تستفيد الإنتاجات الهوليوودية الضخمة من كل تفصيل يحيط بها في أية مرحلة من
إنتاجها للإعلان عن "بضاعتها". الأخبار الصحافية التي تواكب المشروع منذ
بزوغ فكرته مروراً بتوقيع عقد إنتاجه ووصولاً الى اكتماله تسهم في بناء خطة
استراتيجية تصاعدية، تضمن خروج الفيلم إلى جمهور مطًلع على الكثير من
التفاصيل قبل مشاهدة العمل. وذلك بالطبع سيف ذو حدّين، ذلك ان الكثير من
الترقّب والترويج يرفع سقف التوقّعات. ولكن الهم الأكبر لهذه الأفلام هو
استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين الى داخل الصالة. وبعدها، ليس مهماً
بأي رأي سيخرجون، إلا إذا بلغ استياؤهم من الفيلم حدّ التأثير على جحافل
الجماهير المقبلة. ولكن حتى ذلك التأثير يتفاوت بين عمل وآخر. فثمة عناصر
لا ترتقي الى "الشك الجماهيري" ومنها بالطبع نجوم الفيلم. بعضهم يريد ان
يشاهد نجمه المفضّل وإن في عمل عادي او سيء. وبعضهم الآخر يهتم بصيغة
الفيلم أكانت قصة حب او حركة وإثارة أو رعب أو عنف أو غيرها. إلى هنا، لن
يخيّب "روبن هود" آمال الجمهور. فالمعارك الدموية والمطاردات والتشويق كلها
حاضرة. ونجمه راسل كرو، وإن لم يتقن اللكنة الانكليزية، إلا انه يتقن
القتال بالقوس والنشاب كما يتقن مغازلة النساء وبث الحمية في الرجال.
والواقع ان لـ "روبن هود" أرضية أخرى صلبة اتكأ عليها قبل حتى خروج الفيلم.
انه ببساطة التعاون الخامس بين المخرج ريدلي سكوت والممثل راسل كرو وإن كان
بالنسبة الى كثيرين التعاون الثاني الذي يستحق عناء المتابعة بعد "المجالد"
Gladiator (2000). وبالطبع لا ننسى الهدية الكبرى التي منحها مهرجان كان لطاقم
المشروع برمته عندما اختار الفيلم لافتتاح دورته الاخيرة في أيار الفائت.
ولكن سكوت ارتكب خطاً واحداً في محاولته المشروعة البناء على مجد "المجالد".
فقد اختار "روبن هود"، أحد أبرز الشخصيات التي تناولتها السينما. ثم ارتكب
خطأ ثانياً ثانوياً عندما صرّح، ومعه كرو، في غير مناسبة انه ليس "من هواة
أفلام روبن هود السابقة" مؤكداً ان ما سيقدمه في فيلمه "لا يشبه ما سبقه".
حسن ربما تكون هذه التصريحات النارية جزءاً طبيعياً من تمهيد الأرضية لأي
فيلم جديد. ولكن مع روبن هود، تتخذ الأمور منحىً أكثر شخصية بالنسبة الى
المشاهدين من شتى الأعمار. لا يرمي هذا القول الى تمجيد اقتباسات روبن هود
السينمائية السابقة على حساب رؤية ريدلي سكوت، ولكن لب المشكلة ان شريط
سكوت يكاد يكون خالياً من أية رؤية.
لقد شهدت الأعوام القليلة الفائتة إعادة إحياء اساطير سينمائية بواسطة
مخرجين يملكون الحد الأدنى من الشغف بها. كريستوفر نولان هو المثال الأقرب
زمنياً الذي جعل من "الرجل الوطواط" عملاً لا يخلو من رؤية طازجة للاسطورة
الكلاسيكية. بهذا المعنى، ماذا جلب سكوت او كرو او كاتب السيناريو براين
هيلغلاند الى اسطورة "روبن هود" الفولكلورية؟ لا شيء سوى سؤال جلي يطرحه
المشاهد في نهاية الفيلم: لماذا صنعوه وما الجديد الذي قدموه؟
المفارقة في هذا الإطار ان المشروع الاساسي انطلق بالفعل، اقله نظرياً (في
غياب الدليل الحسي الذي يوفره السيناريو الأول)، من رؤية جديدة ولكنه خضع
على طريقه الى الانتاج لتغييرات جذرية، يبدو انها عادت به الى نقطة الصفر.
وتقول الحكاية الخلفية للمشروع انه في العام 2007، اشترت "يونيفرسل
استوديوز" و"إيماجن انترتاينمنت" سيناريو في عنوان "نوتنغهام"
Nottingham
بتوقيع إيثان رايف وسايرس فوريس، يقدم عمدة نوتنغهام محور الأحداث ورؤية
غير مثالية (أو سلبية) لـ "روبن هود". ولكن ملاحظات الممثل راسل كرو على
السيناريو (كان قد تم اختياره لتجسيد شخصية العمدة) وكذلك المخرج سكوت دفعت
بالمنتجين الى إسناد مهمة الكتابة الثانية لبراين هيلجلاند. ومن ثم واجه
السيناريو أزمة إضراب كتاب هوليوود لينتقل بعدها الى الكاتب بول ويب الذي
مزج شخصيتي العمدة وروبن هود. ولكن الأحلام كانت قد بدأت تراود سكوت بإنجاز
نسخته الخاصة عن شخصية "روبن هود" الأسطورية التي حازت عشرات الاقتباسات
السينمائية منذ أيام السينما الصامتة (اول ظهور سينمائي لشخصية روبن هود
كان في العام 1908 في فيلم
Robin Hood
and his Merry Men لبيرسي ستو) وحتى يومنا هذا. هكذا عاد السيناريو
الى هيلجلاند وأعلن المخرج ان عنوان الفيلم سيكون "روبن هود" قبيل بدء
التصوير الذي انطلق في آذار/مارس 2009 وتنقل بين مناطق عدة في شمال شرق
انكلترا.
للإنصاف نقول ان ثمة عنصراً متجدداً في اقتباس سكوت ويتمثل باختياره معالجة
مرحلة مبكرة من حياة "روبن هود" أي تلك التي سبقت أسطورته كـ"خارج على
القانون"، قبل حتى أن يصبح اسمه "روبن هود" (اسمه في الفيلم "روبن
لونغسترايد"). ولكن تلك الزاوية المغايرة تنطلق في الواقع من معرفة ما
ستؤول الشخصية اليه، بل وتتعاطى معها بنفس الهالة البطولية والاسطورية التي
ستُنسب لاحقاً الى "روبن هود" لتطغى على وجهة النظر الهامشية التي ترى اليه
مزيجاً من اللص والانتهازي والبطل. لذلك، يبدو مثيراً للدهشة حشد كل تلك
الشخصيات التي اقترنت به بعيد صعود اسطورته: الخادمة ماريان (تتحول في فيلم
سكوت "لايدي ماريون") ورفاقه (آلان آدايل وويل سكارليت وليتل جون) وشريف
نوتنغهام وغيرهم. العنصر الآخر المنافي لمقاربة سكوت تخليه عن الجانب
الانساني الحميم في فيلم يستند الى نبش اصول "الأسطورة". باستثناء مشهد
"فلاش-باك" سريع لطفولته وعلاقته بوالده، يشدد الفيلم على الجانب البطولي
لبطل لم يتحقق بعد، او الأحرى لرجل بطل بالفطرة. ولعله من المفارقة هنا أن
يقدم عمل سابق لاسطورة "روبن هود" الصورة الأكثر بطولية للأخير من بين
الاقتباسات الكثيرة التي سعت علناً الى ذلك.
في العمق، يقول فيلم سكوت ان اسطورة "روبن هود" لم تولد صدفة، متخذاً على
عاتقه الاضاءة على المؤشرات المبكرة، كما يتخيلها، الى صعودها. ولكن ما
يحدث في الواقع ان الفيلم يقدّم بالفعل الاسطورة وليس شيئاً أقل منها. لذلك
حين تظهر على الشاشة في آخر الفيلم جملة "وهكذا بدأت الاسطورة"، لا يملك
المشاهد الا ان يتساءل عن طبيعة ما سبق. أفليس ما يقدمه الفيلم اسطورة؟ وفي
خضم الحديث على جزء ثانٍ للفيلم (في حال نجح الحالي بتحقيق إيرادات تضمن
انتاج لاحقه)، يتساءل ايضاً المشاهد عينه: كيف يمكن نفخ الاسطورة أكثر؟
لتحقيق ذلك المراد، أي استشفاف مقومات الاسطورة المبكرة، يصوغ سكوت
التفاصيل في قلب المشهدية الكبرى. والمعروف انه في الأفلام السينمائية ذات
المنحى الملحمي تضيع التفاصيل الانسانية ومعها الشخصيات العميقة والأداء
التمثيلي المميز. فالأخير مهما بلغ من تأثير، لن يتجاوز الثواني على الشاشة
المرهونة لما هو أكبر وأضخم. فكيف إذا أراد المخرج لهذه التفاصيل دوراً
شديد التحديد؟ عندها ستكون النتيجة تفاوتاً جلياً بين المشهدية الكبرى وبعض
الجمل المقحم لغرض معين كما هي حال "روبن هود" ريدلي سكوت. تبدأ الأحداث
بسلسلة من المشاهد البانورامية القتالية لجيوش الملك "ريتشارد قلب الأسد"
(داني هيوستن) في نهاية الحملة الصليبية الثالثة. عشر سنوات من القتال
أمضاها الملك وها هو الآن في طريق عودته إلى انكلترا، آخذاً في طريقه ما
تيسر من غنائم. بانتظار الاستيلاء على قلعة فرنسية في الصباح، يقوم الملك
بجولة مع أحد فرسانه المقربين، "روبرت لوكسلي"، بين الجنود اللاهين بحثاً
عن "رجل صادق" كما يبلغ مرافقه. ويأتي بحثه ذاك على اثر محادثة سريعة مع "لوكسلي".
يجد ضالته في "روبن لونغسترايد" (راسل كرو) بعدما يصدفه الأخير القول في
شأن حملاته الصليبية. "رجل شجاع وصادق" يصفه الملك على طريقة هوليوود في
تحديدها "المختار والمخلّص". بعد موت الملك ومقتل لوكسلي على يد "سير
غودفري" (مارك سترونغ) الانكليزي المتآمر مع الملك الفرنسي "فيليب"، ينتحل
"روبن" شخصية "لوكسلي" بهدف الوصول الى لندن آمناً حيث يسلم تاج "ريتشارد"
الى أخيه "جون" شاهداً على تنصيب الأخير ملكاً جديداً لإنكلترا، ويمضي الى
نوتنغهام لتسليم سيف "لوكسلي" الى والده "والتر" (ماكس فون سيدو) بعد ان
قطع وعداً للاول بذلك قبيل موته. في "نوتنغهام"، سيقابل "والتر" و"لايدي
ماريون" (كايت بلانشيت) أرملة "روبرت لوكسلي" وسيكتشف ان والده كان بناء
وفيلسوفاً وكان اول من وضع شرعة لحقوق الناس بحسب القانون قبل ان يُدق
عنقه. ولكنه ايضاً، ونزولاً عند رغبة "والتر"، سيتظاهر بأنه ابنه "روبرت"
لضمان بقاء ارضه مع "ماريون" بعد وفاته. لاحقاً، سيواجه الملك بضرورة توقيع
قانون يمنح الناس حقوقها. ومع تهديد الجيوش الفرنسية على الشواطئ
الانكليزية بتسهيل من "غودفري"، سيخوض "روبن" مواجهة شرسة دفاعاً عن أرضه
وسينتصر فيها وسط غيرة الملك "جون" الفاسد والمراهق، حاملاً الأخير على
إعلانه مطارداً من القانون ومنفياً في الغابات.
بعيداً من الدقة التاريخية التي طاولتها مقالات كثيرة، لا بد من القول ان
شريط سكوت الذي يربو على ساعتين وعشرين دقيقة لا يسرّب الملل الى المشاهد
وبالطبع يحتوي على مشاهد قتالية متقنة ومؤثرات لا تخرج عن سيطرة الواقعية.
وهو اذا اتهم بأنه نسخة من "المجالد" في "شيروود" (حيث تدور معظم احداث
الفيلم الحالي)، فإن الأدق القول انه يستعير كأي فيلم هوليوودي من نوع
الأكشن من أفلام أخرى برزت في النوع. ولعله في ذلك أقرب الى مناخات "قلب
شجاع"
Braveheart و"إنقاذ العريف راين"
Saving Private Ryan منه الى
Gladiator.
في المحصلة، سيفتقد محبو "روبن هود" في نسخة سكوت الطرافة التي جبلت
اقتباسات أخرى لاسيما "مغامرات روبن هود" (1938) مع إيرول فلين وأوليفيا دو
هافيلاند او رومنسية "روبن وماريان" (1976) مع شون كونوري وأودري هيبورن
وابتكار نسخة ديزني "روبن هود" (1973). فهل يكفيهم أدرينالين القتال
والعنف؟
المستقبل اللبنانية في
04/06/2010
كتاب ووثائقي ومجموعة "دي.في.دي" في عيده الثمانين:
كلينت ايستوود .. كلّما عتق طاب
ريما المسمار
ثمة دائماً مناسبة ما للحديث عن كلينت إيستوود. وتلك إن لم تكن فيلماً
جديداً يضيف الى رصيده ورصيد الفن السابع، تكون جائزة ما. وان لم تكن
المناسبة ذكرى مرور نصف قرن على إطلالته الأولى على الشاشة تكون احتفالاً
بخمسة وثلاثين عاماً من التعاون المثمر بينه وبين استديوات وورنر بروذرز او
عيد مولده الثمانين الذي صادف في الحادي والثلاثين من ايار/مايو الفائت.
ولكن المناسبة الدائمة للإحتفاء بإيستوود الممثل والمخرج هي الدهشة
الممزوجة بغبطة إزاء مسيرة سينمائية متفرّدة، يتساوى فيها النجم
والسينمائي، وتتعانق فيها الجماهيرية مع القيمة الفنية. كلينت ايستوود هو
بايجاز نموذج السينمائي ذي المسيرة التصاعدية والفنان الذي كلّما عتق أكثر،
صقل معدنه. العام 2010 هو عام ايستوود بلا منازع. يترافق بلوغه الثمانين
حولاً مع صدور أكثر من مجموعة "دي.في.دي" لأفلامه، أبرزها "كلينت إيستوود:
35 عاماً، 35 فيلماً مع وورنر بروذرز" التي تضم 34 فيلماً من تمثيله و/أو
إخراجه، وفيلم وثائقي في عنوان "جينة ايستوود"
Eastwood Factor The
وكتاب "كلينت: إستعادة"
Clint: A Retrospective كليهما بتوقيع الناقد والمؤرخ السينمائي والمخرج الوثائقي ريتشارد
شيكل. ينطلق الأخير من صداقة تربطه بالمخرج منذ أكثر من ثلاثين عاماً،
اثمرت قبل سنوات كتاباً أولاً عنه. في الكتاب الحالي، يعرض شيكل في مقدمته
مسيرة ايستوود ويتفرغ في متن الكتاب لقراءة كل فيلم من أفلامه، مثنياً على
الجدير منها، منتقداً الأقل توهّجاً ونافضاً غبار النسيان عن أخرى لم تنل
حقها. أما الفيلم الوثائقي المتوافر بنسختين، إحداهما قصيرة من 22 دقيقة
ترافق مجموعة وورنر بروذرز والثانية من تسعين دقيقة صدرت في "دي.في.دي"
منفرد قبل يومين، تأخذ ايستوود الى أماكن تصوير أفلامه والبلدة التي نشأ
فيها-كارمل- فضلاً عن تضمنها مشاهد من أفلامه وشريط صوتي يؤديه الممثل
القدير مورغن فريمن.
قبل نيف ونصف قرن، ظهر كلينت ايستوود على الشاشة للمرة الاولى في السلسلة
التلفزيونية
Rawhide في كانون الثاني 1959 بدور الشاب الوسيم "رودي ييتس". وعلى الرغم من
ابتعاد السلسلة من هاجس الدقة التاريخية لحكاية انشاء السكة الحديد "تشيشولم
ترايل" ووصولها الى "أبيلين"، الا انها كرست ممثلها الشاب نجماً بفضل من
نجاحها واستمراريتها. من هناك، ستنطلق مسيرة ايستوود التي جاوزت اليوم
النصف قرن، تقلبت خلالها افلامه بين نوعين اساسيين، الويسترن والجريمة،
وتأثرت بمخرجين أكثر من سواهما هما سيرجيو ليوني ودون سيغل. الأول ساعد
ايستوود على التطور من اسم تلفزيوني صغير في سلسلة
Rawhide الى "رجل بلا اسم"، ماضغ السيكار وأيقونة أفلام ليوني الويسترن
الايطالية في ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ"ثلاثية الدولارات" اي:
A Fistful of
Dollars،
For a Few Dollars More
وThe Good, The Bad and the Ugly
وذلك بين 1964 و1966. جعلت افلام ليوني كلينت ايستوود نجماً عالمياً ممهدة
لعودته الى الولايات المتحدة الاميركية حيث ستبدأ المرحلة الثانية في
مسيرته، مرحلة "نجم الحركة". وفي عمله اللاحق خلال السبعينات والثمانينات
من القرن الماضي، سيعود ايستوود الى افلام الويسترن مخرجاً هذه المرة متوجة
بـ
Unforgiven عام 1992. الوجه الآخر لمسيرته تشكل من أفلام ضخمة الانتاج من نوع
الجريمة، حولته نجم شباك في اواخر الستينات وأوائل السبعينات بمساعدة
المخرج دون سيغل المعروف بمجموعة من أفلام الجريمة في الخمسينات والستينات
من بينها
Riot in Cell Block II
و
The line up و
The killers. بدأ التعاون بين ايستوود وسيغل عام 1968 بفيلم
Bluff Coogans
حيث لعب الأول دور ضابط من اريزونا، يلاحق مجرماً في نيويورك. الا ان
تعاونهما الأبرز أثمر
Dirty harry (1971)
مقدماً ايستوود في دور الشرطي في واحد من أكثر شخصياته شعبية ودواماً على
الشاشة. والى سيغل يعود الفضل في تحول ايستوود الى الاخراج حيث ذكر الأخير
غير مرة ان سيغل شجعه على الاخراج بينما شجع هو سيغل على التمثيل. هكذا،
ومع خروج
Dirty Harry والاحتفاء الجماهيري والنقدي به كان ايستوود قد وقع باكورة أعماله
الاخراجية
Play
it Misty For Me عام 1971 الذي لعب سيغل فيه دوراً صغيراً. كان الشريط الاول في سلسلة
افلام "ايستوودية" تمحورت حول الذكورية والبطولية والسياسة الجنسية. في هذا
الفيلم، يمكن العثور على ملامح سينما ايستوود اللاحقة ليس اقلها الجاز عشقه
الأول. ولكن فوق كل شيء أسلوبه المتقشف، المباشر والمكثف في سرد الأحداث
والذي لا يخلو من سخريته المعتادة. ولكن ذلك التكثيف والمهارة في ادارة
عناصر الفيلم لم يعودا الى الظهور في الفترة اللاحقة التي اتسمت بأعمال من
نوع الويسترن مثل
High Plains
Drifter (1972) وThe outlaw josey wales (1976). كأن المخرج آثر التركيز على هذا النوع الذي أطلقه ومنحه الشهرة قبل
ان يعود الى الجريمة. وبالفعل جاء التكريم والاعتراف والتكريس كمخرج ونجم
ويسترن عام 1992 بـ
Unforgiven.
منذ منتصف التسعينات، تحول كلينت ايستوود الى الأدب الأميركي، لا سيما
روايات الجريمة والتشويق، كمصدر لأفلامه بالتزامن مع ما يشبه النهضة شهدتها
تلك الرواية. اثمر ذلك افلاماً من نوع
Absolute Power (1996)،
True Crime (1999)،
Blood Work (2002).
مما لا شك فيه ان تلك الأفلام عكست إصرار المخرج على تقديم موضوعات هامة
بذكاء وبدون أحكام مسبقة. ولكنها لسبب ما كانت خالية من البريق- الذي سيظهر
لاحقاً في "نهر ميستيك"- أقرب الى الدروس المباشرة في الاخلاقيات. ربما
يعود جزء من ذلك الى "الولاء" الذي يفرضه الاقتباس، الولاء للمصدر الأصلي،
وفي الوقت عينه التعديل فيه ليصبح مناسباً للممثل الذي جاوز الستين. اذاً
واجهت تلك الأفلام مجموعة معوقات كإصرار ايستوود على لعب دور البطولة. ثم
إن ذلك المعين الأدبي الذي ارتكز عليه كان أقرب الى شريحة القراء كبار السن
الذين لا يشكلون بالضرورة هواة سينما. كما لعب عنصر ثالث دوره في تحييد
الأفلام عن دائرة الضوء هو التحول الذي شهده نوع الجريمة في علاقته برواد
السينما من حيث اتخاذه اشكالاً مختلفة لجذب الأخيرين غير المطلعين على أدب
الجريمة من جهة والمنغمسين من جهة ثانية في الصورة التي يقدمها التلفزيون
في ذلك الصدد. سلسلات من نوع
Law and Order, 24،
C.S.I،
Shield The
وThe Sopranos
جزء يسير من مادة تلفزيونية تتوالد لمحاكاة رغبة المشاهدين في مقاربات
النوع المختلفة من الملاحقات البوليسية الى العصابات ومخططات الارهاب
والمؤامرات وغيرها. لم يحل ذلك دون تقديم السينما افلام الجريمة، إلا أنه
أدى الى تبني اساليب مختلفة لجذب مشاهد التلفزيون ذاك المكتفي الى صالة
السينما. من تلك الاستراتيجيات تبرز ثلاث محاولات أساسية: العودة الى
الماضي، التحول الى الانتاجات المبهرة بمؤثرات خاصة تفوق امكانيات
التلفزيون أو كسر التقليد والذهاب الى الحد الأقصى في ابراز العنف صورة
ولغة، وهو ما يعجز التلفزيون عن فعله في وصفه وسيلة شعبية واسعة للتواصل.
مر بعض الوقت قبل ان يتم الاعتراف بموهبة ايستوود كمخرج. بل ان الجدل ظل
قائماً حول مكانته كسينمائي مؤلف حتى فترة قصيرة خلت الى حين تراجع ظهوره
في أفلامه لاسيما منذ
Mystic River (2003)، ولاحقاً
Million Dollar Baby (2004) وثنائية
Iwo Jima (2006). تلك الصحوة الابداعية، إذغ جاز التعبير، أكملت مع
Changeling
وGran
Torino (2008) وInvictus
(2009) الذي صدر قبل يومين على "دي.في.دي". "نهر ميستيك" طان نقطة التحول
الاخيرة في مسيرة ايستوود والدليل الدامغ على قدراته كمخرج. هو شريط
الجريمة الكلاسيكي، نادر الحضور في سينما اليوم والمواجه خطورة إعراض
الجمهور عنه. إنه شأن إيستوود في الاصرار على قول الأشياء "كما يجب ان
تقال". فهو مثلما قدم
UnForgiven في زمن أفول الويسترن، أنجز فيلم جريمة في زمن أفول الأخير بشكله
الكلاسيكي المعتاد. كأنما ينصب الرجل نفسه حامياً لهذا النوع السينمائي أو
ذاك من المهددين بالانقراض. ولا ننسى أيضاً أنه قدم إحدى اجمل قصص الحب في
السينما في
The Bridges of Madison Country
بين رجل وإمرأة في منتصف العمر في الوقت الذي كانت هوليوود تحتضن أفلام
المراهقين والشباب ولا تعترف بقصص حب سواها جذابة.
اليوم بات ايستوود يُنعت بآخر السينمائيين الكلاسيكيين في السينما
الأميركية ومنهم من يضعه بين أفضل السينمائيين الاميركيين المنتجين الى
يومنا هذا.
المستقبل اللبنانية في
04/06/2010 |