كان من أهم وأجمل ما عرض من أفلام وثائقية في مهرجان كان السينمائي الـ63
فيلم
"حنين للضوء"
Nostalgia De La Luz
للمخرج التشيلي الكبير باتريشيو جوزمان Guzman
وقد صنع جوزمان فيلمه في نحو ساعة ونصف، وصوره للشاشة العريضة، وفيه يحاول
أن
ينقل الفيلم الوثائقي نقلة جديدة، ليس من خلال التلاعب بالشكل
بل عن طريق، التعامل
مع التاريخ والسياسة ولكن من خلال نظرة فلسفية ذهنية، ترى علاقة بين دقائق
الكون،
وحبيبات الرمال في جوف الصحراء، بين الكواكب وحركتها وما تسقطه من ضوء،
وبين العتمة
التي تمكن داخل باطن الأرض، والعتمة القائمة التي تحلق فوق
منطقة معينة من "تاريخ"
تشيلي، لا يصلها ضوء الكواكب، ولا تخترقها نظرة المناظير العملاقة التي
نراها في
المشاهد الأولى من الفيلم.
إننا أمام فيلم يبدو للوهلة لأولى، تقليديا، في
بنائه، وفي استخدامه للتعليق الصوتي المصاحب لصوره ولقطاته، غير أن الفيلم
في جوهر
مادته وتركيبها معا، ليس تقليديا على الإطلاق، بل ويمكن أن يكون فيه نوعا
من
السيريالية أيضا، فهناك علاقة وثيقة بين ما يحدث في الكون،
خارج عالمنا المحدود،
وبين ما هو كائن في جوف الأرض "حرفيا"، بين التاريخ: تاريخ الإنسان على هذه
الأرض،
وبين ما يكمن تحت هذه السماء، بين الماضي البعيد والماضي القريب، وبين
الإنسان
والتاريخ. ولذلك يمكن القول إن فيلمنا هذا ينحو منحى ذهنيا،
يحيل المشاهدين إلى
التأمل، ويدعوهم إلى التوقف أمام أفكار تتجاوز مجرد الهجاء الشائع في
الأفلام التي
تبحث عادة، في قضية الاضطهاد السياسي.
يدور الفيلم في معظمه في صحراء "أتاكاما" Atacama
التي تبلغ مساحتها نحو الف كيلومتر مربع، وتمتد بين تشيلي وبيرو. وتعتبر
هذه الصحراء أكثر مناطق العالم جفافا، ولذا تعتبر بمثابة "جنة" لعلماء
الفلك، وفيها
كما نرى في الفيلم، عدد من المراصد ذت القباب التي تحتوي على أكبر المناظير
الفلكية
في العالم.
هنا، من خلال هذه المناظير، يمكن رصد حركة بعض الكواكب.. ويمكن
متابعة أشعة الضوء التي تنعكس من هذه الكواكب وتصل إلى كوكبنا
بعد فترة زمنية لها
بالطبع حساباتها العلمية.
رحلة إلى الماضي
رحلة الضوء بكل ما يحمله من لغز في
داخله، هي مدخلنا إلى موضوع الفيلم، ولكن الموضوع ليس علم الفلك. إنه
التاريخ:
تاريخ القتل وسفك الدماء وعدوان الإنسان
على الإنسان.. ما شهدته تشيلي في عهد
الجنرال أوجستو بينوشيه، من تصفيات للمعارضين ودفنهم في مقابر
جماعية.
ولكن ما
علاقة الفلك والضوء بهذا؟
يتحدث عالم الفلك الشاب جاسبار جالاز في الفيلم عن
الضوء فيقول إن العلماء عندما يتطلعون إلى السماء لرصد الضوء ومساره، فإنهم
في
الحقيقة يتطلعون إلى الماضي، فالضوء عندما يسقط لا يصل إلينا مباشرة بل
يقتضي الأمر
مرور بعض الوقت، قبل أن يصل إلينا، وإذن فنحن في الحقيقة نتعامل مع ظاهرة
تنتمي إلى
الماضي.
ويقول العالم الشاب إن بحث الإنسان يتركز في الماضي، في التاريخ، فيما
وقع بالفعل.
في صحراء أتاكاما الممتدة الشاسعة، ينتشر أيضا عدد من علماء
الجيولوجيا والحفريات الذين ينقبون عن أصل الإنسان، ويجرون
الكثير من الحفريات التي
يستخرجون خلالها الكثير من البقايا التي تدل على نشاط الإنسان في تلك
المنطقة منذ
أكثر من عشرة آلاف سنة. ولعل هذا النشاط العلمي المزدهر هنا يعود أيضا إلى
ان
احتواء التربة على أملاح النترات التي تساعد على حفظ الهياكل
العظمية والبقايا
البشرية.
لكن المفارقة التي يركز عليها جوزمان هنا، هي أنه في حين يجري الاهتمام
بالفضاء وما يحدث فيه من خلال رصد أدق التفاصيل، وبينما يلقى
الماضي السحيق اهتماما
من جانب علماء الحفريات والآثار القديمة، لا أحد يبدو مهتما كثيرا بالبحث
فيما وقع
في الماضي القريب، خلال سبع عشرة سنة من حكم الجنرال بينوشيه الذي جاء في
انقلاب
عسكري دموي على حكومة الرئيس سلفادور اليندي عام 1973.
في تلك المناطق الصحراوية
التي تقسو فيها الحياة، وتشتد الحرارة، ويتصاعد اللهيب بفعل الجفاف الشديد،
هناك
بقايا قائمة من مساكن عمال مناجم أملاح النترات، أقيمت في عشرينيات القرن
الماضي.
هي مهجورة حاليا، لكن نظام الجنرال بينوشيه كان يستخدمها كمعسكرات اعتقال
جماعية
قتل فيها آلاف الضحايا. ويقدم اثنان من الناجين من تلك المعسكرات الرهيبة
شهاداتهم
في الفيلم، ويتحدثان عما كان يقع من تصفيات فيها وعمليات
تعذيب، ويرويان عن
معاناتهما الشخصية خلال سنوات الاعتقال، ثم كيف تمكنا من الهرب.
وفي الصحراء
جنبا إلى جنب مع علماء الفلك، وعلماء الآثار، نساء بلا مستقبل، يعشن جميعهن
في
الماضي، جئن إلى تلك المنطقة النائية واتخذن منها مكانا
لإقامتهن الطويلة، من أجل
هدف واحد يجمع بينهن جميعا: العثور على رفات الأهل والأحباب والأبناء
والأزواج من
المعارضين السياسيين لنظام العسكر بزعامة بينوشيه، والذين قضوا خلال سنوات
الحكم
العسكري، ودفنوا في عمق الصحراء.
الباحثات عن الحقيقة
ماذا يمكن أن تفعل تلك المناظير
الضخمة التي تراقب ما يحدث في الفضاء الخارجي، وماذا يمكن أن يقدم العلماء
لهاته
النسوة المعذبات؟
هنا نرى النسوة وهن يحفرن بأيديهن، يوما بعد يوم، يروادهن
الأمل في العثور على رفات أحبائهن الغائبين، دليلا على تلك
الجريمة الكبرى التي
لوثت تاريخ تشيلي الحديث، وأرادت الأنظمة التي تعاقبت بعد سقوط نظام
بينوشيه، أن
تنساها، أو تتجاوزها وتتستر عليها، لكن جوزمان، المخرج الذي لعب هو نفسه
دورا بارزا
في مقاومة الديكتاتورية العسكرية بأفلامه، ودفع ثمنا باهظا لمعارضته، لا
ينساها
ويريد أن يساهم بفيلمه هذا في إعادة التذكير بتلك التراجيديا
الكبرى.
امرأة مثل
فيوليتا بيريوسي، وهي في السبعين من عمرها، نحيلة البنية، تشع عيناها ببريق
غريب،
تأسرك بكلماتها. يسألها جوزمان من وراء الكاميرا: هل ستواصلين
التنقيب؟
فتجيب: "سأواصل
التنقيب مهما كلفني الأمر ومهما طال الزمن. حتى لو كانت لدي شكوك واسئلة لا
أملك إجابات عنها. إنهم يقولون إنهم قاموا بإخراجهم من تحت الأرض وألقوا
بهم في
مياه البحر. هل حدث هذا حقا؟ لا يمكنني العثور على إجابة عن
مثل هذا السؤال. ماذا
لو كانوا قد ألقوا بهم في الجبال القريبة. حتى بعد ان بلغت هذا السن، وأنا
في
السبعين من عمري الآن، أجد من الصعب أن أصدقهم. لقد علموني ألا أصدقهم.
أحيانا أشعر
أنني كالبلهاء، لأنني لا أكف عن طرح الأسئلة. ولا أحد يريد أن
يمنحني الإجابة التي
أنشدها. إذا قال لي أحد إنهم ألقوا بهم في أعلى الجبل، فسوف أعثر على وسيلة
للوصول
إلى قمة الجبل . لست مثلما كنت في العشرين، سيكون من الصعب أن أفعل ذلك..
لكن الأمل
يمنحك القوة".
فيلم "حنين إلى الضوء"، أي حنين إلى المعرفة، إلى الإبصار، إبصار
الحقيقة، والكشف عن الماضي، يكشف لنا طبقة جديدة من المعاناة:
معاناة العيش في
الماضي ليس من أجل التلذذ به، بل للكشف عن درس في التاريخ لا يجب نسيانه.
الكاميرا- قلم
والفيلم عمل فني رفيع، يستخدم فيه مخرجه
كل إمكانيات السينما الوثائقية الحديثة للتعبيرعن فكرته. إنه يستخدم
الكاميرا كما
يستخدم الشاعر القلم، يبدأ الفيلم بلقطات من خلال عدسات المناظير الفلكية
العملاقة،
للكون، لقطات سيريالية تتداخل فيها الالوان وتبدو فيها الحركة الدقيقة
للأشياء مثل
حركة جنين لم يولد بعد. وينتقل بعد ذلك إلى الصحراء، ويصنع من
اللقطات التي تمتزج
فيها حبيبات الرمال المتطايرة مع الضباب في الليل، صورة فريدة تعمق من
إحساسنا
بالاغتراب من أجل الاقتراب.
ويشيع طوال الفيلم إيقاع بطيء، يسمح بمساحة جيدة للتفكير والتأمل، وموسيقى
كلاسيكية رصينة، تساعد على التحليق بنا إلى مأساة الماضي، إلى
عمق التاريخ بطبقاته
المختلفة التي يكشف لنا عنها الفيلم تدريجيا، إلى أن يواجهنا بالصدمات
الأخيرة.
ويستخدم الفيلم الشهادات الحية ويمزجها
بالوثائق والصور الفوتوغرافية والخرائط
والرسوم. ويستخدم التعليق الصوتي بدقة شديدة، ويحرص على
الابتعاد عن الثرثرة، بل
بلغة ذات إيقاع شاعري حزين، فيها الكثير من الرصانة، والكثير من الرنين
الذي يضفي
عليها رونق خاص. والتعليق كله بصون جوزمان نفسه، الذي يريد أن يقول لنا إنه
يوجه
رسالته بشكل مباشر إلينا نحن المشاهدين.
ورغم ما يبدو من صرامة باردة ظاهرية في
التعامل مع الموضوع إلا أن هناك الكثير من المشاهد الصادمة المثيرة للعديد
من
المشاعر. فهل يمكن مثلا نسيان امرأة مثل فيكي سافيدرا التي استطاعت، بعد
سنوات من
التنقيب، العثور على جزء من جمجمة شقيقها وبعض أسنانه وإحدى
قدميه والحذاء لايزال
فيها، وهي تواصل التنقيب، تريد أن تعثر على باقي أجزاء جسده!
تجربة المخرج
باتريشيو جوزمان المخرج من مواليد تشيلي
عام 1941، درس السينما في مدريد (اسبانيا)، وتخصص في إخراج الافلام
الوثائقية التي
يعتبر أشهرها فيلم "معركة تشيلي" الذي يسجل ويوثق فيه لسنوات تجربة حكومة
الوحدة
الشعبية وما لاقته من متاعب، إلى أن وقع الاتقلاب العسكري عام 1973 وقد سجن
جوزمان
لفترة قبل ان يتمكن من الفرار من تشيلي ونجح تهريب المادة
المصورة إلى كوبا حيث
تمكن من عمل المونتاج لفيلمه الطويل، كما أخرج هناك أفلاما أخرى. وله فيلم
مرجعي عن
سلفادور أليندي. وقد عاش في اسبانيا وفرنسا قبل أن يعود إلى تشيلي حيث واصل
عمله في
التأريخ للمتغيرات السياسية في بلاده خلال 40 عاما، وهو يمتلك
مادة مصورة هائلة
صورها لحسابه الشخصي كما يستعين في أفلامه بالكثير من المواد المصورة من
الأرشيف.
الجزيرة الوائقية في
30/06/2010
بيروت للفن: خليط من الوثائقيات والأشغال والرسم
نقولا طعمة – بيروت
في مركزه الواسع، تتمدد الأنشطة التي يستضيفها مركز بيروت للفن مستفيدة من
المساحات التي يؤمنها المركز عموديا وافقيا وفي كل الاتجاهات.
أبرز الأنشطة التي شهدها المركز لفترات طويلة كانت "أشغال داخلية" كمنتدى
عن
الممارسات الثقافية، بحسب توصيف من الكتيب الذي أعد عن النشاط المذكور.
أبرز أعمال "أشغال داخلية" كان سلسلة من الأفلام والمعارض.
الأفلام
من الأفلام المعروضة "قناة اليرقات" لوائل شوقي،
وهو شريط مصور من عشر دقائق، ويستند إلى مقابلة صورها شوقي في
مخيم فلسطيني في
الأردن، مستخدما تقنية روتوسكوب في التحريك، ويحكي صعوبة العيش في المخيم
تترجم
نفسها في لقطات تشكل مادة عمل فيديو توثيقي.
و"خرائط فيديو: عايدة، فلسطين" لتيل روزكنس، 46 دقيقة، وهو لا يحتوي إلا
على
خرائط مرسومة على ورق أبيض، تروي قصص خمسة أشخاص من سكان مخيم عايدة.
ويتجنب روزكنس
الصور المعروفة في الأفلام الوثائقية عن الصراع العربي- الاسرائيلي حيث
تغيب
المشاهد التوثيقية.
و"لحظة أيها المجد" لشيرين أبو شقرا، 34 دقيقة، وفيه وداد فتاة تغني لأول
مرة
على الاذاعة عندما كانت في التاسعة، فراح صوتها يسمع على كل الاذاعات
العربية.
الفيلم رحلة في موسيقى آسرة استخدمت فيه أبو شقراأحداثا في حياة وداد لترسم
كل
امرأة من خلال وداد، كنجمة صاعدة متألقة، ثم تتراجع نحو الموت.
جمعت أبو شقرا في
الفيلم بين الواقعية والخيال.
ورابع الأفلام "مدونات عن الحب في كوبنهاغن" لرانياالرافعي، من 27 دقيقة،
وهو
أشبه بمدونة غرامية في كوبنهاغن.
المعارض
اقيمت المعارض في "أشغال داخلية" بالتنسيق مع
"أشكال ألوان" الناشطة في إعداد وتنظيم الأعمال الفنية.
ومن الأعمال المستقاة من مناخات شيكاغو، "شيكاغو" لبرومبرغ وشانارين. توحي
عملية
الضوء القوي في زاويتها بعمل تفجيري أمني يشير إلى استخدام اسرائيل لشيكاغو
كمكان
للتدريب التحضيري على أعمال نفذتها في العالم.
"وعسكر
من تنك" لآلاء يونس تسخر من النمط العسكري النظامي الذي تحول إلى تنك غير
قابل للصمود. وفي العمل مئات من أنصبة الجنود المصطفين نظاميا بشكل يوحي
بالسخرية.
يشرح المنظمون أن ل"جنود من تنك" حكاية راجت بين الحربين العالميتين عندما
كان
يعاد ترسيم منطقة الشرق الأوسط، وكان اللعب بجنود التنك يقتصر على ابناء
النبلاء
لتحضيرهم لدور مستقبلي. وجنود من تنك تقديم لتسعة جيوش انخرطت
او خضعت لأعمال حربية
في الشرق الأوسط في الفترات التاريخية الأخيرة.
و"سي 60" لمروان رشماوي وهي إشارة إلى أهمية العدد الستين في تاريخ
البشرية منذ
القدم.
وتفكيك العمارة الكولونيالية في "عش الغراب"، التلة الواقعة على تخوم بيت
ساحور
والصحراء في فلسطين، كانت جيوش الاستعمار قد استخدمتها لإحكام القبضة على
فلسطين.
ويطرح العمل تساؤلا عن امكانية استخدام العمارة والانشاءات المكانية في
المعركة
القائمة من أجل هذه التلة؟
عناوين أخرى لمعروضات، منها: "ديسكو الليلة" لرائد ياسين، "مؤامرة" لحسن
خان، "2027 "
لمها مأمون، و"مفاوضات مباشرة" لشهاب فتوحي، و"ماكينة مربكة" لغسان
حلواني...
أنشطة أخرى
ولم يقتصر نشاط "أعمال داخلية" على المعارض
والأفلام، بل تضمن سلسلة من الندوات، والقراءات الشعرية،
أبرزها من إيتيل عدنان،
وتوقيع كتب، بالإضافة إلى سهرات موسيقية متخصصة مع مايك كوبر مؤديا البلوز
والكانتري على الغيتار في تطوير لهذا النوع من الفن مع هذه الآلة.
الجزيرة الوائقية في
30/06/2010 |