قراءة فيلم ( نزار قباني – العشق الدمشقي) ، من
إنتاج الجزيرة الوثائقية، وإخراج مهند ماهر، قراءة محيرة، فهو يتأرجح بين
البرنامج
المعد خصيصا للعرض على شاشة التلفزيون في مناسبة ما، وبين الدراما
الوثائقية التي
أخذت تفرض منطقها البصري على كثير من الأفلام الوثائقية الجديدة باعتبارها
أسلوبا
جماليا لم يعد ممكنا إلا معاينته "جوانيا" قبل كل شيء.
الفيلم إذ يتأرجح بين
هاتين العلامتين يعمل بذكاء نسبي على محاولة توكيد صورته بين النوعين ، وهو
بذلك
يضيف عبئا جديدا على محاولة إعطاء حكم نقدي، مع الإشارة سلفا إلى أن بعض
الشخصيات
التي استضافها الفيلم قدمت في حديثها عن الشاعر الراحل مفاتيح درامية
مهمة
لشخصيته "
التي لم تعرف الشقاء في الطفولة "
كما يذهب الشاعر شوقي
بغدادي في حديثه عنه.
ليس الكلام مبهما بالطبع . شخصية نزار نفسه لم تكن كذلك.
وهو على بساطته كلام مهم يمكن الشغل عليه، وتعويد الدقائق الأخرى على
سجيته، بما
يؤدي إلى انجاز صورة مفارقة للشاعر تحتمل وجودها، فيما لو قرر المخرج
والمعد
الانطلاق من هذا التوصيف، نحو توصيفات أخرى محتملة قابعة تحت السطح ، ذلك
أن بغدادي
نجح في تقليب أكثر من وجه للشاعر ، وهذه ميزة مهمة
:"
الأم كانت تعتني به
في طفولته كما لو أنه بنت. ترتب هندامه بطريقة أنثوية ".
من المؤكد أن هذا شأن نفساني صرف يمكن التأسيس
عليه بدل التفلت منه كما فعل ماهر، وهو يعاين عوالم الشاعر "المطمئنة" .
الفتى
الأشقر الوسيم ولد في بيت ميسور في حي مئذنة الشحم الدمشقي، وقضى جل وقته
متنقلا
بين نافورة الماء وأشجار النارنج وعرائش الياسمين في بيته ، وليس ثمة
تنغيصات في
حياته سوى انتحار أخته "وصال" بعد حكاية حب فاشلة يستعيدها المخرج في مشاهد
تمثيلية. هذه الانعطافة المؤلمة في حياة الصبي نزار لاشك لها تأثيراتها في
أشعاره .
بالطبع تثار في هذا النوع من "الأفلام" مسألة
استضافة الشخصيات التي ستتولي الحديث عن الموضوع، وهذا أمر يعود في الواقع
للمعد
والمخرج، وهو شأن شخصي صرف لا يعول عليه إلا بمقدار ما يريدون قوله لنا ،
وبالتالي
لا يمكن " اقتراض " شخصيات بعينها من خيال المشاهد أو الناقد على حد سواء،
ولكن بدا
لافتا وغريبا، غياب أهل الشاعر تماما عن الفيلم ، وليس هناك ما هو اشد
غرابة في أن
تظهر مثلا الأديبة السورية كوليت خوري في البرنامج الذي عرض مباشرة على
الجزيرة
الوثائقية بعد فيلم نزار قباني لتتحدث عن الأغنية السياسية، ولا تظهر في
برنامج معد
خصيصا عن العاشق الدمشقي.
لا نعرف ما هي الظروف التي منعت ظهورها ، لتعمل بما
تحمله من ذكريات ورسائل مع الشاعر الراحل على تأنيث الفيلم بما يناسب
اللحظات
الشعرية التي حرص بعض الضيوف على تأويلها بمرأى منا. وباستثناء ظهور أنثوي
يتيم
لمالكة صالة فنية لم يكن لديها ما تقوله في الواقع عن الشاعر الراحل، لم
نجد ما
يمكن أن يعادل بصريا هذه الأنا الأنثوية المغايرة التي تلظى الشاعر وراءها
ليقول
الكثير من أشعاره. من المؤكد أننا لن نعرف أسباب ظهور هؤلاء الضيوف فقط دون
غيرهم.
هذه مسألة ستظل خاضعة لحساسية المعد تجاه الموضوع ، لكن المعاينة "الجوانية"
لم تكن تتطور في الاتجاه المطلوب بالرغم من أن المخرج ماهر بذل جهدا في
محاولة استنطاق بصري لما كان قد بسط هيمنته على علاقته المسبقة بعوالم
الشاعر
الوجدانية والعاطفية والإنسانية . ف
"
أي طفل يولد ويترعرع في هذا البيت
سيصبح شاعرا
"
، وهو المكان الذي انحبس فيه المخرج منذ اللحظات الأولى،
ولولا حلول المصور رائد صنديد فيه لقلنا إن الكاميرا أصبحت بدورها أسيرة
مفضلة عند
بركة الماء ورخامها البارد
.
علاقة نزار بالمكان لم تكن خافية على أحد. إنها
تنقط في قصائده، ولكن الفيلم لم يعمل على "استقبالها" بطريقة التنقيط هذه .
هنا
يتحدث نزار في لقطات أرشيفية . يضغط على سر من الأسرار ليفجره :" لولا هذا
البيت
لكان شعري مختلفا ... أبجديتي مائية تشبه دمشق ". هذه علامات تنقيط مهمة
كان
بالإمكان النظر إليها من هذه الزاوية لمعاينة حجم التغيرات الهائلة التي
طرأت على
المكان ، ف " نزار قباني لم يولد من فراغ " كما يؤكد الروائي السوري خيري
الذهبي،
فهو سليل عائلة أنجبت رائد مسرح الغناء العربي أبو خليل القباني ( 1832 –
1903
) .
هذا أمر محتمل، ويمكن إعادة تركيبه في سياق مختلف، لنرى ونحكم على المكونات
الثقافية والاجتماعية والنفسية التي لعبت دورا في نشوء وتكون وعي الشاعر.
بالعكس
كان (الملبّس الأبوي) حاضرا بقوة
.
لا بأس يمكن لمهنة توفيق آقبيق ( الأب
)
كبائع للّوز والفستق في إحدى بزوريات دمشق تأثيرات مهمة في تربية الفتى
المدلل،
وتأمين حياة ميسورة له، ولكن لم يجر بالمقابل رسم صورة واضحة ل (المسرحجي
) –
المسرحي الشامي المنبوذ الذي غادر إلى مصر هربا من ظلم وحيف المجتمع الذي
عاش فيه،
وربما امتد بطريقة ما إلى نزار الذي وجد نفسه بعد طول حياة دبلوماسية هادئة
في
عواصم أوروبية كبيرة في خصومات لا تنتهي مع واقع وشخصيات لأسباب سياسية
وإيديولوجية
، كما يؤكد الشاعر السوري إسماعيل مروة
.
(الولد الذي أبحر في رحلته الخرافية) غادر بركة
البيت الدمشقي مطلع أربعينات القرن الماضي حين فاجأ دمشق بديوانه الشعري (
قالت لي
السمراء ) . كانت الكتابة بطريقته قنبلة اجتماعية مخلخلة لكثير من القيم
المجتمعية
ف" الصراحة الجنسية في البيئة الدمشقية المحافظة كانت تعديا لم يجرؤ عليه
سوى ولد
مثله " . نزار استطاع أن يقدم الصورة الشعرية غير المتقعرة – يقول الذهبي –
هذا أمر
مؤكد حاول المخرج بلجوئه المكثف إلى لقطات أرشيفية للشاعر اقتناص ما يؤكد
نجاح نزار
في إيقاظ جماليات المكان . أصاب في بعض اللحظات، ولكنه لم يصل إلى نهايتها،
وما
قبوله الاحتفاظ بالبيت الدمشقي كعلامة في الفيلم مع التركيز على مكوناته
المختلفة –
تنقيط حنفية الماء وتوليفها مع تنقيط السيروم – حواف البركة التي عادة ما
تكون
أسطورية في مكونات أي بيت دمشقي ، إلا دلالة على هدي الشاعر للفيلم عموما .
يمضي
الفيلم في اتجاهات عدة . يقترب من قبر توفيق الابن الذي يمثل انتكاسة نفسية
ومعنوية
في حياة الشاعر الرقيق، وربما الصدمة الأقوى في حياته، كما يؤكد بغدادي،
فهو أصبح
ميالا للحذر والحزن. الحزن مسألة طبيعية في حالة فقد الابن، ولكن الحذر
مسألة يمكن
الشغل عليها، لأنها لم تكن كلمة عادية. ربما وجدت مسارب في أوقات مختلفة في
قصائده
اللاحقة، وربما امتدت للقصائد التي تقمص فيها قباني شخصية المرأة . إجابة
ليس
بالضرورة لأن تكون شافية، فهذا مقترح مختلف قال فيه بعض الضيوف، ذلك أن
سيرة حياة
الشاعر الهادئة المطمئنة عانت من تقلبات عنيفة تحت السطح لم يكن ممكنا
للفيلم
ملاحظتها، لأنه لم يقصد الكشف عنها . التشظي البصري في بعض جوانبه منع ذلك
، ولكن
هزيمة حزيران 1967 تركت أثرا كبيرا على شخصيته الرقيقة ، ومع قصيدة ( أصبح
عندي
الآن بندقية ) التي غنتها السيدة أم كلثوم بدا أن ثمة تحول وانعطافة قاسية
" كل
قصيدة جديدة له صار يولد أساليب لحنية جديدة " كما يذهب الناقد محمد منصور .
ثمة
إشكالية كبرى يسوقها الفيلم باستسلامه الكلي لحياة نزار . ربما هذا ما منعه
من
الوصول إلى الأعماق غير المكتشفة. وربما ليس من شأن هذا المقترح بالذات أن
يكشف
الإشارات التي كانت تغلي تحت السطح. صحيح أنه بدا من تفاصيل "مائية حميمة"
تكشف عن
طبيعة وأبجدية نزار لكن بالتأكيد لم يكن هذا كافيا، لأن الأبجدية المغايرة
غير
المطمئنة لم تكن تستوي بالكامل عند بركة الماء الدمشقية. مع هذا يظل ( نزار
قباني )
محاولة وثائقية متقدمة بالرغم من تعدد الدوائر النقدية "الاستعمالية"
وتلاشيها
الزمني البعيد نسبيا من حول الفتى الذي كان عليه نزار يوما في حي مئذنة
الشحم
الدمشقي العريق في غمرة معاركه السياسية والدبلوماسية والجمالية مع المكان
نفسه .
الجزيرة الوثائقية في
31/05/2010
إنتاج الوثائقية: نزار قباني .. جديد بصمات
نزار قباني...
الشاعر الذي نقول
فيه ما قاله
ابن رشيق
عن
المتنبي "لقد
ملأ الدنيا وشغل الناس"..
وأصبح الشاعر الأشهر نخبويا وشعبيا خلال النصف
الثاني من القرن العشرين.. بل وأسس لنفسه مدرسة اقتدى بها الكثير من الشباب
الصاعد.
إنه أيقونة الشعر الحديث. ارتبط اسمه بالمرأة والبطولة كما ارتبط بالوطن
والمجتمع
والشعوب واتصل شعره بالقصيدة القديمة مثلما اتصل بالتجديد في النص الشعري
أنشد
المراهقون والمحبون شعرهم لحبيباتهم كما أنشد الثوار والمناضلون قصائده غنى
شعره
جيل العمالقة من الفنانين وغنته الأجيال المتعاقبة على ساحة الغناء العربي...
لهذا وذاك لا يمكن لسلسلة بصمات التي تبثها الجزيرة
الوثائقية أن تنسى نزار قباني فخصت له حلقة ستعرض الخميس على الساعة 21
بتوقيت مكة المكرمة 18 بتوقيت غرينتش. ويعاد بثها على مدى الأسبوع في أوقات
مختلفة.
الفيلم من إخراج
المخرج السوري الشاب مهند
ماهر وإعداد الأديب علي الكردي.
ويمثل سفرا لطيفا في طفولة الشاعر وحياته
الدمشقية قبل أن ينطلق سريعا في محطات متنوعة توقف عندها نزار وقال شعرا.
وهي محطات
فيها كثير من الأمل وكم كبير من الألم كموت زوجته وابنه ومن قبلهما رؤيته
جثة أخته
المنتحرة وهو لا يزال طفلا... وقد ربط الفيلم بأسلوب سلس وجذاب بين ما رآه
الشاعر
في حياته وما قاله في شعره.. وكم قال نزار وكم أنشد وكم امتلأت حياته
بالأحداث
والصور...
الفيلم مجموعة من المحطات والرحلات من الحياة
إلى الشعر ومن الشعر إلى الحياة.. وبين كل محطة ومحطة قطرة ماء تنزل من عين
في حي
نزار الدمشقي القديم. وقد كان اختيارا جماليا موفقا من المخرج أن يفصل بين
كل مرحلة
ومرحلة من حياة الشاعر وكل فقرة وفقرة من الفيلم بقطرة ماء.. لما للماء من
رمزية
الحياة والاستمرار والارتواء.. وكل هذه المعاني لصيقة بنزار قباني الإنسان
والشاعر.. فهو شاعر الحياة والارتواء والاستمرار..
ومثلما أن قطرة الماء لا تروي
بل تبلل الشفاه والحلق فإن صور الفيلم لا تروي شهية المتلقي حول بحر نزار
المتلاطم.. لأن الفيلم أراد أن يكون قطرة ماء تبلل ولا تروي وتغري المشاهد
نحو
الجري وراء مصدر الماء أي شعر نزار...
الجزيرة الوثائقية في
26/05/2010 |