لم أتردد في الذهاب لمشاهدة الفلم الكردي (كويستان قنديل/ جبال قنديل)
للمخرج الكردي الشاب طه كريمي، على الرغم من أن الخشية اعترتني من فقدان
الفرصة الوافية لفهم الفلم، بحكم لغته الكردية التي يتكلم بها الممثلون،
الذين قيل لي بأن بعضهم يتكلم العربية في الفلم على اعتبار أن الشخصيات
التي يقومون بتأدية أدوارها عربية. صحيح أنني تذرعت مع نفسي بما أعرفه من
الكردية بحكم المدة الطويلة التي أمضيتها بين الكرد .
وبما يمكن أن تقدمه لي زوجتي الكردية من العون في توضيح ما قد لا أفهم
مغزاه، إلا أن أبرز ما في هذا الفلم، أنه وبسبب حرص مخرجه على تحقيق الصدمة
المرجوة في المتفرج، يقوم على بنية بصرية تمتاز بالتماسك والقدرة على تحقيق
هذه الصدمة .وأستطيع الجزم بأن كل تلك الخشية سرعان ما تلاشت مع انقضاء
المشاهد التأسيسية الاولى من الفلم، وبدأت أفهم حقيقة وأبعاد التراجيديا
الانسانية التي يعالجها المخرج كريمي برؤية تمتاز بالنضج، وتظهر في شكل حل
إخراجي لا يمكن التقليل من شأنه، على الرغم من حداثة تجربة هذا الشاب
القادم إلى تاريخ السينما الطويل من قارة الكرد التي تتنوع المآسي
والتراجيديات فيها، ومعنى ذلك فإن أبنية اللقطات التي تعتبر أصغر الوحدات
المكونة للفلم، أي فلم، وما في داخلها من المتون الفكرية التي يسعى المخرج
إلى إيصالها إلى المتفرج باستخدام ما يعتقدها أفضل صيغ التعبير، هي ما يجب
الدخول منها لتقييم المعالجة الاخراجية لمتون سردية ينبغي تقديمها بطريقة
تنأى عن المباشرة والصياح، وإلا فإن الفشل سوف يكون حليف المخرج في مثل هذه
الحالة من التعبير. صحيح أن هذا الفلم من الواقعية، إلا أن اهتمام كريمي
بالمضمون وكما هي العادة عند أغلب المخرجين الواقعيين لم يأت بتاتا على
حساب الشكل الفني أو التقنية. وهو وإن كان قد قدّم من جهة أخرى بعض
المعالجات الانطباعية لمشاهد معينة تستدعي مثل هذه المعالجات أكثر مما
تستدعي استخدام المنهج الواقعي، إلا أنه في إصراره على واقعية الفلم، التي
تعني واقعية الأحداث كذلك، بدا لنا ميالا إلى الاستفادة من النوع الوثائقي،
حتى على المستوى الاخراجي، وقد تمثل هذا باستخدام عنصر التعليق على أحداث
بعينها، وهو الأمر الذي يذكرنا بتجارب سينمائية لمخرجين آخرين شاهدنا
أفلامهم وحازت إعجابنا في الغالب على اعتبار ما فيها من الجدّة في الاسلوب
الإخراجي، وبالذات منها تلك التي تتناول ثورات الشـــعوب وكفاحهـــا ضد
المستعمرين، أو الأخرى التي تصور وقائع حقيقية يجد المخرج نفسه أنه ليس
بحاجة إلى استرجاعها وتصويرها. ونحن عندما ننفي عن كريمي تركيزه على
المضمون على حساب الشكل على الرغم من عظمة الفكرة الأساسية التي يدور الفلم
حولها (البحث عمن غيبتهــــــم الحرب في تجاويفها المرعبــة وإبــــان
أيامهـــا الدامية) وإغراءاتها، فإنما لاعتقادنـــا بأن الصدمـــة الــــتي
سبقت الاشـــارة إليها ما كان لها أن تتحقق، لو كان الحوار في الفلم هو
الأســــــــاس الذي يعتمد المخرج عليه لإيصال غايته، وإنما هي الصورة التي
استطاعت أن تحقق الصدمة التي وصفناها، وهذه ميزة كبيرة، خصوصا ونحن ندرك
بأن السينما في أفضل حالات الابداع التي يمكن أن يتميز بها المخرج، ينبغي
أن لا يهبّ فيها صوت لنجدة صورة، تقدمها لنا الكاميرا، عبر زاوية يتم
اختيارها عادة بحرص شديد ،وذلك ضمن سياق من اللقطات، يختارها المخرج بعد
دراسة عميقة ومتانية. وليس معنى ما سبق عدم اهتمامنا بالمضمون، فهو
كتراجيديا إنسانية قد أتى كما يلاحظ القارئ في عنوان هذه المقالة، ولكن
الأقرب إلى التوفيق في العملية النقدية، محاولة الناقد قراءة المتن الفكري،
من خلال عملية تحليل للبنية السردية، من حيث أن السرد السينمائي يعد من نوع
المتواليات البصرية، وليس الكلامية اللفظية كما هو الحال في الرواية كجنس
إبداعي. وهنا من الضروري لفت انتباه القارئ إلى أن محاولةالفصل بين الشكل
والمضمون في العملية النقدية حتى، تعد من نوع الأفعال الساذجة، التي تخلو
من أية لمسة ذكاء. ولعله من المفيد التنبيه كذلك، إلى أن الناقد السينمائي
الذي يريد لرأيه أن يمتلك المصداقية والقدرة على الاقناع، عليه عدم تقييم
الفلم على أساس أهمية موضوعه أو عدمها. وإن عملا كهذا إذا ما حدث، يضعنا
كمتفرجين في موقف الحائر كما يرى الناقد الشهير لوي دي جانيتي، وسبب هذه
الحيرة إنما لأننا سوف نرى أنفسنا أمام ناقد تكون حاله كمثل حال من يفضل
جدارا في بناية للبريد، على لوحة لغزال رسمه رمبرانت.
والفلم في اختصار شديد، يروي حكاية عدد من النساء، تتكلم كل واحدة منهن لغة
تختلف عن غيرها : الكردية والعربية والفارسية والتركية. ولكنهن يجتمعن في
نهاية المطاف عند لغة واحدة يتوحدن فيها، وهي لغة المرأة الجريحة التي غيب
الجلادون حبيبها : زوجا كان أو ابنا أو أخا، وذلك إبان الحرب التي ابتلعت
عشرات آلاف الشباب. إنهن وهذا مما يضاعف جماليات المشهد السينمائي، يذهبن
إلى جبال قنديل، حيث يلتقين في الرحلة الجبلية الصعبة، هناك في مثلث الموت
بين العراق وإيران وتركيا. إننا أمام حكاية فيها قدر كبير من المأساوية،
وهي في حاجة للتعبير عنها بطريقة ذكية بعيدة عن المعالجات السطحية التي
تقتل أنبل الموضوعات وأجملها. طريقة ترتقي فيها المعالجة الفنية المتمثلة
بالحل الإخراجي، وترتقي فيها كذلك ذائقة المتفرج، وقدرته على استيعاب ما
يحدث أمامه حتى لو اختلفت اللغة المنطوقة عن اللغة التي ينطق بها، بحيث
يندفع في النهاية ليس فقط من أجل إعلان تعاطفه مع هؤلاء النساء، وإنما لكي
يرجم بحجارة غضبه، كل أولئك الذين قادوا كل تلك الألوف من الشباب إلى
المهالك، دون أن يغيب عن أذهاننا، ان هذا الجانب من المأساة، يقابله جانب
آخر، هو الذي يتمثل في اختطاف الشابة الكردية نسرين، ابنة خادم جامع
القرية، واقتيادها إلى أحد السجون في بغداد خلال عقد التسعينيات من القرن
الفائت.
سوف نترك حكاية نسرين ونضعها جانبا، وذلك لأن القصة السينمائية لم تعرها
اهتماما كبيرا، ولقد جاءت على شكل خبر ليس في مقدورنا تقصي نهاياته، وحسبنا
القول أنه يمكننا أن نرى فيها دالة رمزية إلى الأرض أو أية قيمة إنسانية
عليا، يمكن ان تتشبث بها شخصيات الفلم، ولكن السلطة الجائرة القاهرة
بالقوة، ظلت تحاول حرمانهم منها. على ان هذا ينبغي أن يقابله السؤال حول
الطريقة الاخراجية التي سلكها المؤلف المخرج للتعبير عن الجانب الآخر الأهم
من التراجيديا ـ بحث النساء عن الاحباب المفقودين. وسوف يلاحظ قارئ المقالة
الذي شاهد الفلم، أن طه كريمي استخدم زاوية للتصوير أكثر من غيرها في
المشاهد التي تظهر فيها النساء القادمات من أطراف العراق البعيدة، وهي
زاوية النظر العلوية، التي هي نظرة الطائر كما يعرفها السينمائيون، وذلك
بهدف الاشارة إلى عجزهن في الوصول إلى نتيجة مريحة. وسوى ذلك فقد ظهرت
هؤلاء النساء في لقطات عامة بعيدة وطويلة تغيب الملامح، وتحول الأصوات إلى
ما يقترب من الصدى في براري واسعة، وغاية ذلك إبراز ما ينتظرهن من الجهد
والتعب اللذين سوف يكونا بدون جدوى.
لقد قال الناقد والمخرج السينمائي روبير بريسون بان الصور في الفلم، كمثل
الكلمات في المعجم، وأنه لا قوة ولا قيمة لها، إلا من خلال مواقعها
وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر. ومما سوف يلاحظه القارئ، خصوصا إذا كان ممن
يمتلكون القدرة على التأويل والكشف عن الدالات في النص الابداعي فلما كان
أو سواه، أن طه كريمي في فهمه لفلسفة المونتاج، إنما أراد أن يجسد في
تقطيعات الفلم سعة المأساة، وفداحة ما يحدث أمام أنظار المتفرجين، وهو ما
نستنتجه من عملية الجمع بين لقطات الهويات الملقاة فوق الأرض، ولقطات
النساء في عباءاتهن السوداء، وهن يعبرن الجبال بحثا عن أحبابهن. إن الجمع
هنا بين لقطة الهويات الكثيرة مثلا، وبين لقطة النساء وهن يولولن مجتمعات
حول بعضهن كمثل كورة الزنابير التي ينبعث منها الطنين، إنما يمكن أن يفهم
المتفرج منها، أن أولئك الذين تم فقدانهم، ولم يعودوا إلى بيوتهم ومحبيهم،
إنما يعدون بالآلاف، وإن هذا العدد لا يتناسب بتاتا مع العدد المرئي للنساء
اللاتي يظهرن في الشاشة، على اعتبار أن كل واحدة منهن قد جاءت تبحث عن
مفقود واحد، وليس عن عدة مفقودين. ولقد استطاع كريمي بجدارة المخرج الذي
يتقن حرفته، النجاح في رسم فضاء التراجيديا، باستخدام ألوان قاتمة، وإنارة
ضعيفة، لتوكيد ضبابية المستقبل الذي ينتظر النساء في بحثهن المجهد، في
جغرافيا متجهمة، وفيها قدر كبير حتى من الوحشية التي يصعب على الانسان
ترويضها.
أن تبني فلما هو أن تربط الأشخاص إلى بعضهم البعض، وإلى الأشياء والمكان
الذي هي فيه، عبر لقطات تتم رؤيتها في العقل في داخل رأس المخرج، قبل
رؤيتها جاهزة فوق الشاشة. ودوما يصح القول بأن مرأى الحركة يبهج النظر. وفي
حالة التراجيديات الانسانية التي تمتاز بالنبل، على المخرج أن يهز
المتفرجين، ليس بالصور الهازة كما قد يطالب البعض، وإنما بعلاقاتها التي
تجعلها حية وهازة في الوقت نفسه. إن مثال لقطة الهويات، سوف تبدو بدون
قيمة، وهي قطعا لن تستطيع أن تحرك شعرة من المتفرج، لو لم تأت في أعقابها
لقطة النساء في عباءاتهن السوداء، وهن يندبن ويولولن باكيات على الأحباب من
الأخوة والأزواج والآباء. كما ان هاتين اللقطتين، سوف تضعف قيمتهما، بدون
لقطة شواهد قبور الموتى المنحوتة من كتل صخرية مختلفة الأحجام، وضعت هنا
وهناك في مكان ما من جبال قنديل. هكذا نفهم الخط البياني للمونتاج في
تدرجه، ونفهم إلى ماذا تشير تلك اللقطة التي يتم فيها تجريد الشاب الكردي
من ملابسه أمام جنود الاقتحام الذين هاجموا البلدة الكردية. إن ما يسعى
كريمي إليه لا يتم تقديمه هكذا بشكل مباشر، ولا يتم الاعلان عنه بصوت مرتفع
كما يحدث في الأفلام الشعارية الفاقدة لأية قدرة على الامتاع والاقناع. إنه
لم يعلن عن هدفه على لسان اي من الممثلين، حتى لو كان ذلك في المقابلات مع
النساء وهن يجلسن قبالة الكاميرا ليتحدثن. ونحن حينما نقرر هذا، فذلك لأننا
نرى فلما يضع الحدود الصارمة باتقان بين كل ما هو للأذن، وبين كل ما هو
للعين، باعتبارنا أمام صنعة سمعبصرية. وسوف نسأل هنا على سبيل التقريب :
إذا كانت عملية فقدان الأحباب من النوع اللامرئي، فكيف استطاع المخرج كريمي
ترجمة ذلك إلى صورة مرئية، وبتعبير يخلو من المباشرة ؟
إن لقطات الممثل ( جومرد قارمان) وهو يحمل على كتفيه الجذع الخشبي الكبير
الذي تتدلى منه أصص مزروعة فيه الورود يضعها بجانب شواهد القبور، من شانها
إلقاء الضوء على ما كان يحدث في جبال قنديل إبان مدخل التسعينيات، وحيث كان
البحث عن المفقودين يجري بوتيرة عالية. صحيح أن المكان يمنح المخرج أكثر من
فرصة لبناء كادر سينمائي يمتاز بجمال التشكيل من حيث المحتوى واللون
وسواهما مما يخصب اللقطة، إلا أنه يكون قد امتلك أيضا فرصة لا تقل اتساعا،
للتعبير عن الوحشة والفراغ اللذين سوف تجد الشخصيات القادمة من أمكنة بعيدة
أنفسها فيهما. إنه فراغ مرعب، يفغر فاه لابتلاع كل سيء حظ، حملته الأقدار
المتربصة بالظلم إلى هذا المكان، ليصبح في عداد المفقودين الذين ابتلعتهم
الحروب المتعاقبة في هذا المكان من العالم. والمكان من جهة أخرى، أعطى
المخرج أكثر من فرصة، لتقديم كل ما ينبض بالغرابة، لتتصاعد الدهشة وتعلو
الوجوه، وبما يغري العاملين في السينما من البلدان الأخرى من الباحثين عن
أمكنة جميلة لتصويرأفلامهم، للمجيء إلى كردستان، حيث الجمال الذي ليس كمثله
جمال. كل هذه الأمور مجتمعة، تركت بصماتها على الحل الاخراجي ،وجمّلته
بأبهى العناصر التي سوف تميز الفلم الكردي في اعتقادنا، حيث البيئة التي
لها خصوصياتها، والميثولوجيا التي تركت بصماتها هي الأخرى في أكثر من مشهد
من مشاهد الفلم التي كانت تجري متعاقبة في إيقاع سريع، فإذا بالزمن الفلمي
ينقضي بدون أدنى إحساس بالملل والاغتراب معا، بعد أن كنت قد أمضيت وقتا مع
شخصيات تمتاز بالحيوية، وترفض الخضوع لليأس لملاحقة أخبار الأحباب
المفقودين من جنود الحروب التي كان يتم فيها اقتيادهم إليها بالقوة.
طه كريمي وفي كلمات أخيرة، وباستثناء ما يمكن أن يقال حول ارتفاع درجة
الصوت في بعض المشاهد وبالذات منها تلك التي يجب أن تجيب الشخصية فيها على
سؤال ما، يقدم فلما لمتفرج على شاكلته : يمتاز بالقدرة على تذوق الجمال،
وتفكيك البنية الرمزية، ومعرفة البسيط والمركب في الفلم، ومثل ذلك أيضا،
فإنه يتوجه إلى متفرج يمكنه اكتشاف غاية الوثائقي في فلم روائي، أو لعله
يقول كما سبق أن قال بازوليني بمناسبة فلمه الشهير (حظيرة الخنازير) الذي
يصور الرأسمالية الغربية وجشعها : إنني أصنع أفلامي لشخص مثالي مجرّد، شخص
يشبهني.
عندما انتهى الفلم، وبدأت اسماء العاملين فيه تحتل الشاشة في تايتل
النهاية، وكان عدد غير قليل من المتفرجين قد بدأ بالخروج، بقيت في مكاني،
أجوب في قمم قنديل المتجاورة، الاحق ذوات العباءات السوداء، وهن يمضين في
خط مستقيم فوق إحدى القمم، باتجاه يمين الشاشة، بعد أن كنت قد رأيتهن يمضين
باتجاه يسارها في مرة سابقة، وأعصابي تهتز مع موسيقى الفلم التي ظلت تحملني
إلى اجواء أظنها سوف تكون أكثر جمالا واطمئنانا.
الإتحاد العراقية في
06/06/2010 |