يرى الوجه المسرحي الجزائري البارز "حبيب بوخليفة" أنّ بلاده بحاجة إلى
الانتقال حتما من ثقافة الدولة إلى دولة الثقافة، مشيرا إلى أنّ المسرح في
بلاده يشكو حشوا أفرز قطيعة مع الجماهير، ويرى في هذه المقابلة الخاصة
بـ"إيلاف" أنّ القطيعة تجسدت بين العرض المسرحي والجماهير، وكشفت عن التخبط
الذي تعيشه المؤسسة المسرحية، لذا لا بدّ من تجديد يخلق المتعة.
•
ما هي مقاربتكم لواقع النص
والعرض في المسرح الجزائري، وهل الحل في العودة إلى الرواية؟
- إذا ما تمعنا في واقع ما يحدث للفعل المسرحي في المجتمع، نلاحظ أنّ هناك
تلاعب سلبي بالمفاهيم الفنية، وجهل تام لها سواء على مستوى الخطاب السياسي
الثقافي العلني أو الممارسة.
إذا غابت الكتابة الأولى ستغيب حتما الكتابة الثانية أي الإخراج، إنهما
عمليتان مترابطتان في الزمان والمكان الواحد، وما سميته وأسميه مسرح الحشو،
والمؤلم في الأمر أنّ المؤسسة المسرحية المملوكة للحكومة تشارك في تجسيد
قيم خاطئة داخل هذا المجال الثقافي الفني الحيوي، من خلال تهميشه الكفاءات
المبدعة لأسباب لها صلة بالانتفاع من الريع قدر الإمكان.
أما الرواية فهي جنس أدبي يختلف عن الدراما المسرحية، يمكن أن نستلهم منها
لخلق النص الدرامي وتوظيفه داخل الفضاء المسرحي مثلما هو سائر في المجتمعات
المتحضرة التي تؤمن بالفعل الفني الثقافي، حتى وإن كنا لا ننفي الجهود
الفردية النادرة أحيانا التي تشجع على الاستمرار.
•
يُثار في الجزائر إشكالية معاناة
المسرح هناك من إشكالية الابتعاد عن الجماهير، ما المسافة الفاصلة الآن
برأيكم بين أب الفنون والمتلقين؟
- مهما كانت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبقى الفن المسرحي
مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمجتمع، لكن بشرط أن يكون الإبداع متحركا خاليا من
الإتباع والابتداع، وأن يولّد أسئلة نارية تفجر قضايا الأمة.
إنّ المتلقي يبحث ليس فقط عن المتعة، بل كذالك عن الأفكار الجديدة
وارتسامات/إجابات لمختلف الأسئلة، المتلقي يبحث أيضا عن جماليات العرض
المسرحي، هذا الأخير مهما كان نوعه وشكله، فهو فعل سياسي وفكري، إنه احتفال
شعبي مبني على قوة الاتصال بين ما يحدث على الخشبة والمتفرج، ما ينتج سائر
الانفعالات.
لذا فإنّ الجمهور شرط جوهري لوجود الفن المسرحي، ولم تعد العروض المفبركة
تهم الجمهور الجزائري إلا نادرا، بالرغم من أنّ الدولة تضخ أموالا ضخمة في
كثير من المناسبات.
أرى أنّ القطيعة تجسدت بين العرض المسرحي والجماهير، وكشفت عن التخبط الذي
تعيشه المؤسسة المسرحية الأمّ والفشل الذريع في السياسات الثقافية
والاجتماعية المتعاقبة التي عجزت عن تحريك الفضاء الفني خصوصا عندما تغيب
المعايير ويصبح الجاهل هو القائم وعميد المسرح، ومن هنا أتساءل كيف يمكن أن
نعيد الجمهور إلى القاعات، بينما لا تزال رداءة عروض مسرح الحشو هي
السائدة.
•
تفضلون في تطبيقاتكم الركحية، ما
يعرف بالمسرح البيو-تقني وتقولون أنّه الأنسب للشباب، هل لكم أن توضحوا هذه
النظرة لقراء "إيلاف"؟
- إن معالم منهج البيوميكانيك (Biomécanique)
تعتمد أساسا على التعبير الجسدي، ويعود الفضل إلى مبدعها المخرج الروسي
الشهير مييرخولد
Meyerhold الذي كان يحاول الابتعاد عن منهج ستانيسلافسكيStanislavski الاندماجي والمعتمد على سيكولوجية النفس البشرية مثل الذاكرة
الانفعالية والتركيز على توثيق العلاقة بين الشخصية الدرامية والممثل.
استطاع غرودوفسكي
Grotowski) أن يطور الأسلوب البيوميكانيكي وهذا لا يقتصر
على الشباب فقط، ولكنه يتطلب كتابة ركحية تتميز بتوظيف الإيقاع إلى أقصى حد
ممكن، وتتناول مواضيع تناسب هذا الأسلوب، بما يسهل التعبير الفني دون
الحاجة الملحة إلى أموال ضخمة أو نجومية خاصة لتركيب العرض الموسوم أيضا
بتسمية "المسرح الفقير".
•
خضتم تجربة مسرحية مؤخرا بمنطقة
النورماندي الفرنسية، ما هي تفاصيل هذا العرض الذي حضرتموه في أجل لم يتعدّ
الأربعة عشر يوما؟
- قمت مؤخرا بإخراج مسرحية "بيمول" للكاتبة الجزائرية "جليلة حاج بالي" وهو
عمل من فصل واحد جسدته بمدينة" كون" بإقليم النورماندي (فرنسا) مع ممثلين
محترفين في إطار "مهرجان الدراماتورجيا الجزائرية" الذي ينظمه مسرح
"بونتا"، ويختص كل عام بتجربة متفردة (السويد، انكلترا، النرويج، روسيا
وغيرها).
كانت التجربة جد مفيدة، حيث لأول مرة شعرت بحريتي كمخرج تجاوز الترقيع وغاص
في الاحترافية، تماما مثل مواطني المخرج المعروف "زياني شريف عياد" الذي
قام بإخراج مسرحية "لواء مجنون" عن نص الكاتب "أرزقي ملال"، وهما تجربتان
حُظيتا بنجاح كبير وتذوق الجمهور الفرنسي.
•
احتكاما لما يطبع الراهن
السوسيو/ثقافي للمجتمع الجزائري، أي الأنواع المسرحية التي ترونها مناسبة
هناك: مسرح الشارع، المسرح التجريبي، الدراما السيكولوجية، المسرح
الاحتفالي، أم المونودرام؟
- لا يمكن لنا أن نحدد ما نوع المسرح الذي ينطبق أو يلازم ظرفا
سوسيو-ثقافيا معينا، لكن هناك مخاض وتجارب في الممارسة تدفع إلى تجسيد
الرؤية الصحيحة للفعل المسرحي من خلال ربطه الوثيق مع الهوية والتاريخ
والانتماء الثقافي الإنساني، وذلك ضروري كي ننتقل من المرحلة الجنينية إلى
مرحلة التأسيس الجادة، وهو ما ينبغي أن تتفطن له السلطات الحكومية وتعتمد
سياسات مغايرة تبرز أسماء فعلية تخدم الفعل الثقافي المسرحي، بدل الاحتفاظ
بجهلاء همهم الوحيد الانتفاع من الريع. المسرح القومي في جزائر اليوم، مدعو
لابتعاث نهضة تتجاوز عقلية الترقيع، وذاك يتطلب كذلك الانتقال حتما من
ثقافة الدولة إلى دولة الثقافة.
•
بصفتكم أحد خريجي المدرسة
الروسية الشهيرة في المسرح، وزاوجتم بين التدريس والإخراج على مدار سنوات
طويلة، كيف تقرأون خطية المسرح العالمي حاليا بعد بروز عديد التجارب
المتمردة عن نموذج ستانيسلافسكي، وما هو موقع المسرحين العربي والجزائري من
التحولات الحاصلة.
- يستفيد الفنان المبدع ليس فقط من الدراسات المتعمقة في مجال الفن
الدرامي، بل كذلك من التجارب الإنسانية الأخرى والممارسة المستمرة، لكننا
نؤكد على تثقيف الإبداع الفني المسرحي وربطه بالحركة الفكرية وبالمواطنة،
وإلا سيبقى ساذجا يدور في فلكه ويعيد كليشيهات مجترة قديمة مثل (السكاتشات
السطحية).
المسرح العربي عموما يعيش أزمة إبداع داخل مجتمعات تفتقد إلى النقد
والتوجيه الصحيح في رؤية حرة واضحة المعالم، بينما خطوط المشروع الثقافي
الفني لا تزال تشكو من الضبابية، على غرار ما هو حاصل في الجزائر، فهل يعقل
أنه بعد أكثر من أربعة عقود من استقلال البلاد، لم تستطيع الدولة الجزائرية
سن قانون لحماية الفنان؟ ويشترك الجميع في طبخ هذه الرداءة القاتلة، حيث
أصبح كل من هبّ ودبّ مخرجا وكاتبا وناقدا، خلافا للعالم الغربي الذي أسّس
مسرحه وفق ضوابط احترافية تمنع أي سلوك انتهازي أو عبث بنبل الفن وعذرية
الثقافة.
•
ما مدى وضوح وحقيقة وجنون صورة
المخرج ومخيال ممثليه في المسرح؟
- نتفق أولا على أنّ عملية الإخراج ليست سهلة مثلما يظن الكثير من الناس،
فهي تتطلب ليس فقط معرفة التقنيات الركحية، وإنما المعرفة الجوهرية للطبيعة
البشرية وما يدور في فلك وجودها، بعبارة أخرى لا بدّ للمخرج أن يقف مع بناء
القيم الجميلة حتى ولو كان قبيحا.
من شروط هذه العملية هو أن تتجاوز ثقافة المخرج ثقافة الكاتب، لا ننسى أن
الإخراج الدرامي لعب دورا هاما في تطور الفن المسرحي أواسط القرن الماضي
إلى يومنا هذا، مهما تعددت المدارس والاتجاهات يبقى الإخراج يتعامل مع
الأدب الدرامي وجميع الفنون الأخرى مثل التمثيل والرقص، الموسيقى والفنون
الجميلة، الفنون الشعبية والأزياء، الأقنعة والدمى ليركّب مشاهد في وحدة
منسجمة إيقاعا، شكلا ومضمونا.
•
ماذا عن واقع وإحرازات التجريب
المسرحي، وهل صحيح أنّ الفعل المسرحي آيل للعودة إلى المسرح الإغريقي
العريق؟
- استفادت التجربة المسرحية في عصر النهضة في أوروبا من أفكار أرسطو ونصوص
سوفوكليس، أرسطوفانيس وأوروبيدس، كما جدّد شكسبير فن التراجيديا و هي لا
تزال إلى يومنا هذا موضع اهتمام سواء على مستوى الأبحاث النقدية أو
الممارسة.
ليس هناك ثقافة أرقى من ثقافة أخرى، يمكن أن نعود إلى شيء لنأتي بالجديد
للعصر الذي نعيشه حتى نخلق المتعة المسرحية، هذه الأخيرة إن لم تتجدد تموت
انطلاقا من هذه السنة، لا يمكن للتجربة المسرحية الجزائرية والعربية أن
تبقى حبيسة ومُطوّقة بناس ليست لهم مؤهلات وكفاءات ولا حتى معرفة في مجال
الفن الدرامي والمسرح عموما.
الدكتور حبيب بوخليفة في سطور:
حائز على دبلومات عديدة، أبرزها:
- شهادة الدراسات العليا في فنون الدراما المتخصصة بالاتحاد السوفياتي
سابقا
- دبلوم في اللغة الروسية
- دكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الجزائر
تولى التدريس بالمعهد العالي للفنون الدرامية بالجزائر وبكلية العلوم
الإنسانية والاجتماعية
تقمص شخصيات عديدة في أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية:
- دور الرائد في فيلم "سودجيان" من إنتاج جزائري أوزباكستاني مشترك 1994
- دور عبد القادر في مسلسل "الخطايا" 1987
- شخصية "منور" في مسلسل جراح الحياة 2008
أنتج وأخرج أعمالا مسرحية عديدة، بينها:
- "الدكتاتورية والضمير" بطشقند (1985 )
- "أنتيغون" بطشقند (1986)
- "المقعد" لألكسندر غولمان بأوزبكستان (1987)
- "ماية وحسين" بالمسرح القومي الجزائري (1996)
- "ملحمة العقيد لطفي" بالجزائر (2001)
- "الزائر" بالجزائر (2004)
له عديد الدراسات والمقالات حول:
- المسرح الجزائري بين الكتابة والإخراج
- الكتابة والإخراج في التجربة الركحية الجزائرية
- ترجمة السيناريو
البريد الالكتروني:
boukhlifa.habib@yahoo.fr
إيلاف في
02/07/2010 |