هناك أفلام توجع القلب رغم تميزها الفني، الوجع هنا
بالمعني الحرفي المباشر وليس بالمعني المجازي، فهذا ما شعرت به مثلاً بعد
مشاهدة
فيلمي «الأبواب المغلقة» و«عَرَق البلح» مع أنهما من أهم الأعمال
السينمائية في
السنوات الماضية. أنت ككاتب لا تستطيع أبدًا أن تنفصل عن إنسانيتك، ولا
تستطيع ألاّ
تتأثر بتلك التجارب الإنسانية التي تعرضها هذه الأفلام الجيدة، عاودني هذا
الشعور
بقوة وأنا أشاهد الفيلم الأمريكي «precious»
الذي كان أحد الأفلام العشرة التي
نافست علي أوسكار أفضل فيلم في الدورة الأخيرة لأشهر الجوائز السينمائية
علي
الإطلاق.
واستطاع الفيلم أن يفوز بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو
مأخوذ عن عمل أدبي «چيوفري فليتشر»، كما حصلت الممثلة «مونيك» علي جائزة
الأوسكار
لأفضل ممثلة مساعدة، ونافست بطلة الفيلم البدينة «جابوري سيديبي» علي جائزة
الأوسكار لأفضل ممثلة في دور رئيسي في رأيي أنها تستحق الجائزة عن جدارة
رغم أن
أعضاء الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم السينما اختاروا «ساندرا بولوك»
للفوز
بالجائزة عن دور أقل كثيرًا من كل الوجوه في الفيلم الجيد «الجانب الأعمي».
لا جدال في أهمية فيلم «بريشيوس» - وهو اسم البطلة البائسة في الأحداث
الكابوسية، كما أن «بريشيوس» بالإنجليزية تعني «ثمين» ولهذه الكلمة ارتباط
بمغزي
الحكاية بأكملها سنوضحه حالاً وقد تم إعداد الفيلم عن رواية بعنوان
«push»
كتبتها «سافاير»،
وحرص كاتب السيناريو علي تقديم جوانب المأساة بكل تفصيلاتها فأوجع وحرّك
مواطن الألم. خرجت بعد المشاهدة منزعجًا من حزمة الشرور التي حاصرت البطلة
ولكن ظل
عقلي يتأمل الكلمات التي تحمل مفاتيح قراءة الفيلم، تقول الكلمات: «الحياة
صعبة..
الحياة قصيرة.. الحياة مؤلمة.. الحياة غنية.. الحياة غالية». يريد الفيلم
التجربة
أن يقول لنا أن علينا أن نتمسك بالحياة رغم كل شيء.
عندما تحاصرنا الآلام
علينا أن نقوم بترويضها كما نروض الثور الهائج، لا يوجد شيء أثمن من الحياة
سوي
الحياة نفسها. كان هناك حلّ بسيط هو أن «بريشيوس» تتخلص من حياتها المؤلمة
ولكنها
لم تفعل. كان يمكن أن تتخلص من طفليها اللذين أنجبتهما في ظروف أقل ما يقال
عنها
أنها ظروف شاذة ولكنها أصرت علي الاحتفاظ بهما. كان يمكن أن تتخلص من أمها
التي
تضربها وتسّبها طوال الوقت ولكنها لم تفعل. لم تتخل «بريشيوس» عن الحلم حتي
في أقسي
لحظات الحياة الصعبة. أدركت «بريشيوس» أن عليها أن تحافظ علي الحياة، وأن
تعيشها
كما تريد وليس كما يراد لها أن تعيش.
وأول ما تحس به بعد مشاهدة «بريشيوس»
أن مصائبك تتضاءل أمام مصائبها وكوارثها وآلامها، وأن عليك أن تشعر بالخجل
وأن
تراجع ما تشكو منه في مقابل ما حدث لها. تخيل معي فتاة في السادسة عشرة من
عمرها.
بدينة سوداء قبيحة الهيئة فقيرة متعثرة في التعليم، وفوق كل ذلك تعرضت
للاغتصاب
مرتين من والدها وأنجبت في المرة الأولي طفلة منغولية أطلقت عليها اسم «مونجو»
وأنجبت في المرة الثانية طفلاً أطلقت عليه اسم «عبدول» في قلب حي «هارلم»
البائس
عام 1987 تدور الحكاية الكارثة. ليست المصيبة في أنها ستنجب من أبيها
المغتصب، ولكن
المعاناة في نقلها إلي مدرسة بديلة، والمعاناة الأكبر في معاملة أمها
القاسية التي
تعتبرها مسئولة عن إغواء زوجها وخطفه، ثم تكتشف «بريشيوس» أن الأب المغتصب
مريض
أيضًا بالإيدز، وأن المرض الخطير انتقل إليها، رغم كل هذه الغرائب والمصائب
فإن
أغرب ما ستشاهده في الفيلم هو تمسك «بريشيوس» بالحياة، احتفاظها بالطفلين،
مواصلتها
للتعليم، إصرارها علي أن تكتب مأساتها بكل تفصيلاتها دون أي تردد أو خوف!
«بريشيوس»
(بأداء «جابوري سيديبي» الرائع) مأساة متحركة، هي العرض كله
بحركتها البطيئة وبعينيها المنطفئة وللتخفيف من مصائبها استخدم السيناريو
مشاهد
مبهجة تعبر عن أحلام يقظتها، ولكن ظل تأثير حكايتها كابوسيًا ومؤلمًا. في
الفصل
تحلم بأن مدرسها الأبيض الوسيم يخطب ودَّها، وعندما يلقي بها متشردو
«هارلم» علي
الأرض تحلم بأنها نجمة استعراضية تقدم رقصاتها تحت الأضواء، وعندما تشاهد
في
التليفزيون فيلم «امرأتان» تحلم بأن أمها تحبها وتبادلها التعاطف مثلما
فعلت «صوفيا
لورين» في الفيلم الشهير، ولكننا سرعان ما نعود في كل مرة إلي واقع شديد
الخشونة،
مديرة المدرسة تستدعيها لتتأكد من أن تلميذتها الصغيرة - ضخمة الجثة أصبحت
حاملاً
للمرة الثانية. تعترف «بريشيوس» بهدوء أنها مارست الجنس.
من خلال مشاهد «فلاش
باك» متناثرة نعرف أنها اغتصبت، وأن الأب الهارب هو الذي اغتصبها.
لم
تعرف البائسة الحب، وكل أحلامها أن يكون لها صديق، وأن تصبح فتاة جميلة
حسناء
بيضاء، بل وتنعكس صورتها في المرآة في أحد المشاهد بهذه الهيئة المتخيلة
والمستحيلة.
علي الطرف الآخر، يرسم السيناريو صورة شديدة القسوة للأم
«ماري»
(مونيك) بسيدة بدينة أيضًا شرسة تكره ابنتها وتغار منها لأنها كانت سببًا
في
فقدانها لزوجها. الأم ممزقة تمامًا بين واجبها كأم وبين دورها كزوجة. أنها
تعرف أن
الزوج هو الذي تحرش بالابنة في سن الثالثة، ولكنها لا تستطيع أن تتحمل فكرة
أن
تنافسها امرأة أخري، خاصة إذا كانت هذه المرأة هي الابنة الوحيدة. عندما
ولدت «مونجو»
المتأخرة عقليًا ألقت بها الأم عند الجدة، ولكنها كانت تستدعيها عند اللزوم
عندما تحضر موظفة الرعاية الاجتماعية التي تكتب تقارير يحصلون من خلالها
علي بعض
المال. لن تكتمل ملامح الأم، ومدي انحرافها النفسي إلا في الماسترسين
الأخير عندما
تحكي قصة تحرش زوجها بابنته الوحيدة بعلم الأم، وذلك في جلسة أمام اخصائية
نفسية
واجتماعية في المدرسة تلعب دورها «ماريا كاري». الأم والابنة نموذجان
غريبان من قاع
مجتمع السود في «هارلم» يضاف إليهما الأب الغائب الحاضر.
طاقة واحدة من
النور ستنفتح أمام «بريشيوس» هي المدرسة «مس رين» (باولا باتون) التي تعلم
أولئك
المنبوذات من مدارسهن مثل «بريشيوس» بعد اكتشاف حملها للمرة الثانية.
«مس
رين» ستساعدها علي رعاية طفلها الثاني، وستعلمها الكتابة، بل وستدفعها
لكتابة
حكايتها بكل تفاصيلها. في نفس المدرسة سيقدم الفيلم نماذج لفتيات بائسات
جريحات
يرغبن في مواصلة التعليم رغم ظروفهن المأساوية. من المدهش أن الفيلم يقدم
أيضاً مس
رين» كامرأة شاذة لديها صديقة ولكنها تصر علي مساعدة وتعليم الآخرين. يقول
الفيلم
ليس المهم ما تفعله في حياتك الخاصة المهم أن تساعد الآخرين لا يكفي أن
تحقق أحلامك
فقط وانما لابد أن تساعد الآخرين علي تحقيق أحلامهم، وعند هذه النقطة يقترب
الفيلم
كثيراً في مغزاه من فيلم «الجانب الأعمي» رغم الموضوع والحكاية المختلفة.
نجح المخرج «لي دانيلز» في
إدارة ممثلين فقدموا أدواراً لا تنسي خاصة «جابوري
سيديبي» في دور «بريشيوس» و«مونيك» في دور الأم، ونجح أيضاً في نقل الجو
الكابوسي للواقع الخشن في حي «هارلم» وفي الشقة المتواضعة التي تعيش فيها
البطلة
وأمها. لا أظن أن المشاهد الخيالية قللت آلام المشاهدة فقد كانت تتلوها
مشاهد شديدة
القسوة مثل معارك وسباب الأم وابنتها.
استخدام المخرج أيضاً عدسة الزوم
ابتعاداً واقتراباً من الوجوه للإيحاء بطابع برامج الاعترافات التليفزيونية.
بعد العرض ستأخذ نفساً عميقاً، ولكنك لن تنسي أبداً مشهد النهاية حيث
«بريشيوس»
المريضة بالايدز تحمل طفلين وتحافظ عليهما وسط مدينة تعرف أن الطفلين
ابناها وأخواها في نفس الوقت!
روز
اليوسف اليومية في
26/05/2010 |