لم تمر سوى سنوات محدودة على ظهور السينما الرومانية الجديدة أو "الموجة
الجديدة" كما يحلو للبعض أن يصفها، فقد ولد التيار الجديد الذي
دفع بالحياة في قلب
هذه السينما العتيقة التي تجمدت طوال سنوات حكم الديكتاتور تشاوشيسكو
(1965- 1989)
مع ظهور فيلم "موت السيد لازاريسكو" The Death of Mr Lazarescu
الفيلم الروائي
الثاني للمخرج كريستي بويو Cristi Puiu (مواليد
1967) الذي أذهلنا جميعا عام 2005
بأسلوبه الرصين الذي يعيد الاعتبار مجددا إلى المذهب الطبيعي في السينما.
ويصور
الفيلم رحلة ليلية (تحدث في ليلة واحدة في الواقع) لرجل متقاعد يعاني من
متاعب في
المعدة وهو بصحبة ممرضة في منتصف العمر، تنتقل به عبر عدد من
مستشفيات بوخارست، حيث
يلقى الإهمال واللامبالاة والتجاهل، ويظل ينتقل من مكان إلى آخر، بسبب
البروقراطية
القاتلة والتجمد الذي أصاب المشاعر الإنسانية، إلى حين ندرك أنه سيلقى
مصيره
المحتوم في النهاية.
يبدو هذا الفيلم بسيطا في تكوينه العام: فهو مصور في شقة
صغيرة مهملة هي شقة السيد لازاريسكو نفسه، وعربة إسعاف من الداخل، وغرف
استقبال
وفحص في المستشفيات، وبعدد محدود من الشخصيات: الرجل، الممرضة، سائق سيارة
الإسعاف،
ثلاثة من الأطباء، عدد من الممرضات والمساعدات.
إلا أن الفيلم رغم بساطته
الظاهرية، عميق في محتواه، مذهل في دقته وتفاصيله وقدرة مخرجه على انتزاع
أقصى ما
يمكن التعبير عنه من الممثلين وخاصة البطلين/ اللا بطلين، أي الرجل
والممرضة التي
تصحبه.
في هذا الفيلم ظهرت لغة تعيد الاعتبار إلى سينما التفاصيل الصغيرة التي
يمكن أن تلتقطها الكاميرا الثابتة في لقطات طويلة، تحدق فيها
عدسة الكاميرا إلى
الشخصيات، وإلى المكونات العادية أو الأقل من العادية في المكان: حوض،
فرشاة أسنان،
مرحاض عتيق، زجاجة خمر فارغة، أرفف تزدحم بالصحف القديمة، أريكة
متهالكة..إلخ
ونادرا ما تتحرك الكاميرا على راحتها في المحيط، بل تبدو مختنقة في
الفضاء المحدود الطبيعي للغرف، أو لسيارة الإسعاف، فالأساس أن
نرى الإنسان، كيف
يعاني ويتألم، ويرقد قليلا ثم يستيقظ لكي يتقيا مثلا، أو يشكو ويئن ويطلب
ضرورة
العودة إلى المنزل، وكيف يواجهه السادة الأطباء داخل المستشفى بكل ما لا
يمكن تخيله
من اللامبالاة بل والاستهتار الذي يصل إلى مرحلة سيريالية
تماما غير أنه لا يحيد
قيد أنملة عن الواقعية المباشرة التي تصل أيضا إلى حد التصوير الوثائقي:
حركة
الممثلين، الحوار التلقائي المباشر، المكان الطبيعي، الممثلين غير
المحترفين،
اللقطات والمشاهد الطويلة التي لا تكاد تلحظ أثر المونتاج
عليها.
وفي العام
التالي، 2006، وعلى نفس المنهج والأسلوب جاء فيلم "4 أشهر 3 أسابيع ويومان"
للمخرج
كريستيان مونجيو Cristian Mungiu (مواليد
1968) الذي يصور محاولة فتاة وصديقتها
إجراء عملية إجهاض للأولى إبان حكم تشاوشيسكو، أي وقتما كانت عمليات
الإجهاض محظورة
قانونا في رومانيا. هذا الفيلم الذي يهمس ويصرخ، يواجه برشاقة ورصانة
كبيرتين، يقدم
صورة إنسانية مفزعة ولكن بدون ضجيج، وببلاغة رفيعة، بلاغة
الأسلوب الذي يرصد ويدقق،
ويتيح مساحة للتأمل، لا يجنح أبدا إلى الميلودراما رغم الإغراء الكامن في
ثنايا
الموضوع نفسه، ويعتمد على الصمت أكثر مما يعتمد على الكلام والصراخ
والتشنجات، يخفي
أكثر مما يعلن، ويظهر أقل مما يمكن ان نرى بسبب الظلال وبقع الظلام التي
تمليء
الكادر السينمائي لكي توحي بالجو، وتكثف المشاعر بدون حاجة إلى
الشرح والتفسير. ولم
يكن مفاجئا أن يحصل هذا الفيلم على "السعفة الذهبية" في مهرجان كان
السينمائي في
ذلك العام.
وعلى نفس المنوال يأتي الفيلم- التحفة "الشرطة: صفة"
Police: Adjective
عام
2009، للمخرج كورنيلو برومبو، الذي يدور حول شخصية
ضابط شرطة شاب يفقد قناعته بعمله
في الشرطة ويبدأ في اختراق النظام على طريقته الخاصة، وطرح
تشككه فيه
عمليا.
وأخيرا يأتي فيلم "أورورا" Aurora (أو
الفجر) لكريس بويو أيضا، الذي
يعتبره صاحبه الجزء الثاني ضمن سلسلة من ستة أفلام يطلق عليها "ست قصص من
ضواحي
بوخارست"، كان أولها "موت السيد لازاريسكي"، ويقول إنها كلها أفلام عن
الحب: حب
الإنسان للإنسان، والرجل للمرأة، والرجل لأبنائه، وحب النجاح، والحب بين
الأصدقاء،
وحب المعرفة.
وهو يهدي الافلام الستة إلى المخرج الفرنسي الراحل الكبير، إريك
رومير، الذي يقول بويو إن سداسيته الشهيرة بعنوان "ست قصص
أخلاقية" ألهمته كتابة
قصص أفلامه الستة التي أنهى منها اثنين بالفعل.
"أورورا" تلك الكلمة اليونانية
القديمة التي تشير إلى الفجر أو إلهة النور، افتتح به قسم
"نظرة خاصة" في مهرجان
كان السينمائي 2010. والعنوان اختير في إطار الفهم الخاص "السحري" لدى بويو
لكلمة "اوروا"
التي تعني النور الذي ينبثق من الظلمة، أو اللحظة الفارقة بين ظلام الليل
وضوء النهار، وهي لحظة تتغير فيها النظرة إلى الأشياء، غير أنها لحظة يراها
بويو
"غامضة"، فهو يقول إن "النجمة التي تتألق في الضوء هي فينوس، وفينوس في
اللغة
الرومانية هي لوسيفارول Luceafarul
المشتقة من لوسيفر Lucifer
رسول الضوء، الملاك
المفضل الذي سرعان ما يصبح الشيطان".
والغموض الناتج من العنوان يشير تحديدا،
إلى استحالة الفصل بين الخير والشر، وهو يرى أن "أوروا" بالتالي ليس فيلما
عن الخير
والشر، لكنه فيلم عن "غموض واستحالة ادراك صلتنا بالعالم، بالآخرين،
واستحالة
التواصل الحقيقي".
بطل الفيلم رجل في الثانية والأربعين من عمره، يدعى فيوريل
Viorel
وهو رجل عادي تماما، يعمل مهندسا للمعادن، يبدو أنه طلق زوجته حديثا،
ويعول
طفلتين منها، نراه في شقته الصغيرة العارية تقريبا من الأثاث، والتي يتردد
عليها
عمال للقيام بأعمال الترميم والطلاء. يجلس وحده، يشاهد التليفزيون، يتجادل
مع
جيرانه في الطابق الأعلى: رجل وزوجته، يهبطان إليه للاعتذار عن
تسرب الماء إلى سقف
الحمام بسبب ترك طفلهما الصنبور مفتوحا. ويدور حوار طويل عادي للغاية بينه
وبين
الزوجين، حوار لا طائل من وراءه على الإطلاق لكنه يجري يوميا.
في المصنع الذي
يعمل به يلتقي بزميل له مدين له ببعض المال، ثم يتوجه إلى زميل آخر يحصل
منه على
رصاصات صنعها خصيصا له، ثم يذهب ويشتري بندقية صيد. وبعد أن
يدور بالسيارة في
بودابست بدون هدف، يعود إلى شقته ليجرب البندقية، ثم يضع البندقية في حقيبة
يحملها
على كتفه ويتوجه بالسيارة إلى فندق انتركونتيننتال حيث يقف مترقبا في مربأ
السيارات
في انتظار أحد لا نتبينه على وجه التحديد بل سرعان ما نرى شبح رجل وامراة
يتجادلان
يقتربان. يخرج البندقية ويطلق الرصاص عليهما ثم يغادر
بالسيارة. يعود يقضي ليلته ثم
يتوجه في الصباح إلى حيث يرتكب الجريمة الثانية داخل منزل، يعرف الضحية
تماما
ويتبادل معها الحديث قبل أن يتحول إلى قتلها.
ونحن لا نشاهد الجريمة الأولى بل
نرى مجرد شبحين للضحيتين، ونسمع صوت إطلاق الرصاص، بعد أكثر من ساعة من بدء
الفيلم،
بشكل مفاجيء، ولا نرى أيضا جريمة القتل الثانية، بل نعرف بحدوثها من الصوت
ومن
الحركة المسبقة، لأن الكاميرا هنا تتركز على سقف الحجرة، بل
ولا نرى الجثث ولا
الدماء ولا نعرف مسبقا دوافع ارتكاب الجريمة، ولا ما الذي يعذب بطلنا
بالضبط، بل
ونراه أيضا وهو يذهب بنفسه في النهاية، إلى مركز الشرطة، لتسليم نفسه
وتقديم اعتراف
تفصيلي بالجريمتين ويرشد عن مكانهما، بمنتهى الهدوء والعقلانية. لقد قتل
والد
ووالدة زوجته، وأمه. وعندما يسأله الضابط لماذا؟ تأتي إجابته
اكثر غموضا مما نتوقع:
أن تتركك زوجتك ليس أمرا سهلا!
فهل يمكن اعتبار الدافع إلى ارتكاب الجريمة عند
فيوريل مجرد تخلي زوجته عنه؟ أي وقوع الطلاق؟ ولماذا لم يقتل الزوجة
نفسها؟
الواضح من البداية أن الفيلم يكثف حالة إحساس بالقنوط والعبث وانعدام
القيمة، بل والوصول إلى طريق مسدود في الحياة باسرها عند هذا
البطل/ اللابطل ، على
طريقة قريبة من الإحساس العبثي عند بطل رواية "الغريب" لالبير كامي، أي
الفرنسي
الذي يقتل الرجل الجزائري ويبرر ذلك أمام المحكمة بأن "الشمس كانت في
عينه"!
فيلم "أورورا" يقع في ثلاث ساعات ودقيقة واحدة. وهو مثل الأفلام السابق
الإشارة إليها، ليس أهم ما فيه الدوافع والحبكة الدرامية
التقليدية التي يتم شرحها
أو فك طلاسمها قرب النهاية، او البناء الدرامي الواضح للشخصيات: هنا مثلا
لا يوجد
تفسير سيكولوجي لدوافع البطل، بل إنه يتسم بالبرود التام، والحركات
المحسوبة،
والعقلية الواعية المدركة لما تفعل تماما. هناك فقط نوع من
الشرود في نظراته، ومن
التأمل والتفكير، والنظرات الحادة الغاضبة إلى الناس. وهناك مشهد نرى خلاله "فيوريل"
يصر على دخول محل ملابس في وسط بودابست لكي يعثر على عاملة فيه ربما تكون
هي زوجته نفسها، لكن العاملات بالمحل يؤكدن له أنها ليست موجودة، بل
ويدعونه إلى
تفتيش المحل، وتفتيش دورة المياه إذا اراد. وترتفع حدة انفعاله
في هذا المشهد
الطويل كثيرا، لكنه لا يخرج عن نطاق السيطرة.
ورغم القتل والجريمة، فنحن لا نرى
الفعل نفسه، لأن المخرج ليس هدفه ان يجعل الجريمة نوعا من "الفرجة" التي
يمكن أن
تحقق متعة المشاهدة، أو الإثارة، فليس هذا هدفه، بل إنه يرغب اساسا، في
تصوير حالة
إنسانية، لرجل عادي تماما، لا يبدو مثل أبطال أفلام الجريمة بل
على النقيض منهم،
لكي يقول لنا إن الجريمة من الممكن أن تأتي من داخل الإحباط والشعور بالقرف
واللاجدوى وعبثية المحيط كله، ومن قبل أناس عاديين، لا يخططون ولا يتربصون
في
الظلام، بل حتى طريقة ارتكاب الجريمة هي طريقة "عادية" تماما
لا تقتضي أية مهارة
خاصة!
مرة أخرى، هنا اللقطات الطويلة، والمشاهد المكونة من لقطات محدودة،
والحوارات التي يمكن أن تمتد أحيانا كثيرا لتصبح نوعا من
"ثرثرة الحياة اليومية"،
والاعتماد الأساسي على تكوين اللقطات، مما هو متاح داخل منظور
الصورة من عاديات
الحياة والطريق والمواقع المختلفة الداخلية للتصوير، وليس من خلال الإبهار
الشكلي
والتلاعب بالضوء، فمصادر الضوء الطبيعية هي الغالبة، والديكورات الطبيعية
ايضا،
والممثلين يبدون بدون ذلك التكلف المصطنع، بل كأشخاص من الحياة
العادية، والشخصية
الرئيسية (فيوريل) يؤديها المخرج نفسه بعد أن فشل، كما يقول، في العثور على
الممثل
المطلوب. لكنه يؤديها بتحكم كبير، ودون أن يفقد الفيلم بعضا من روح السخرية
السوداء.
فيلم يشدك إليه ويجعلك مسحورا في مقعدك لأكثر من ثلاث ساعات، فهناك في
ذلك الإيقاع البطيء الذي يمضي وتتعاقب معه المشاهد، شيء ما مثل
التنويم، فما يجري
على الشاشة، وما يجري وراء الشاشة، كلاهما يجعلان من تجربة "أورورا" تجربة
للاستنارة، ولمشاهدة إنسان من عالمنا، كما لو كان المرء يشاهد نفسه في مرآة
كبيرة،
هي مرآة السينما.
الجزيرة الوثائقية في
24/06/2010 |