تضخيم القاتل في
السينما أمر سهل. نفخ الجريمة كي تستحوذ على كيانات مشاهديها وصل اليوم إلى
طبائع
فيلمية لا تخشى التطرّف في تصوير الوحشية والعنف والدم، التي تُرتكب خلال
الفعل غير
السوي. الولع، هنا، كامن في مكر الصدمة التي تراها السينما
سلعة باهرة، تصعق
القابعين في الظلمة. وهي (الصدمة) تذكير بامتداد الجريمة الخارجية الأكبر،
التي
تتناسل مع الحروب الاستباقية الكثيرة، الواقعة في كل مكان من العالم. جريمة
السينما
اختزالية، تذهب نحو المرتكب المستوحد، فيما تسعى جرائم القتل والتصفيات
العسكرية
الحقيقية إلى تبرير قوانين الفتك، باعتبارها حصانة للحريات
وتعميماً للديموقراطيات.
كلا الجريمتين مدان. ذلك أن الأبرياء ضحاياها، وتجزئتهما غير ممكنة.
ولئن يضع
المجرم ـ الفرد دوافعه مداورة بين حاجته إلى الانتقام من كل شيء، ونزعاته
المريضة
الى شَفّ الدم، تجد المجموعة العسكرية نفسها أمام إغراء اجتثات العدو ضمن
لعبة
معقدة، تنتهي في الغالب إلى غلبة السلاح الجبّار. المجرم ـ
الفرد يتسلّح بعناده في
ارتكاب المعصية. يستخدم سلاحاً مفرداً يزهق روح المقابل، ويكون سهلاً عليه،
لاحقاً،
إخفاء أداة الجريمة. يتشارك والعديد العسكري في أن الوحش القابع فيهما يملك
السحنة
نفسها، وفي أن الاثنين متوافران بين النسائج المدنية للمجتمعات، ويعيشان
كأناس
أسوياء، يهزّهم الحب، وتغمّهم الأحزان، ويهفون إلى لقاء
العائلة وتأمين اللقمة
لأفرادها. هذا الكلام يتواطأ مع كلمة المخرج الروماني المميّز كريستي بو،
القائل إن «ليس هناك شيء اسمه قاتل، بل فقط أناس
يقتلون»؛ بينما يُطوِّر مواطنه مخرج الفيلم
الإشكالي «دلتا» كورنيل موندرويتشو الرؤية، لتذهب على النحو
التالي وهو يصف بطل
عمله الجديد «الابن الغضّ» (ضمن المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان
«كان»)
بأن «المسوخ البشرية ليست حقيقية. إنها
صُورنا المعكوسة. ذلك أننا ننتجها بأنفسنا،
نختارها (...)، ومن ثمّ نوصّفها بالوحوش».
قصاص
يتشابه الفيلمان الرومانيان
«فجر»
(أورورا) لبو (ضمن خانة «نظرة ما» في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»)
و«الابن
الغضّ ـ مشروع فرانكستاين» لموندرويتشو، في أن وحشيهما البشريين لا يفترضان
القصاص،
إذ إنهما جاءا نتيجة له. فبطل الفيلم الأول الشاب فيوريل (أداء محكم للمخرج
بو)
يخسر عائلته الصغيرة، ويُطرد من عمله، ويتشرّد في شوارع بوخارست، حيث تعتمر
في
داخله مرارة الخسارة التي تدفعه إلى الصمت الخبيث قبل ارتكابه فظاعاته. أما
صنوه
رودي، البالغ سبعة عشر عاماً، فهو خرّيج إصلاحية اجتماعية، يجد
نفسه أمام سوء ظن
الجميع، الذين يرون فيه غولاً دموياً يجب تحاشيه وإقصاؤه. يحمل فيوريل غبنه
الشخصي
والاجتماعي في حقيبة رياضية، ليدور في الأماكن التي ترفضه، سافكاً الدماء
من دون
هوادة، في مقابل يدي رودي العاريتين، اللتين تنكّل بثلاثة
أشخاص، عقوبة على رفضهم
تواجده ضمن عائلة عشيقته، التي التقاها في امتحان اختيار ممثلين لمسرحية
مقتبسة عن
حكاية الوحش فرانكستاين.
بطل «فَجْر» (180 د.) عامل تعدين، يبلغ الرابعة
والعشرين من العمر. يُجبَر على العطالة التي تفسح في المجال له
كي يعي حجم خسارته،
وتحوّله بشكل خفي إلى عسكري متقاعد بزيّ مدني يُزنّر نفسه بالسلاح الفتاك.
ومثل
جندي في ساحة وغى، يبقى فيوريل في جيلان نادر بين الأحياء والأبنية القديمة
المتروكة والشوارع المتجلّدة. إنه سيزيف معكوس لا يرفع صخرة
الوادي، بل يُدحرج ذاته
كي يصل إلى عقابه الأبدي الذي لن يقع. تقوده رحلته إلى موقعين: موقف سيارات
تابع
لفندق فخم، حيث يقتل مديراً في المعمل السابق وعشيقته. والدارة الريفية
لقريبته،
التي تفتح أمانها العائلي له، فيقتلها مع زوجها. للوهلة
الأولى، يبدو المقتلان من
دون معنى، لولا أن فيوريل الصموت يمارس ما بعد الجريمتين أفعالاً حياتية
شديدة
الاعتيادية، على شاكلة أكل سندويتشاته، ومشاداته مع موظّفات متجر وسط
بوخارست،
ومجادلاته مع معلمة ابنته التي يُصرّ على مرافقتها إلى بيت
طليقته، وغيرها من
الأمور، لنكتشف أن المخرج بو عمد إلى استغفالنا في كون بطله انساناً بطلّة
اعتيادية، لا تثير الشك بسلوكه الدموي. إنه رجل من بيننا، يحمل
في داخله العزم على
القتل، لكن من دون تحفيزنا على ضرب ناقوس الخطر والانتباه إلى جريمته
المقبلة. إنه،
على حدّ تعبير بو السابق الذكر، ليس قاتلاً، بل كائناً يقتل على سجية غير
مفهومة.
على الطرف الدرامي المقابل، يقف رودي بعناد وصمت ومن دون خوف، كأي
جندي مطيع
أمام ضحاياه. لا يُطالب بتفسير جرائمه، ذلك أننا نرى وقائعها المرعبة
ونكتشف
عبثيتها. إنه منتقم كتوم من الآخرين، الذين أبعدوه سنوات عن الجماعية، وها
هم مرّة
أخرى يحاولون عرقلة اندماجه. يقتل والد الحبيبة لأنه هجس فيه
رائحة الدم، ثم الأم
كونها عرفت آثامه، ولاحقاً العشيقة الشابة باعتبارها معموديته الشخصية
لهروبه
المقبل من ماضيه القاتم. إن تحرّك البطل الشاب محصور في جدران بناية خاوية،
على عكس
والده (المخرج موندرويتشو)، الذي نراه ساعياً في سيارته الفخمة
في شوارع العاصمة
إلى لقاء المسخ الذي أعطاه الحياة، وأطلق عنانه بين الناس. يجد مشاهد
«الابن الغضّ»
أن عصرنة الحكاية القوطيّة للكاتبة ماري
شيلّي تُشدّد على أن الإثم الأساسي في نشوء
الوحش لا يقع على كاهل فرد، بل على نظام اجتماعي عام، يُصعِّب
اندماج أبنائه «الذين
ينتجهم ويختارهم، ثم ينعتهم بالوحوش»، كما ذكر المخرج النبيه.
الأخلاق
تُرى، أين موقع السلطة وعقابها؟ متى يتحقّق انقلاب الفاجعة إلى درس
الأخلاق
الحاسم؟ في «موت السيد لازاريشكو» (2005)، وهو جزء من سلسلة «ست حكايات من
ضواحي
بوخارست» يتبعه «فجر»، يتحامل المخرج بو على وحشية النظام العام الذي لن
يرحم البطل
العجوز، ويبقيه رهينة سيارة إسعاف حيث يقضي نحبه لاحقاً بعد أن
ترفض المستشفيات
استقباله وعلاجه. في العمل الجديد، يجول البطل هرباً من حصاره الشخصي
وارتهانه إلى
الجرائم التي عليه ارتكابها لاحقاً. وما إن يتحقق ذلك، حتى يفاجئنا بو
ببطله وهو
يعترف إلى رجال الشرطة بفظائعه. بيد أن بيروقراطية نظام ما بعد تشاوتشيسكو
لن تقتنع
بتبرّعه وإقدامه، فتعامله كجزء من تهمة ملفقة. وتهكّماً على
سوريالية الحالة داخل
مركز الشرطة، يطلب فوريل تغيير مكان كرسيه لأنه تضايق من دفق هوائي بارد.
بمعنى أن
اعتيادية شخصيته لا تجعل منه سفاحاً، بل رجلاً قرّر ببساطة قتل آخرين،
بعيداً عن أي
تكلّف. وفي حالة موندرويتشو، جاء «دلتا» (2008) صاعقاً في
تبرير العلاقة الآثمة بين
الشقيق العائد وشقيقته واعتصامهما في وسط بري شديد الجمال، هرباً من العقاب
القبلي.
لكنه في «الابن الغضّ»، يُصرّ على التباس
العلاقة بين الأب ـ المخترع والابن ـ
الوحش المخلوق. فالعقاب الآتي يجب أن يتحقّق على يدي خالق كوني
أعظم، ضمن وسط طبيعي
أكثر سحراً (تصوير باهر لماتاياس آردلي)، متمثّل بثلوج جبال النمسا، حيث
تنقلب
سيارة الأب ويُصاب الابن بجروح قاتلة، تدفع الأول إلى الذهاب وسط بهاء
البياض، حيث
معنى الموت يتداخل مع التغييب القسري لكيانه، باعتباره الآثم
الأكبر في خلق المسخ
الأزلي.
السفير اللبنانية في
03/06/2010 |