إن كنا نتعاطف مع اللاجئين، ونعتبر أنهم أبناء المأساة
الإنسانية، في أقسى صورها، لأنهم تركوا ديارهم، وأهلهم قسرا،
وتشردوا في بقاع
الأرض، ولا يعرفون متى العودة، فيما تظل ذكرياتهم الأليمة، تطاردهم في
الصحو
والمنام، ولا يغادرهم أحساس الفقد والإغتراب، أينما ولوا وجوههم، غير أن
هذا
التعاطف ليس مبررا- بأي حال من الأحوال - للإبتزاز العاطفي،
ولا ينبغي أن يجرفنا
إلى هوة إستلاب الوعي، أو قبول توظيف مثل هذه الإزمات الإنسانية، لخدمة
أجندات
سياسية غربية، تحرف الوقائع وتلون الحقائق، وتصدر مواقف منحازة ،لها
أهدافها، التي
لا تخفى على أحد.
مؤخرا، أتيحت لي مشاهدة مهرجان أفلام اللاجئين بالقاهرة، وبقدر
ما كنت متحمسا له، إلا أن التجربة لم تكن سارة، وبدا التسييس
واضحا على المهرجان،
كما لو كانت مهمته تسويق أفكار مغلوطة، وملونة، بعيدا عن النظرة الموضوعية،
وعلى
نحو يبدو متساوقا مع نهج الإختراق الثقافي، لا التبادل الحضاري، والتواصل
الإنساني.
ولم أعد أستغرب من هذه التوجهات، حال معرفة وجود تمويل أجنبي لمثل هذه
الفعاليات، التي تكاثرت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، جعل
القاهرة أشبه بـ'بازار'
مفتوح، تروج فيه كل الأفكار بسهولة، ودون ممانعة. وصارت المهرجانات
السينمائية
واحدة من النوافذ المهمة للغرب الأوروبي أو الأمريكي لعرض أو بالاحرى، لفرض
رؤاهم
المشوهة، وطروحاتهم المؤدلجة، رغم أنهم يطالبوننا - طوال
الوقت- بالموضوعية،
والحياد، ونبذ الإيديولوجيات.
ولعل الفيلمين التسجيليين،'لاجئون من روسيا' و'طفل
الحرب السوداني' من النماذج الفجة في هذا المهرجان الملون، لذا علينا أن
نتوقف
طويلا عند كل واحد منهما، خاصة أنهم يدسون السم في العسل، ويتبعون أقوى
الأساليب
الدعائية تأثيرا، تلك التي تعتمد على مزج الحقائق بالأكاذيب، وتغليفها
بإطار عاطفي،
على نحو يُوصل الرسالة، دون مواجهة ميكانيزمات دفاعية، ودون النظر إلى
سياقها أو
مصدرها، وهو ما يعرف في نظريات الإعلام بـ'تأثير النائم'.
ففيلم 'لاجئون من
روسيا' على سبيل المثال، للمخرج فلاديمير بوكين، فكرته الرئيسية تتمحور حول
مخرج
يعيش في أوروبا، ورغم مرور الزمن، وكونه من الجيل الثاني إلا
أنه لا يحمل الجنسية
الفرنسية، وتوارث عن أسرته لقب 'لاجئ من روسيا'، رغم أن الخارطة
الجيوسياسية تغيرت،
وباتت جذوره تعود إلى قرية تتبع مينسك عاصمة بيلاروسيا، (إحدى دويلات
الإتحاد
السوفييتي المنهار)، أي أنه لم يعد روسيا، غير أن هذا الخط ليس
إلا مبررا، للولوج
إلى رسالته الأهم الممنهجة والمؤدلجة، أو بالاحرى تذكيرنا من جديد بالمأساة
اليهودية، ولفت أنظارنا إلى الإضطهاد اليهودي، الذي لم تقتصر وقائعه على
أوروبا
النازية، وانما تمتد لتشمل روسيا والبلاد العربية، وخاصة مصر
الثورة، الأمر الذي له
دلالته، خاصة في هذا التوقيت، الذي يشهد تصاعد الإدانة الدولية لجرائم
إسرائيل،
ومذابحها بحق الفلسطينيين.
يعطي المخرج مساحة لا بأس بها، من سرد جذور (مأساة)
هذه الأسرة اليهودية، على خلفية من الصور الثابتة والمتحركة، وبعض
الشهادات، بدءا
من العام 1905 في قرية ريشيستا ببلاروسيا، حيث القتل والدمار والملاحقة
لليهود، ما
دفعهم إلى الهجرة لفلسطين، ومع إندلاع الحرب العالمية الأولى،
تشد العائلة الرحال
إلى الاسكندرية.
وبعد أن أدخلنا في أجواء التعاطف مع هذه الأسرة المضطهدة
والمشردة،
يسعى لتكريس الصورة النمطية الأخرى عن اليهود، وهي أن اضطهادهم يعود،
في جانب كبير منه، لتميزهم عن غيرهم من الشعوب، وأنهم أينما حلوا، يتركون
بصمتهم،
وآثار عبقريتهم، التي اصطفاهم بها الرب، فهذه الأسرة، التي بعضها يعشق
السينما
والرسم، وبعضها بارع في الهندسة، وبعضها يعمل في بيع الكتب،
وهي وظائف لها
دلالاتها، كونها ترتبط بالتحضر والرقي الإنساني، يشرعون في جمع مدخراتهم،
وإفتتاح
أول أستديو للرسوم المتحركة، وصنع أول فيلم مصري (مشمش أفندي)، الذي حاز
على
الإعجاب، لدرجة أن هذه الشخصية، حسبما يدعي الفيلم، جرى
توظيفها بطلب من الحكومة
المصرية وقتها، في التوعية الزراعية للفلاحين، ثم في دعم المجهود الحربي،
إبان
الحرب العالمية الثانية.
وهنا أيضا يريد أن يقول إن اليهود يميلون للإندماج،
والإضافة للمجتمعات، التي يعيشون فيها، وتقديم خدمات لها، وهو ما ينافي
واقع الحال،
ويتناقض مع ثقافة 'الغيتو' المرتبطة بوجودهم، ثم أن المجهود الحربي وقتئذ
كان
إنكليزيا، وموجه ضد هتلر، عدوهم التاريخي، وليس لخدمة مصر.
ويواصل المخرج
الدعاية السوداء، بإلقاء مجموعة من الأكاذيب، مع بعض الحقائق المنزوعة من
سياقها،
بالحديث أن الملك فاروق كان يحبهم، بينما جاءت الثورة لتجعل
المصريين يسلبونهم
وظائفهم، ويصادرون أموالهم، وتجارتهم، ويجبرونهم على بيع ممتلكاتهم بأبخس
الاثمان،
والمغادرة السريعة، إما إلى أمريكا، أو انكلترا، أو إسرائيل.
وفي هذا أيضا تحريف
للحقائق، فحب الملك فاروق لهم، وتقريبهم إليه، مرجعه أنهم كانوا أحد مصادر
لهوه،
ومغامراته، ونزواته.
وإحتفاؤهم به، ومعاداتهم للثورة مفهوم، في سياق سيطرتهم على
إركان الإقتصاد المصري، وممارسة الاحتكار، والإستغلال، والإرتباط العضوي
بالمستعمر
الانكليزي، وبالمشروع الصهيوني، على حساب المصلحة الوطنية، وهو ما أنهته
ثورة
يوليو، فضلا عن انهم إختاروا - طوعا ـ الهجرة، بتأثير من
الوكالة اليهودية، في
أعقاب إعلان قيام الكيان الصهيوني، على أرض فلسطين، والبعض الأخر فر هاربا،
في
أعقاب فضيحة 'لافون' الشهيرة، و أبان العدوان الثلاثي علي مصر.
ويترك المخرج هذه
المنطقة، لينقلنا إلى حياة أسرته في باريس، وحنينه إلى مسقط رأسه، الذي ظل
يراوده
لسنوات، إلى أن تمكن من زيارة قريته، ورؤية مقابر الضحايا
اليهود، وكأنه يريد أن
يقول إننا لا ننسى، ونتوارث الألم جيلا بعد جيل.
ثم يختتم فيلمه بلقطة إحتفاء
معهد العالم العربي بأسرته، في إحتفال مئوية السينما المصرية، بإعتبار
(الأخوة
فرانكل) اليهود، رواد صناعة السينما المصرية، ليعيد التأكيد على المعنيين،
اللذين
أشرنا إليهما سلفا (أيقونة الإضطهاد اليهودي، وإعلاء فكرة
التمايز والتميز
لليهود).
ولا يبتعد فيلم 'طفل الحرب السوداني' للمخرج كريستيان كريم شروبوج
الممول أمريكيا عن هذا المنحى، وهذه المعالجة المؤدلجة، التي
تسوق الكثير من
المغالطات، وتعزف على الأوتار العاطفية بقوة، لإبتزاز المشاهد، وصرفه عن
الرؤية
الأعمق للقضية، ومن اكثر من زاوية، بدلا من النظرة الآحادية، والرسالة
الموجهة
بإتقان.
وينطلق الفيلم من حكاية مطرب سوداني من الجنوب، يدعى إيمانول جال، يعيش
في الولايات المتحدة ،واشتهر بغنائه عن تجربته مع الحرب،
ومأساتها، وكيف أنه لو لم
يجد من ينقذه، لصار مصيره قاسيا، مثل ملايين من أبناء شعبه.
ووسط غنائه الذي
يمثل ركيزة أساسية في بناء الفيلم، وشهادته، التي لها نصيب الأسد، علاوة
على بعض
شهادات أسرته، وشخصيات تنتمي لمؤسسات دولية عاملة في السودان،
أو داخل الولايات
المتحدة وصحافيين، تتبلور رسالة الفيلم، ويسعى مخرجه لتكريس مفاهيم وتصورات
مغلوطة
عن
الصراع بين حكومة الخرطوم، وحركة تحرير السودان الجنوبية، ولعل
من أبرزها،
الإدعاء بأن الصراع في أصله إثني وديني بين عرب مسلمين في الشمال، ضد
افارقة
مسيحيين في الجنوب، في حين أن أصل المشكلة هو تهميش الأطراف، وتعثر مشاريع
التنمية
أو غيابها، وأن دخول أطراف غربية واسرائيلية على خط الصراع، هو
ما أججه، وأطال
أمده، وصولا إلى طرح تقسيم السودان، وإنفصال الجنوب الذي بات وشيكا،
وامتداد العدوى
للشرق، ولدارفور في الغرب، خاصة مع ظهور الثروة النفطية.
ورغم أن الفيلم مكرس
لقصة الجنوب، إلا أنه يميل- من وقت لآخر- إلى الربط بين معاناة اهل الجنوب،
وأهالي
دارفور، وتعرض كليهما إلى إضطهاد حكومة الشمال المسلمة العربية.
بالإضافة إلى
تبرير تورط الجنوبيين، وخاصة الأطفال في الحرب، بأنهم اما غير واعين للأمر،
أو
مضطرون للدفاع عن النفس، خاصة بعد أن وجدوا أنفسهم ملاحقين
بالموت، دون ذنب
اقترفوه، وكأنهم ليسوا شركاء في الحرب أو من حرض عليها بحركتهم الانفصالية
المدعومة
من الخارج.
وقد أفرط المخرج في لقطات الحرائق، ومشاهد الدمار، والجثث والصحراء
الخاوية والمخيفة، من أجل زيادة جرعة التعاطف، وشحن المشاهد ضد
الحكومة السودانية،
المسؤولة وحدها، حسب سياقه، عن هذه المأساة، والجرائم ضد الإنسانية، فضلا
عن إبراز
إيمانويل، ورفاقه كضحايا ومضطهدين، على أساس ديني، بالتركيز على المعادل
البصري
لهذا المعني من عمل (كلوز اب) على صورة المسيح مصلوبا، أو
التوقف عند الأعمدة
صليبية الشكل، التي تكثف هذا الإيحاء.
وأعتمد على أسلوب التداعي، ليتمكن من سرد
القصة الكاملة، لهذا الشاب الجنوبي، بالتوازي مع قصة الصراع، ليبدو أن ثمة
صراعا
داخليا، وألما يعتصر هذا الشاب، وهو يتذكر معاناته، ويروي فصول حكايته،
سواء
للأجيال الجديدة، أو لأعضاء الكونغرس، أو للمشاهد، وليتغلب على
الإحساس بالملل، من
طول الفيلم المزدحم بالتفاصيل، من الماضي والحاضر، داخل أمريكا، أو في
معسكرات
اللاجئين في أثيوبيا، وكينيا، وفي جنوب السودان.
مع توظيف أجزاء من أغاني
إيمانويل نفسه لتعميق المعنى المقصود من ناحية، ولكسر رتابة السرد.
كقوله من وقت
لآخر غناء 'أنا طفل حرب، نجوت لأحكي قصتي.. الناس يعانون هناك'.
ويفرد المخرج
مساحة لحكايات مختارة بعناية، تصب في الأخير في إدانة الحكومة السودانية،
أو
بالأحرى ادانة مسلمي الشمال 'البربريين'، ومحاولة السيطرة
الكاملة على المشاهد
عاطفيا، كرواية إضطراره للرحيل بعيدا عن أسرته إلى أثيوبيا، على ظهر قارب
متهالك،
جرى تحميله فوق حمولته، ما جعله يغرق، وكيف وجد نفسه وحيدا حين نجا، ولم
يجد من
يهدئ روعه. وكيف أنه، ورفاقه أضطروا، حين هربوا من ساحة
القتال، إلى السير في
الصحراء القاحلة الحارقة، ليجبر بعضهم البعض على التبول، من أجل الشرب، ثم
الموت
سريعا، بعد أن ينهشهم التسمم، أو الاضطرار لأكل الطيور الجارحة، بعظامها
وأمعائها
ودمائها.
أو أن يترك المخرج أخت إيمانويل تسرد قصة إغتصابها أكثر من مرة، ويركز
بكاميرته على وجوههما في لقطة مؤثرة، ثم يتابعهما وهما
يتعانقان، والدموع تفيض من
عيونهما، وثمة إحساس بالإنكسار والعجز يحيط بكليهما.
ولا ينسى المخرج أن يحتفي
بالتدخل الخارجي، إذ يعطي مجالا لواقعة هروب إيمانويل، أو بالأحرى إنقاذه
من
الجحيم، على يد سيدة أجنبية، وهي ذاتها أوصت به لدى صديقتها في كينيا،
لتتولى
رعايته كطفلها، ولولا تدخلها كما يقول لظل 'لاجئ بائس'، فضلا
عن اللقطات الدالة
لطائرات المساعدات الأمريكية، وهي تلقي بالأغذية والأدوية، كما لو كانت
مائدة من
السماء، وهبة من الرب على يد المخلص الأمريكي.
إلى جانب الإحتفاء به فى أمريكا
ونيله شهرة، وإهتمام أعضاء الكونغرس به، وبالإستماع إلى قصته، بغية
المساندة.
ويختتم المخرج فيلمه بنهاية دالة، بعودة إيمانويل لزيارة قريته في
جنوب السودان بعد إتفاق السلام، كما لو كان قائدا مظفرا، عاد
ليحصد ثمار نضاله،
ويحتسي نخب الإنتصار، وكأن الجنوب صار دولة مستقلة، لا يخشى أن يطأها الآن،
بعد أن
تحررت من سلطة الشماليين 'الدمويين'، ويقرر كموفد العناية الأمريكية، تبني
بعض
الأطفال، وجمع التبرعات لبناء مؤسسة علمية، للإسهام في بناء
جنوب السودان
الجديد.
إنه فيلم النظرة الواحدة، والتحيز المتعمد، والمغالطات الفجة، مثله مثل
سابقه، ما يضعهما معا في خانة الدعاية السياسية الغربية، ويضع
المهرجان نفسه، الذي
أحتواهما في قفص الإتهام.
*كاتب
وناقد
مصري
mabdelreheem@hotmail.com
القدس العربي في
06/07/2010 |