«توم»
و«مرايا موسخة»
و«فلينكو» تنال جوائز «مهرجان أفلام الطلاب»
الشغف الذي يتناقص
في سينما الشباب
نديم جرجورة
«انتهت،
مساء الخميس
الفائت، الدورة الثامنة لـ«مهرجان أفلام الطلاب». أُعلنت النتائج النهائية،
التي
توصّل إليها ثلاثة من أصل خمسة أعضاء شكّلوا لجنة تحكيم خاصّة بأفلام
المسابقةالرسمية (غاب الاثنان الآخران من دون إعلان سبب واضح). هناك
أفلام عربية مُشاركة
بهذه الأخيرة. اختارت لجنة التحكيم، المؤلّفة من المخرجين السوري محمد ملص
واللبناني سمير حبشي والناقد السينمائي اللبناني وليد شميط (غاب الناقد
اللبناني
هوفيك حبشيان بداعي السفر، والمخرجة اللبنانية إليان الراهب)،
فيلماً فلسطينياً
بعنوان «رقم» لمهند حلواني، لمنحه جائزتها. أما النتائج الأخرى، فكانت على
النحو
التالي: الجائزة الأولى، بالإضافة إلى جائزة الجمهور: «توم» لكريم غريّب
(الجامعةاليسوعية). الجائزة الثانية مناصفة بين «مرايا موسّخة» لميرنا
منيّر (ألبا)
و«فلينكو» لأماني أبي سمعان (جامعة الروح القدس، الكسليك).
حسناً فعل «نادي لكل
الناس»، بتنظيمه مهرجاناً سينمائياً سنوياً خاصّاً بأفلام الطلاب
الجامعيين. حسناً
فعل بإشراكه أفلاماً طالبية عربية أيضاً. المهرجان المذكور مساحة للاطّلاع
على ماتصنعه الجامعات اللبنانية الخاصّة والوطنية. على أعمال من
تُخرّجهم من صفوفها، بعد
أعوام عدّة من الدراسة والتمرين. لا يُمكن اختصار المشهد الطالبي الجامعي
بأفلام
منتقاة بعناية فائقة. إدارات المعاهد السينمائية والسمعية البصرية معنية
بالاختيار.
أقلّه في المرحلة الأولى. للنادي لجنة مُشاهدة تختار، في المرحلة الثانية،
ما تراه
مناسباً، وفقاً لمعاييرها الخاصّة، كما قال نجا الأشقر، أحد مسؤولي الناديوالمهرجان معاً (راجع «السفير»، 10 حزيران الجاري). لكن
المهرجان قادرٌ على منح
المهتمّ مساحة للتواصل، بمشاهدته نماذج مستلّة من هنا وهناك.
ارتباك
لم تعد
الغالبية الساحقة من الأفلام الطالبية، اللبنانية على الأقلّ، مثيرة
للمتعة. تراجعت
مستوياتها الفنية والدرامية والجمالية. هناك طلاّب شغوفون بالفن السابع.
بالصورة
المتحرّكة. بالجماليات المصنوعة على الشاشة الكبيرة. هناك طلاّب مسحورون
بالعوالمالتي تبتكرها المخيّلة البصرية، إن هم التقطوا النبض الإبداعي،
الذي يتراكم بفضل
الموهبة والمُشاهدة والتثقيف والمناقشة، كما بالتدريب على أيدي سينمائيين
جدّيين. هؤلاء قلّة. عددهم يتناقص عاماً إثر آخر.
بعضهم انسحب من المشهد، بعد إنجازه «فيلمالتخرّج». أفلام تخرّج عدّة باهرة. امتلكت حيوية إبداعية عكست
إحساساً عميقاً
ومرهفاً بالفن السابع وعوالمه، وثقافة بصرية حقيقية. هؤلاء اختفوا.
لانشغالات بصرية
لا علاقة لها بالسينما. أو لانعدام الفرص السينمائية الجادّة، التي تلبّي
عطشهم إلىالإبداع السينمائي. الغلبة، للأسف، لمن اعتبر العمل الإخراجي،
أو السينما بشكل عام، «موضة»
العصر. أداة قادرة على فتح آفاق عالمية
(!).
لا أبغي شمولية في موقف
مناهض للمستوى المتدنّي للأفلام الطالبية. الشغف والعشق منعدمان، بشكل عام.
الصورةالمتحرّكة، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من الطلاب، وسيلة
اكتساب. أو صناعة
تجارية. لا بأس بهذا. لكن المخيّلة غائبة. كذلك الوعي المعرفي بأصول المهنة. السينما مهنة. محتاجة هي إلى أدوات صناعية.
غير أن عدد الطلاّب الهائمين بصناعةالفن السابع، بشغف وعشق حقيقيين، قليلٌ. أكاد أقول قليلٌ
للغاية. «مهرجان أفلام
الطلاب»، الذي يُنظّمه «نادي لكل الناس» سنوياً، مرآة للحالة الطالبية هذه. والمرآة، هنا، قاسية بنقلها حقائق الأمور.
ما يفعله النادي منحصرٌ في إيجاد مساحةللتواصل بين الطلاب وأفلامهم من جهة أولى، ومهتمّين بهذا
النتاج الطالبي من جهة
ثانية. المأزق واقعٌ في داخل المعاهد السينمائية والسمعية والبصرية.
أياً يكن،
فإن لجنة التحكيم الخاصّة بالدورة الثامنة للمهرجان المذكور اختارت ثلاثة
أفلام
لبنانية ورابعا فلسطينيا، في نهاية الأيام الأربعة للعروض المُقامة في
«مسرحبيروت»، الأسبوع الفائت. أربعة أفلام مختلفة المضامين والهواجس
الشبابية: وطأة
الحصار النفسي والتربوي والتقني («توم» لكريم غريّب)، في مقابل هاجس
العلاقة
الانفعالية والجنس والعذرية بين شباب لا يزالون في مقتبل أعمارهم («مرايا
موسّخة» لميرنا منيّر)، وبينهما يوميات مراهقين على
أبواب البلوغ، والجنس أساسي في مشاعرهموسلوكهم ورغباتهم («فلينكو» لأماني أبي سمعان). المشاغل
اللبنانية مغايرة تماماً
للاهتمام الشبابي الفلسطيني: ميل الشاب الفلسطيني إلى الرسم، تحت ثقل الضغط
العنفي
المُمارس يومياً في مناطق محتلّة، لا يُلغي الجانب المأسوي في الحياة
الفلسطينيةالقابعة في ظلّ احتلال إسرائيلي مدمِّر («رقم» لمهند حلواني).
هذا كلّه منضو في
الجانب القصصي. أي في المضمون الإنساني والدرامي، المشغول ببساطة وعادية،
باستثناء
الجهد الواضح والجميل في كتابة النصّ السينمائي الخاصّ بـ«توم». بالإضافة
إلى مناخهالدرامي والجمالي المائل إلى التباس الحكاية وتداخل الماضي
بالراهن، من دون تناسي
الأداء التمثيلي الجيّد لجوزف عازوري في دور توم.
هواجس شبابية
الهاجس
الجنسي فاعلٌ في البيئة الشبابية. المناخ الاجتماعي العام مرتبك ومقيم في
مآزقشتّى. المراهقة والشباب مرحلتان أساسيتان ومهمّتان للغاية في
حياة المرء. الشباب
اللبنانيون منجذبون إلى أمور جمّة، بينها الجنس. ميرنا منيّر وأماني أبي
سمعان
اختارتا هذا الموضوع تحديداً، في قراءتين بصريتين مختلفتين. منيّر رافقت
مجموعة من
الصبايا اللواتي سعين إلى مساعدة إحداهنّ، إثر وقوعها في مأزق أخلاقي إزاء
شابأحبّته (خائفةٌ هي من الاعتراف أمامه بأنها لا تزال عذراء).
أبي سمعان توغّلت في
عالم مراهقين شباب، يريدون الجنس كلاماً وفعلاً. الحسّ الكوميدي حاضرٌ في
«مرايا
موسّخة» و«فلينكو». لكن المعالجتين محتاجتان إلى تكثيف درامي، وكتابة أسلمللحوارات، خصوصاً بالنسبة إلى شباب «فلينكو». هذا الأخير بدا
تائهاً في سياقه
الدرامي/ الحكائي، بسبب طول مدّته (18 دقيقة). طول المدّة ليس عائقاً أمام
إبداع
النصّ والإخراج والتمثيل. العائق يظهر عند تفريغ الحبكة من مقوّماتها
الدرامية
والجمالية والفنية. لقطات عدّة واقعةٌ في فراغ الصورة والحوار. حوارات عدّةمُقدَّمة بشكل كاريكاتوري ساذج، بدلاً من اعتماد البساطة
والعفوية، الموجودتين
أصلاً لدى جيل كامل من المراهقين. في «مرايا موسّخة»، كاد النصّ السينمائي
يقع ضحية
الإطالة غير المبرّرة. ثماني دقائق ونصف الدقيقة كافية لقول المناسب. لا
يعني هذاأن «فلينكو» أقلّ أهمية من «مرايا موسّخة». المسألة لا تُقاس
هكذا. لكن التكثيف
الدرامي ضرورة ملحّة في الاشتغال السينمائي. الفراغ قاتل. الفيلم محتاجٌ
إلى صُوَر
معبّرة. إلى مناخات شتّى يُمكن رسمها بشتّى الوسائل الفنية. هذا موجود في
«توم»
مثلاً: حسّ كوميدي ساخر ومبطّن. براعة في شدّ اللقطات بعضها إلى البعض
الآخر. إلغاء
مطلق للكلام. أي إتاحة المجال واسعاً أمام المخيّلة الشخصية للمخرج لابتكار
صُورمتلاحقة في سرد الحكاية. توم (عازوري) شاب محاصر في مطبخ.
مهمته جلي الصحون. لكن
الاختصار القصصي هذا لا يُلغي المناخ المفتوح على أسئلة العلاقة الملتبسة
بالذاكرة
والماضي، وبالراهن أيضاً. تحويل المرء إلى آلة. آثار التربية الطفولية. هذا
كلّه
عادي، إزاء جمالية واضحة في إنجاز الفيلم. لم يكن غريباً لقاء رأي لجنة
التحكيمبرأي الجمهور. الفيلم خطوة متواضعة جداً لكريم غريّب، أثبتت
امتلاكه حسّاً إبداعياً
وثقافة بصرية. الأهمّ كامنٌ في العمل الجدّي والدؤوب على تطويرهما.
الحالة
الفلسطينية مثيرة للمتابعة والانتباه إلى مفرداتها اليومية. الألم الفردي
يقابل
الحلم الذاتي. الاحتلال الإسرائيلي، في «رقم»، لا يظهر مباشرة. العلاقة بين
شابوصبية تكشف واقعاً معروفاً: بات الفلسطيني رقماً. عند سقوطه
ضحية العنف الإسرائيلي.
عند تحوّله إلى شهيد. الرقم قاتل. إلغاء لإنسانية الفرد وحضوره. الشاب
رسّام. الألوان في لوحاته انعكاس لشغف ذاتي إزاء
المعنى الآخر للحياة. الموت بانتظاره.
البساطة في سرد الحكاية مؤثّرة. المحاولة جادّة في الاهتمام بالفرد
الفلسطيني، وإن
على خلفية القضية والحياة اليومية.
كلاكيت
عالم أنطوان
فوكا
نديم جرجورة
أفلامه الروائية
الطويلة، المنجزة في اثني عشر عاماً، قليلة العدد. لديه اهتمام واضحٌ
بالأشرطةالغنائية. بالجانب التلفزيوني. بالتوثيق. الروائي الطويل ركيزة
أساسية في عمله.
اللائحة ضمّت عناوين قليلة، معظمها عُرض في الصالات اللبنانية. جوهرها
الأول
والأبرز: العنف. أمكنتها وفضاءاتها الدرامية مختلفة، لكن العنف رابطٌ
بينها. عنفالفرد أو الجماعة. عنف التاريخ والحكايات. البيئة الاجتماعية،
التي يجعلها مسرحاً
لأحداث مستلّة من وقائع حقيقية، أو من وقائع يُمكن أن تحدث، تُحيل الأسئلة
الإنسانية والأخلاقية والثقافية إلى عناوين فرعية ثابتة في قراءة المسار
القصصيللنصّ السينمائي. عنف ودم وصراعات. أكاد أقول إنه تطهّرٌ بالدم
والدموع، سواء فُرض
العنف من داخل البيئة الاجتماعية الصغيرة، أم نتج من أرض مضمّخة به.
«استبدال
القتلة» (1988) انبثق من لحظة كادت تكون عادية للغاية: القاتل مُنفَضٌّ عن
سيّده.
لحظة إنسانية دفعت القاتل إلى استعادة سيرته، دافعة إياه إلى الخروج من
النفق
الطويل. النتيجة: مطاردة حتى الموت. «يوم التدريب» (2001) سَرَد تفاصيل
قاسيةومخيفة مأخوذة من العالم السفلي لقتلة ومجرمين، ولفساد شرطيّ
في مواجهة شباب سود
مقيمين في هذا العالم. معه، يُصبح «الملك آرثر» (2004) لوحة مخضّبة بالشقاء
والنبل
والشهامة والألم، وبالانزلاق العظيم في متاهة الدنيا وأحوالها. «مُطلق
النار»
(2007) اختزال مُبسَّط لنزاعات داخلية داخل أنظمة حاكمة، كأجهزة الأمن
والاستخبارات.
هذه عيّنة. لأنطوان فوكا (44 عاماً) لائحة بعناوين وحكايات.
آخرها: «أفضل ما في بروكلين». مجموعة من الممثلين المتجانسين في ما بينهم
داخل
السياق: ريتشارد غير ودون شيدال وويسلي سنايبس و.. إيثان هوك. العلاقة بين
المخرجوهذا الممثل في «يوم التدريب» (نال هوك عن دوره فيه ترشيحاً
لـ«أوسكار» أفضل دور
ثان، علماً بأن زميله دنزل واشنطن فاز عن دوره فيه بـ«أوسكار» أفضل ممثل)،
أفضت إلى
تعاون ثان في «أفضل ما في بروكلين». الفيلمان متشابهان في مناخهما
الاجتماعيوبيئتهما الإنسانية والأسئلة الأخلاقية المطروحة على أناس
غارقين في البؤس والقسوة
والعيش على التخوم الواهية بين العدالة المنقوصة والشقاء اليومي. أو بين
جنون
الواقع والانغماس في لعبة المصالح الضيّقة، التي تتطلّب قتلاً وعنفاً
وجنوناً لاتقلّ حدّة عما يعيشه المرء في حياته اليومية العادية. أو بين
عبث القدر ولعنته.
فبين العبث واللعنة، سقط الجميع في فخّ الحياة، التي أحالتهم إلى أناس
غارقين في
الدم والألم. ولعلّ الناجي الوحيد من هذا الفخّ، انتظر النهاية اللئيمة كي
يخترقالممنوع عليه كشرطيّ نظيف الكفّين، في محاولة أخيرة منه للخروج
من متاهته.
نجا
الشرطيّ الطيّب في «يوم التدريب» من الحصار المدمِّر بمقتل زميله الفاسد.
مرّ خلاصالشرطيّ الطيّب في «أفضل ما في بروكلين» بنار الجحيم المفتوح
على الملأ. كأن الهاجس
الدائم لأنطوان فوكا متمثّل بالبحث عن معنى التطهّر الدموي، وسط انقلابات
الحياة
واحتمالاتها المؤجّلة. أم إنها لعنة القدر؟
كتــاب
إبراهيم العريس: «الصورة
الملتبسة»
يستمرّ الناقد
السينمائي اللبناني إبراهيم العريس في الاشتغال التأريخي الخاصّ بشؤون الفن
السابع. التأريخ معه يتّخذ صفة السرد الحكائي
الممتع، الممزوج بتحليل نقدي للأفلام ومخرجيهاوفضاءاتها، كما للمراحل السياسية والاجتماعية والثقافية
المختلفة، التي يعيشها
المجتمع الذي شهد ولادة هذه الأفلام. في كتابه الأخير «الصورة الملتبسة»،
الذي وضع
له عنواناً فرعياً هو «السينما في لبنان: مبدعوها وأفلامها» (الصادر حديثاً
عن «دار
النهضة العربية»، بالتعاون مع «وزارة الثقافة اللبنانية»، لمناسبة الاحتفال
ببيروت
عاصمة عالمية للكتاب)، استعاد العريس تاريخ صناعة الصورة السينمائية في
لبنان منذبداياتها في العام 1929، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
المراحل التاريخية
والإبداعية التي عرفتها السينما في لبنان، جعلها العريس مدخلاً إلى قراءة
التحوّلاتالاجتماعية والسياسية اللبنانية والعربية، من خلال قراءته
الأفلام نفسها. والأفلام
المصنوعة في تلك المراحل بدت مرايا المجتمع اللبناني، بظواهره وحالاته
وانشقاقاته
وتفاصيل عيشه. كأن إبراهيم العريس يتمتّع باستعادة تأريخية كهذه، كي يُضيف
تحليلاً
نقدياً إلى سينما لا تزال صورتها ملتبسة، وسط إنتاج حديث يبدو أنه يؤسّس
محطة جديدة
وعصرية للسينما في لبنان.
السفير اللبنانية في
17/06/2010
«بيوتيفول»
لإيناريتو
و«حياتنا» للوتشيتي
خـلاص عابـر وآلهـة
كاذبـة
زياد
الخزاعي
أوكسبال، شاب إسباني
ملوّث بالقحط الاجتماعي. معزول وغارق في الاحتيال والسرقات. كلاوديو، شاب
إيطاليحيوي، وذو عزم على الرقي الاجتماعي. يعمل في تجارة الإنشاءات
وصفقاتها «البيرلوسكونية».
الاثنان أبوان يذودان عن صغارهما. الأول، بعد أن هجرته الأمالآثمة برعونتها ومخدّراتها وإدمانها. الثاني، بعد أن خطف
الموت زوجته الشابة خلال
الوضع، لتتركه أسير لقمة أطفاله الثلاثة وأفواههم.
بطل جديد المخرج المكسيكي
أليخاندرو غونزاليس إيناريتو «بيوتيفول» محاصر وسط المدينة المتوحشة
برشلونة. نراه
في انهياره المدوي وهو يعيش في أكثر الأحياء وضاعة. إنه الكائن الذي يُفترض
به أنههامشي، لكن نص إيناريتو ذهب أبعد من التهمة السريعة هذه، وأخذ
مشاهده إلى قلب
الإيمان الذي يتوالد في ضميره وكيانه. مسيح دجال لا يرغب في صليب، بل يسعى
إلى
تأمين عقار يشفيه من المرض الخبيث. الصفة الأولى تتحقّق في المقاطع
التالية، حينيتسبّب، من دون قصد، بموت 24 صينياً، بينهم نساء وأطفال،
اختناقاً بالغاز المتسرّب
من أجهزة تدفئة رخيصة الثمن، اشتراها لهم طوعاً. هذه الميتة الجماعية هي
اللفتة
الدرامية إلى الاستشهاد اللاحق للبطل الشاب. إن بوهيمية برشلونة هي التبريرالجغرافي لخلق كائن وسخ الطبائع، يملك قلب ملاك. هذا التضارب
حاسمٌ للمُشاهد كي لا
يقع في العداء المسبق للشخصية. تماما كالحالة التي ارتُهنت فيها شخصية جاك
جوردن (بينيتشيو ديل تورو) في النص الأخّاذ «21
غراماً»، الذي تسبّب بمقتل رجل خطأ، وبقييلوب إلى التوبة، فلا إنجيله نفعه، ولا صلواته ولا سجنه، قبل
أن يجد ضالته في القلب
الضعيف لطريده بول ريفرز (شون بن)، ونكتشف لاحقاً الكَمّ المدمِّر من الإثم
الذي
يعصف بهاتين الشخصيتين، قبل أن تلحق بهما ثالثتهما، الزوجة والعشيقة
كريستينا بيك
(نعومي
واتس).
كيانات
أوكسبال، كامتداد لهذه الكيانات، ومثلها الأخوان
الفتيان اللذان تورّطا بجريمة لم تكتمل، والابنة البكماء الساعية إلى
الإهانة
الشخصية في «بابل» (2006)، والشاب الأرعن أوكتافيو بطل «الحب عاهر» (أموريس
بيروس،
2000)، عاشق زوجة شقيقه التي يغويها بالهروب معه،
أوكسبال هذا يسعى إلى خلاص روحيلا يتوفّر إلاّ بالموت والزوال. عندما اقتربت ساعته، لمّح
إيناريتو إلى أن المدينة،
كقوة جماعية وموئل حياة ومتع، لن تهتم بفاجعته.
بعد شطحاته المشهودة طوال
الفيلم، دفع المخرج النبيه بطله إلى العتمة المكانية، إلى الزاوية الأكثر
كرباً.
عقوبته قدرية لا تمت إلى وضعية قانون المدينة، الذي لم يفلح في إعادة
تأهيله
اجتماعياً. هو (القانون) الكامن أيضا في حجم مصابه العائلي، الذي أحال
حياته إلىهباء شخصي، قبل أن يصحو على فعل خير ناقص.
في ضواحي روما العريقة، يكون القدر
الأسود في انتظار كلاوديو، بطل الفيلم الأخير لمخرج «شقيقي ليس سوى طفل»
(2007) و«ستحدث غدا» (1988)، الإيطالي المميّز
دانيلي لوتشيتي، حيث وضعه مصابه الشخصي أماملوعتين في «حياتنا»: غياب الحبيبة والأم، وواجب الحفاظ على
صغاره. بعد نصف ساعة من
البهاء العائلي، الذي رأينا فيه البطل الشاب متألقاً وفي قمة حنيته
العائلية
وتباسطه مع عماله الأجانب، الذين يشيّدون المجمّعات السريعة للطبقة
الصّاعدة في
حقبة سيلفيو بيرلوسكوني، يكون المُشاهد على موعد لاحق مع أكثر الفصول
السينمائيةالإيطالية بكائية، التي لا تضاهيها سوى مثيلاتها في فيلم
المعلّم ناني موريتّي «غرفة
الابن» (السعفة الذهبية في «كان» 2001). الغمز السياسي في «حياتنا» جلي من
حيث تحامله على العقيدة الاجتماعية الإيطالية، القائمة على «المُلْغَفَة»،
حيث يكون
«القوم
لصوصاً لا حميَّة لهم». المخرج لوتشيتي لا يفرط في تهكّمه ولا يُعدّد
سهامه،
بل يجعل البطل/ الأب الحماسي النزعة نموذجاً للّغَفاء الجدد، الذين يأكلون
معاللصوص، لكنهم لا يسرقون معهم. بعد وفاة الأم الشابة بشكل
مفاجئ، ينهار العالم
المالي لكلاوديو، قبل العاطفي. إشارة نبيه إلى أن إيطالي اليوم قد يحمل من
الأحاسيس
الكثير، بيد أن ماليته وحصانته النقدية لهما أولوية، للحفاظ على عائلته
وقدسيّتهاالاجتماعية. وهي، للغرابة، الإشارة المسيّسة نفسها، الواضحة في
فيلم موريتي الصارخ
بتهكّمه، كما نجد صداها في الفيلمين الباهرين في الحقبة الذهبية للواقعية
الجديدة «سارقو الدرّاجة» (1948) و«أومبيرتو دي»
(1952) لفيتوريو دي سيكا، من بين أفلامأخرى. وكما يخيّم رحيل الأم الشابة على ترتيب يومياته وأطفاله
(حضانتهم، مدارسهم،
رعايتهم البدنية، وغيرها)، يخيّم فشل سلوكه العملاني في تأمين رواتب
العمّال
الأجانب، الذين امتهنهم لإكمال عمل مَنَّ عليه به مقاول نافذ له ارتباطات
مشبوهة لايفصح عنها الفيلم كثيراً. إن تسلّم كلاوديو الصفقة الدنيئة
تتماشى درامياً مع
تكليفه قوّاداً مُقعداً وعاهرته الأفريقية مهمة رعاية أولاده. فوق هذا
كلّه، يطلب
منه تأمين مئات اليوروات للشغّيلة، الذين يهدّدون بالإضراب.
ترى، هل يحافظ
اللَغِيف على وعده؟ يأتي المشهد الصاعق عندما يتكاتف البطل مع شقيقه ضابط
الشرطة فيتمثيل غارة على موقع العمل، ليتحايلا على أموال الرواتب وحقوق
العمال اليائسين، قبل
أن يجتاح عمّال إيطاليون بديلون الموقع، وينهون التكليف الذي كاد يطيح
بكلاوديو
وعالمه المأفون.
انكفاء
يُكمّل أوكسبال وكلاوديو (أداءان جيّدان لخافيير
بارديم وإيليو جيرمانو، استحقا عليهما جائزة التمثيل مناصفة في الدورة
الأخيرة
لـ«كان») بعضهما بعضاً، أوروبياً، في انكفائهما الإنساني. فالاثنان
يستغلاّنالعمالة الوافدة ويرتزقان عبرها، وحين يقع المحظور (موت
الصينيين ومقتل الأفريقي
لدى الإسباني، واعتصام العمّال عند الإيطالي)، يقعان في الحيلة وينفضان
المسؤولية
عنهما. وكي يبعد المخرجان تهمة العنصرية المخفيّة، يحدث ما يلي: يحقّق
إيناريتو
انقلاباً أخلاقياً غير مسبوق في نصوصه الأخرى، بجعل أوكسبال راعياً لسيّدة
أفريقية،بعد مقتل زوجها غيلة، ويأتمنها على مال سرقاته من أجل رعاية
أطفاله. وعندما تعي
إيغي (الممثلة السينغالية ديارياتو داف) أن احتضاره بدأ، تسعى إلى الهروب
بالمال مع
وليدها، لكنها تنتصر لإنسانيتها، وتعود أدراجها. في بداية «بيوتوفول» (وهي
تنويعكتابي ولفظي خاطئ يقوله البطل الأمّي عندما تطلب منه ابنته
تهجّي الكلمة الإنكليزية
«جميل»)،
نسمع حواراً هامساً على خلفية يدين تتراقصان حول خاتم، يعيده إيناريتو في
ختام فيلمه الذي المختلف جوهرياً من ناحية تقاطع السرديات التي برع فيها
سابقاً،لنرى الأب وابنته يحتفيان بآصرة ذكراهما. وكتحميل نفسي واضح،
يجعل صاحب «بابل» صدى
هذا الحوار الهامس يتقابل مع صوت إيغي الخافت، وهي تعلن من خلف الزجاج
المضبّب لباب
غرفته: «لقد عُدت»، إشارة على وعد قطعته بتحوّلها اختيارياً إلى أن تكون
أماللجميع.
في «حياتنا»، يرمينا لوتشيتي في مشهد مركزي داخل كنيسة، نتابع فيه بطلهالشاب يصاحب بألم جبّار أغنية كان يؤدّيها شراكة وإعجاباً مع
الزوجة الراحلة. تطهير
مسبق لأفعاله التي تتوالى لاحقاً بحقّ الغرباء، ويستمر بتخاتل ذكي مع حكاية
المرأة
الرومانية التي تتعاطف مع مصابه، وتكافئه على اعترافه باكتشافه جثة زوجها
السكّيروالعنيف في موقع عمله، وتقدّم له جسدها ليفرغ شبقاً افتقده.
هذا الكرم لن يمنع
كلاوديو من تقديم هذه الطريدة إلى شقيقه رجل الشرطة بيرو (راؤول بوفا)
لتصبح
خليلته، وتدخل في نسيج العائلة الصغيرة مع ابنها المراهق الأبله. هذه
المصالحةالاجتماعية تصوّر سينمائي يبرّر شكل العلاقات المستحدثة في
إيطاليا المعاصرة التي
تغلب عليها، على الرغم من هذه اللفتة الكريمة من لوتشيتي، هبات عنصرية
مسايرة
لمثيلاتها في القارة العجوز، التي تتصيّد الوافد على الرغم من أوروبيته
ومسيحيته.