هناك طرفة مشهورة ومعروفة تتحدث عن ذلك الزبون الذي ذهب لشراء
سلعة من متجر متعدد الطوابق فاستقبله الموظفون وكل واحد منهم
يبعثه إلي الطابق الذي
يليه حتي وصل إلي الطابق الأخير وهنا قال له أكبر الموظفين السلعة اللي
عايزها ما
عندناش لكن إيه رأيك بقي في النظام؟! المفارقة في الحكاية أولاً في أن أحدا
لم يجب
عن سؤال الزبون مباشرة ولكن الجميع لجأوا إلي اللف والدوران
والمفارقة ثانيا أن
النظام وهو فضيلة بالقطع تحول هنا إلي مدعاة للسخرية لأنه انتهي إلي كونه
نظاما من
أجل النظام وليس من أجل خدمة الإنسان.
والله كنت أظنها طرفة حتي شاهدت فيلم
عسل إسود الذي كتبه خالد دياب وأخرجه خالد مرعي لاكتشف أن الفيلم هو
الترجمة
الدرامية لهذه الطرفة فإذا كان الموظف الأخير يقول للزبون السلعة مش موجودة
لكن إيه
رأيك في النظام فإن عسل اسود يقول لك إن الأخلاق باظت والانضباط راح
واحترام الآخر
غائب والذمم فسدت وهناك حاجات كثيرة غلط عن حق ولكن إيه رأيك
بقي في دفء العائلة
المصرية وموائد الرحمن في رمضان ولا حنان الأم وجمال المقاهي الشعبية
وأطباق الفول
وينشأ عن هذا الفيلم النكتة عمل من أضعف أعمال المشخصاتي الرائع أحمد حلمي
ومن
أكثرها اضطرابا في الفكر والرؤية كما سنوضح ومن أضعفها في
السيناريو والحوار بل أن
مساحة الضحك في الفيلم شحيحة وتتخلل إيقاعا زاحفا يبعث علي الملل والغضب!
الفيلم إذن يمكن تلخيص فكرته المتخبطة في جملتين هما فيه حاجة غلط وفيه ناس
طيبين والجملتان بالمناسبة عنوانان لمسلسلين كتبهما في بداية
الثمانينيات شيخ كتاب
السيناريو الراحل عبدالحي أديب ولكنه علي الأقل كتبهما في عملين مستقلين
رغم تكرار
الأبطال. كان فيه حاجة غلط مزيجا من سلبيات المجتمع عموما لدرجة أنه جمع
مثلا بين
مشكلة البطالة وغش اللحوم والتعصب للأهلي والزمالك في حزمة
واحدة أما المؤلف الشاب
خالد دياب ولديه تجربة وحيدة سابقة بالمشاركة مع شقيقه محمد دياب في فيلم
حلمي
السابق «1000 مبروك» فقد قرر مزج الفكرتين معا رغم عدم وجود أي رابط عضوي
بينهما
وللتدليل علي ذلك نقول إن بطل الفيلم مصري سيد العربي أحمد
حلمي يعود إلي وطنه بعد
20
عاما ليكتشف أمرا خطيرا بالنسبة له ولكنه ليس كذلك بالنسبة لنا وهو أن
هناك
حاجات كثيرة غلط سواء في سلوكياتنا مع بعضنا أو تجاه الأجنبي حيث يغيب
النظام
والضمير وتسود ثقافة الفهلوة والتهليب والخطف إذا لزم الأمر ثم يكتشف بطلنا
ولاحظ
سذاجة دلالة الاسم ومغزاه اكتشافا أخطر هو أن الدفء الموجود في
مصر والطيبة لا نظير
لها في أي مكان في الدنيا بما في ذلك أمريكا التي جاء منها طيب خدني علي قد
عقلي
وفهمني هل نستطيع مثلا أن نمنع سائقا من أن يستغل سائحا أو أجنبيا كما
رأينا في
الفيلم بشوية دفء وبعض البسبوسة والكشري الذي يلتهمه حلمي طوال
الفيلم وهل يستطيع
حنان الأم المصرية وأشهد بالقياس إلي أمي العظيمة أنها ينبوع من الحنان
والحب أن
يوظف عاطلا عن العمل مثل شخصية سعيد تختخ صديق مصري التي يلعبها إدوارد
وإذا كانت
الطيبة والدفء هما عسل الشعب المصري فمن أين يا تري يأتي اللون
الأسود لماذا لم
ينعكس هذا العسل علي علاقاتنا وعلي سلوك الموظفين في طلب الإكرامية وفي
سطوة
البيروقراطية إلخ.. لم ينتبه صناع عسل أسود إلي أن وجود هذه الطيبة والدفء
والعلاقات الأسرية والحفاظ علي الصلاة جنبا إلي جنب مع الحاجات
الغلط يجعل من أي
قيمة جميلة شيئا فارغا بلا معني لأنه لا ينعكس علي سلوكنا في العمل أو
الحياة تماما
كما أصبح النظام أمرا مثيرا للسخرية في نكتة الزبون وموظفي المتجر الضخم!
لهذه الأسباب قلت أن الفيلم يعاني اضطرابا مثيرا للسخرية في الرؤية في
أوروبا والدول المتقدمة عندما يظهرون عيوبهم وأخطاءهم لا
يهربون من مواجهتها إلي
الحديث عن الدفء والحميمية ولكنهم يضغطون علي موضع الوجع حتي لو كانت
المعالجة
كوميدية بل أن المعالجة الكوميدية أقوي بكثير في توصيل الفكرة إذا كانت
ناضجة
ومتسقة ما الذي يفهمه أي مشاهد من هذا الخلط الغريب طيب ما رأي
صناع عسل اسود أنه
في أوروبا والدول المتقدمة لا يوجد دفء ولا عسل ولا موائد الرحمن ولا أمهات
تمنح
العيدية لابن زي الشحط عاطل عن العمل ومع ذلك لا أظن أنك تجد هناك موظفا
صفيقاً مثل
الشخصية التي لعبها عبدالله مشرف يطلب رشوة ببجاحة منقطعة
النظير يا فرحتي بالدفء
وباللمة وبأكلات الفسيخ في شم النسيم وبتجمع النساء لعمل كعك العيد في حين
تسود
الفوضي حياتنا وشوارعنا ما رأي مؤلفنا الشاب الذي خلط الحابل بالنابل أن
الموظف
المرتشي والسائق المستغل يتمتعان في حياتهما بالدفء الذي ظهر
في الفيلم بل وقد
يكونان لا يتركان فرضا من الفروض كما شاهدنا عند أحد شخصيات رواية العيب
ليوسف
إدريس الأكثر من ذلك فإن التبرير الجاهز في كثير من حالات الرشوة هو تأمين
مستقبل
الأولاد شفت بقي الدفء في مصر بيوصل لفين؟!
أما علي مستوي السرد والسيناريو
والحوار فأنت أمام درجة واضحة من الترهل وعدم التماسك إلي حد يجعلك تشاهد
ما يشبه
الاسكتشات المنفصلة التي تكرر نفس المعني دون أن تتقدم خطوة للأمام بل إننا
لا نعرف
سوي معلومات قليلة جدا عن مصري لا تزيد علي كونه غادر مصر من
20 عاما وأن والده قد
مات وأن مصري يعمل مصورا فوتوغرافيا إنه تقريبا شاب بلا ذاكرة عن وطنه ولو
جعلته
سائحا أجنبيا فعلا ما تغير شيء رغم أنه يتحدث عن وطن جميل كان يعرفه فمتي
يا تري
كان ذلك وقد أدت هذه السطحية في رسم أهم شخصيات الفيلم إلي
تحويله إلي مشاهد من
خارج الصورة أو معلق علي الأحداث لفترة طويلة من الوقت وكثير من الاسكتشات
قبل
دخوله حياة عائلة صديقه يمكن أن يقوم بسهولة في كوميديا علي الواقف
«StandupComedy»
ولا يحتاج إلي كل هذا الحشد والتكرار الذي أطاح تماما بإيقاع
الفيلم.
سنبقي
وقتا طويلا ما بين شخصيتين مصري الذي لا يحمل معه سوي جواز سفره المصري بعد
أن ترك
له جواز سفره الأمريكي في الولايات المتحدة والسائق المستغل راضي لطفي لبيب
الذي
يكرر محاولات استغلال مصري وسرقة أمواله بل وحتي إجراء مكالمة
طويلة من تليفونه
المحمول ومع وصول الجواز الأمريكي بعد شعور مصري بالإهانات المتكررة ندخل
في
اسكتشات جديدة عن قوة جواز السفر الأجنبي ثم يفقد بطلنا الجوازين معا بصورة
شديدة
الافتعال كل ذلك لكي يتذكر أخيرا أنه يجب أن يذهب إلي شقة
الأسرة القديمة وهو الأمر
الذي كان مفروضا أن يفعله من أول لحظة الوصول ومن أغرب الأشياء التي لا
يمكن
تصورها.
حتي في أفلام الخيال العلمي أن الشاب مصري سيصل إلي منزله القديم
رغم أنه لا يعرف العنوان أصلا «!!» المهم أن السيناريست يريد
الهروب من الإجابة عن
سؤال الفيلم الأساسي وهو لماذا فيه حاجات كتير غلط؟ وبدلا من أن يواجه
الحقيقة بأن
الشخصية المصرية نفسها تغيرت تحت ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية كما
شاهدنا في
معالجات سابقة كثيرة مثل الدنيا علي جناح يمامه وبطلته غابت
أيضا سنوات لتعود إلي
الوطن أو مثل أفلام أخري ذات معالجات تراجيدية مثل أيام الغضب وعودة مواطن
اختار
خالد دياب أن يحدثنا في موضوع آخر وهو طيبة المصريين وجمال طقوسهم وطعامة
فسيخهم
وبسبوستهم حيث سيقتحم مصري حياة عائلة سعيد تختخ صديق الطفولة
العاطل وحيث سيحشر مع
أفراد الأسرة المكونة من الأم أنعام سالوسة وابنتيها وزوج إحدي البنات
المتزمت طارق
الأمير وطفل صغير إضافي ومن خلال الإقامة نتعرف علي مشاكل مختلفة تعاني
منها الأسرة
ولكن ذلك لا يمنعها من ممارسة طقوسها الجميلة ولا ننسي أن
الأحداث تدور في الأيام
الأخيرة من رمضان و تستمر حتي أيام العيد وما بعده ولا أدري لماذا لم يتم
حشر الدفء
الموجود في عاشوراء وفي مولد النبي أيضا!
كل ذلك يأخذنا من الخط الأساسي
وهو رغبة مصري في العودة واستخراج جواز سفره المصري واستعادة جوازه
الأمريكي بل
أننا ننسي مشروعه كمصور فوتوغرافي يريد عمل معرض عن مصر والعجيب أن مصري
الذي سيمنح
شقته الفاضية في النهاية لإحدي أخوات سعيد وزوجها سيظل كابسا
علي أنفاس الأسرة طوال
الوقت بل إنه سيقرر العودة من جديد إلي مصر رغم إقلاع الطائرة في الجو بعد
أن اكتشف
أن فيها حاجة حلوة كما تقول أغنية النهاية ولا أعرف بالضبط كيف ستحل هذه
الحاجة
الحلوة كل السلبيات التي تعرض لها؟
علي مستوي الأداء التمثيلي لم يكن أحمد
حلمي مقنعا ولا في أفضل حالاته لتجسيد شخصية أقرب إلي الشاهد منها إلي
المشارك ولم
يكن نطقه للكلمات الإنجليزية بلكنة تقنعك أنه عاش في أمريكا 20 عاما ولا
حتي خمس
سنوات كما أن المشاهد الكوميدية الجيدة كانت في حدها الأدني وأفضلها
ارتداؤه طرحة
أثناء تناول الطعام خوفاً من ملاحظات زوج الابنة المتزمت ربما
كان الأفضل إدوارد في
دور جيد رسم بشكل واضح لشاب تجد مثله كثيرا في كل بيت بالإضافة إلي مشاهد
قليلة
لافتة لـ«إيمي سمير غانم» أكدت أن لديها قدرات كوميدية واضحة كما أن طارق
الأمير في
دور الزوج المتزمت كان جيدا أيضا ولكن ظلت مشكلة الفيلم في إيقاعة الممل
الناتج عن
حشر وتكرار الكثير من الاسكتشات التي كان يمكن حذفها ليكون
الأمر أفضل خاصة أن
المخرج خالد مرعي وهو أيضا مونتير الفيلم يعرف ذلك جيدا بخبرته كمونتير
سابق ومن
العناصر اللافتة أيضا صورة سامح سليم الذي جعل كثيرا من المشاهد أقرب إلي
كارت
البوستال السياحي تعبيرا عن أن البلد الجميلة لا تستحق منا ذلك
بالإضافة إلي موسيقي
عمر خيرت المعبرة عن لحظات الحنين إلي الوطن وكلها لحظات عاطفية لا يمكن
الخلاف
عليها ولكن الخلاف علي علاقتها بموضوع الفيلم الأصلي وهو أن فيه حاجة غلط.
حاول عسل أسود أن يرضي كل الأطراف فلم يرض أحداً إذا ركز علي السلبيات
وحدها أتهم بالنظرة السوداوية وإذا قال أننا شعب رائع وجميل
اتهم بتجاهل مشاكل
الواقع الواضحة لذلك اختار أن يجمع بين العسل وبين اللون الأسود فأصبح
لدينا طبق
عشوائي لا ينقصه إلا الطحينة والعيش السخن وبالهنا والشفا وخيرها في غيرها
أيها
المشخصاتي الموهوب «أحمد حلمي»!
روز اليوسف اليومية في
30/05/2010 |