حنان، بطلة الفيلم، مثل قطاع واسع من البنات المصريات، تتعلق بخيوط الأمل
تارة، وتتداعى فى هاوية اليأس تارة. سارت، بخطوات جادة، واثقة، إلى منتصف
حياتها المتواضعة لتغدو أمينة مكتبة فى الجامعة. لكن التعثر أخذ يحيط
بالنصف الثانى من حياتها.. كاتب السيناريو، المخرج، محمد أمين، حدد معالم
شخصيتهاـــ مظهرا ومخبراــــ فبدت مفهومة، واضحة. وبإبداع خاص ومتميز من
«زينة»، بأدائها المرهف، المقتصد، المعتمد على الصدق الداخلى، الذى تعبر
عنه باللفتة، والنظرة، ازداد حضور «حنان» رسوخا، وتضاعفت قوة تأثيرها.
«حنان»، فتاة الأسرة المتوسطة، تعبر فى أفكارها وسلوكها عن فضائل تلك
الطبقة: الإيمان بالعلم والعمل، وهو ما حققته فعلا. الإحساس الصارم
بالمسئولية والتضحية فى سبيل الأهل والإخوة، وهو ما يتوفر فى بطلتنا، فهى
تحنو على الجميع ويذوب قلبها ألما حين ترى شقيقها، الذى لا يجد عملا، يمسح
الشقة.
هنا، تتجلى إحدى التفصيلات الإنسانية الجميلة والدقيقة فى الفيلم. إنها
تدرك، بعيون منزعجة، مدى شعوره بالهوان، لأنه يعيش عالة عليها، فتنزع منه
الممسحة لتكمل ما بدأه.. وهى، أخلاقيا، ترفض العلاقات خارج مؤسسة الزواج،
ولكن أمنية تكوين أسرة تبدو بعيدة المنال، لأسباب اقتصادية ظالمة، تحاصر
زملاء جيلها.
وعلى طول الفيلم، تجسد «زينة» معنى الانكسار حين تتوالى تنازلاتها فى
الشروط التى تطلب توفرها فى العريس الغائب. ومن ناحية ثانية، تعبر عن
التغيرات النفسية بداخلها، فى موقفين يصيغهما محمد أمين ببراعة، بعد
نظراتها الرقيقة، تجاه شاب وشابة متحابين فى المكتبة، تغضب وتثور ضدهما،
وتكاد تطردهما من المكان.
إلى جانب «حنان»، ثمة «داليا»، صديقتها وقريبتها، بأداء موفق من «صبا
مبارك» التى تعد مكسبا كبيرا للسينما المصرية: طيبة، لا تختلف فى قيمها
وسلوكها عن «حنان»، كلتاهما تعانيان من ظروف شديدة القسوة فى إطار نظام
يضيق ذرعا بأبنائه إن لم يكن يكرههم، وبالتالى يغدو «مطار القاهرة» ــ
بالطائرة التى تحمل المرء بعيدا عن الوطن ــ هو طوق النجاة، سواء بالنسبة
للمهندس الزراعى الشريف، طارق لطفى، المهدد بالسجن، أو بالشابين اللذين
يأملان فى حياة كريمة، خارج بلادهما.
مشكلة الفيلم الوحيدة تكمن فى تلك الاستطرادات الطويلة التى تتابع قصصا
جانبية، مثل العلاقة بين «داليا» وأحد الشباب خلال «النت»، بالإضافة لتلك
المواقف المتكررة التى لا تضيف جديدا، مثل جلسات الفضفضة النفسية التى
تعقدها الطبيبة، نهال عنبر.. إن الفيلم يبدو كما لو أنه يجرى وراء عدة
أرانب فى وقت واحد. لكن يبقى له رصده الواعى لمأزق بنتين من مصر، تستحقان
حياة كريمة، سعيدة، لا تتحقق، ومصيرا يختلف عن تلك النهاية التى يمتزج فيها
احتجاج المخرج بأسى البطلتين: البنتان تجلسان فى المطار بجانب بعضهما،
منكسرتان، تنتظران ذلك العريس الذى سيغادر مصر، لعله يختار إحداهما.. إنه
فيلم مهم.
الشروق المصرية في
30/06/2010
فى ظل سينما صهيونية تزداد انتشارا وسينما
مصرية تزداد شيخوخة وعزلة
مقاومة التطبيع بالسينما.. وليس بشعارات تذهب أدراج
الرياح
أحمد يوسف
لا أخفى على القارئ قلقى من أننا أصبحنا فى أفضل الأحوال نسير فى مكاننا،
إن لم نكن نتراجع عشرات السنين إلى الوراء، تاركين كل ما حولنا يمضى فى
طريقه بينما نكتفى بأن نردد كلمات اعتدنا على ترديدها، فى الوقت الذى كادت
أن تفقد فيه معناها ومن ثمّ جدواها. لا أخشى أن أقول إن من هذه الكلمات
"التطبيع" لأننى سوف أبدو كمن يدخل فى منطقة ملغومة، لكن ذلك بالضبط أحد
أعراض حالة الشلل التى وصلنا إليها، نقف عند الكلمات حتى أنها تبدو مقدسة،
بينما المقدس الحقيقى ـ بالنسبة لنا نحن الذين يرفضون وجود إسرائيل وليس
فقط أى شكل من أشكال الاعتراف بها ـ هو تحقيق الهدف.
كثير من أهدافنا تحول إلى كلمات، أصبحت مع الوقت غائمة ومطاطة وحمالة أوجه،
تماما مثل "التوريث" وعشرات المصطلحات الأخرى التى ندور فى فلكها دون أن
نحدد لها تعريفا واضحا، والتعريف هنا ليس مسألة أكاديمية وإنما عملية، فأنا
إذا حددت المصطلح عرفت كيف الطريق إلى تحقيقه، ناهيك عن الرد مسبقا على
المناورين والمراوغين الذين يسعون دائما لتمييع الأمور. فلنأخذ "التوريث"
مثلا، سوف تجد من يقول لك: أليس جمال مبارك مواطنا من حقه العمل بالسياسة
والترشح لأى منصب يراه؟ لا شبهة إذن فى التوريث! وليست القضية بالفعل
توريثا، فتلك الكلمة تجعل مصر "تركة" سوف يتهم على الفور من يسعى إلى
اعتلاء سلطانها بأنه يريد أن ينهبها لنفسه، وهذا الاتهام حقيقى ما دام
الساعون إلى السلطة كما نراهم اليوم لم يتحدثوا حقا فى "السياسة"، لم
يقولوا لنا ما هى برامجهم فى كل المجالات، ولم يتطرقوا إلا بكلمات فضفاضة
إلى الحديث عن كيف سوف يخرجون مصر من الحالة البائسة التى وصلت إليها، وهذه
الـ"كيف" هى مربط الفرس، لكن التوقف عند التوريث يقف عند "لا لجمال مبارك"،
وبالتالى "نعم لأى حد غير جمال مبارك".
إن تلخيص المسألة فى "التوريث" يجعل أفق أحلامنا وتصوراتنا وسياساتنا
محدودا وشديد الضيق، تماما مثل "التطبيع" الذى تحول إلى ورقة نتبادل بها
الاتهامات، فالذين يرفضونه يتهمون من يوافقون عليه بالخيانة، وهؤلاء الذين
يدعون إليه، أو على الأقل لا يمانعون فيه، يصفون خصومهم بأنهم يقفون خارج
الزمن، لكننى أعترف للقارئ أننى لم أعد أعرف معنى هذه الكلمة حقا، خاصة
عندما سمعت من كان يصرخ منذ سنوات بأنه ضد التطبيع يقول لى بوضوح: "اللى
عايز يطبّع يطبّع، المهم إحنا ضد التطبيع"!!
هذا ما حدث فى معركة "المركز الثقافى الفرنسي" الأخيرة، التى سوف أحاول
الآن معك وضع خيوطها جنبا إلى جنب: أقام المركز الفرنسى مهرجانا للأفلام
القصيرة، من بينها فيلم أخرجته مخرجة إسرائيلية، وعندما اكتشف الزميلان
العزيزان محمد الروبى وأحمد عاطف (وربما آخرون لا أعرفهم) هذه الحقيقة قرر
عاطف إعلان الانسحاب المسبب من لجنة التحكيم، وقام الروبى بحملة صحفية
تطالب بمقاطعة المهرجان، "انتهت" إلى انسحاب عدد كبير من الأفلام المصرية
المشتركة، وإقامة مهرجان موازٍ فى قصر السينما. أقول "انتهت" بين قوسين لأن
ذلك هو سقف أحلامنا (وأخشى أن أقول قدراتنا): المقاطعة والتجريم والتجريس،
لكن الطرف الآخر لديه الحجة التى يراها صحيحة: "وأنت مالك ياأخي؟ ما هذه
الفاشية؟"، وهكذا انقسمنا إلى خونة مع التطبيع، وفاشيين ضد التطبيع.
إننى أعتقد أن إسرائيل هى المستفيد الأول من هذه المعارك الصغيرة، فهى تعلم
بأن هذه المعركة كغيرها زوبعة فى فنجان وضجيج بلا طحن، لكننى أكاد أسمع
الأصدقاء المعادين للتطبيع يسألون مستنكرين: وهل كنت تريدنا أن نترك فيلما
إسرائيليا يعرض بشكل رسمى فى مصر؟ وإجابتى هى أن هناك ناقدا بارعا فى خلط
الأمور قال أنه فيلم فرنسي، ومعه الحق، فإذا أردنا منع الأفلام التى يشارك
فى صنعها إسرائيليون وصهاينة سوف يمتد الأمر ليس فقط ـ مثلا ـ للممثلة
ناتالى بورتمان، ولكن أيضا للنجمة نيكول كيدمان التى كتب بعض المعادين
للتطبيع عندنا قصائد فيها مع أنها من أكثر المناصرين لإسرائيل. إننى لا
أقول ذلك لتثبيط الهمم لأنه "مفيش فايدة"، أو لكى نوسع من دائرة الذين
نطالب بمنع أفلامهم، وإنما لأننى أرى أننا نقوم ببعض "الفورات" ضد ما نسميه
تطبيعا وكأننا نقوم بنوع من إبراء الذمة، وبعدها نعود لنستريح وننام ملء
جفوننا، حتى يحدث بالون اختبار آخر فنصحو لكى "نفرقعه" ثم نعود للنوم، وإذا
كان هذا يحدث مع بالونات تطير فى الهواء، فأرجو أن تقول لى ماذا يدور على
الأرض.
الواقع على الأرض، فى السياسة والاقتصاد والثقافة، أشد قتامة من كل ما
تصورنا أنه سوف يحدث لمصر فى عدد محدود من السنين، هناك فى إسرائيل وهم
حولوه إلى وطن، ونحن كان لدينا وطن حولناه إلى وهم، وأرجو ألا يقول لى قائل
إن السبب مثلا هو أن أمريكا تساعد إسرائيل، أو أن لدينا صناع قرار
متخاذلين، فذلك هو ما يعرفه الجميع، لكن ماذا بعد؟ ماذا عنا نحن الذين
يرفضون وجود إسرائيل وليس فقط الاعتراف بها؟ ماذا عنا نحن الذين تركنا
وطننا يتحول إلى مكتب سمسرة؟ هل قمنا بالنضال الحقيقي؟ المشكلة ليست فى
الآخرين، إنهم يفعلون ما يجب عليهم أن يفعلوه من وجهة نظرهم، لكن هل فعلنا
نحن ما يجب علينا أن نفعل؟
ليست لدى بالطبع "روشتة" جاهزة لما يجب علينا فعله، وأرجو أن نتشارك جميعا
فى وضع خطة "عمل" حقيقية، لكن ما أعرفه هو أن هناك "ثوابت" يجب علينا
التأكيد عليها المرة بعد الأخري، لكن للأسف شارك البعض من رافعى الليبرالية
"المسخسخة" فى تدمير هذه الثوابت بدعوى الحرية، وأصبح البعض منهم من
"نجومنا" الذين صنعناهم بأيدينا. لقد ضاعت هذه الثوابت عند الأغلبية من
الشعب المصرى (أعرف أن هناك من سوف يدافع عن أصالة الشعب، لكن أرجو أن
نتحلى بالأمانة مع أنفسنا حتى لو كانت الحقيقة مؤلمة، ونحن لسنا إلا جزءا
من هذا الشعب حتى بأمراضه النفسية التى أصابته)، هذا الشعب الذى جعلوه فى
كل المستويات الفكرية والطبقات الاجتماعية لا يفكر إلا فى اللحظة الراهنة،
بلا ماضٍ أو مستقبل، لا فرق فى ذلك بين من يفكر فى أكل العيال أو تسديد قسط
السيارة أو إقامة حفل توقيع لكتابه الجديد، الكل مغلول العنق نتيجة سياسات
ومفاهيم وممارسات حولت الجميع إلى عبيد يأكلون بلقمتهم على نحو ما (إنها
عبودية خلقتها الظروف الراهنة وليست أبدا عبودية موروثة من أيام المماليك
كما تُشيع مدرسة منحطة المنهج تدعى الانتساب لعلم الاجتماع، لأنها تقول أن
كل شيء أزلى أبدي، وسوف يظل الشعب المصرى عبدا، فما حاجتنا للنضال؟!!!!).
وتلك العبودية الراهنة لا تترك للناس وقتا أو ذهنا للتفكير بجدية فى مسألة
التطبيع، فما بالك بالحديث عن فيلم قامت إسرائيلية بإخراجه؟ وربما أدى
"زهق" الناس إلى كراهية الحديث عن هذا الموضوع أصلا، ناهيك عن تشوه وعى
البعض الذى ينادى بنظرية الأمر الواقع، والبعض الآخر الذى ما يزال يعيش فى
أسطورة السلام الذى سوف يجلب الرخاء. إلى هؤلاء يجب ألا نتوقف لحظة واحدة
عن تأكيد الثوابت، وليس مجرد معركة وتفوت دون أن يدرى بها أحد، ثوابت أن
إسرائيل لا تقوم على أفكار تعادينا نحن فقط، بل هى معادية للأنسانية، وهى
أفكار انتحارية بالمعنى الحرفى للكلمة، إنك إن لم تخضع وتصبح عبدا رقيقا
فسوف يهدمون المعبد على الجميع. وإذا بدا ذلك باعثا على اليأس فإننا نؤكد
أن الصهيونية لا تختلف عن النازية (إنهما فى الحقيقة وجهان ـ نظريا وعمليا
وتاريخيا ـ لعملة واحدة)، وكما تم القضاء على الخطر النازى فإن من الممكن
والحتمى القضاء على الخطر الصهيوني، إن لم نستطع ذلك الآن فليكن غدا أو بعد
غد، وهذا يحتم علينا أن نمهد الطريق للأجيال القادمة من بعدنا.
"تمهيد الطريق"، تلك هى المشكلة الحقيقية، وذلك هو ما لا نفعله على
الإطلاق، وسوف أتحدث هنا عن مجال السينما وحده. عندما يرفع دعاة التطبيع،
أو من لا يمانعونه، شعار "معرفة الآخر"، نقابل ذلك بالسخرية قائلين: "واحنا
ناقصين معرفة به؟"، وللأسف فنحن لا نعلم عن هذا الآخر (العدو بكلمات أدق)
شيئا يجعلنا متأكدين على هذا النحو من المعرفة، وإذا كانت الأفلام
الإسرائيلية تعرض فى المهرجانات العالمية فلابد أن هناك "شيئا" جعلها جديرة
بذلك، هل هو الجودة الفنية؟ أو ربما القدرة على الحديث إلى المتفرج فى
أنحاء العالم؟ أم أنه الدهاء السياسى الذى يعرف تماما كيف يضع السم فى
العسل؟ أو لعله القدرة الحقيقية على تنظيم الصناعة داخليا والترويج لها
خارجيا؟ فلنبحث ونحاول الإجابة، وهذا لن يتأتى بالطبع إلا من خلال دراسة
حقيقية للسينما الإسرائيلية صناعة وفنا وسياسة، ولنقارن ما توصلنا إليه من
نتائج مع أحوالنا السينمائية، لنخلص بعد ذلك إلى أهداف نناضل من أجلها، من
أجل سينما مصرية قوية وقادرة بدورها على خوض الصراع، فدورنا كنقاد ليس أن
نكتب عن الأفلام بهذه الخفة اللا منهجية التى أورثناها لأجيال جديدة من
النقاد والصحفيين السينمائيين، وليس دورنا أن نتسابق لحضور مهرجانات وهمية
عربية تتوالد كالأرانب وكل مهمتها أن تمنح "تكريما" (والله العظيم تكريم)
لممثلة عمرها الفنى عامان أو ثلاثة، وتفتقد الحد الأدنى من الموهبة
والدراسة، وسوف تعتزل وربما تتحجب بمجرد أن تجد رجل أعمال ثقيل الوزن
ليتزوجها، وليس دورنا أن يشتم الواحد منا الآخر فى عدوانية مريضة إلى حد
السادية، وليس دورنا أن نلهث فى الكتابة عن كل شيء وأى شيء لنملأ المساحة
ونقبض المعلوم.
ربما كان العدو قويا، لكن هذا ليس مبررا لكى نكون ضعفاء، والقوة هنا ليست
فى رد فعل متقلص هنا أو هناك، بل هى الفعل، والحد الأدنى هو أن تكون للنقاد
المصريين مجلة سينمائية شهرية جادة واحدة (واحدة فقط ياعالم!!) لا تتوقف
بعد عدد أو اثنين للصراع على المناصب الوهمية، وأن يتخصص جانب دائم منها فى
دراسات حقيقية وليست سابقة التجهيز لسينما العدو، وجانب آخر لدراسة البنية
الأساسية المفقودة لصناعتنا السينمائية وكيف يمكن إقامتها. إنها "رسالة"
تتطلب الجهد والقدرة، نسجل فيها كل خطوة نتقدم فيها إلى الأمام نحو هدفنا،
بدلا من حالة "محلك سر" التى نعيش فيها واكتفينا بها ورضينا عن أنفسنا
معها، فإن كنتم تذكرون مظاهرة رفضنا لفيلم "سلطة بلدي"، شديد الضعف الفنى
والتهافت السياسي، وبرغم ذلك منحته جماعة السينمائيين التسجيليين جائزتها
فى وقائع أقل ما يقال عنها أنها غامضة، لقد ذهبت مظاهرتنا تلك أدراج
الرياح، وتحول الفيلم إلى موقع على الإنترنيت أرجو أن يزوره نقادنا ليعرفوا
كيف كسب أرضا خسرناها، وسوف تذهب أدراج الرياح أيضا مظاهرة المركز الثقافى
الفرنسي، ويبقى الحال على ما هو عليه: سينما إسرائيلية تزداد قوة وانتشارا،
وسينما مصرية تزداد شيخوخة وعزلة عما يحدث فى العالم، وأرجو ألا يكون هذا
هو المستقبل، لكن ذلك مرهون بما سوف نفعله نحن، هنا والآن.
العربي المصرية في
30/06/2010
«الرجل
الحديدي 2»..
الفيلم الصغير والإنتاج الكبير والمنقذ يحتاج إلي إنقاذ!
كتب
محمود عبد
الشكور
ليس هناك أي تناقض بين أن تقدم الإمتاع البصري والابهار ومؤثرات
الصوت والصورة والكمبيوتر جنبا إلي جنب مع السيناريو المتماسك
الذي يقول المعادلة.
فيلم «IROM MAM2»
هو أحد النماذج علي ما نقول، فالعمل هو الجزء الثاني الذي يتعرض
لمغامرات الرجل الحديدي التي قدمها «ستان لو» في قصته من عالم
الكوميكس حيث مستودع
الخيال غير المحدود، وفي حين كان الجزء الأول بسيطا ولطيفا ومقبولا، فإن
الجزء
الثاني يبدو مشوشا وصغيرا حيث لا يتوافر الحد الأدني من التماسك أو تقديم
الشخصيات
وإدارة الصراع بطريقة مشوقة.
لن يفلح حشد النجوم والنجمات من البطل «روبرت داوني» بحضوره وخفة
ظله إلي «دان شيدان» و«صامويل جاكسون» إلي «ميكي رورك»
والجميلتين «جونيث بالترو»
و«سكارليت جوهانسون» في سد الثغرات ولا في قهر الشعور بملل المشاهدة طوال
أكثر من
ساعتين في فيلم يمكن تكثيف أحداثه في مدة أقل، حتي مشاهد الحركة الخارقة لم
تعد
فتحا يستأهل الصمود حتي النهاية في ظل منافسة العديد من أبطال
الكوميكس، الذين
يطيرون في الفضاء ويغوصون في أعماق المياه، ويقدمون ما هو أكثر تسلية
وإبهارا.
مشكلة «الرجل الحديدي» في جزئه الأول في السيناريو الذي كتبه «جوستين
نيروكس» لم أكن أحلم بأن يقول أشياء أعمق عن بطله المنقذ الذي
لا يمكن الاستغناء
عنه، ولكني كنت أتوقع أن يجيب عن تساؤلات كثيرة لا إجابة لها، وأن يقدم
ملامح
شخصياته بأقل قدر من المعلومات يتيح لك أن تتجاوب مع ما تراه، ما قدمه
السيناريو
مجرد قصاقيص من هنا وهناك لا تصنع لوحة واحدة متكاملة.
المعروف بالطبع أن
حكايات الكوميكس الشهيرة مثل الرجل الحديدي و«سوبر مان» و«بات مان»
«وسبايدر مان»
كلها تدور حول البطل المخلص الذي لا بديل عنه، هو شخصية أهل للثقة مثالية
تنتمي
أحيانا إلي عالم آخر مع ما يحمله ذلك من دلالات وإسقاطات.
عندما يغيب هذا
البطل تحدث الكوارث ومع عودته يتم الإنقاذ والخلاص.
الرجل الحديدي في جزئه
الثاني يسير في اتجاهين لا يشبع أيا منهما حيث تتسع الثغرات في الخطين معا،
هناك
أولا الصراع بين الرجل الحديدي صاحب المصنع الضخم «توني ستارك»
(روبرت داوني) وبين
الكونجرس الأمريكي الذي يريد الاستحواذ علي البدلة الحديدية التي ابتكرها
لأنها
سلاح خطير لا ينبغي أن يمتلكه فرد واحد بل لابد أن يكون تحت سيطرة الجيش
الأمريكي.
وهناك ثانيا: الصراع بين الرجل الحديدي الأمريكي «إيفان» العالم الروسي
الذي يريد أن يستغل فكرة البدلات الحديدية لأسباب تجارية،
ويملك أيضا رغبة في
الانتقام من الرجل الحديدي لأسباب قديمة ترجع لفترة الستينيات!
في كلا
الاتجاهين اختطلت السذاجة بالسطحية رغم أن الخطين كان يمكنهما أن يقدما لنا
فيلما
معقولا، لن تعرف أبدا لماذا أصر ستارك الشاب علي أن يكشف أمام الجميع أنه
هو الرجل
الحديدي الذي ينقذ الجميع! وستندهش أكثر عندما تعرف أنه أصر
علي إفشاء السر الذي
عرضه لضغوط الكونجرس رغم أنه - أي ستارك - علي وشك الموت بسبب تأثيرات عنصر «البلاديوم» المكون للبدلة التي يلبسها علي
جسده.
وفي جلسة تعقدها إحدي
لجان الكونجرس العسكرية سيكون مبرر «ستارك» للاحتفاظ بالبدلة هو أنه شخص
مصدر ثقة
سبق أن أنقذ مواطنيه، ويقدم - في المقابل - مشاهد للدول التي
تعتبرها أمريكا مصدر
خطر، وهي تحديدا «الصين» و«إيران» و«كوريا الشمالية»، تؤكد هذه المشاهد أن
تلك
الدول تحاول إنتاج بدلة حديدية مشابهة ولكن ذلك لن يتم قبل عشر سنوات.
الأكثر من ذلك أن «ستارك» يحصل علي شهادة مساندة من الكولونيل «جيمس رودز»
للاحتفاظ بالبدلة، والمشكلة في كل ذلك أن «ستارك» الذي تزيد نسبة السموم في
جسده
يفترض أن يكون حريصا علي تسليم سلاحه لا الاحتفاظ به، والمفترض أن الكونجرس
يجب أن
يصر علي موقفه في استعادة البدلة لأن قيام دول أخري بتجارب
مشابهة يعني أن سباقا قد
بدأ ولا سبيل لوقفه، ويعني ذلك أيضًا أكذوبة الشعار الذي يردده «الرجل
الحديدي» في
معرض تنظمه شركته العملاقة من أنه حقق السلام العالمي، وعلي حد تعبيره قام
بخصخصة
السلام العالمي.
لم يدرك كاتب السيناريو الساذج أن الصراع علي البدلة
الحديدية وكثرة التجارب حولها يهدم المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه بطولة
«ستارك»..
الحقيقة أن السطحية ستكون عنوان مسار
الأحداث كلها وليس هذه النقطة، لأنك ستجد
الكولونيل «رودز» الذي دافع وشهد إلي جانب «ستارك» يقوم في
المشاهد التالية بسرقة
بدلته الحديدية بعد أن تزعزت ثقته في الرجل الحديدي الأصلي!
علي الجانب
الآخر، لا تعرف بالضبط كيف يمكن الثقة في «ستارك» وهو يتصرف بمنتهي الخفة،
ويقيم
الحفلات التي يفقد فيها توازنه كأنه يحاول توديع الحياة قبل أن
يغادرها، بل إنه
يتنازل عن رئاسة مجلس إدارة شركته للموظفة المجتهدة «فيريجينيا بيربوتس»
التي لا
تعرف بالضبط سرّ إعجابها بـ«ستارك» ولا طبيعة علاقتها به.
في البداية تبدو
مجرد موظفة تقوم بواجبها، ولكن لابد في النهاية أن تعجب به وتقبله قُبلة
النهاية مع
أن عيون الرجل اتجهت إلي الحسناء «ناتالي» (سكارليت جوهانسون) التي سنكتشف
فيما بعد
دورها في إنقاذ «ستارك» من خطورة المادة المصنوع منها البدلة
الحديدية. طبعا لا
تنتظر إلا خطوطا عامة للشخصيات مثل أفلام الكارتون السطحية.
المهم في
النهاية أن تلعب المرأتان الدور الأهم في إنقاذ الرجل الذي يفترض أن تعتمد
عليه
أمريكا في إنقاذ نفسها من الأخطار.
علي المسار الثاني وهو الصراع الأساسي
في الفيلم بين الأمريكي «ستارك» والروسي «إيفان» تبدو الحكاية كلها «بايتة»
ومستوردة من زمن الحرب الباردة البائد،
ولأنه لا يوجد صراع بين «روسيا» و«أمريكا»
فإن دوافع «إيفان» تبدو شخصية تماما حيث كان والده يعمل مع والد «ستارك» في
ابتكارات تكنولوجية، ولكن الأب الروسي أراد استغلال الأمر لأسباب تجارية،
وهرب من
أمريكا ليعود إلي وطنه، ويحاول «إيفان» أن يبتكر هو أيضًا بدلة
حديدية، كما يحاول
الانتقام من «ستارك» في أثناء مشاركة الأخير في سباق موناكو للسيارات،
وشخصية «إيفان فانكو» كما قدمها «ميكي رورك» بهيئته
وملابسه وصوته وبالوشم الذي يغطي
ذراعيه تبدو كما لو كانت تجسيدًا لأحد رجال المافيا الروسية
وليس لعالم ابن عالم.
والأعجب أن هيئة الرجل وشراسته تغطي نموذجًا «غلبان» تمامًا للرجل الشرير.
ففي أول مواجهة مع «ستارك» يتم السيطرة علي العالم الروسي والقبض عليه حتي
يتآمر «جاستون هامر» - وهو صاحب شركة أسلحة أمريكي
- لاخراجه، والاستعانة به لتطوير بدل
حديدية متفجرة يمكن توجهيها من بعد.
والسيد «هامر» - أيضًا يغار من «ستارك»،
ويريد أيضًا أن يغيظه في معرض خاص يقدم فيه
أحدث ابتكاراته من الأسلحة
والبدل الحديدية، ولا أعرف بالضبط كيف يمكن الادعاء بتحقيق السلام إذا كان
كل شخص
تقريبًا يريد امتلاك بدلة حديدية وأسلحة لأسباب شخصية أو عامة أو عدوانية!
ولكن الرجل الحديدي يقترب من الموت، ويأتي الحل ساذجًا بأن يعود إلي شريط
سينمائي تركه والده الذي كان يؤمن بأن التكنولوجيا ستجعل
الإنسان أكثر سعادة، ومن
خلال هذا الشريط يبتكر «ستارك» عنصرًا جديدًا لبدلة جديدة بدلاً من تلك
البدلة التي
كادت تقضي عليه، وينجح أخيرًا في هزيمة الروسي الأحمق للمرة الثانية،
والغريب أن
الأخير يردد دائمًا مخاطبًا «ستارك»: لقد خسرت! ولا شك أنه أحد
أضعف أشرار أفلام «الكوميكس»،
وضعف الشرير وسذاجته لا يعني سوي ضعف بطولة الرجل المنقذ وهزال إنجازه.
وهكذا ينتهي فيلم آخر سخيف يؤيد فكرة
المخلص المنقذ ولكن يسند تنفيذها لشخص كان علي
وشك الموت.
فيلم يقول إن التكنولوجيا تصنع المعجزات، وهي بالفعل يمكن أن
تحقق ذلك، ولكنها لا تستطيع أبدًا أن تجعل الفيلم الصغير
كبيرًا لمجرد أن فيه خدعًا
ومؤثرات وبدلة حديدية وامرأة باذخة الحسن واسمها «سكارليت جوهانسون»!
روز اليوسف اليومية في
30/06/2010 |