماته وآرائه؟
سؤالان من وحي ما يتحفنا به بعض المعلقين الكرويين هذه الأيام، وما نعتقد
أنه
جدير بالتوقف عنده، وإعادة تقويمه مجدداً، ذلك أن فضاء الإعلام
الرياضي ليس ملكاً
لأحد يطلق من خلاله ما شاء من آراء وأحكام. وهو فوق ذلك مساحة تحتاج عناية
خاصة،
وامكانات تليق بتظاهرة على هذه الدرجة من القدرة على استقطاب اهتمام الناس
ومشاهداتهم.
الحياة اللندنية في
01/07/2010
كأن الأمر يعنينا
أمينة خيري
لو كانت
كرة القدم سياسية لتغير وجه المعمورة، ولو كانت القنوات الرياضية سياسية أو
اقتصادية أو حتى اجتماعية لتغيرت وجوه ستة بلايين و830 شخصاً،
ولو كانت تحليلات
الأهداف وتفسيرات الضربات الركنية ومبررات التسلل منصبة على الأوضاع
المعيشية
والظروف السكنية وأحوال المواطنين لحُلّ أكثر من 90 في المئة من مشكلات
البشر.
هوس كروي
يجتاح العالم العربي. قنوات رياضية لا حصر لها، وبرامج تحليلية، وأخرى
تفسيرية،
وثالثة حوارية تخدم المباريات التي باتت إذاعتها أصلاً «بيزنيس»
يضاهي في أرباحه كل
ما سبقه من نشاطات شرعية أو غير شرعية.
صيف قائظ
يجتاح الدول العربية بمواطنيها الـ340 مليوناً. مشكلات وضغوط داخلية تحيط
بالغالبية
العظمى، وإحباطات سياسية وأخرى اقتصادية يئس كثيرون من حلها.
وعلى رغم
أن الهوس الكروي ظاهرة إنسانية يمكن وصفها بالأممية، إلا أن هذا الهوس يتخذ
شكلاً
أعمق وأقوى عربياً. عشرات من القنوات التلفزيونية الخاصة
والحكومية عرفت طريقها إلى
الأثير خلال الأشهر القليلة الماضية، وعددها يزيد بمرور الدقائق. المعلنون
يتكالبون
على الإعلان عن منتجاتهم فيها، وشاشات العرض التلفزيوني العملاقة في
النوادي
والمقاهي لا تكاد تدير المؤشر بعيداً منها طيلة ساعات الليل.
يطلقون عليها قنوات
رياضية، لكنها في الواقع قنوات كرة قدم. جيوش من المذيعين والمذيعات،
وكتائب من
المعدين والفنيين، وملايين من الدولارات، واستوديوات متناثرة هنا وهناك،
ومحللون
وخبراء يعملون على مدار الساعة.
حال من
الزخم والنشاط والاهتمام والحماسة لا أول لها أو آخر. والغريب أنها تسير
بوتيرة
عالية لا تهبط أو تفتر أو تقل. وهي وتيرة بلغت أقصى مدى هذه
الأيام مع حمى
المونديال. ويتساءل بعض الخبثاء عن سر اهتمام العرب المبالغ فيه بمتابعة
فعاليات
المونديال وكأن فرقهم الوطنية تسيطر على البطولة الدولية للساحرة المستديرة.
العرب
يتابعون فرق المعمورة من دون أن يكون لهم تواجد بينها. وعلى رغم ذلك
يتابعون
ويشاهدون بكل ما أوتوا من إخلاص وتفرغ وكأن الأمر يعنيهم.
ينقسمون إلى مجموعات تشجع
الإيطاليين لأنها تعشق المعكرونة والبيتزا، أو الألمان احتراماً للصناعة
الألمانية
التي لا يعلى عليها، أو البرازيل عشقاً لرقصة السامبا، أو اليابان إعلاء
لقيمة
العلم والتكنولوجيا، أو حتى غانا تحقيقاً لمبدأ التضامن
الأفريقي، لكنها تبقى في
نهاية اليوم تضامناً وتشجيعاً وترجمة فعلية للمثل الشعبي القائل «يا باني
في غير
مِلْكك، يا مربي في غير ولدك». ويتساءل آخرون بخبث شديد عن النتائج التي
يمكن العرب
أن يحققوها لو هم أنفقوا ما ينفقونه من وقت وجهد ومال واهتمام
وتركيز على كرة القدم
ولكن على قضاياهم المزمنة، ولنقل مثلاً القضية الفلسطينية! أغلب الظن أن
الوضع
سيتغير، لأنهم في هذه الحالة سيبنون في ملكهم ويربون أولادهم!
الحياة اللندنية في
30/06/2010
هروب حميد
أمينة خيري
«بالطبع
لا!» جاءت إجابته سريعة ومن دون أدنى تردد. كان واثقاً مما يقول. ليس
هذا فقط، بل كانت نظرة الاستنكار واضحة على ملامح وجهه التي أمعنت في نحتها
وزخرفتها سبعة عقود كاملة. «حرام عليكم! ضعف وأمراض الضغط
والسكري والقلب ووجوه
ودّعت الجمال من دون رجعة وبقايا عضلات تحوّلت إلى دهون وذكريات شباب فتي
تُحزن من
يسترجعها وتدفعه دفعاً إلى الاكتئاب والترحم على أيام زمان... هذه هي
حياتنا
اليومية! وأنتم تريدون لنا حين تتيسر فرصة الهروب منها
والانغماس في أمر مختلف أن
نجد أنفسنا وجهاً لوجه معها هي ذاته. والله حرام!»...
كان الحديث دائراً حول إمكان تأسيس قناة فضائية موجهة لكبار السن. برامجها
تتناول تفاصيل حياتهم اليومية، ومشكلاتهم المرضية، وعوائق
العيش من دون رفيق أو
ونيس. أما أفلامها فأفلام الأبيض والأسود التي تستدعي ذكريات الشباب،
وتستحضر قيم
الماضي. حتى المذيعين والمذيعات ينتمون الى مراحل عمرية متقدمة نسبياً
للتمتع
بمصداقية وقبول لدى المشاهد المسن.
للوهلة الأولى، بدت الفكرة عبقرية، وهو ما عبّر عنه الحضور من الشباب
ومتوسطي
العمر. أما الاعتراض الوحيد فجاء من أصحاب الشأن نفسه. وجهة
نظرهم كانت في اختلاف
مرحلتهم العمرية عن أي مرحلة أخرى. فمشكلاتهم تكاد تكون معروفة، ومصادرها
معلومة،
وحلولها محدودة.
كثر تمنعهم أمراضهم، أو صعوبة المواصلات، أو ضيق ذات اليد عن النزول إلى
الشارع
والتلاحم مع الحياة اليومية الحالية. وشاشة التلفزيون وسيلتهم
الوحيدة للتواصل مع
الحاضر. نشرات الأخبار تقدم لهم وجبة خبرية سريعة عما يحدث في الداخل
والخارج، لا
سيما وأن الجرائد، في حال توافرها على رغم ارتفاع أسعارها، لا تراعي حجم
الخط
المقدم للقراء في هذه المرحلة العمرية التي تحتاج إلى مزيد من
التكبير.
أغنيات الفيديو كليب توفر لهم ميزة التأمل في ما وصل إليه عالم جراحات
التجميل
والتغيرات التي طرأت على مقاييس الجمال وقيم الإغراء. نظرة
سريعة إلى مجموعة من
الفتيات الراقصات حول مطرب فيديو كليب مغمور دفعته لشجب فكرة قناة «ربيع
العمر»
مجدداً. «حرام عليكم تحرمونا من هذا
الجمال. لم يتبق لدينا سوى متعة المشاهدة
والتأمل والتخيل، حتى هذه القدرة تودون أن تفسدوها علينا ونرى
بعضنا بعضاً وهو
يعاني ويشكو ويتأمل في راقصات زمان من صاحبات الأوزان الثقيلة والشعور
المجعدة؟!
دعونا نعيش الحاضر بجماله وروعته ولو كان
افتراضياً!» هذا الموقف غير المتوقع يطرح
تساؤلاً مهماً: هل حقاً ينبغي على قنوات التلفزيون أن تسعى إلى
أن تكون انعكاساً
حقيقياً وترجمة واقعية لنا؟ أم أن هناك دوراً آخر لا يقل أهمية ألا وهو
الهروب بنا
إلى عوالم مختلفة تماماً عما نعيشه لئلا نكون محاصرين بأنفسنا واقعياً
وتلفزيونياً؟! الأكيد أن الهروب الحميد من الواقع مطلوب
أحياناً.
الحياة اللندنية في
16/07/2010 |